تأملات ليلية ! حسين ليشوري

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • حسين ليشوري
    عضو منتسب
    • Mar 2010
    • 43

    تأملات ليلية ! حسين ليشوري

    تأملاتٌ ليليةٌ !


    كنت في صباي لا أحب الليل، بل كنت إذا أقبل تنتابني حالة غريبة من القلق و ضيق الصدر، و لم أفهم إلى اليوم الباعث الحقيقي على ضيق الصدر هذا و ذلك القلق. فأنا لم أكن أخاف الليل كما يحدث عموما للصبيان أو الشبان في مثل سني آنذاك. و ما كنت أقوم ببعض الأعمال كجلب الماء إلى البيت من العين الوحيدة في الحي، أو سقي شجيرات الورد في بيتنا و غيرها من الأعمال إلا ليلا و بمفردي.

    عجيبٌ كيف تتغير مشاعر الإنسان تجاه الأشياء و الأشخاص بمرور الدهر و تغير الزمان من النقيض إلى النقيض ! فأنا أذكر اليوم أنني لما كنت صبيا و شابا يافعا كنت أحب الرسم مع بغضي الليل، و كنت أقضي الساعات الطوال مختليا مع أقلامي و أوراقي أرسم و أصور لا أسأم و لا أمل.
    أما اليوم و بعد مرور السنين صرت أجد في الليل سحرا لا أجده في غيره من الأوقات، و هفتت بل خفتت بل زالت سورة الرسم فلم أعد أمسك القلم لأرسم قط و ما صرت أمسكه إلا لأكتب فقط. و لئن كانت الكتابة وسيلة للتعبير كالرسم فلا يظهر مدى التغيير العميق الذي طرأ على نفسي إلا لمن عاش نفس الأحاسيس و المشاعر.

    أما المتعة التي صارت تنتابني كلما جن الليل و أرخى على الدنيا سدوله و خيم عليها بسكونه فهي متعة جديدة على نفسي لم أكن أعرفها أو يسهل علي إفهامها للناس.
    كنت لا أجد للتخلص من قلقي و ضيق صدري من قدوم الليل و أنا غلام إلا بالقيام بالأعمال العديدة و المتنوعة أو بمراجعة دروسي أو الخلود إلى النوم لعلي أتخلص من الزائر الثقيل. أما اليوم فصرت أجد في الليل متعة نفسية لذيذة، أصبحت أترقب قدومه كل يوم، و عند المساء، ليحل علي بسحره و يلفني في أسراره، صرت إذا هجع الجميع و أخلدوا إلى النوم أجلس في غرفة المكتب، بعدما صار لي بيت خاص فيه غرفة مخصصة للكتب، أقرأ أو أكتب و أتأمل في سكون تام في كثير من الأمور التي كانت تتراءى لي ساعتها.

    و أخرج أحيانا في ساعة متأخرة من الليل إلى شرفة الشقة و أنظر إلى السماء السوداء المرشوشة بقناديل ذهبية تلمع بالسحر، و أنظر إلى الهلال فأحسبه قوسا تسيل منه شلالات من الفضة يرسلها على الأرض فتزيدها زينة.
    و أبقى هكذا مدة من الزمن أتأمل و أفكر في سعة الكون و بسطته، و تنتابني حالات من الخشوع أمام عظمة الخلق و قدرة الخالق و أشعر ساعتها بالضآلة و التفاهة أمام ذلك المشهد الرائع، و تساورني بعض التخيلات الغريبة فأطلق العنان لخيالي ليجول و يصول و يحاول تصور أفعال العباد في تلك اللحظة في أرجاء العالم.

    و هنا أذكر أن هناك عينا تراقب كل العباد و أفعالهم و أعود إلى نفسي فأشعر بالضعف أمام تلك العين الرقيبة. فأنا لا أستطيع أن أعلم ما يجري في الغرف المجاورة في الشقة ذاتها تخيلا أو تخمينا و أريد معرفة ما يجري في العالم؟ إن هذا لشيء عجاب !

    و أصغي إلى الأصوات فلا أسمع إلا السكون التام، سكونا قد تمزقه أحيانا بعض الأصوات النشاز كضجيج قطار مار هناك، أو هدير سيارة تمر قرب العمارة هنا. و أنظر إلى العمارات المجاورة فأراها ساكنة تغط في النوم و قد أطفئت الأنوار بها فكساها الظلام بإزاره الحالك إلا موضع نافذة أو نافذتين لا يزال النور مضيئا فيهما لعله بسبب طفل زاعق أو مريض آرق، فلا تلبث حتى ينطفئ النور و يعم الظلام مرة أخرى، و أمكث هكذا حينا من الدهر في تلك المتعة، متعة التأمل.

    و يفلت مني الخيال و يروح يرتع في حدائق الفكر كأنه فراشة ليلية ما إن يحط على فكرة حتى يرتحل إلى أخرى، و أجد في هذه الجولات الفكرية الليلية متعة لذيذة و أنتشي فيها نشوة لا يعرفها المنتشون، و أذكر أنني كثيرا ما كنت أصطاد مواضيع مقالاتي إلا في مثل هذه الجولات ثم أقيدها بالكتابة.

    و أحيانا أُفكر في أولئك الذين يقضون سواد ليلهم و بعض نهارهم في اللهو و اللعب، و يقضون باقي نهارهم في النوم ليعودوا مرة أخرى إلى اللهو و اللعب في ليلتهم القادمة، و هكذا هم على الدوام بين لهو و نوم حتى يرحلوا عن الدنيا إلى ظلمة القبر و لا يعودون، و نادرا ما تجد من بينهم من يشتغل ليحصل على المال، فكثير منهم وجد المال متوفرا فراح يبدده كيفما تهيأ له، و هم ينظرون إلى الدنيا على أنها لعب و لهو و الحياة في نظرهم ساعة يجب قضاؤها في ألذ المتع و أقوى نشوة و لا يهمهم من أين جاء المال و لا يشغلهم إلا كيف يصرفونه فيما لذَ وطاب، و إذا نقص"المصروف" و هو قد لا ينقص أبدا، رأيتهم متذمرين مُستائين لأنهم ستفوتهم ليلة حمراء أو أنهم سيضيعون سهرة ملهاة، و تراهم يضيعون قدراتهم فيما لا ينفع و طاقاتهم فيما لا يجدي كأنهم أعداء أنفسهم و أمتهم و وطنهم.

    و لا أعود من شرودي الفكري إلا بعدما أشعر بقشعريرة، لعلها قشعريرة انتابتني بسبب النسيم أو بسبب هول الموضوع الذي أفكر فيه، فأترك المكان و أعود أدراجي إلى غرفة المكتب فأواصل ما كنت بصدده أو أغيَر شُغلي و أقضي ردحا من الزمن فإذا شعرت بالتعب أو جاء النعاس يخامر عينَيَّ غادرت الحجرة و قصدت غرفة النوم و كُلي غبطة من ليلتي و أملي أن أستأنف في الغد ما لم أتممه الليلة!


    (رحم الله من أهدى إلي عيوبي و دلني على الأخطاء مهما كانت : نحوية، صرفية، لغوية أو تعبيرية أو تصويرية و غيرها!)
    __________________
    [frame="13 98"]
    "للخيال على الكاتب سلطان لا يقاوم،
    فإن كنت كاتبا، فلا تقاوم خيالك و لكن قوِّمه !"

    (حسين ليشوري)
    [/frame]
  • ahmed_allaithy
    رئيس الجمعية
    • May 2006
    • 3965

    #2
    أسأل الله أن يملأ ليالينا بطاعته، وأن يبعد عن قبرنا ظلمته، وأن يملأ قلوبنا بنوره، ويرزقنا السكينة والاطمئنان، إنه هو الرحيم الرحمن.
    د. أحـمـد اللَّيثـي
    رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
    تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.

    فَعِشْ لِلْخَيْرِ، إِنَّ الْخَيْرَ أَبْقَى ... وَذِكْرُ اللهِ أَدْعَى بِانْشِغَالِـي

    تعليق

    • حسين ليشوري
      عضو منتسب
      • Mar 2010
      • 43

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة ahmed_allaithy مشاهدة المشاركة
      أسأل الله أن يملأ ليالينا بطاعته، وأن يبعد عن قبرنا ظلمته، وأن يملأ قلوبنا بنوره، ويرزقنا السكينة والاطمئنان، إنه هو الرحيم الرحمن.
      اللهم آمين يا رب العالمين !
      أشكرك أستاذي الكريم على مرورك الطيب و دعائك الرقيق !
      تحيتي و تقديري.
      حُسين.
      [frame="13 98"]
      "للخيال على الكاتب سلطان لا يقاوم،
      فإن كنت كاتبا، فلا تقاوم خيالك و لكن قوِّمه !"

      (حسين ليشوري)
      [/frame]

      تعليق

      • ahmed_allaithy
        رئيس الجمعية
        • May 2006
        • 3965

        #4
        أعتقد أن الإنسان مع كل تقدم له في السن وخاصة بعد مرحلة الشباب في السن ههه (نعم الشباب مكتهلين يا أستاذ حسين)، يميل المرء إلى الهدوء، والاختلاء بنفسه، بعيدًا عن صخب الحياة، وضوضاء الناس، بل ويميل إلى الصمت أيضًا، والتأمل. وهذه كلها صفات تتصل بالليل اتصالاً وثيقاً، إلا إذا عشت في المدن الصاخبة التي لا تنام.
        وعلى كل حال فالهدوء يبعث على استقرار النفس، ويساعد على العمل والإنتاج، وصفاء الذهن. ولذلك تجد الثرثرة منتشرة عند أكثر النساء، وتقل عند الرجال عمومًا. هههههههه ربنا يجعل كلامنا خفيف عليهـ ...ـن.

        دمت في طاعة الله.
        د. أحـمـد اللَّيثـي
        رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
        تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.

        فَعِشْ لِلْخَيْرِ، إِنَّ الْخَيْرَ أَبْقَى ... وَذِكْرُ اللهِ أَدْعَى بِانْشِغَالِـي

        تعليق

        • حسين ليشوري
          عضو منتسب
          • Mar 2010
          • 43

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة ahmed_allaithy مشاهدة المشاركة
          أعتقد أن الإنسان مع كل تقدم له في السن وخاصة بعد مرحلة الشباب في السن ههه (نعم الشباب مكتهلين يا أستاذ حسين)، يميل المرء إلى الهدوء، والاختلاء بنفسه، بعيدًا عن صخب الحياة، وضوضاء الناس، بل ويميل إلى الصمت أيضًا، والتأمل. وهذه كلها صفات تتصل بالليل اتصالاً وثيقاً، إلا إذا عشت في المدن الصاخبة التي لا تنام.
          وعلى كل حال فالهدوء يبعث على استقرار النفس، ويساعد على العمل والإنتاج، وصفاء الذهن. ولذلك تجد الثرثرة منتشرة عند أكثر النساء، وتقل عند الرجال عمومًا. هههههههه ربنا يجعل كلامنا خفيف عليهـ ...ـن
          .
          دمت في طاعة الله.
          أهلا بأستاذي ذي الشباب الدائم و العقل الفاهم !
          أعتذر إليك، أستاذي المبجل، عن التأخر في شكرك.
          صدقت في كل ما كتبت غير أنني كتبتُ "التأملات الليلية" منذ عشرين سنة
          و قد كنت وقتها لا أزال في ريعان الشباب و ليس مثل اليوم حيث صرت، رغم "شبابي" ؟!!! المتأخر كالعجوز الشمطاء لسانها على صدرها لا تدع شاردة و لا واردة إلا علقت عليها بـ ...ـعصبية "عجائزية" حادة !!!
          دمت بعافية في دينك و دنياك.
          تحيتي و مودتي.
          [frame="13 98"]
          "للخيال على الكاتب سلطان لا يقاوم،
          فإن كنت كاتبا، فلا تقاوم خيالك و لكن قوِّمه !"

          (حسين ليشوري)
          [/frame]

          تعليق

          • ahmed_allaithy
            رئيس الجمعية
            • May 2006
            • 3965

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة حسين ليشوري مشاهدة المشاركة
            أهلا بأستاذي ذي الشباب الدائم و العقل الفاهم !


            أعتذر إليك، أستاذي المبجل، عن التأخر في شكرك.
            صدقت في كل ما كتبت غير أنني كتبتُ "التأملات الليلية" منذ عشرين سنة
            و قد كنت وقتها لا أزال في ريعان الشباب و ليس مثل اليوم حيث صرت، رغم "شبابي" ؟!!! المتأخر كالعجوز الشمطاء لسانها على صدرها لا تدع شاردة و لا واردة إلا علقت عليها بـ ...ـعصبية "عجائزية" حادة !!!
            دمت بعافية في دينك و دنياك.

            تحيتي و مودتي.
            بارك الله فيك أستاذنا الجليل حسين ليشوري.
            يذكرني قولك هنا عن "العصبية" بتعليقات بعض الناس على مناظرات الشيخ أحمد ديدات رحمه الله، وقولهم إنه كان يميل إلى السخرية من مناظره من خلال طريقته في الكلام (وليس فحوى الكلام). ووجهة نظري أنه حين كان يفعل ذلك فإنما كان يفعله بسبب سنه؛ فالرجل -رحمة الله عليه- قضى أكثر عمره في الدعوة إلى الله ومناظرة غير المسلمين إلى أن "فاض به" كما نقول. وهو يعجب أنهم يكررون الكلام نفسه ألف مرة ومرة دون اقتناع به، وحين تحشرهم في زاوية لا يجدون من الإقرار بأخطائهم مفرًا، ولكنهم رغم ذلك يعودون ليجادلوا من جديد، ويلقنون غيرهم الكلام نفسه.
            ونحن حين نكبر في السن تنتابنا هذه اللحظات -التي أحياناً ما تطول بل قد تصبح طبيعة- من أننا نتضايق بسرعة، فتضيق أخلاقنا، وتزداد عصبيتنا، ولا نملك إلا التعليق على كل شاردة وواردة. يعني، يحدث هذا بعد "ما فاض بينا" وبعد أن أنفقنا عمرًا -نسأل الله أن يكون في طاعته- نحاول التحاور مع الناس بعقل ومنطق وهدوء أعصاب، ولم ينفع شيء. ولذلك فحين يغلب الظن أن ما بقي من العمر لا يكون أكثر مما مضى نجد أنفسنا -ربما دون وعي- قد سئمنا من تلك الطريقة، ونريد الوصول إلى الغايات من أي طريق حتى ولو كان على أشلاء القتلى والجرحى من المحاورين (هههه). ورغم هذا صدق القائل من أن الحلم سيد الأخلاق.
            دمت في طاعة الله.
            د. أحـمـد اللَّيثـي
            رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
            تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.

            فَعِشْ لِلْخَيْرِ، إِنَّ الْخَيْرَ أَبْقَى ... وَذِكْرُ اللهِ أَدْعَى بِانْشِغَالِـي

            تعليق

            يعمل...
            X