قصص عربية قصيرة _مؤلفة Arabic Short Stories-Authored

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ahmed_allaithy
    رئيس الجمعية
    • May 2006
    • 3964

    قصص عربية قصيرة _مؤلفة Arabic Short Stories-Authored

    بسم الله الرحمن الرحيم

    نفتح هذا الموضوع لنشر القصص القصيرة المؤلفة بالعربية. وندعو جميع الكتاب والقصاصين للمشاركة والإسهام في هذا المنتدى.


    د. أحـمـد اللَّيثـي
    رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
    تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.

    فَعِشْ لِلْخَيْرِ، إِنَّ الْخَيْرَ أَبْقَى ... وَذِكْرُ اللهِ أَدْعَى بِانْشِغَالِـي

  • hudaaldahan
    عضو منتسب
    • May 2006
    • 9

    #2
    قصص عربية قصيرة _مؤلفة Arabic Short Stories-Authored

    البرقع
    هدى الدهان

    أحْكَمَتْ تثبيت نظارتها فوق عينيها.. تذكّرَتْ عباراته التى كان يكررها دوما حين يعجز عن فهمها.. أنها تجيد الاختباء خلف أقنعة تنسجها هى..

    "إن هذه الأقنعة هى محاولة ذكية منكِ للاحتفاظ بمسافة أمان بينك وبين الناس. ربما لتجبرى الآخرين على التراجع تلك الخطوة التى لا يُسْعِفُكِ وقتك أو ظروفك بالتراجع بها.. أردتُ أن أقول أن هذه الأقنعة هى محاولة ذكية منكِ للاحتفاظ بمسافة أمان بينك وبين الناس.. لكنك فى نظرى أجمل وأنقى وأصفى وجهاً وروحاً من كل أقنعتك"

    نعم.. إنها تجيد الاختباء خلف أقنعة شتى تُحَصِّنها من الآخرين.. ولكن هذه المرَّة كان هو من يحتاج للاختباء منها.. ضحكت فى سِرِّها.. فى سرها فقط وخوفاً من أن تظهر على ملامحها اثار فرحتها به زمّت حاجبيها وأدارت وجهها إلى الجهة الأخرى ورسَمَتْ على لامحها أمارات الجِدّ لتزداد صرامة أمامه.. أخبرها أنه يريد أن يعترف لها.. وأنه سيعترف.. لا بل إنه ـ فى ارتباكِ وتلعْثُمِ طفلٍ يتهجّى الكلمات لأول مرة.. يعترف الآن بحبها.. وأنه يذوبُ ـ كما تذوب قطعة الثلج فى راحة اليد ـ هوىً إليها.. وأن كل ما فعله ليثبت لها العكس لم يُجْدِ نفعا ولم يصدقه فيه احد واولهم هو.. وأنه أثقل عليها بميتافيزيقيات الطبيعة ومحاضرات الفلسفة وقرأ عليها صفحات من كتب الاجتماع فى محاولة لإقناعها بأنَّ مابينهما ليسَ حُبّاً.. وإن كانَ كذلك فهو حُبٌّ محكوم عليه ألاَّ يتنسّمَ الهواءَ أو يرى النورْ.. وأنه بذل جَهداً يماثلُ جَهْدَ طالب الدكتوراه الذى أفنى زهرة شبابه فى التنقيب ببطونِ الكتبِ والمراجعِ وحصادِ الفكر الانسانى عن كل ما يثبت أنه لايمكن لأى منهما أن يرى العالم فى عيون الآخر.

    إعترف لها بأن هذا كله كان مضيعة للوقت.. الوقت الذى لم يبق منه أكثر مِمّا التهمته السنين.. فلا يمكن أن يحيا الإنسان نصف قرن آخر ليختار دربه من جديد.. استمتعت وهى تستمع له ودُهِـشَ.. أول مرة تستمع له.. كانت دوما تقول له ما تريد وتأمره فيمْتَثِلُ طاعةً.. مَرَّة قال إنها لو كانت تخدم فى الجيش لاستطاعت بفضل طبيعتها العسكرية تلك الارتقاء الى منصب تحسد عليه.. فى الحقيقة ليس هذا ما تتقنه فقط.. فإذا تباطأ أو تلكَّأ تُلَوِّحُ له بيديهْا فى تهديدٍ واضح بأن تستخدم الأيدى والأظافر والأسنان وكل ما حباها الله به من أعضاء جارحة لإجباره على تنفيذ ما تريد.. لا يهم أين ينتهى هذا التهديدُ بالرَّكل والعضّ.. فى السرير أم بجلسة على فنجان قهوة لمصالحتها هى طبعا وطلب الغفران والتعهد بعدم العودة لمثل ماكان (وهى نادرا ما تتذكر ماكان ذنبه أصلا) المهم أن ينفذ ولا يناقش.. ورجل فى مركزه لا تفارق الربطة عنقه والخمس لغات التى يتقنها حديثه لا يمكن أن يظهر أمام الآخرين ـ والأهم الأخرياتـ بخربشةٍ على الوجه مثلا او آثار عضٍّ على الرقبة.. تذكرَتْ.. مرة كان مسافرا وأصيب بتشنج عضلى أقعدته آلامه عن العمل أياما وكانت تفصل بينهما أميالٌ وأميال.. مازحها قائلا انه لم يفتقدها ابدا كما وهو مريض الآن حيث أنه بحاجة إلى قرصات يدها القوية التى تترك بقعا ملونة تذكره بلوحات الفن التجريدى وأنه أحوج ما يكون إليها وهو غريب هناك لتزيل ما به من ألم بقبضتها القوية. عادت إليه بالتفاتة من رأسها وهى تستمع إلى بقية اعترافاته..لا يَهُمُّ ما فاتها فهى تعرفه كما تعرف الأمُّ أنَّ فى أحشائها وليدا يريد أن يرشف من رحيقها هى ليتسلح به قبل أن يخرج إلى عالمهما..

    أحست به وبحبه.. وبقلب الأم غَفَرَتْ له صَمْته وادّعاءه ولامبالاته طيلة هذا الزمن.. وصمتت.. أحسّت أنها أمه بالفعل وهى تستمع لما يبوح به.. أحسَّتْ أنها أمٌّ تدخل غرفة ابنها المراهق الذى بدأ يخطو أولى خطواته ليكون رجلا.. و.. أول خطوات الرجولة عند الرجل أن يكذب.. أحست أنها سكنت تلك الغرفة فى فكره منذ زمن.. سَكَنتها وهى تشمُّ رائحة دخان السجائر التى ينفثُ لوعته فيها و يخفيها عن أنظارها ورائحة العطر الذى يرشه ابنها الحبيب بعد كل سيجارة يُدخّنها حتى لايفتضح أمره.. لا يعلم أنها تتسلى و تتلذذ أكثر حين يخافها.. وحين يكذب ويخفى أشياء وأشياء وهى تعلم أن يوم الجلوس أمامها على كرسى الاعتراف قريب جدا وبلا ستار بين الكاهن والمعترف وها هو بين ذراعيها.

    إدّعَتْ أنها متعبة الآن.. وأنها سوف تستمع له فيما بعد.. فمتعة المرء وهو يتذاكى ويجلس على منصة القضاء لاتعْدلها متعة.. ولن تفوتها.. لن تضَحّى بذرّةٍ من إحساسها بهذه المتعة وتستمع له مرة واحدة. العجيب أنها هذه المرة لاتشعُرُ بالرَّغبة فى أن تشرعَ أظافرها وتكشفَ عن أسنانها.. مَهدّدةً.. مُتوعِّدة.. هذه المَرَّة تريدُ أن تضع رأسه على صدرها لينام كوليد أضنته ساعات الولادة العصيبة وآن له ان يغفو.. و.. ويحلم.



    (حَوّاء):

    مسَحَتْ على رأسه وأنهضتْه وهى تُحَدّثُ نفسها قائلة: قُمْ يامسْكين.. أى اعترافٍ هذا الذى جِئتَ لتُدْلى به بيْنَ يَدَى..؟! أحَسِبْتَ أننى لا أعرفه كما أعرفُ راحة يدى..؟! أنتَ لمْ تنْطقْ بجديدْ.. فقد قُلْت ماقُلتَه لى.. ألفَ مَرّة.. ومَرّة.. وبألْفِ طريقة وطريقة.. رأيته فى كل نظرة بعيْنيْكَ الذّابِلَتيْن.. فى كلّ خَلجةٍ من خلجاتِ نفسكِ المُعَذَّبة بُحبّى..فى كُلِّ زفرةٍ وتنهيدةٍ من صدْرِكَ المُشَبّعِ بعِطْرى.. فى كلّ دَقَّةٍ من دقّاتِ قلبكِ المُثْخَنِ بهواى.. لكننى ـ بكُلّ غرائز الأنثى الخالدة وغرورها وكبريائها ـ أرُدْتُكَ أن تأتى إلى زاحفاً.. وأن تَْمْثُلَ بيْنَ يَدَى جاثياً على رُكْبَتيْكَ وتعترفَ بحبى.. وبأعْلى صوْتِكَ.. ليكونَ إعْلانَ حُبٍّ للعالَمِ أجْمَعْ.. حتى ولولَمْ يَسْمَعْه أحَدٌ غيْرى.. أرُدْتُكَ فقط أن تُسْقطَ عن وجهكَ أقنعة الزَّهْوِ الكاذب.. والخوفِ الزائف.. وتَرْتَدَّ طِفْلاً نقيّاً مُتحَرِّراً من تُرّهاتِ الكبارِ وهواجس خوفهم وأكاذيبهم الجبانة..!!.

    (آدم):

    نهضَ على قدميْه ونظَرَ إليْها بعيْنيْنِ ذابلتيْن ولمَحَ ابتسامة الظَّفَرِ على شفتيْها الجميلتيْن، وهو يُحَدِّثُ نفسه قائلاً: أجلْ أيتها الأنثى الخالدة.. أعرف ماتعرفينَ وأكثر.. أعْرفُ أن اعترافى لكِ لم يكُن أكثرَ من تحصيلِ حاصل.. لكنّكَ أعْلَنْتِ على الحَرْبَ.. فأعْلَنْتُ أنا عليكِ الحُبّ.. فمن منّا كسبَ هذه المعركة الخالدة بين آدم وحَوّاء..؟!. أنتِ لم تأخذى منى أكثرَ مما كانَ فى يدكِ بالفِعْل.. ولم تَسْمَعى منى أكثرَ ممّا قُلْتُه لكِ ألفَ مَرَّةٍ ومرَّة.. فقط بصوْتٍ مسْموعٍ هذه المرّة.. لا بأس.. أمّا أنا فقد قَلّمْتُ أظافركَ.. وشَذّبْتُ أسنانكَ.. وحَمَلْتُكَ أيها الكائن الجميل.. الخفيف.. الذى لا تُحْتَمَلُ خِفّته.. أيّها العُصْفورُ الطّنّانْ.. ووضعتُكَ بالقفص الذّهبى.. لم أغْلُق القفص.. لأننى أعرفُ أنك الآن لم تَعُدْ قادراً على التحليقِ بعيداً عنّى.. وإذا فَعَلْتَ فأنتَ عائدٌ لامحالةَ إلى قفصِكَ الذّهبى.. بإرادتك.. واختيارك.. والأهم من هذا كُلّه أن مسافة الأمان بيننا قد تلاشتْ فلم يَعُدْ بوسْعكَ أن تتراجع تلك الخطوة المعهودة.. التى تُبْعِدُكَ عنّى وتُتيحُ لكَ أن تَنْشبَ أظافركَ فى عنُقى.. وتغرسَ أسْنانكَ فى صَدْرى..!! منْ منّا كسبَ المعْركة ـ إذَن ـ أيها الطّائر الطَّنّانْ..؟!
    (أنا)

    أيها السّاذج الغِرّ.. تسأل من الذى كسبَ المعركة..؟! حسنٌ.. سأجيبك حتى لو كان القوْلُ يُسْقطُ عنكما معاً أقنعة الزهو الكاذب ويَسْلُبُكما لذّة الظّفرِ ومتعة الانتصارْ.. الذى رَبَحَ المعركةَ هو حُلْمُكما الوليد الذى خَرَجَ الآن ـ عَبْرَ هذا المخاض العسيرـ إلى النور ليصبح وليدكما الحُلْم.. حاملاً نصْفَ ملامحكَ ونِصْفَ ملامحها.. هل هناك ما هو أجملُ وأصفى وأرَقُّ من وجْه وليدٍ يتطلَّعُ إليكما بعَيْنَيْن دامعتيْن بالفرَح.. مُمْتلئتيْن بنظراتِ الامتنان لكما.. لأنكما منحتماه أعظمَ نعمة فى الوجود.. نعمة الحياة..؟!



    hudaaldahan

    تعليق

    • RamiIbrahim
      Rami Ibrahim
      • Apr 2007
      • 302

      #3
      _MD_RE: قصص عربية قصيرة _مؤلفة Arabic Short Stories-Authored

      أريد أن أشير إلى أن أنني أرسلت النسخة الإنكليزية المترجمة عن هذه القصص إلى منتدى القصة القصيرة/ قصص عربية مترجمة إلى الإنكليزية بهدف النشر.
      أنوه أيضاً إلى أنني حاصل على موافقة بنشر هذه القصص من وزارة الإعلام السورية واتحاد الكتاب العرب_ دمشق.

      رامي الإبراهيم

      ..الملجأ ..



      البابا و الماما .. تقاتلا , و أنا كنت القصة التي من أجلها البابا ضرب الماما على خدها . كنا - على العادة – ننتظر قدوم البابا – و ما كنا لننام قبل ذلك – و ما إن نسمع طقّة المفتاح في القفل حتى اندفع و افتح الباب المطل مباشرة على مدخل معتم و ضيق ، وأحظى بأول قبلة على شوارب البابا , و أخطف من يده الكيس الأسود مسرعًا إلى الداخل بينما يصفّ هو الدرّاجة إلى الجدار و ينزع عنها بناطلين كان يبيعها في السوق – منصرفا عن ذلك – أفتح الكيس ، و أنظر ماذا أحضر لي و لأخوتي... سكريات،.. ملبس ،.. محفظة جديدة، ..ممحاة عليها صورة سوبرمان ..؟
      لكن في هذه المرّة و يا دهشتي ! كانت علب دخان لا علاقة لها
      بتوصياتي ، بحثت بينها عن كيس صغير أسود من الملبّس قد يكون موجودا..لكن لا شيء تماما .. ! غالبت حزني قليلا و التفتت إلى أمي .. مبتسمة تقف ممسكة بالباب المفتوح و تنظر إلى والدي و جمع الأولاد حواليه ، و لم تلحظ – لحسن الحظ- لهفتي في اكتشاف لا شيء أحضره أبي ، فأعدت ربط الكيس و سوّيته .. و كأن أحدا لم يمسسه ، و هرعت إلى أبي لاحقا إياه إلى المغسلة لأعطيه المنشفة عندما يطلب،و أجيب على ابتساماته و سؤاله "كيف الحال" بابتسامة و أن "مليح" و "الحمد لله" .
      وعند العشاء أتسلق على ظهره العريض، و أجلس - قدماي حول عنقه – مزهوا و منتصرا،.. و ما كان ليردعني أبدا، .. و عندما تطلب مني الماما نزولا لأن أبي تعب و مهدود الحيل , كنت أشير إلى كتفيه و أقول : "البابا عضلاته قوية مثل سوبر مان"..
      كنا نحب البابا و يحبنا , و قال لي عندما جلست لجانبه : "خذ هذه لك". و مد يده بقطعة واحدة من سكرية طيبة على كل حال . و عندما اعترض ماجد الذي يكبرني بعامين حيث كان في الصف الرابع . قال له البابا بأنه أصبح كبيرًا على مثل هذه الأشياء،و أنه لذلك سيعمل معه في السوق و يبيع علب الدخان كما الكبار ... أما أحمد – أي أنا – سيساعده و يبيع معه القشطليّة التي ستصنعها الماما لنا .
      و لشد ما فرحت بذلك فهذا يعني أنني أصبحت كبيرا أيضًا و سأعمل في السوق – فيا للروعة- إلا أن أمي هي التي عارضت، و أنا ما وددتها أن تعارض فالبابا رجل كبير و قوي و يعرف أكثر و هو في البداية قال لها:"يا امرأة أنا رجل موظف و فقير،و بالكاد مع العمل حتى المساء أحصّل رزق أسرة بولدين و ثلاث فتيات أصغرهن في الثانية عشرة , و يجب تحصيل ثمن مازوت للشتاء ووفاء دين كان بسبب مرضك ... أم نسيت ذلك يا آنسة ؟ "
      و ما إن تفوه والدي بذلك حتى انطلق لسان والدتي :"كلما دق الكوز في جرّتك تذكرني بمرضي،و كأنك لا تمرض أو أن أحدا غيري لا يمرض . و هل كنت ستستدين لمرضي لو لم تدفع كي تخرج أخاك من السجن و كأننا رجوناه لأن يهرّب ثم دفعنا ثمنا لإلحاحنا عليه .طبعا .. يجوز أن أبقى في الفراش .. معليش .. أما أن يتم زواج هيثم ابن عمك بدون نقوط فهذا ما لا يجوز أبدًا .. أنت هكذا و ستبقى كذلك .. و الآن تريد أن يعمل الصغير لكي يدفع ثمن تبذيرك."
      أبي كان يدعو أمي للسكوت و عدم التمادي . لكنها أبت أن تسكت إلا بالضرب في النهاية .. على خدها.
      أنا أيضا حزنت , و نمت محزونا – أبي على حق لكنه لا يجب أن يضرب الماما هكذا – و كان من عادته أنه عندما يغضب أمي يحضر لها فستانا
      كترضية , لكنه يبدو غير مصمم على ذلك فتظل تنشر في البيت جو حزن مثل موسيقى مسلسل التاسعة ، و كنا عرفنا ذلك لأن أبي أطلق عليها كلمات بذيئة مثل "خرفة " و "لا مسؤولة" , فقررنا ماجد و أنا أن نعمل و نشتري لها فستانا و نثبت أننا رجال و كبرنا.
      و هكذا في اليوم بعد التالي ذهبنا إلى السوق برفقة والدي الذي تركنا في الساحة حيث أناس كثيرون يروحون و يجيئون ، و ذهب لعند الجامع مسافة خمس دقائق ماشيا و قال بأن زبائنه يعرفونه هناك و أنه سيمر و يأخذنا عند الرجوع إلى البيت و قد يطلطل علينا ، و ذهب موصيا إيانا أن نحافظ على المكان و نحذر الشرطة و نهرب من البلدية ولكن ما إن توارى حتى شعرنا بالخوف، وحيدين وسط أناس و بنايات عالية ووجوه و صياح بائعين،و كان أبي قد شجعنا مشيرا لأولاد في مثل أعمارنا يركضون بثقة و في أيديهم ..
      أمشاط ،..قدّاحات ،. و علب دخان .. و ما كان ذلك ليخفض من خوفي في شيء .. و هكذا أمضينا فترة ما بعد الظهيرة تحت شمس كانت لا تزال حادة، و باع أخي دخانا أكثر مما بعت قشطليّة و قد كان وجودي ضروري لأحفظ علب الدخان عندما ذهب أخي ليبول، و رجوته أن يبقى لكنه قال أن لا شيء يدعو للخوف و كان يعرف المنطقة و ذهب ...
      وحيدا بقيت .. وسط بنايات عالية .. و أصوات و أناس غرباء ،..مدينة كبيرة موحشة،و شرطي طويل ضخم لسبب ما كان يضرب ولدًا على رقبته، .. و لسبب ما أخفيت علب الدخان مع الصينية خلف ظهري،و صرت أرجع ببطء للخلف، كعب قدمي مصطدمًا بأشياء قدّرت أنها حقائب جلدية , فأرخيت كيس الدخان فوقها ، و أسندت الصينية بين ظهري والجدار ، وأنا خائف و لسبب ما تذكرت أمي و أردت أن أبكي لكن صوتي غاب و غابت الأصوات لأستذكر صوت أمي يناديني , لكن صوتا خشنا آخر زعق بي أن ابتعد عن الحقائب ، فارتعبت و سقط صحن القشطليّة فاستعدته مع الكيس , و ذهبت بضع خطوات حيث صبي شرير يبيع قشطليّة مثلي طردني من منطقته لئلا آخذ له الزبائن و عندما وقفت مكاني، جاء مع ولد آخر و قال لي أن انقلع من هنا، و كي أزيد من سرعة انقلاعي ركلني في مؤخرتي و لحقني الولد الآخر و قال لي : "بكم القطعة" فأجبت "بليرة" و عندما نزعت الملاقط التي تربط كيس النايلون إلى حواف الصينية مدّ و بسرعة خاطفة يد خشنة و قذرة إلى عدة قطع ساحبًا إياها و ركض .. و ركضت خلفه ،.. خطوات قليلة .. ثم بقهر توقفت ، و عدت للرصيف .. أرتّب بإصبعي وضع القشطليّة التي باتت منفرة في شكلها هذا ..
      ثم رأيت أخي قادما ، و كم كان حبيبًا،و أحسست بدفء و رغبة في الركض إليه . و لم أصدق متى وصل الرصيف , و كنت قد سامحته على كل ضربة و كل قرصة موجعة و سرقة لألعابي و شد لأذني، و كل عمل فعله أو كان سيفعله مستقبلا, و كل كل شيء ،...
      و كم أحبك يا أخي ماجد.
      عدنا للبيت .. و كنت حصّلت كما قال أبي رأٍس المال و عدنا بالباقي،و سألت أبي أن يبيع معنا أو نبيع معه فقال : إن مكاننا لا يصلح له كما أن مكانه لا يصلح لنا , لكن – و خانتني دموعي – "الأولاد ضربوني و سرقوا القشطلية" أجبته بكلمات ممطوطة , فانتشلني إلى صدره و قال : "معليش يا بابا" و طيب خاطري بقبلة و بعض الكلمات، و كما بدا لي عندها قرر المبيع معنا و قال : " نجرب على أي حال " ففرحت و أخذت منه وعد رجال بذلك ... و جالسًا على الكرسي الصغير للدراجة و المخصص لي .. عدت إلى البيت بين ذراعي والدي العزيز يقود الدراجة.
      ... ... ...
      في اليوم التالي كان الوضع مختلفًا .. قريبًا من أبي أحمل الصينية بيد واحدة،و أصيح حتى يسمع والدي : " أشــطليي " و عندما اقترب ذلك الولد الذي ضربني من منطقتي صحت به أن انقلع من هنا أو أريك ...
      "تتحامى بأبيك .. تعال نذهب إلى السوق المقبي و سترى " أجاب .
      لكن مملكتي كانت حيث يقف والدي , و بعت جيدًا و كذلك ماجد و أبي أيضًا توفّق كما قال ..
      ثم جاءت سيارة البلدية،..أناس مخصصون رأوها من بعيد و أخبروا
      الجميع . أبي توقف عن بيعه لزبون ، و ذهب بالدراجة في شارع فرعي .. أنا بعيني رأيته يركض بالدراجة .. أوقع بنطالاً فأمسك الدراجة بيد واحدة، و قرفص لانتشاله .. كان جد ملهوفًا للاختباء و أنا كنت مندهشًا لما أرى .
      "حتى أبي يخاف من البلدية و الشرطة ". و لم أشعر إلا و كف كبيرة تمسك ساعدي تحرر مع إطباقها بولي ، و ارتطم كتفي بكتف ماجد أخي، و كان شرطيًا طويلا على ثخانة و قوام مستطيل ببدلة قاتمة و مسدس على جنبه،.. ضحك عندما رأى بنطالي مبللا ووجهي أصفر.. فتركني .. لكن ظل ممسكا ساعد أخي ما فوق الكوع، طالبًا باليد الأخرى كروزات الدخان .. لكنها التحمت بصدر أخي. و كنت بعيدًا أشاهد و كان أبي بعيدًا يشاهد يداً كبيرة و أصابع كأطراف كماشة تضغط عنق أخي ثم حيث يشعر بالألم و رأسه في بطن الشرطي، منحنٍ على علب الدخان يمد يده إلى خصيتي الشرطي .. حركة لا أدري كيف تعلمها، لكنها نجحت في إزاحة يد الشرطي فتمكن أخي من الهرب لكن سرعان ما أمسكه الشرطي بكلاّباته ، و بدا حانقًا من ألم أصابه و سخرية به، فأمسك بشعر أخي و صار يصكه في رقبته بوحشية ... ذراع طويلة غليظة ... تتحرك من الكتف ،..و الجسم راسخ لا يهتز .. و إنما أخي الذي كان يهتز كله .. حاول مجددا أخذ الكروزات بدون نجاح .. المقاومة استفزت رجولته المسلطنة ،.. نظر حوله و انتبه إلى نفسه .. جموع ترقب باعتزاز انتصار طفل صغير على شرطي و طويل .
      و أبي كان يراقب .. و كما قال لأمي فيما بعد عيونه ولّت من أماكنها، و دم صاعد هابط .. و يد الشرطي تمسح بقدمي الصغير على أرض السوق مسار نصف دائرة ...
      الدم يصعد .. الوالد يتقدم، .. قاذفا إلى الوراء بالدراجة لكن يبقى ممسكا بها . الدم يهبط .. يعود لمستوى الدراجة و يشيح بوجهه إلى الخلف و الرزق غالٍ .. و غلاوة الرزق من غلاوة الأولاد , و الرزق إذا تقدم فلسوف يضيع ..
      الدم يصعد .. و يتفرع في شرايين تتسع دومًا ،..و الرجل يتقدم .. و كل الخسّة في رجل يرى و لده يداس و يسكت ثم يسكت و يحجم فالدم يهبط، .. و غلاوة الرزق من غلاوة الأولاد .
      و أبي في دموعي قد صار شبحًا ،..يرتجف .. يأتي و يذهب، و ليس سيدًا و ليس قويًا بتاتًا،و الشرطي ينظر حوله و بهدوء مفتعل يمسك بيد واحدة معصم أخي ماجد، و يسحب نفسًا عميقًا من سيجارة كانت بفمه، و سيجارة حارة حارقة .. ملهبة .. تفتق جلد أخي،.. تحرقه .. فيصيح ،.. موجوعًا ..
      و يصيح ...و يا ويلتي كيف صاح ... و يادمعتي ..
      الصوت يثقب أذن أبي ،..فيركض، .. و لكمة يكيلها للشرطي،ثم أخرى تطرحه أرضًا،.. و يدوسه بقدميه و يركله ، لكن رجال الشرطة الآخرين يمسكون أبي و يضربونه ... على بطنه .. ينحني،.. على ظهره .. بأكواعهم .. على ظهره يضربونه، .. بقفا أكفهم .. على وجهه .. يضربونه،.. و دم أبي يسيل و دموعي تسيل، و يأخذونهم أبي و أخي و علب الدخان , والبنطلونات مع الدراجة تلقى في سيارة البلدية،.. و فستان أمي كذلك وقبل أن نشتريه يأخذونه،.. و أولاد صغار أشرار يخترقون الزحام : " انظروا إلى أبيه الذي كان يتحامى فيه كيف صار خرقة مبللة ".لم يكن جديدًا أن يضرب أحد ما في السوق، .. فسرعان ما علت الأصوات من جديد ، ودبّت الحياة و عاد صخب السيارات و أبواقها، و لم أعبأ بصينيتي تنهب. وحيدًا كنت و خائفًا و مخذولا،و بي شعور أن كل ما حولي مبلل، و غارق في بول برائحة تكاد تخنقني
      كريهة ...
      ووحيدًا أمشي وسط بنايات عالية ،.. و أناس يجيئون و يروحون، و أصوات ووجوه غريبة و كثيرة ... و لشيء ما لا أدريه تذكرت صوتها أمي طروبًا يناديني .






      ..عصفورة حتى تطير..



      ليس هناك .. ما هو أصعب على فتاة .. صبيّة .. حسّاسة .. رقيقة كما مدحها مرّة ابن خالتها عمار،..من أن تسير..حزينة..واجمة.. منكّسة الرأس .. إلى البيت / المجزرة /، مثقلة بحقيبة فيها كتب و دفاتر .. ثقيلة، .. و صحيفة مدرسيّة مخزية هي الأثقل على كاهلها و الأكثر عتوًا على كيانها الرقيق . فاليوم قاموا بتوزيع الجلاءات المدرسيّة للفصل الأول من السّنة، .. و لم يتلطّفوا .. و يقولوا لكل طالب و بسرعة مجموعه فيحدث أثرًا سريعًا،و يمرق كما الطلقة في بدن .. من دون ألم .. لا .. بل يذهب كل طالب عند سماع اسمه .. و يمضي بحركة آليّة .. سائرًا أو لا يريد السير،.. وبلهفة محكوم لمعرفة حكم .. إما بالإعدام – على الأرجح – أو بالمؤبد إذا كان و صادف الحظ السعيد أن يكون المجموع كما توقعه التلميذ و ليس أقل من ذلك ... هذا فعلا ما شعرت به و هي تمضي لترى مجموعها الداني خمس عشرة درجة عما توقعت و فوق الحد الأدنى للنجاح بخمس درجات فقط . سعاد كانت هي الأولى على الشعبة .. هنّأتها المدرّسة و الموجّه و المدير كذلك .."و ما هي إلا مغرورة صغيرة و دبّة دراسة حقيقية .. تدرس ليلا و نهارا .. الغبار من ورائها يتطاير .. عندما تذهب للبيت مسرعة .. كي لا تفوتها ثانية واحدة من أجل الدرس " هذا ما كانت تقول جمانة لصديقة .. اتفقت معها على أنّ الدّراسة .. كريهة .. مملة .. و تيبّس المشاعر . هي في الصف السادس كانت أكثر اجتهادا منها .. ولو أنها تدرس الآن نصف ما تدرسه سعاد .. لحصّلت مجموعًا يفوق مجموعها،.. لكنها .. بقناعة .. لا تريد .. ولا تحب،. . و الدّراسة كلّها لا تريدها .. مملّة و جافّة. و هكذا هي حرة .. طليقة .. لا تقيد نفسها بقيود ووظائف، و إنما كالطير تحطّ على الغصن الّذي يعجبها و تدرس فقط الدرس الذي يروقها و هكذا
      أقنعت زميلاتها .. و الآن .. و الحقيقة مرّة،..و الدنيا .. فارغة .. مملّة .. بلا معنى .. كريهة.طرقات و غبار .. و رمال و أتربة على أطرافها،و أوراق تعبرها .. تدور (الطرقات ) .. تتفرع .. تتشعب .. لكن تؤدي إلى لا مبتغى .. إلى البيت.انعطفت في زقاق فرعي جديد . . لا لشيء .. إلا كي تطيل الطريق
      / الأجل /. قفص كبير هذه الدنيا .. و عصفورة صغيرة في هذا القفص هي .. و كخروف جاهل .. يعلفونه .. كل ..كل.. و آخرتك إلى المذبح و مصيرها إلى البيت / المذبح / .. . التقت فتاة قادمة من مدرسة أخرى،كانت معها في المدرسة الابتدائية و مذ رأتها .. لم تدر هي ذاتها كيف استبدلت سحنتها الشاحبة بهيئة أخرى واثقة .. جريئة .. ظافرة .. و سلّمت عليها الفتاة بود و طيبة بالغة .. كيف حالك يا جمانة ؟ كيف كانت صحيفتك؟ .. نعرفك .. فوق.. محلّقة .. كم هو مجموعك ..؟ ليس كثيرا 325 من أصل 350 و أنت ؟ أوه .. نحن يا حسرة حسبنا النجاح... مبروك لك و إلى اللقاء .. و ما إن أعطتها ظهرها حتى عادت إلى حالتها واجمة .. كئيبة .. كعصفورة مبتلة . آه ... لو كان ذلك صحيحًا .. هي تحب أن تفوز و تغلب الجميع ولكن الدراسة .. صعبة .. عسيرة المنال لفترة طويلة .. منذ أربع سنوات عندما كانت في الصف السابع و هي تتراجع شيئا فشيئا،.. و كل عام عن الذي قبله .. و في كل مرة عقب استلام الصحيفة كانت تصمم على التفوق .. لكن الشعلة تخبو بمرور الزمن و تعود المياه إلى مجاريها و أسوأ .. " ياإلهي كم هي صعبة ظروفي .. و أهلي لا يتفهمون و لا يحاولون ذلك .. الإنسان حتى يدرس بحاجة إلى جو دراسة .. هادئ .. متفهم .. حنون،..و بحاجة إلى أصدقاء .. و حبيب تناجيه .. فلا يبقى طيف يطاردها في أحلام نومها و يقظتها .. و ليس إلى أهل يصرخون عند الدخول و الخروج- مهددين- .. و إذا شاهدنا التلفاز فكفى .. و إذا أردنا الخروج فإلى أين ؟.. و إذا تأخرنا لدقيقة واحدة فلماذا ؟.. و أين كنت.. و تحقيق .. و عدم ثقة و حتى لو أهدت صديقة قلمًا فمن أين أتيت به ؟..و هل تسرقين نقودا من المنزل .. جو لا يطاق .. عدم ثقة .. لا تفهّم .. و أنا تعيسة... و ليس فقط الأهل ،.. الأساتذة أيضًا لا يفهمون .. مدرسة الكيمياء مثلا . " ادرسوا .. اجتهدوا ." "و هي تزوجت .. كانت في الصف العاشر و لو أنها لم تتزوج .. ما كانت لتصبح مدرّسة أنا واثقة .. وإنما بنت هوى .. أنا واثقة .. لكن ياويل من تراها مبطئة عندما يغازلها شاب .. تتبهدل .. لا أحد يفهم .. عالم كاذب .. نتن .. كجيفة ".. ..... .... ... سيارة مجنونة تعبر الشارع ،.. لو تقلها هذه السيارة،.. و تطير بها من هذا الجحيم .. و إن لم تقلّها فلتدسها . ........ ........... أناس يركضون مسرعين .. و سيارات مجنونة .. تعبر .. يتوق هؤلاء للوصول إلى البيت ليقيهم من رياح و أمطار .. بدأت تدلف بحنق .. أما هي فالأمطار و الأعاصير .. تنتظرها في بيت بارد .. مثلج .. قفص و مهما أطالت فمآلها إلى البيت و هاهو يظهر قريبًا . ........ ........... ........... ما إن قرأ الوالد درجة المجموع ... حتى هز رأسه مرددا ... 180 من أصل 350 ... يا سلام ... أمر يرفع الرأس ... يا سلام ... "ماذا كنت تفعلين طيلة الفصل يا آنسة ... أربي حميرًا في المنزل أليس كذلك ؟. ثم إن حمارًا .. لو ألبسته و أطعمته و علمته .. كما فعلت معك .. لما قبل أن يجمع 180 درجة .. أنا الأستاذ .. ابنتي تجمع 180 و ابنة جارنا النجار تتفوق ...
      ثم إن الحمار ابن الحمار ليس أنت إنما هو الذي يرسلك إلى المدرسة ... انقلعي من وجهي ..
      ....... ...........
      كانت مطرقة .. وجهها في الأرض و عيون مغرورقة /رغم مكافحتها / دمعًا و ما أن استدارت حتى سال الدمع طريًا على خدها ...
      هدوء و صمت مطبق ... مخيف .. يخيم على جو بيت معتم .. غير
      مطلي .. باهت .
      لم يكن نصيب إخوتها من الإهانة و السباب أفضل .. لكنها كانت الأسوأ .
      - حمدًا لله - وحيدة فقد تأخرت قليلا و أكل إخوتها .. و لم يكن لديها شهية للطعام ،.. صحون على رخام المجلى كانت تغمس منها و تضع في
      سلة القاذورات ..
      و كل شيء قذر بلا طعم .. بلا لون .. بلا رائحة .. و رأت بعينها من المطبخ أباها يمضي إلى غرفتها ،.. وفي كتبها يعبث و يقلب .. حتى سمعته يقول .. : " كتب جديدة .. صفحات ناصعة .. كثير منها لم يلمس".. تسمع الحركة و تراها .. يخرج في يده .. دفتر ..
      ......... ............ ............
      "يا إلهي!" .. إنه دفتر مذكراتها .. وفيه .. فيه كل شيء .. و شعور من غضب .. و حنق فظيع و خوف .. وشحوب و احتقان .. يعتريها ...
      كيف كان وجهها .. لا تدري،.. لكنها أحست حرارته و تدبّب حبيبات العرق من قشرة رأسها .. و في أعماقها طفى خوف .. و حزن .. وحنق .. كبير .. كبير .." يا إلهي" .. إنه دفتر خصوصياتها .. و فيه دفنت أسرارها .." ما ذنبي يا رب حتى تعاقبني بهذا الطاغي .."
      "إنه الآن يقرأ ... و قد أغلق وراءه باب الغرفة .. إنه يقرأ و يعرف أنني .. أكرهه ... و أمقته ... نعم ... أنا كتبت ذلك ... و كتبت أنني أحتقره ووصفته بأحط الأوصاف .. و ووصفت بطنه و أذنيه كذلك .."
      ............ ............. ...........
      مضت نصف ساعة و أكثر، .. هي الآن في غرفة الدراسة ... وجهها مقابل الكتاب .. والكتاب خارج تفكيرها، .. كلمات زائغة .. كلماتها هي التي كانت واضحة، .. كتبتها بخط منمق .. و لماذا؟ .. حتى يأتي أبوها فيقرأ و يعرف، .. و هو الآن يعرف أنها تحب ابن خالتها ..عمار.. أبوه تاجر .. و هي تنتظره ليخطبها ... و هو طويل .. تلبس له الكعب العالي ...
      صوت عصفور.." يا إلهي ... ترى من على الباب ..؟ ... إنه عمار ... قال أخي الصغير .. جاء ليطمئن .. يدخل عند أبي .. و أبي لابد أن يقرأ معه و يدعوه لمشاهدة ما كتبت .. لا ... لا .. يا رب ما هذا" ... و فجأة ... و احتقن وجهها ... نعم الصورة ... إنها في الدفتر ... صورة لرجل و امرأة في وضع مريب .. سافر .
      صارت ترتجف ... الآن سيراها ... و أمام من .. عمار ابن الخالة ..
      "يا لتفاهة الدنيا" .. و تمنت لو تنشق هذه الأرض و تبتلعها .. و تغور و لا تعي بعد ذلك أيما شيء ..
      مطرقة في رأسها تضرب، .. قلبها تسمع دقاته .. قامت..حركاتها .. مضطربة، .. لكن رؤوس إخوتها في كتبهم .. لم يروها، .. إلى المطبخ .. لا تدري كيف .. نعم .. السكين .. ستقتله ..
      ............ ...............
      ليس هناك من شيء فيه نفع للإنسانية أكثر من قتل هذا الطاغية .. و بجّ هذه الكرش الكبيرة .. و فجأة سمعت حركة و صوت .. " يا بنة الكلب .. "
      و صوت من خلفه .. " مهلك يا عمي .. "
      و مضى .. ظانًا إياها في غرفة الدراسة .. و هي لحقت به .. السكين خلف ظهرها .. لم تعد تدري أو تدرك شيئا .. دنيا غائمة .. هائلة في غموض .. و ما كان هناك سوى .. شيء .. سر .. في وعيها .. و في ذهن أبيها يجب أن يموت .. و يدفن .. أو تموت هي .. و كان أبوها الأكثر استحقاقًا للموت ..
      ............. ............. ........
      كانت ممتلئة بالخوف .. و الرعب ... و الحنق .. و الرغبة في القتل .. و البكاء و الموت ... ليست في الغرفة ... التفت نحوها ..
      سكين حادة تلمع في ضوء المصباح الواهن .... و ما أن رأت تعابير وجهه صارم .. غاضب، .. و عيون .. مستنكرة ... جاحظة ... ووجه مستطيل مدور،... حتى ارتخت ... السكين في يدها ... و بقهر و عذاب .. أرادت .. و رغبت .. بالموت،.. حقيقة ... رغبت به منقذا و كريمًا .. " و ما أكره الدنيا ". تغيب.. في لحظات من عدم و غموض .. و ضباب .. كثيف .. جدًا .. جدًا .
      لكن لطمة الوالد و صرخته .. أعادا لها ذلك الوعي البغيض . ملقية على الأرض،.. و قدم أبيها -بقسوة – في خاصرتها ..أحدثت ..وجعًا .
      "تريد أن تقتلني الكلبة .. ابنة الكلب .. أين كتبها؟ .. أريد إحراقها .. هذه ليست ابنة مدارس .. ابنة شوارع هذه" .. و انحنى عمار عليها " أنا مندهش منك .. أنت طفلة .. و منتهية .. أحقًا ما أراه منك .. غبية .."
      لم تحفل بكلام ابن خالتها، .. و لا ردت عليه .. لكن أباها خرج بالكتب .. و دخل حديقة المنزل، .. فاندفعت و بكل قوة .. و سرعة .. هائلة .. انتشلت الكتب التي وضعها الوالد على الأرض .. زاحفة مع اندفاعها على القسم المرصوف من الحديقة .. كانت قد اتخذت قرارها،.. ستدرس .. و تستقل .. و تختار شريكها .. "و لن يكون .. إلا مثقفًا .. جامعيًا .. متفهم و بعيد عن كل سلطة و قمع" .. مستندة .. ظهرها إلى الجدار .. كانت تنظر إلى أبيها .. بتحد و ثقة .. و ضمت الكتب بقوة إلى صدرها ..
      هذه الكتب العزيزة كيف أهملتها يوماً؟‍









      ..المعطف..



      أبي خرج..أشعل النار وخرج.. مدفأة حطب في بداية اشتعالها تهدر. الجو في الخارج برد.. صقيع و ثلج.. وأشجار كنت من النافدة أراها.. صنوبر وأرز.. خضراء مقلمة أبيض.. تشبه الرجل الفزاعة.. وسط الحقل.. من الصيف الماضي بقي -أراه- على طول أطرافه الممدودة ثلج.. أكمام مهدلة.. مائل.. يد لفوق و يد لتحت.. وكذلك كانت هي.. على أكمامها الخضراء ثلج…..لكن لا مائلة.. ولا أكمام مهدلة.. الندف.. بيضاء.. تترنح بدلال وكسل.. تغري.. و العيون غاوية تهوى دلالاً.. الغرفة تدفأ.. وأنا ملموم في ثياب كثيرة و معاطف -اثنين- الأول معطفي.. على القد.. مناسب.. والثاني.. لأختي.. ابي ألبسني إياه كي لا ترتديه ..كبيرة.. في السابعة عشرة.. عشر سنوات من عمري زيادة.. طويلة.. لا تبرد -ربما- أنا لم أكن أحب المعطف.. ذاك.. طويل.. أكمام مهدلة.. أطويها عدة طيات.. لا تلبث تعود ترتخي.. ثم مع الحركة واحدة تبقى والأخرى ترتخي.. رافعاً يدي أعلى .. حتى الكم تنشمر.. وبأطراف أصابعي.. إلى راحة الكف..أضم طرف كمٍ .. لعين.
      الجو.. أصبح حاراً -في الغرفة- والأرض في الخارج بساط أبيض.. ولحاف قطني-الغيوم- فليس من برد في الخارج.. وانا ألبس كثيراً..والبساط -أبي قال- يُفرش لكي يُمشى عليه.. والملك -قال- يفرشون له بساطاً لكي يمشي عليه.. و أنا أريد ان أصير ملكاً.. وهاهي لينا صديقتي -تأتي- اشتقت إليها وأتت - من النافذة - رأيتها "هيه..لينا..قادم" ومن خلف الجدران سمعت صوتها "اخرج يا جبان" .. جلست على الأرض. . أنا لست جباناً.. هه . . ورحت ألبس جواربي . . بسرعة . . و الكفوف أيضا . . هكذا هي تلبس .. هاه
      انتهى .. وهممت أن …...
      _ سمير .. أين تخرج .. الدنيا برد ؟! ..كانت هذه أختي .. أبي حرمها –خروج ممنوع –وأنا .. لم يقل شيئاً .. ثم إنني ألبس كثيراً .. ولن أبرد .. أجبتها.
      حسناً .. إذا كان ذلك .. أعطني المعطف إذن.. تلبس كثيراً .. وهذا طويل يعيقك .. لن تستطيع به لعباً .. يعيقك.
      - صحيح .. طويل .. عريض أيضاً .. حتى على أختي عريض – نحيلة – لكن أبي قال " إياك يا ولد .. أضربك .. أحبسك " ثم.. خروج ممنوع .. نظرت إليها من تحت حواجبي – مشدودة – وشفتي السفلى تغمر العليا قليلاً .. أرز إليها نظرات ..
      - لن أقول لأبي .. أعدك .. ولن يعرف .. وسأعطيك بكلة شعر- فراشة - تعطيها بدورك .. إلى لينا .. هدية.
      - كلام معقول.. نعم.. أعطيها.. طويل وعريض.. مهدل.. ويضايقني.. لكن أبي.. ياويلي.. غاضباً.. يصرخ.. ومن أذني يمسك.. و.. طاخ كف.. يضرب.. ثم.. خروج ممنوع.. لا.. لا.. أرفع حواجبي ثلاثاً.. بحركات متواترة.. سريعة.. تعبيراً أن..لا.
      ضربة - بكوم ثلج- على النافذة - ليست قوية – "هيا ..يا جبان ".. أصيح أن.. يله.. " قادم.."
      - حبيبي سمير .. أنت لطيف مطيع .. وتستحق.. غير عنيد أبداً.. أعطيك الألوان..و دفتر الرسم..و الرسومات- تعرف لا أعطيها لأحد.. و تقول إنها لك.. وانك أنت رسمتها.. وأنا أوافق.. و أقول.. نعم.. صحيح.. سمير رسمها.. أنا حتى لم أساعده..
      - شيء مغر.. كما الندف.. بدلال تسقط.. السماء في هذا اليوم تمطر هدايا.. و أبي.. لماذا أنت غاضب؟ المعطف عليها أنسب.. لا يريد أن تحب أمجد -ابن خالها- و ذلك لأن الخال.. هذا.. لايريد.. و أبي قال: "من يكبر علينا شبراً.. نكبر عليه مترا ًلم ينس بعد - الحقود- أنني طلقت أخته- أمك يا سمر- وهو لذلك لا يريد.. و انا كذلك لا أريد.. لا تذهبي إلى ابنه.. هذا أمجد.. ولا تقابليه.. إياك.. اثقلي.. نحن لسنا دونهم منزلةً " .
      - وقتها عرفت.. نعم.. ألبسني المعطف كي لا تذهب و تلتقيه.. وبدونه لن تستطيع.. الدنيا برد.. والمعطف ضروري.. وأنا ما كنت احب المعاطف.. ولا أجد بها ضرورة.. أنا أحب الهدايا.. و أعرف كان بإمكاني أطلب ما اشاء.. تلبي.. لكن أعرف أيضاً.. لا أستطيع اعطاءها ما تريد لأحصل ما أريد..فقطبت حواجبي.. قليلا كمن يفكر.. ويحصر بذهنه..ثم رفعتها للأعلى -تكراراً- مع بسمة طفيفة- نكاية عابث..
      - بحنق أمسكت بي.. تعال.. إنه معطف أمي و ليس أمك.. تعال -شدت- هاته.. صوتها ممزوجاً بحرقة.. ودمعة من عيونها ربما سالت -أحسست من صوتها- لكنني ام أنظر.. عيوني للأسفل.. و رأسي و ذقني غائصة بين ذراعين مشبوكين.. بقوة إلى بعضهما.. إياك.. أبي قال.. أعرفه عندما يغضب..كان حاداً وقتها..عيونه كانت حادة.. أعرف.. باستسلام.. أمسكني من الياقة.. و بقوة شدت أذني و فركتها.. اللعينة
      - لص.. وقح.. تافه.. و.. و جرذ.. سأقول.. نعم سأقول لأبي.. خرجت تلعب مع لينة.. ابنة خالي لينة
      - الفركة آلمتني كثيراً.. عيني دمعت.. تملصت.. بيدي اإثنتين رفعت المعطف.. - معطفها -.. كي لا أقع وركضت.. إلى الباب..فتحته.. استدرت إليها.. مددت لساني و..خرجت.. "أبي لم يقل لا تلعب معها.. فقط قال.. لا تذهب لعندهم.. وأنا لم أذهب.. هي التي جاءت.. أهلاً و سهلاً" و عند الباب – في الخارج – استمهلت صديقتي.. هدنة قبيل بداية المعركة.. وقلعت كلا المعطفين.. الكبير عدت لبسته..و بمسكنة شقية دخلت إليها..
      هاك معطفي.. خذيه.. البسيه.. هذا عدل.. بلطف قدمته ثم عدوت -ضاحكاً-هيء.. هيء.. هيء.. قذفتني به.. "وقح" لكن أغلقت الباب دونه و مضيت
      .... ...... .......
      كوم من الثلج.. أصابني.. كانت هذه بطة..حسناً هكذا إذاً.. مخادعة..سأريك يدي في الأبيض المثلج.. كومت.. واحداً.. كوماً.. بقوة.. وضربتها.. منحنية على الثلج.. في معطف دون الأرض.. مفتوح.. زر واحد من الأسفل يدور حواليها –المعطف من الأسفل- في ألوان من فضي و بني ورماد.. يسراها في الثلج – ثابتة – وباليمين تجرف إليها الثلج "بارد" - تنـتر يدها – حركات بطيئة.. مكورة على طول.. كما البطة تماماً .. وأنا ما كنت احب البط ولا كل الدواجن.. جبانة.. تسبح في مياه هادئة.. ولكن هي لينة.. أحبها.. وأحبها جداً.. مع أنها لاتحب البحر – تخاف أمواجه و الوسع- لا بأس يا لينة نعبر على مركب.. أبي قال.. يا ولد يا سمير "البطة في المركب تسبح في بركة هادئة.. المركب ركب البحر يا سمير وشد لجام أمواجه"
      بطة.. يا بطتي.. خذي هذه.. كانت قد انتصبت وما إن فعلت يدها بالكوم للأعلى.. حتى أصبتها.. حمقاء.. تغدرين بي..آه..
      ..... ...... .......
      أختي كانت تراقبنا.. وأنا بين الحين والحين أخطف.. وبسرعة.. بصري إليها.. وهي الأخرى كانت تنقّل أنظارها بيننا حيناً وحيناً في البعيد سادرة.. اليدان تحتويان ذقناً بيضاء ونحيلة.. وشعر على الكتفين.. أسود جميل.. تفتح النافذة.. يتطاير.. كوعاها وصدرها إلى جوف النافذة رياح وثلوج.. تلفح وجهها.. واحدة.. ندفة صغيرة.. على أنفها تسقط.. و كأنها ليست هنا.. اهتمامي وانشغالي بحالها.. لحق عليّ بكوم.. على جبيني.. هيء.. هيء.. هيء.. اللعينة تضحك.. البطة محال تنتصر على الباشق.. وأنا.. هم.. باشق.. ويلك.. هاك واحداً.. هاك آخر.. وانشغلت باللعب قليلاً...
      ..... ....... .......
      ولم يقطع انهماكي.. مبغوتاً .. سوى صفقة الباب.. أختي.. أنا رأيتها تخرج مسرعة.. فقط ترتدي قميصاً واحد فوق كنزة.. أبيض مكوي.. ناصع كالثلج.. مسرعاً.. تبعتها.. خطوتان.. فقط لاأكثر.. دست بقدمي على طرف المعطف.. فسقطت.. جانباً على وجهي .. العظم فيما تحت عيني اليمنى تأذى.. وكذلك الأنف.. جهة اليمين بقوة على حجر صلب وقع.. المعطف.. من الجانبين رفعته.. يداي وأنا مفروشتان..كل منهما مع جذعي تشكل مثلث.. نبدو كالرجل الفزاعة..لكن ليس ثابتاً.. يعدو.. ويقع.. خلفها أختي.. سريعة.. يا ويلي.. تعبت.. الأرض منحدرة.. صرت أقذف قدمي.. ضربات متتابعة.. تحدث ألماً في قدمي.. خفيفاً..وما عدت أستطيع التوقف.. الأرض.. مع الثلج.. صابونة.. لا أدري كيف.. نعم.. زلقت.. على الأرض.. منحدرة.. تدحرجت.. السقوط الأول فقط على وركي.. أحدث وجعاً.. شجرة.. اعترضتني.. احتوتني وأنا بدوري احتويتها.. هذا المعطف.. الكلب ابن الكلب.. فككت أزراره.. بسرعة.. كبيرة.. اللعنة.. أختي ضاعت.. الأزرار.. انتهت.. واحد بقي.. صعب.. ابن كلب.. عروة ضيقة.. أو هو كبير.. قطعته.. المعطف.. متحرراً منه.. خرجت هكذا..بكلتا يدي.. كومته.. بقوة.. ككوم ثلج.. ورميت به.. ذاك البياض والغابة الكبيرة والأرض المنحدرة صرت طليقا.. الأرض.. تتلقى ثقل جسمي مع السرعة مركزاً في الكعب.. كعب قدمي.. أضرب به.. جذعي دافعاً به وراء.. أستند بالأشجار.. متقاربة.. عند احساسي وقوع.. وهكذا تعلمت.. لكن أختي.. أين هي؟.. ضاعت.. وألم أحسست تحت عيني.. جربت ببطء ألمسه- مكانه – يؤلم..الثلج..لم يعد يترنح دلالاً..صار يعنف نشيطاً.. غاضباً يحجب الرؤية.. ابن كلب.. يلفح وجهي.. ولا يراعي عيناً ولا أنفاً .. بعيني أراه- الأنف – تورم.. صرت أفتل بين الأشجار.. أختي.. احسست وقتاً لابأس به مر عليَّ قبل إيجادها لم تكن لوحدها.. آه.. نعم.. أمجد.. متواعدان.. ببطء وكالنمس دنوت..ووراء شجرة دلب.. لطيت.. ظهرها إليَّ.. ليس خلفها تماماً.. في زاوية.
      مستلقية.. تجلس.. أختي في حضنه..ذراع تطوق عنقها.. ويد.. تفرك لتدفىء يديها وظهرها.. وكفاها ينفخ فيهما ويقبِّل..
      ..... ..... .......
      مندهشاً كنت.. ومصعوقاً.. أنا أتيت إليها.. تبعتها.. لأعتذر..وكي أقول.. آسف.. كان يجب أن أعطيك المعطف.. آسف..أو.. لاأدري.. انا نفسي.. لاأدري لماذا أتيت.. وتبعتها.. أنا بعمري ما رأيت.. اثنين.. في وضع..هكذا.. متحابين..كانت في شغل عني.. واضح.. عيون مغمضة.. وشفاه ترتجف..أسنانها تصطك..قبَّلها..قبلة واحدة على شفاهها.. نصف مفتوحة.. ثم عن كتفيه خلع المعطف.. أخرج أولاً ذراعه اليمنى.. وباليسرى على طية الكوع يسند رأسها.. ثم أمسكه- رأسها – براحة كفه اليمنى.. التفّ قليلاً.. و نزع ذراعه الأيسر.. ودثرها به.. معطف.. عسكري.. بلون أخضر.. زيتي.. غامق.. فيبقى دون معطف. انا كنت.. نار أحسها في وجهي.. تضرم.. العظم.. المكان.. فيما تحت عيني تورم.. يؤلم.. أحسه.
      ...... ....... ........
      كاتماً لهاثي ما استطعت.. على شفتيها انحنى برأسه وقبل.. فقط في البداية.. شفتها العليا ملسها.. أنا رأيته.. نعم.. أنا ايضاً قبلت مراراً.. نعم بطة.. لكن ليس على فمها.. على خدها.. هكذا بسرعة.. خطف وانتهى.. لكن هو أطال.. وكانت هي تغمغم..
      - تدفأت.. جيداً وضمها بقوة إلى حضنه.. ثم هي.. أختي.. نعم.. هكذا فجأة.. وبعد التقبيل والدفء عادت مرحة.. وبذراعيها طوقت عنقه.. وراحت تقبله.. في فمه أيضاً.. رهيبة.
      - أتدرين يا سمر
      - نعم ياحبيبي
      - أنا آسف..الحق علي.. كان يجب أخذ حساب الطقس.. فهو كوالدك يؤخذ له حساب أيضاً, لكن بقدر ما أنا حزين لأنك تتجمدين هكذا بسببي.. كذلك أنا في غاية السعادة.. لأنك.. أتيتِ.. هكذا.. وبرغم الثلج.. ودون معطف..
      لأجلي.. يارائعة..
      - الوعد.. وعد.. وما كنت لأدعك تأتي وحيداً.. تنتظر.. ثم أنا جئت من بيت بارد.. مثلج.. لألتمس دفئاً.. هنا..في.. حضنك.. ياحبيب.. ثم غمرها بقبل.. على فمها.. سريعة.. ضاماً إياها.. تبادله..
      - هل تحب الثلج يا أمجد.
      - الثلج نوعاً ما لكن الجليد لا.
      - غريب.. مع أن عقلك متجمد.. كأبيك.. بالوراثة.. ولماذا؟ "تعابثه"
      - الجليد.. بارد.. يصّبر.. لايقوم سوى بأن يؤذي حبيبتي ويؤجل مواعيد العشاق والمتزلحقون عليه يدورون في حلقة مفرغة.. أما الثلج.. فيمكنني وإياك ان نأخذ زلاجتين ونمضي بهما هكذا إلى.. بلاد سعيدة..
      - حتى لو كان ذلك.. وسقط الثلج وتراكم.. وهكذا كا لمحترفين أخذنا نُفتِّل حول الأشجار.. أنصاف دوائر.. البحر ذلك الكبير.. هل يحملنا على ظهره؟.
      - أتعتقدين ان لن نتجاوزه حتى يتجمد أو يقوم بتبليطه.. أبوك.. وضحك.. وضحكت.. وأنا ما إن سمعت بذلك حتى.. لوني شحب.. البحر.. الأزرق الهائج.. الأمواج القوية.. تلطم الشاطىء.. تؤدبه.. تربيه.. أبي أيضاً قال تربيه وقال الصخور والأحجار هذه الملساء كانت صخرة واحدة كبيرة.. و الرمال كذلك كانت.. والبحر يا سمير يفتتها.. لكي تأتي.. وتلعب بالرمل.. وتبني به قلعةً.. وأبي ما كان يحب البحر.. يحب صخرةً ها هناك صامدة.. لكن هو قال-يعرف-" في يوم بعيد يا سمير ستتفتت".. وهو عمل في تبليط البحر.. سابقاً.. لرصف الميناء.. والآن عامل بناء يبني بيوتاً من صخر وحجار.. والبحر صديقي.. كبير.. وصدره واسع.. وأنا أحب الرحابة.. البحر قوي..وأبي يخافه.. وهو قال "البحر رجل.. وما على البحر مرجلة" .. والبحر حياتي.. وفيه سبحت.. وعندما أحزن.. كنت آتي.. إلى الشاطىء ثم أبكي.. وعندما يضربني ابي,كنت آتي إليه وأشتكي.. متذكراً أمي.. حنونة ماتت, والبحر كان يقترب.. ومثل كلب وفي.. يلحس دموعي.. عندما أسبح تذوقوا البحر من دموعي طعمه مالح.. من دموعي ودموع أطفال آخرين هناك منتشرين على أطرافه يبكون أمهاتهم وأناس آخرين عزيزين عليهم.. والسماء حتى هي ولقداسة.. لابد فيه..تلبس ثوبه الأزرق . البحر.. يتجمد.. يا إلهي.. وقفزت من مكاني.. ركضت.. أختي وأمجد.. جفلا.. وكأن شيئاً مس كلاً منهما واخزاً..
      واستدارت في حضنه.. أختي .. وإلي نظرت في عيونها دهشة.. لمحتها فقط في شغل عنهم.. ياصديقي.. يا حضني.. يالون عيني.. يا أزرق.. لا.. لا تتجمد.. يا أمواج.. اكسري القيد.. قوية أعرفك.. هكذا في البداية تصورتها تئن.. تحت قيد جليدي سميك.. أرعن ياثلج مافيك خير.. أنا أعرف.. وعدوت.. وعدوت .. كثيراً.. ورحت أصعد .. إلى القمة.. "من هناك.. فوق.. يمكن أن أراه"...
      قدماي خارتا.. تعبت.. لهاثي يتقطع.. سريع متواتر.. ثم بتثاقل.. أحمل نفسي على المشي.. محني .. راحتي على الركبة.. ألهث.. "يابحر ياغالي .. إليّ بنظرة.. منك.. طُلّ" وأخيراً ..نعم .. من فوق.. يافرحتي .. واسع.. أزرق.. جميل.. مترامي.. هازئ بكل ثلوج الدنيا.. "وما هذا الثلج.. يذوب فيه.. لا شيء.. قَمل أبيض"
      ومن هناك أرحت ناظري على الأزرق المترامي.. وجلست قدماي ما عدت قادراً على النهوض بهما.. أمجد..
      أنت السبب.. البحر لا يتجمد .. ياغبي.. القبلة ليست على الفم..
      يا أحمق .. الله يلعن تمك.
      ثم هدأت.. وانتبهت إلى نفسي.. بعيداً عن البيت.. وعن البحر كذلك من فوق.. أطل على الدنيا المترامية.. لساعة كاملة جلست البرد.. في عظامي تسلل.. شيئاً فشيئاً.. ندمت على قلع المعطفين..
      -معطفي على الأقل ماكان يجب أقلعه- وتذكرت الغرفة.. حارّة .. وأمي.. وصدرها.. لابد دافئ.. دمعت.. وبدأت..أخاف ثم.. ها.. لحسن الحظ وكثيره .. عمو أبو أمجد.. راكضاً إلي.. حملني.. حضنني.. وبعد توبيخ صغير.. وتفقد لحالي- خدودي واليدان- عدنا إلى حيث ترك الجرار.. وقبل أن نصل مشيننا طويلاً.. وكنت بين ذراعيه ملتذاً.. وعدنا. أمجد.. عاد.. وأخبره فأتى..يملك جرار وقبيل الوصول.. أوقفته.. نزلت.. عدوت قليلاً وعدت بالمعطف -معطفها- أختي.. وفي البيت كانت نائمة.. تحت لحاف سميك مستلقية.. أبي.. وأم أمجد حولها.. وهو أبي .. لم يضربني.. ولم يؤنب.. فقط بلهفة ركض إلي حملني إلى المدفأة وصار يفرك يديَ.. ويدفع بهما إلى النار.. فقط عتاب رقيق.. أحسسته في صمته وخجله.. ثم قليلاً في كلامه "هكذا يا سمير هكذا تفعل ياأبي" تدفأت جيداً.. وكذلك المعطف معي .. أدفأته.. حاراً صار.. ثم بجانب أختي .. اندسست.. وألقيت بالمعطف عليها.. ثم رددت اللحاف.. طوقتها.. نائمة.. بعمق نائمة.. المعطف.. عريضاً كان.. وسعني ووسعها.. ووسعنا معاً.. وهكذا متعانقين.. وحتى وقت طويل.. انطوينا تحته.





      فضاء .. بلا هداية ، وطيور



      الدخول إلى عالم لوحة ، كالوقوف أمام مكتب كبير ، يمتد عرضانياً أمامك يجلس خلفه أستاذ وقور .. لا يعير اهتماماً لارتباكك ، وما إن تهم بالكلام حتى يطلب منك تعديل هيئتك ، أو ربما هو كمغازلة مراهق لامرأة في قمة نضجها تقول له : لا يا خالتي هذا لا يجوز ...
      ولكن وفي كل الأحوال تبقى اللوحة جسداً يتشهى عربدة الفرشاة والفرشاة هذي ذراع الرسام ... فهي ذراعك ...
      ولكن اللوحة وكأي امرأة هجرتها طويلاً لن تعطيك حضنها أو حتى وجهها حتى ترى في ارتباكك وارتعاد يدك ما يرضي غنجها وكبرياءها
      الجريح . اللوحة أمامك .. وأنت : من أين تبدأ ؟...
      تتذكر نصيحة أحد الرسامين الأصدقاء بالبدء بالأزرق السماوي عندما تحتار ، لأن في شفافيته ونعومته مالا يجرح بياض اللوحة . وأنت به تستطيع أن تتقدم خطوة والتمهيد للون أخر ، فعندما ترسم نهراً يكون الأزرق هو السطح بينما يكون الأبيض ما يوحي لك بالعمق والامتداد ، كما وقد يكون الأفق ...
      اللوحة أمامك .. وأنت .. وكالتلميذ الذي يهرع إلى أستاذه عندما تغلق في وجهه دروب الحل ، تعود إلى أستاذك فاتح .. فاتح المدرس .. تنظر لوحته على الجدار "هجرة الطيور والأطفال" اللوحة التي قمت برسمها نقلاً عقب وفاته . من أجله من أجل فاتح .. الذي هاجر عندما عدت إلى الكليّة ... "هجرة الطيور والأطفال " كانت اللوحة الأثيرة لديك ، وأنت تدري لماذا اخترتها .. والوجوه التي قذفت بحدة للجانب بينما الأجسام تتجه أماماً . العيون التي أغمضت وضغطت لتحمل وتنقل وتعبر عن الحزن الذي لا يسمح بالنظر ولا يتقبل الهجرة اليد .. يد الأم اليمنى .. تحمل طفلتها .. تتمسك بها تضمها ... تتجه إلى أعلى حركة اليدان تعكس تضاداً صارخاً ... الأخت الطفلة تلوح للطيور التي توحي أجسامها المائلة بأنها مسافرة ...
      اليد .. التي تمتد إلى الفرشاة .. ترتعد ... اللوحة .. هذه القوية العنيدة والشامخة والتي تفاخر في عذريتها وفي نقاء بياضها تتجه إلى أعلى .. يدك المخطئة تهوي إلى أسفل ترى إلى اللوحة تحدثها :
      لماذا ؟ ! ...
      - أنت هجرتني .. ومن قبلي هجرت أهلك .. كيف أثق بك عد إلى أهلك .. أكمل بلوغك ثم تعال إلي .. فما زلت صغيراً على حمل الفرشاة ..
      - لكن أهلي .. هم السبب .. كيف أرسم في بيت يسوده الصراخ والضجيج .. وتكوّم فيه صحون الطعام غير نظيفة ، وترمى فيه الثياب دون أدنى ترتيب .. ولا تحافظ فيه الأرض على نظافتها لساعات .. تلاحقني فيه الاستهزاءات والتذمرات والإهانات وعبارات : "إذهب واشتغل شغله تفيدك " و "هذه شغلة لا تطعم خبزاً" .
      ثم إنك تعرفين أنهم عارضوا تسجيلي في كلية الفنون كيف لي أن أرسم في ذلك البيت وهل ينسجم هذا مع رغباتك أو مع أجوائنا .. هل .. هل ينسجم هذا مع الفن ..هل ؟ تدور بأنظارك في أرجاء الغرفة .. تبدو مرتاحاً إلى نظافتها .. ترتيبها .. ألوانها وديكورها .. ونبتة معرشة جميلة تمتد أفقياً مع الجدار وترمي بغصن مزهر بين كل لوحتين متباعدتين كلفك ذلك سنة كاملة .. أوقفت تسجيلك في الجامعة .. وذهبت لتعمل في لبنان .. قاسيت كثيراً .. وعدت بما يمكنك من استئجار شقة مع زميل لك .. تنام فيها مع هذه اللوحات .. وهذه الورود .. وتساعدك الموسيقى في خلق عوالم تريحك .. تستطيع حتى فرضها على زوارك في هذه الشقة ...
      لكنك في هذه الفترة متوتر .. وكل ذلك يخفق في تقليص المسافة بينك وبين هذه اللوحة القريبة .. النائية .
      تبدل عدة أشرطة تسجيل .. تأخذ سيكارة ...تعود تجلس على الأريكة .. تذهب أنظارك إلى الغرفة المقابلة وفي النور ترى لوحة زميلك وقد اكتملت .. بقع لونية متجاورة مختلفة الألوان .. مبهجة .. ترى في وسطها أشكالاً متشابكة توحي بالتضام والالتصاق عبر نسيج هو التداخل ويعكس انحرافها وانسيابها لهفة محترقة تبدو أيضاً في الألوان الخمرية .. فهو الشوق الذي تَخمّر في قلبين عاشقين . انسجام آخر تراه بين تجريدية العمل ورومانسيته وبين هذا الزميل الموسر و الرقيق في آن ..
      يعجبك تجريده الذي قلما يعجبك في لوحات أخرى هذا الذي يملك الحرية والانسياب وعفوية الحركات .. هذه الأشياء التي تريد أنت استخدامها لكن عبر تعبيرية فاتح مع سعي خاص إلى إعطاء هذه التعبيرية مزيداً من التماسك والوضوح والعناصر الواقعية التي تريح البصر وتحافظ على الانسجام مع منطقية الصور التي تمنحنا إياها الطبيعة . لكنك تسخر من كونك عاجز عن تجسيد هذه الرؤيا وهذا المشروع إلى لوحة متواضعة .. تكون وثيقة
      براعتك المزعومة ..
      تذهب إلى ركن ما في أحد زوايا الشقة ، وتخرج صندوقاً .. تجلس ..
      مقرفصاً ..سيجارة في فمك .. تنقلها إلى أصابع الكف .. عدد من لوحات غير مكتملة لأنك كنت ترسمها في بيت أهلك البيت الذي تشتاقه وتحقد عليه ..
      تخرج لوحة .. كادت تكتمل .. تتذكر قصتها ...
      كان الفصل شتاءً والوقت ليلاً ... انتظرت حتى نام الجميع وساد جو ما يسمح بالرسم ..أوقدت المدفأة .. وشرعت ترسم متأملاً الانتهاء من اللوحة الأثيرة التي كنت وعدت بها صديقتك رغد السيجارة في هذه الأوقات لا تفارق فمك ... وكنت تمزج برمادها الألوان فتحصل على لون أسود نوعاً ما يتمخض منه الأبيض بطريقة لا تدريها .. الأبيض الذي يعد دائماً ويبوح همساً بالأمل والخلاص .. وكان ذلك أفضل بكثير من الأسود الخالص الذي لم تكن تحب ...
      وبقيت سعيداً يومها حتى دخلت والدتك .. مستنكرة ومؤنبة في آن "ما الذي
      تفعله .. إخوتك نائمون وأنت تستمع في أنصاف الليالي للأشرطة" ثم ما هذا ؟ تدخن .. أما عيب عليك .. تنتظر نوم أهلك لتدخن خلسة كالأولاد ثم ألا تعلم أن يجب عليك الذهاب باكراً إلى الحقل .. ما رأيك .. أذهب أنا العجوز هناك .. وابني يا ما شاء الله طوله وعرضه ..ينام " .. تعتذر منها وتعد بأنك ستتدارك ذلك لاحقاً ، وتطلب منها أن تكف وتذهب لتكمل نومها .. لكنها تكمل ...
      "طيب .. أذهب أنا للحقل .. لكن ماذا أقول للناس .. ابني نائم .. يسهر على الرسم .. رسومه عاجلة ومهمة .. لا تؤجل . ولا ترسم إلاّ في الليل .. ويشعل المدفأة لأنه لا يجوز للمدفأة أن تطفأ لا ليلاً ولا نهاراً ..."
      ثم تطلب منها بحنق أن تكف .. وتصرخ مغتاظاً .. كفى .. كفى . فهمت .. تذهب للمدفأة تطفئها ..
      لا يجب أن أرسم .. الرسم أصلاً عبث أولاد .. فهمت ... فهمت وبعصبية تأخذ الفرشاة وتشبعها باللون الأسود .. وبنزق .. تهوي بضربات طائشة على يمين ويسار اللوحة ثم المنتصف ثم بتركيز على منطقة الفم تطمسها بشكل مائل وخطوط مائلة مكسرة .. ثم في النهاية إشارة × أنا أصبحت مهذباً " يجب أن
      أنام .. سأستيقظ صباحاً .. تصبحين على خير .. وتمسكها من أسفل الكتف وبقوة تزيحها خارج الباب .. وتغلقه في وجهها .. ثم تطفئ الضوء وتذهب للفراش ودموع شاب عزيزة تجري بانسياب حرج ترتاح للظلمة التي تخفي دموعك .. لكن تخاف أن تعود فتفتح أمك الباب لتوبخك على دفعك لها بقوة .. فترى دموعك .. لكنها وقفت أمام الباب قليلاً .. ويبدو همت بفتحه لكنها لم
      تفعل .. وحمداً لله لم تفعل ...
      تعود تنظر اللوحة التي هي بين يديك والتي عدت في وقت آخر وأكملت طمس بعض معالمها وتوزيع أشكال وخطوط هنا وهناك لكن بفنية هذه المرة .. وصرت تعرضها على بعض الأصدقاء كلوحة تجريدية لها عمق وخلفية .. هازءاً طبعاً من تجريدهم الذي لم يكن يروقك ..
      تتأمل اللوحة وتبحث فيها عن أماكن العينين .. تتصور العينين خلف هذه البقع السوداء .. تراها .. تمسح بإصبعك على الخدود التي بقيت واضحة والتي تبدو ناعمة أواه كم جهدت لكي تبدو نعومتها .
      تعيد اللوحة وترفع واحدة أخرى .. كانت هذه لسيدة .. يبدو من الخطوط والمساحات التي حددت الرسم أنها سيدة رقيقة القوام .. طويلة .. نحيلة القد .. كنت تعلم أنه يجب التركيز على ثلاث نقاط هي :
      استقرار وثبات وتراخي اليد اليسرى التي تستند إلى مظلة مضمومة رأسها
      في الأرض ...
      وحركة المنديل الذي يلف العنق دالاً على هبوب الريح ... ثم اليد اليمنى التي اندفعت لتحمي القبعة الرقيقة والتي هي أشبه بصفيحة – مائلة طبعاً ومقعرة بشكل بسيط جداً مزركشة بورود زهرية من الأعلى – من السقوط .
      حركة اليد من الكتف .. في برودة استجابتها .. والتي تتحرك بهدوء ورزانة المرأة التي تحافظ على هدوء حركاتها ..
      لا شيء يجب أن يوحي بالحركة السريعة أو العنيفة لليد . طبعاً كان هذا كل ما رسمته من اللوحة : اليدان ... المظلة .. القبعة ... المنديل .. مع بعض ملامح الوجه .. وظلت اللوحة كذلك .. لوحة أخرى لفتاة .. تستند بكوعها وساعدها إلى طاولة وتحمل ذقنها براحة الكف .. وخنصر يدها يدخل في زاوية فمها المفتوح قليلاً .. تنصت. ربما .. وباستغراق تام ..لم تكتمل طبعاً . كنت تعلم أنك في كل ما ترسم .. إنما ترسم صديقتك رغد .. في رقتها وشفافيتها .. واستقرار شخصيتها .. سحرتك الفتاة .. ومنذ أن خرجتما معاً في السرفيس ذات يوم .. شد انتباهك .. حركتها وردة فعلها الناعمة على انحناءات السيارة .. فكانت تسند جسمها بإصبعين طويلين من أصابعها على المقعد المقابل .. كانت الإنسانة الوحيدة التي تسمح لك بإخراج ذاتك وعرض عوالمك وعيشها .. واختيار المواضيع التي تحب .. كنت تكلمها عن سيزان .. وفان غوغ .. غويا وديغا .. وبالطبع عن فاتح وباختصار .. كان كل ما يبعدك عن الآخرين يقربك منها .. وقد وعدتها بلوحات كثيرة .. وخذلتها دوماً يحوي الصندوق أشياء كثيرة .. لوحات .. رسائل ..قطع خشبية تحمل بعض النقوش .. صور لأعمال فنية تم نزعها من المجلات .. وأحياناً صفحات كاملة ...
      تعثر في واحدة على مقال عن جورج ستوبس مع لوحته "الحصان يهدد السبع" تتأمل في العضلات النافرة وعروق الدم الواضحة تحت الجلد .. عنفوان وتوتر الحصان .. توسع فتحتي منريه .. نظرته الحادة وحركة رأسه المائلة .. تكاد تحس بأنفاسه الحارة .. وقسوة حافره الذي يستند على الأرض في نهاية الساق التي ثنيت تحفزاً ..
      كل ذلك وأشياء أخرى يعلمها عالم التشريح والفنان ستوبس تضعه في مقارنة غير منطقية مع رسومات لأحصنة رسمها زميل لك تلبية لطلب زبون
      سعودي .. كان مولعاً بهذه اللوحات وهذا الفنان العظيم .. وكان هذا الزبون يساوم في سعر اللوحات ويطلب تخفيض السعر .. وربما يكون ذلك من حقه لأنه كان يساهم في صنع اللوحة إذ يشير على الرسام بما يجب رسمه .. كنصب بيت من شعر الماعز في عمق اللوحة وتقديم العلف إلى حصانين مربوطين إليه . وكنت أنت تعقب ساخراً وتطلب من زميلك الرسام أن يرشد هذا الخروف الضال أمام بيت شعر الماعز إلى أمه في اللوحة الثانية .
      تطبق فمك وتخرج من أنفك زفرة سخرية .. ممزوجة بالأسى .. " ليس الفن كذلك ".. تقع أنظارك على ورقة مطوية خرزت معها قصاصة تمثل لوحة للفنان ممدوح قشلان هي لوحة .. العدوان ..
      تتذكر الحادثة .. الصبي .. اليد الممدودة .. القمامة .. العدوان كانت الورقة هي مذكرات كتبتها في ذلك اليوم .. وكانت المرة الأولى في حياتك .. كتبتها لأنك لم تستطع الرسم .. تأخذ الورقة .. وتنهض بها .. تعود تجلس على الأريكة وتشرع بالقراءة ...
      كان ذلك في إحدى الأمسيات الرائقة لصيف 1998 ، وكنت أمشي ليلاً في شوراع المدينة .. على غير وجهة محددة .. أمارس هوايتي المعتادة في تأمل وجوه الناس .. والنفاذ خلالها إلى أعماق شخصياتها ..فلربما أوفق إلى موضوع لوحة .. عندما اقترب مني صبي في العاشرة من عمره بتقاطيع وجه
      صينية ..جادة .. بريئة .. بقميص بني مسدل وبنطال قصير دون الركبة .. بني أيضاً .. كان يمد يده مبسوطة .. وفي طرف راحتها قطعة نقد "ليرتان" قائلاً : "عمو الله يخليك ..اعطني ثلاث ليرات حتى أستطيع اشتري سندويشة ..."
      وقفت منذهلاً أمام هذه التقاطيع البريئة والجادة في آن واحد وهذه النبرة التي تمتلئ استعطافاً رقيقاً دون أن تنقلب إلى رجاء صادق أو حتى مزيف ..
      لا أدري لماذا وكيف وقبل أن أفكر في أي شيء سألته : منذ متى لم تأكل .. فأجاب : منذ الصباح ..
      سكتْ .. لم أتكلم .. إنما فقط صرت أنظر في عينيه .. العيون التي لم تكن كسيرة ولا كانت خجلة وفي نفس الوقت لم تكن فاجرة .. لا أدري .. كيف لم يخفض أنظاره عندما نظرت إليه .. بل ترك لي حرية الغوص في عينيه .. وإنما فقط وبعد فترة وجيزة أخفض يده ببطء وضمها على القطعة النقدية وألصقها بجنبه . هذا الطفل لو جاء قبل سنتين لاستدر عطفي بكلمة الأولى في تلك الأيام التي كانت تسيطر علي ردود الأفعال والمثالية الروحانية ونزعة إهانة المادة والمال حصراً .. لكنني الآن وقد صرت أفرق بين الشكل والمضمون والسطح والعمق وأعرف بالملمس الناعم للأفعى وبالمياه الهادئة للمستنقع .. صرت أشكك ولهذا شككت في صدق هذا الفتى رغم ميلي له .. وتذكرت بحثي ذات يوم عن براءة الأطفال .. إذ ناديت ذلك اليوم على أولاد في السوق لتلميع حذائي رغم أنه لم يكن بحاجة إلى ذلك .. وما أن أو مات حتى تراكض نفر من الأولاد في أعمار تتراوح بين الثامنة والحادية عشرة يتزاحمون بالأكتاف وهكذا وصلوا بسرعة كبيرة حتى كادوا أن يصطدموا بي جالساً على كرسي الحديقة وصل أكبرهم وقد دفع زميله دفعة أزاحته فقام يسب ويشتم اعتذرت من الكبير الذي كان قد هيأ نفسه للمهمة واخترت أصغرهم وقد كان بينهم كالأبله .. قدموه لي على أنه ابن عاهرة وشدوه من شعره ومضوا .. أثناء العمل كان منهمكاً جداً وكانت كل علاقته مع الحذاء .. لا شأن له بي .. وكأنني غير موجود كان يعمل ويلتفت إلى أصدقائه يبتسم ويسهم ويبصق ثم يتابع العمل فكان أن نزعت قدمي من بين يديه وأعطيته ما كان سيطلب ومضيت ربما كان هذا أحد الأسباب التي دفعتني للتشكيل في صدق هذا الفتى سألته لماذا اخترتني لتطلب مني الثلاث ليرات فأجاب بأنه لم يخترني وإنما طلب من عدة أشخاص قبلي لم يأبهوا له فمررت أنا فطلب مني ما طلبه منهم قبلاً .
      أراحني أنه لم يطريني ولم يميزني عن الآخرين لكسب الرضى فذهبت وإياه إلى المطعم وطلبت له سندويشة كبيرة بسعر خمس عشرة ليرة فكان أن نظر إلي ذاهلاً .. عيونه في عيوني .. قلت له .. كل .. وإذا شئت نتحدث .. فمشينا ..
      تركته حتى أحسست أنه أكل بما يسكت جوعه وصرت أسأله عن عمله وعمره والمدرسة فكان يجيب بحيادية تامة عمله جمع القطع البلاستيكية والخبز اليابس من البيوت والشوارع والحاويات ..عمره عشر سنوات .. ترك المدرسة عندما كان في الصف الثاني سألته هل كان مجتهداً في المدرسة وكنت ما أزال أختبره .. فقال بأنه كان مجتهداً إلا أن طالباً واحداً كان أكثر اجتهاداً منه .. ففرحت بأنه يصدق .. وندمت على تشكيكي في أمر صدقه ..
      كنت ابتسم له فينظر إلى ابتسامتي نظرة الذي يكتشف أمري ويدرس اختلافي وتشابهي مع الآخرين ..
      خجلت من ابتساماتي التي لم تكن تبادل بابتسامات مشابهة وإنما نظرات
      جادة ..باردة ..مستكشفة ..
      فقلت له : لماذا لا تبتسم وضحكت مبتسماً أثناء ذلك فكان جوابه ما لم أكن لأتوقع في حياتي كلها .. وما جعلني أشعر بصغري وبكبره .. وعمقه ونضجه .. كان جوابه بكاءً .. صامتاً.. مخنوقاً فجره سؤالي الأحمق وأذهلتني ردة فعله السريعة وحركة رأسه يساراً وإطباق جفنيه على دموع معبأة من زمن وتشنج عضلات وجهه وشفتيه وفمه المفتوح والصامت .. لم أشعر في حياتي بغبائي كما شعرته في تلك اللحظات ولكنه فاجأني وأنا حتى الآن ذاهل فأنا لم أتوقع أن يفهم سؤالي بذلك الشكل ولم أتوقع أن يكون واعياً بأنه لا يستطيع أن يضحك يا إلهي .. هل يمكن .. هل يمكن أن لا تستطيع الضحكة التي توسع أشداقنا شداً .. أن تشق طريقاً إلى تلك الشفاه القاسية والنضرة في آن . ندمت لأنني لم أصدقه منذ البداية .. ندمت لأنني شككت فيه لكن عيناه استفزتا فضولي الذي أثاره وضع هذا الطفل الغريب ..
      - ماذا يعمل والدك ؟
      - متوفى .
      صدمة أخرى قلت في سري "يا إلهي" ثم وبسرعة عداء يتجاوز حواجزاً غاية
      في التقارب ...
      - طيب وماذا كان يعمل .
      - في البلدية
      - موظفاً ...؟
      - "لا" وبدا محرجاً لكنه تابع موضحاً بأنه عامل يجر عربة شعرت بغبائي أكثر فأكثر وأدركت أن انذهالي قادني إلى البله لقد كان والده زبالاً ..
      - كيف مات ..؟
      وبدموع مجدداً وكلمات ممطوطة لتستطيل فتحمل دفقة الحزن والأسى .
      - دهسته سيارة ..
      - معليش حبيبي ملعون أبو السيارات .
      أحسست أن لدى الصبي رغبة بالبوح والبكاء .. وكان بكاؤه الشيء الوحيد الذي يبدو معه طفلاً .. وكنت بأسئلتي الغبية أخرج الطفل من أعماقه خلف ملابسه القاتمة ووراء عيونه المخيفة في جديتها وحيادها وعمقها .
      الطفل .. صار يحكي عن أمه وأخيه وعمله .. عمله الذي يجب أن يدر عليه خمسين ليرة يومياً و إلا فإن أمه وأخاه سيضربانه .. أخوه .. ضربه بقضيب من الحديد على ساقه .. ورفع البنطال القصير فوق فخذه ليريني .. ثم رفع ذقنه وعيونه إلي ..
      وصرت أستفهم حول أخيه فعلمت بأنه ذو عاهة ففهمت سبب الضرب وواسيته بطريقة رقيقة وأفهمته أن قيامه بالعمل شيء جليل فهو يحل محل والده رحمه الله بينما أمه وأخوه لا يستطيعان القيام بما يقوم به هو وإن الأخ لا يضربه بسبب الكره وإنما هو يكره الحالة والإعاقة التي تمنعه من القيام بما أنت تقوم به فهو يشعر بأنه لو كان سليماً لعمل وأحضر نقوداً أكثر منك .. لذلك هو يضربك عندما لا تحضر ..
      لست أدري إذا كان فهم ما قلته لكن إحساسي كان أن من يملك تلك العينين وهذه المعاناة يجب أن يفهم حكى لي أيضاً أنه كان مجتهداً والمعلمة كانت تحبه لكن التلاميذ يعيرونه بأنه ابن زبّال ويقتربون منه ويشمونه ثم ينفرون "رائحته قمامة" مع أنه كان يستحم كما قال لي .. كثيراً .. كثيراً وينظف يديه ووراء أذنيه وينظف شعره ويفرقه نحو اليمين كل صباح .
      لاحظت حينها الشعر المفروق لكن بأصابع اليد .. هذا واضح ثم تابع ذكر حادثة فقال أن حين كانت المعلمة تسأل الطلاب كل عما سيصبح في المستقبل ..وكان الجميع طبعاً أطباء مع بعض المتواضعين قبلوا بأن يكونوا مهندسين وضباطاً وعندما جاء دوره وقبل أن يتكلم قال الأولاد بأنه يريد أن يصير مثل
      أبيه زبالاً ..
      لكن المعلمة نهرتهم وقالت إن الكسالى هم من سيصيرون زبالين أما هو فمجتهد وعندما يكبر سيصير أفضل منهم جميعاً ..
      حادثة أخرى رواها .. كانت أكثر إيلاماً .. وذلك بعد أن توفي والده وصار عليه أن يكسب النقود بطريقة ما ..
      قال بأن القطع البلاستيكية لم تكن متوفرة في هذا الشارع الذي مسحه مراراً فكان عليه البحث في الحاوية .. وكانت عالية .. وأمه إذا لم يعد بأشياء نافعة ستضربه وأخوه كذلك .. صعد إليها .. رائحتها قذرة ..جعل حرفها تحت إبطه ورفع قدمه ليضعها على الحرف أيضاً ثم أخذ بقطعة بلاستيكية يحرك بها القمامة باحثاً عن شيء ينفعه .. فينشط الذباب ويطير ويحوم أمام وجهه بشكل كريه .. لكن فجأة يسمع صوتاً طفولياً ينادي باسمه فيلمح صديقته التي كانت معه في المدرسة ولا يمضي إثر مشاهدتها أكثر من ثوان تصطدم فيها النظرات الذاهلة ..
      لكنه الأضعف .. وهي تركب سيارة ويتحلق من حولها الأهل بثياب فاخرة .. وهو على طرف الحاوية ولا أهل لديه .. فيهوي بسرعة ليخفي نفسه فيصير داخل الحاوية ليعيش شعوراً أفظع هو شعور من تلوث وصار ضمن القمامة وصار يبكي .. في الحاوية كان يبكي .. وبجانبي أيضاً صار يبكي ورأسه صار عند ركبتي يلتمس بي بعض الأمان .. أنا وقتها لم أستطع التحمل .. نهضت وبسرعة أخرجت من محفظتي مبلغ خمسين ليرة وأعطيته إياها "خذ" هذه لك .. ليست لأهلك .. اشتري بها .. مشطاً .. اشتري بها قلماً .. وردة ..اشتري ما ترغب .. وداعاً ..
      شعرت حينها بضعفي أمام وضعه المحزن .. كانت الخمسون ليرة عزاءً صغيراً لنفسي .. لأنني لم ولا أستطيع أن ، أقدم لهذا الطفل حتى بسمة أزرعها
      على شفتيه ...
      ولم أستطع أن أنسى ولن أنسى هذا الطفل المجتهد والذي أصبح زبالاً .. وكما توقع أولاد صفه .. ورغم رغبة المدرسة .. هذا الذي يمشط شعره بيديه .. هذا الذي لا يستطيع أن يضحك .
      تنتهي من القراءة ونفسك مفعمة حباً وحقداً وقوة .. تنظر حولك .. نظافة
      الغرفة .. ترتيب الأشياء .. جمال اللوحات .. هجرة الطيور والأطفال ..
      تتخيل لوحاتك اللواتي وإن لم يكتملن يحوين كل الفن والجمال تعيد النظر .. في سنوات عمرك الواحدة والعشرين .. قطعت أشواطاً .. ستكملها ...
      تحس بنفسك اكتملت .. بالقدرة على حمل الفرشاة .. اللوحة تفتح
      ذراعيها ..تجتاحها الرغبة في أن تضمك .. تدنو إليها .. الصورة تنطبع
      في ذهنك ..
      الصديق الذي لم يكن بإمكانك تقديم شيء له ذي بال .. ستقدمه الآن على
      اللوحة .. مع إضافة كل ما ترغب في تقديمه .. العينان ستحافظان على جديتهما ودون دمع أو حتى حزن . التقاطيع الصينية .. الخدود الطرية .. الشعر المفروق واضح باليدين .. الذقن تُرفع قليلاً إلى الأعلى وشفاه تطبق بتصميم مضمر هاتان العينان ستحدثان في مشاهد اللوحة ما أحدثته عينا الصبي فيك ..
      اللون البني والترابي والخمري ستلعب في حواف الوجه والرأس تهميشاً وتشظياً يدخل في انسجام مع سمرة لون الوجه وفي تعارض صارخ مع بياض العينين وبقع الضوء وخطوطه على مفارق الشعر والوجنات التي تعكس كل
      نعومة وطراوة .
      كل ما حول الوجه داكن متلبد يتداخل في تلبيد وتهميش مع حواف الوجه
      والشعر .. في محاولة للافتراس .. وفي كل ما هو داكن ستستعمل رماد السيجارة ذلك اللون اللاذع وفي العينين وعند مفارق الشعر ستصب كل ذاتك وكل أحلامك .. وفي النهاية .. وبكل تأكيد ..

      ستكتمل اللوحة .


      حكايات أول العمر ... وما يليه

      كان الفصل خريفاً متلبداً وقاسياً ، يسره ما يحدثه في الناس والأشجار من هلع وخوف .. انطواء وانحناء ، وكان أكثر ما يروقه منظر إنسان يرتعد ، فينتشي بلذة ساديّة ، ويمعن ضرباً وتدميراً .. كفه الريح والطين قدماه .
      وكان رجل في الخامسة والأربعين .. يجلس متكوماً على نفسه ، إحدى ساقيه مطويّة بشكل أفقي متوازٍ مع الأرض .. والأخرى عمودية .. كوعه تحضن الركبة .. يشرب كأساً .. عرقاً أبيض .. يستند بظهره إلى الجدار .. يحس برودته .. يأخذ نفساً .. سيجارة حارة .. ساقه العمودية تعود تتلامس مع الأرض وتدخل قدمها تحت فخذه اليسرى .
      زجاج النافذة يرتج والريح تعوي في الخارج .. الليل يتقدم ببرودة لا تجد في الغرفة ناراً تعيقها، فتكمل طريقها إلى الرجل الذي أخرته عن النوم رغبة في
      السهر.. تحاول شق طريقها عبر وخزات باردة فتصطدم بحرارة الجسد والتي تمدها كل من الكأس والسيجارة .. ناراً .. فتحيط بالجسد وتبدأ بمشاحنة كلامية مع هذه النار التي تقبع خلف جدران لا تعرف سماكتها. ولعل الرجل سمع شيئاً من هذا الكلام والشتائم المتبادلة فقام كي يجد له سترة يرتديها وخلال ذلك قام بتفقد الأولاد .. الأم كانت قد غطتهم بشكل جيد وبرغم ذلك قام بوضع أغطية إضافية على جميع الأولاد عدا الكبير منهم .. نظر إليه .. نائماً على ظهره .. يداه وجزء من صدره خارج الغطاء .. تذكر شيئاً عن عنفوان الشباب
      وفورانهم .. هذا الابن البكر الذي اختلف معه فبل ساعة حول مسألة أدت إلى مشاجرة كلامية انتهت بنهره له بطريقة زاجرة ونام الشاب حانقاً .. اقترب منه ورفع الغطاء ليشمل جزءاً أكبر من صدره ، بينما أدخل إحدى يديه تحت الغطاء ...
      الأولاد جميعهم .. وأمهم كذلك .. يطالبوه بمدفأة .. وحرارة .. وهدير .. وخبز يريدون تسخينه عليها .. الخبز موجود .. لكن المدفأة لا .. المدفأة موجودة .. لكن الوقود ..لا.. والمدفأة بدون وقود أداة لا نفع فيها .
      الناس كما يقول أفراد أسرته قاموا بوضع المدفأة منذ أكثر من أسبوعين .. والأمر ما عاد يحتمل التأجيل .. الأولاد لا يتحملون البرد .. يعودون من المدرسة من الخارج .. يدخلون المنزل .. ويشعرون بأنهم مازالوا في الخارج .. للمدفأة طقس احتفالي يسأل فيه الناس بعضهم " هل قمتم بتركيب المدفأة " " نحن قمنا بتركيبها اليوم " وهل من شيء يماثل الدفء ؟ وهل من غنى عنه ؟ الأولاد في المدرسة قالوا خجلاً " نحن قمنا بتركيب المدفأة " وأحرجوا عندما جاء زميل لهم ولم يجد ما يصدق قولهم .
      المدفأة تحتاج إلى وقود .. والوقود ثمنه غالٍ .. ثلثي راتب الوالد .. موظف .. قام بسحب قرض على راتبه ، حتى تمكن من تأمين ثمنه .. لكن استجد أمر آخر وحاجة ينبغي قضاؤها .. تسديد لدين دام أكثر من سنة .. ترى هل يسدد
      الدين .. ومن أين يحضر ثمن الوقود بعد ذلك .. وهل الحياة ممكنة من دون وقود ومن دون مدفأة ..
      ذهبت به الذكرى إلى أيام كان طالباً في الصف الثامن .. كان وقتها يدرس في منطقة بعيدة عن قريته قليلاً .. إذ لم يكن يوجد في قريته مدرسة إعدادية بعد ، كان وقتها يستأجر غرفة مع أولاد خالته ويدفع إيجارها اقتساماً معهم .. كان أهله يرسلون عشر ليرات في بداية كل شهر .. كان ذلك في الستينيات وكانت العشر ليرات تكفي لدفع ثلث إيجار الغرفة وثمن خبز وبصل طيلة شهر واحد .. لم تكن تكفي لنفقات أكثر ...
      وعندما اقترب الشتاء .. وصار الوقود والمدفأة نفقات إضافية قال لأولاد خالته بأنه هو لا يبرد ولا يريد مدفأة وكفى ...
      استنكروا في البداية " نحن اتفقنا منذ البداية .. كل ما في الغرفة اقتساماً على ثلاثة ، وأنت الآن تخل .." واحتكموا إلى أمهم – الخالة –
      وقالوا : أيصير ذلك ؟‍ فأجابت : " نعم يا أبنائي يجوز " .
      هذه الـ ( يجوز ) لم تقنعهم أبداً . هم يدفعون .. وأنت تتدفأ بنقودهم .. ولا تدفع ( كيف يجوز ؟‍ ... لا ... لا يجوز ) .
      كان الحل الوحيد الذي اقترحوه أنفسهم وقبلوا به ممتعضين غير راضين أبداً ..
      " تجلس في آخر الغرفة .. أنت لا تريد مدفأة .. ولم تدفع .. وتبتعد عن المدفأة القريبة من الباب .. وعندما تعبر دخولاً أو خروجاً ... تمرق سريعاً .. إياك والتباطؤ ..."
      كان يجلس في آخر الغرفة فوق حصير واسفنجة .. ظهره إلى الجدار البارد .. وطيلة فترة الشتاء .. قدماه الاثنتان بزاوية قائمة مع الأرض .. الكتاب يستند دائماً إلى فخذيه .. يختلس النظر إلى أولاد خالته .. متحلقان حول المدفأة ..
      الحرارة .. كانت تصل إليه بشكل ما خفيف بعد نصف ساعة من إيقاد المدفأة ، لكن الدفء كان يعني بالنسبة له أن يقترب ويضع راحتي كفيه بشكل مقابل وقريب من هذه .. الحبيبة .. الدافئة .. المدفأة .. .
      وكم هناك من فرق بين هذا الخبز الذي يأكله بارداً وبائتاً بينما يأكله أولاد الخالة ساخناً .. مع أنهم يشترونه نفسه في وقت واحد ومن بائع واحد .
      ليست هناك في العالم ما هو أشد بشاعة من مشهد طفل ينظر إلى مدفأة ..ونار
      قريبة .. بينما يشعر بالبرد .. هذه المدفأة .. تمنى لو لم تكن موجودة .. لما شعر بالبرد ، وما شعر بالحاجة إليها .. كما يشعر بالحرمان والحاجة كلما نظر أولاد خالته حولها يتلذذون بالدفء .. كانوا بالنسبة له مثال للثراء واضح .. فهم يملكون أن يوقدوا مدفأة .
      عيونهم كانت تلحظه ما إن يهم بالحركة ، وتراقبه عندما يقترب .. مضمراً .. حقيقة مضمراً للتباطؤ – ولو قليلاً – وما إن تصبح المدفأة قريبة على يساره والباب من أمامه .. حتى يصيح أكبرهم " امرق .. امرق .." ومرات عديدة كادوا يتشاجرون بسبب المدفأة والتباطؤ ...
      " شيء دنيء أن تدعي أنك لا تريد مدفأة وتتهرب من الدفع .. ثم تأتي وتسرق خلسة .. مدعياً للتناسي .. ما هو ليس لك .. " .
      ومرة كتب إلى أمه رسالة كانت عبارة عن الكلمات الثلاث " الدفء.. الدفء .. يا أمي " ، طوى الرسالة وكاد يرسلها لولا أن فطن إلى أن أباه من سيقرأ الرسالة لأمه وسوف يضحك على هذا الكتيّب الصغير ، فامتنع وقرر أن يقرأها لها من فمه إلى أذنيها عندما يرجع .
      الدفء .. الدفء .. يا أمي ... وفي جلسته وحيداً .. والكأس تسامره .. وسيجارة .. تتبع سيجارة .. تشعل في صدره تنوراً ...
      التنور .. كانت أمه تنحني عليه بجسمها .. وكل صباح .. تراها .. تضع
      رغيفاً .. وتخرج آخر .. خبزاً .. خليطاً من قمح وشعير .. لذيذاً.. ليس لأنه قمحاً أو شعيراً وإنما لأنه ساخن .. لأنه مدفأة .. وكان عظيماً لأنه يقف في وجه برودة العالم .. ويؤمن الاستمرار واجتياز الصباح البارد حتى الظهيرة
      وما بعدها .
      كان في جلسته يتذكر .. تذكر أياماً في حياته لم يكن فيها .. تنور .. ولا
      مدفأة .. ولا رغيف .. بل كان مساء وكانت أمه .. نائمة .. أو نصف نائمة .. وبجوارها أخته التي كانت قد خرجت إلى الدنيا منذ ست ساعات مضت .. وكان هو بجوار أخته .. والدنيا كانت في الخارج فقط سماء وماء .. وكانت العتمة .. فقط يبدد قسماً منها فانوس صغير .. بدون زجاجة .. يعمل على الكاز ...
      كانوا ثلاثة ، وكان رابعهم أباه .. ذهب مع كافة رجال القرية كي ينام في المنزول .. البيت الوحيد في القرية حيث لا يدلف السقف ماء .
      أما في الغرفة المعتمة .. يدلف السقف نقاطاً .. تهوي .. على اللحاف .. تبلله .. على جبين الأم .. لا تستطيع رده .. وهي غير واعية أو قادرة على الحراك .. فقط تستدير برأسها ليسقط فوق أذنها ويضيع في ثنايا شعرها .. تسر أنت باستدارتها إليك وتطلب منها .. سرد حكاية .. كانت كريمة .. حنونة .. تلبي .. تحكي – ببطء .. لكن تحكي .. تتوقف أحياناً .. تأخذ نفساً .. عميقاً ثم تعود تحكي .. ثم فجأة .. الماء الذي ينزل على رأسها يتجمع وبسرعة يهوي بشكل خط مائي متواصل على وجه الطفلة وعينيها .. بسرعة .. تنشفه الأم مستخدمة طرف اللحاف .
      تنتهي الحكاية .. أنت لم تكتفِ .. لكنك تشعر وقد انتهت الحكاية بجوع فظيع .. تخبر أمك .. تجيبك بالذهاب إلى بيت الخالة .. هناك يوجد خبز .. لا تكذّب خبراً .. تذهب و تخبرهم بأن أختك الصغيرة جاءت إلى الدنيا جائعة تريد
      خبزاً .. يضحكون من كذبتك الجاهلة .. ويسألونك عن حال أمك .. " جيدة تحكي لي حكايا " ... تعود .. وحيداً .. الخبزة التي أحضرتها لا تصل حتى البيت .. أكلتها كلها ، لكن يعود معك برد وماء تخلل ثيابك ووصل إلى الجلد .. ما إن تصل حتى تطلب أمك نزع الثياب حتى لا تمرض .. وتندس قربها شبه عارٍ .. ببرد تحس به يفترسك .. تغتاظ من هذه الأخت .. التي تحتل المكان بينك وبين أمك .. يدك البردانة تضعها بين ذراع الوالدة وصدرها .. تحس بحرارة الجسد . تدفأ ..اليد الثانية .. تضعها على جبين الوالدة .. تحس حرارة أيضاً ، وعرقاً متصببا على جبينها كنت تظنه ماءً ...
      يدك الباردة .. عندما تنزعها عن جبين الوالدة تطلب منك إعادتها .. تضعها .. تبدل وضعها مرة الراحة للأعلى ومرة القفى .. كانت أمك محمومة .. وأنت تعجب من الحرارة التي كانت حمّى .
      تعود تطلب منها سرد حكاية أخرى .. هي تنصحك بالنوم .. لكنك تصر تريد حكاية .. فتخضع لرغبتك وتتكلم ..
      كانت تكلمك عن " سعد ذبح " وكانت تصف فصل الشتاء بمثل ما تراه .. وتتكلم على إيقاع حبات المطر .. خارجاً وداخلاً .. تتوقف أحياناً لفترة ما قد تكون بالنسبة إليك طويلة .. وبينما هي صامتة .. قطرة ماء تهوي وتأتي على فتيلة الفانوس الصغيرة .. ويسود في الغرفة ظلام مخيف ويزيد من رهبته سكوت الأم التي بدى أنها لن تتكلم وتعرف من تنفسها أنها نامت ، فتقترب منها " أمي .. أمي .. الفانوس .. انطفأ .. الحكاية لم تنتهِ " أمك المنهارة .. تستيقظ .. تعرف أنك لن تنام قبل اكتمال الحكاية فتكمل .. وأنت تنصت .. السرد في الظلام .. لم يعجبك .. تشعر بأن الصوت يأتيك من مسافة أبعد من التي تعرفها بينك وبين أمك .. تعرف من تنفسها مجدداً أنها نامت .. يسرك تنفسها المحموم الذي يشعرك بوجودها ، ولكن تضايقك أختك التي تحول بينكما .. وأنت من يومها لا تحب المواليد الجدد .
      عاش حياته كلها بينه وبين ما يريد مسافة ما أو عائق ما .. والآن تقف المدفأة عائقاً دون تسديده للدين .. إذا انتصبت واتقدت لن يستطيع تسديده .. هذا الدين الذي تسبب فيه كبير أولاده .. إذ استدان من صديق قديم له كي يؤمن تسجيله في مدرسة خاصة لإعادة البكالوريا .. فلم تكن علاماته وقتها تؤهله لدخول
      الجامعة .. هذا الصديق الذي تردد كثيراً قبل المضي إليه وبذل كثيراً من كرامته حين ذهب .. حيث أن هذا الصديق سقط ولم يثبت أمام عاديات الدهر .. وصفق الباب على قيمه واستقامته ، وصارت الحاجة مبرراً لكل فعل يرتكب سواء كان المرتكب هو أو أحد المجرمين الذين يتولى الدفاع عنهم في المحكمة .. إلى هذا الإنسان كان قد ذهب واستدان مبلغاً من المال قدره خمسة آلاف .. ومع تقادم الأشهر ..أبى أن تخرسه هذه النقود عن قول رأيه صريحاً في هذا المُدين الكريم. الأمر الذي أغضب صاحب النقود .. الذي رأى فيه من يجلس في الحضن وينتف في الذقن .. فصار يلمّح حول النقود .. ومن فترة وجيزة قام بطلبها بشكل صريح وواضح محرجاً إياه أمام زملائه ..
      كم هو أمر جميل أن يذهب بالنقود التي معه ويقذفها في وجه ذلك الخائن ..
      لكن .. إذا فعل .. الشتاء كيف يواجهه .. الأولاد .. كيف يتحمل وضعهم يرتعودن .." الأولاد ..هم السبب.. وهذا الولد الكبير – الذي جاء معاتباً لو أنه دخل الجامعة من السنة الأولى لوفر علينا هذا الذل لكنه لا يقدّر ولا يحسب الأمور بهذا الشكل . أحمد خلف .. عندما أهانه معلمه أمام كل أبناء القرية .. ترك العمل .. أعلن حريته .. لم يفكر بأولاده وقتها .. كان كل تفكيره برجولته وكرامته المهدورة ".. وعادت به الذاكرة إلى حادثة أحمد خلف والتي لم يكن موجوداً قبلها .. كان مهملاً مغموراً .. وكنت تراه كل يوم بسرواله الأزرق والمتسخ مع بلوزة كحليّة قصيرة الأكمام قليلاً إلى فوق المعصم بقليل .. مع غطاء للرأس بدون عقال ..
      يسير خلف محراث تجره دابّة .. أو ينقل الروث على كتفه إلى مكان ما مخصص بعد البيدر .. يسقي أو يحفر .. أو هارعاً إلى تلبية نداء للمعلم أبي حيدر لقضاء عمل منزلي ..
      كان أحمد خلف أباً لثمانية أولاد .. تراه دائماً .. لكن نادراً ما تتذكره إلى أن كانت تلك الحادثة التي جعلت له ذكراً وحكاية تروى كان عرساً في القرية .. وجموع أهالي القرية داخل وأمام بيت من شعر الماعز بشكل صفين متقابلين .. وكان الجميع يحاولون اغتنام هذه الفرصة النادرة .. في كسب مذاق لطعم
      معين .. أو بالسنة للشباب ..ملمس يد فتاة ناعمة أثناء دورانهم في حلقة دبكة مفتوحة ...أما بالنسبة للأولاد فهي فرجة رائعة .. وصوت مزمار يسحرهم بصخبه وحنانه ..فتصبح شيطنتهم بشكل آخر .. جديدة .. مموسقة .. متناسبة مع الحدث الجديد ...
      لكن الشخص الذي كان أكثر استجابة لجدة الحادثة السعيدة .. والذي كان أكثر خرقاً للرتابة والعاديّة .. هو أحمد خلف .. ترقبوه وهو قادم .. قامته الفارغة .. وصدره المشدود.. سراول جديد .. صندل .. قميص أبيض نظيف .. وشعر مموج مصفف بعناية واضحة .. كان شاباً .. بعكس ما يعتقد الآخرون ..
      وعند وصوله حلقة الدبكة كان تصفيقاً حاداً .. صادقاً وعبارات جماعية مؤهلة بالفارس الذي لا تترك هيئته مجالاً للريبة في فروسيته..
      كان هذا عرساً .. عرس يعنى فرح ..وهذا شيء نادر .. عزيز ..يقلع الفلاحين من حقولهم .. ويزرعهم في الساحة ، ويدب فيهم الحياة من جديد .. فكانت النفوس مرحبة بكل ما يمت بصلة للفرح والمجد والتحرر ..
      وفي الحال أمسك أحمد خلف في أول الصف .. فتنحى الشاب الذي كان يقف أولاً .. والذي تدل حبات العرق أعلى جبينه مع قميصه المبلل على تعب
      أكيد .. لكنه يأبى أن يترك الموقع المميز .. أما للفارس الجديد .. فقد تركه راضياً .. لم يدر لماذا أحس بأن الموقع له .. ربما لأنه تفاجأ بشبابه وحقه في الموقع وسط هذا الاحتفاء الجماعي الذي لم يترك مجالاً للتردد في أولوية أحمد خلف .. فأعطاه يده وأمسك جانبه ببسمة واضحة ، وأحس قوة جديدة بمجرد لمسه لليد القاسية والخشنة .. وعادت الدبكة .. وما عادت دبكة .. صارت ركضاً وهبوباً .. جنوناً أو تحليق .. وعاد المزمار .. وما عاد مزماراً .. صار تاريخاً وأمجاداً وأفراحاً واستبشار .. صرت تنظر إلى الزمار فتراه يتبع
      أحمد .. وجهه إليه .. ظهره ويمينه إلى الرتل ..ينحني إلى أسفل ، يطوي
      ركبتيه .. ينفخ .. وجنتاه .. تراهما بانتفاخ وحيوية لا تصدّق .. هذا التنفس الطويل .. حقاً صدره انشرح .. وصار يتسع للهواء ، ولأحمد خلف وكل الموجودين معاً .
      أحمد خلف وهو نفخا في الفلاحين روحاً جديدة وأمداهما بطاقة هستيرية .. ويدور أحمد ويفتل .. وفي لحظات يحتد صوت المزمار .. يتقطع .. يتواتر .. نفخات سريعة موجزة .. تتلوها واحدة عميقة .. طويلة .. وأنت في هذه اللحظات وكما كل الموجودين الجالسين وحتى الذين يدبكون أنفسهم .. لا يرون سوى أحمد خلف ولا يسمعون إلاّ صوت المزمار وضربات أقدامهم على الأرض تضبط الإيقاع وتحيات تملأ الجو موجهة إلى راعي الأول .. أحمد خلف . وفجأة تتقدم الحلقة خطوات معتبرة لشخص محترم .. تظهر عليه واضحة علائم الخنق والغيظ غير المحدود .. ويصيح بالجمع .. وموجهاً كلامه بالأخص إلى الزمّار "وقوف ..وقوف ..سمع" ... كان هذا ..المعلم ..المختار ..وكبير القرية.. أبو حيدر .. لم يستطيع تحمل الموقف ولم يستطع حل هذه المعادلة .. هو .. صاحب الجاه والأملاك ..والذي يملك نصف أراضي القرية .. ويملك أحمد خلف نفسه .. يهمل ويلقى إلى جانب .. ويحول الاحتفاء إلى هذا الصعلوك الأجير ...
      يصيح مجدداً : "سمع".. أحمد .. هل سقيت الدواب يا أحمد ..."
      صاعقة وتنزل على أحمد خلف .. نار وتشتعل في أعماقه .. يزيد من صعوبة وبشاعة موقفه الصمت المطبق الذي يسود هذه اللحظات .. ويكون جوابه متآزراً مع هذا الصمت .. خافتاً نوعاً ما ..
      " نعم يا معلمي .. نعم سقيتها يا معلمي .. " يقف مطرقاً للحظات لكنه ومجدداً يرفع برأسه .. يومئ إلى الزمار الذي عاد ينفخ .. الذي صار يحبس النفس وينفخ .. وكل ما كان حبيساً صار ينفخه .. وأحمد خلف صار يعدو .. ومسبحة في يده صارت تدور .. في البداية .. كان يتباطأ عند ضعف الإيقاع حتى يسمح لشريكه الذي يتلوه أن يسند بجسمه ويركز وضع البقية ، فيسمح للمتأخرين بالالتحاق .. وإعطاء الرتل شكله الحلقي والمتماسك .. أما الآن .. فما عاد هو يتباطأ ولا عاد الإيقاع ينخفض .. كانت الحركة وكان الصوت .. كانا تمرداً .. وكانا نداء وغيظاً لا يستطيع أن يتجه نحو الأسياد .. فيصب اللوم على هذه الأرض .. فيعنفها دقاً .. بالقدم اليسرى ..
      في الوقت الذي كان الناس يدقون بقدمهم مرة واحدة كان أحمد يدق ثلاثاً ، ثم مرة أخرى يمزق الصوت ويشل الحركة صوت أبي حيدر .. "وقوف ..
      سمع ..سمع ".." أحمد .. هل عدت بالحمار من على البيدر يا أحمد .. وهل علفت له" .. صمت يخيم على كل الساحة .. ليس سوى صوت احمد معتدلاً يجيب على أسئلته بنعم يا سيدي .. ويتلقى سكاكينه المصوبة بدقة .. بصدر أعزل .. الصمت لا يطول .. ونحن في عرس يا شباب .. واعزف يا زمار .. الزمار .. ما عاد الزمار .. صار أحمد خلف .. الغيظ في صدر أحمد ..ينفثه الزمار .. وأحمد .. وكل العيون صارت عليه .. وأناس تركوا الحلقة إذ لم يعودوا قادرين على اللحاق .. لم يعودوا إلى الجلوس لكن وقفوا يراقبون أحمد .. وأحمد ما عدت تراه .. ولا عدت تعرف هل هو فوق أم هو تحت .. يصعد ويهبط .. يدور .. ويدق الأرض ثلاثاً .. الثالثة بقوة ...
      أتراه في ركضه يهرب .. أتراه في استدارته وإعطاء ظهره للمتفرجين
      يخجل ...لكنه يعود وبقوة يضرب الأرض وينتصب ويعرض صدره ...
      فقط للحظات تلمحه كاملاً ..هذا الصدر الذي يحمل قلباً تراه يرتج في جوفه ... دقات القلب صارت في أذنيه .. دقات القدم .. على الأرض .. يسمعها أيضاً .. دقات القلب صارت متوافقة ومنسجمة مع دقات القلب .. وهل هذا يصدق .. وبما يصدق إذا عُلم ان كثير من الجالسين .. والمتفرجين صاروا يشعرون بالنبض في صدورهم ..ربما من الدهشة .. ربما من الخوف أو من
      الغضب .. وهل سيسفر هذا الفرح عن خير .. أم ربما عن مذبحة .. وصار التحفز واضحاً في كل ساق وفي كل ركبة قبل أن تراه في كل عين .. ومجدداً ذلك الصوت البغيض ..."وقوف ...سمع ..سمع .."
      لكن بسرعة وقبل أن يتم أبو حيدر كلماته يرتفع صوت أحمد خلف .. واضحاً جهورياً : "يا ناس.. يا أهالي قرية تل عدّاي .. أنا أحمد خلف .. وأعمل أجيراً عند يوسف الحبيب .. أبو حيدر .. وصار لي أعمل عنده عشرين سنة ..والآن كفى .. وانتهى .. ما عدت أريده معلماً .. ولا أراه سيداً .. ولا أشتريه
      بخردقة .. واعزف يا زمّار..."
      وهكذا أنهى أحمد خلف يومه .. وعاد إلى بيته وجلس فيه يوماً .. ويومين .. وثلاثة .. وأرض يوسف حبيب .. لتجد من يرعاها .. ودوابه كذلك أما أولاده الذين صاروا يتضورون جوعاً .. فليذهبوا إلى الجحيم .. والذي يفتح فمه
      بكلمة .. قدمه ستلعب في مؤخرته ركلاً حتى يصبح خارج البيت .. الحياة .. ليست أهم من الكرامة .. هذه التي حصل عليها لساعات .. ما كان ليسلمها .. وما كان ليقبل أن تنتزع منه ..
      وهكذا بقي أحمد خلف في بيته مدة أربعة أيام وبرغم وجاهة كبار القرية وشيوخها لديه ولدى أبي حيدر ليرجع إلى العمل رأفة بالأولاد وأمهم ..لكنه لم يقبل .. واشترط أن يعتذر أبو حيدر أمام أناس معنيون من وجهاء القرية .. يقيم سهرة على شرفه هو .. أحمد خلف.. يُذبح فيها خروفاً ..
      وكان ما قاله أحد خلف وعاد إلى العمل رافعاً رأسه .. وهذه قصة أحمد خلف والآن ماذا يفعل .. هل يقتدي بأحمد خلف .. ويصم أذانه عن شكوى الأولاد ووجعهم .. ويستجيب لنداء الكرامة .. ويذهب إلى ذلك الخائن بنقوده ..وآلافه الخمسة .. كم يتمنى أن يذهب ويرميها في وجهه .. كما يرمي بعظمة
      للكلاب .. ويعود مزهواً ..
      لكن هل يرتاح ضميره بذلك إذا فعل ..
      هذا وكانت قنينة الخمر أمامه قد نفذت منذ فترة .. وتمكن البرد من اختراق جسمه .. وأحسه صار ينخر في عظامه .. رعشة مفاجئة .. كانت ردة فعل على برودة الجسم شملت معظم بدنه .. فاجأته .. وأكدت أن تأجيل نصب المدفأة أكثر من ذلك عمل غير إنساني ..
      لكن قبل أن يتخذ أي قرار.. أحس برغبة قوية في إطلاع الأولاد على الأمر .. فقام إلى المطبخ وبادر بإعداد إبريق شاي كبير .. ثم ذهب إلى غرفة الأولاد .. لمسهم .. اطمأن إلى حرارة أجسادهم تحت الأغطية .. ثم قام بإيقاظهم .. واحداً تلو الآخر.. معتذراً في البداية ثم موضحاً حاجته إليهم في أمر ما مهم ..
      قام الأولاد وأمهم كذلك .. وفهموا في تصرف والدهم رغبة في الاعتذار عن المشاجرة التي حصلت مساءً فسرهم ذلك .. وساعد في انتزاعهم من سباتهم واجتذابهم إلى حالة صحوا تواقة إلى معرفة الخبر ..
      اجتمعت الأسرة .. وكانت سهرة شاي وحديث ..
      حكى فيها الوالد ثلاث حكايات كانت الأولى .. حكاية المدفأة ..
      والثانية كانت قصة الدلف .. والحكاية الثالثة كانت عن أحمد خلف
      تمت
      رامي الإبراهيم
      Rami Ibrahim

      تعليق

      يعمل...
      X