لك الله يا بلال

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبدالرحمن السليمان
    عضو مؤسس، أستاذ جامعي
    • May 2006
    • 5732

    لك الله يا بلال

    لك الله يا بلال

    [align=justify]تعرفت عليه سنة 1990، عندما اتصل بي لأترجم له أوراقا من العربية إلى الهولندية. كان وقتها ثاني سوريٍّ أتعرف عليه في هذه البلاد، وفرحت بمعرفته خصوصا وأنه كان يسكن قريبا من مكان سكني. فترجمت له، ثم أصبحت أتردد من وقت لآخر على مطعمه الصغير للمأكولات الخفيفة. وتوطدت علاقتي به بعد سنة 1994، عندما بدأت العمل في جامعة مطعمه بإزائها، فأصبحت أراه مرتين في الأسبوع على الأقل.

    كان غريب الأطوار، وكان قليل الثقة بالناس. ولكنه كان يطمئن إلي كثيرا، و"يتروحن" بي .. وكان، إذا رآني أمر من أمام مطعمه، وأسلم عليه من بعيد وأواصل طريقي إلى الجامعة، كان يترك ما بيده ويجري خلفي ويعاتبني على عدم التوقف لديه، ثم يدعوني على فنجان قهوة "بلدي" .. وعبثا أحاول أن أشرح له أن الدرس على وشك الابتداء، وأنه لا بد من احترام الوقت .. فكان لا يتركني أذهب إلا بعدما أعده بالعودة بعد الدرس .. وكنت أفي بوعدي وأعود فأجلس إليه فيحدثني عن أموره الشخصية .. فحدثني مرة عن أظافر يديه المقلوعة .. وعن أسنانه الصناعية .. وعن أذنه المبتورة .. فانتهزت الفرصة وسألته عما يصدر عنه أحيانا من تصرفات توحي بأنه غير طبيعي .. فقال: لست مجنونا .. ولست مصروعا .. لكنهم وضعوا ذات مرة رأسي بين فكي الملزمة وضغطوا عليه .. فكأن عظام جمجمتي طرطقت .. وكأن عقلي صار من يومها "يخض" .. ثم أخذ يضحك وضحكت معه وقلبي يبكي بكاء مرا من هول ما كنت أسمع منه ..

    كان ذكيا لطيفا ذا نكتة حاضرة وبديهة سريعة .. وكان ذكيا في عمله التجاري حتى جمع ثروة لا يستهان بها، واشترى منزلا في مركز المدينة التاريخي .. ولكن حالته النفسية كانت تتدهور باستمرار. وأصبح مزاجه صعبا لا يُتنبأ به. وانقلب عصبيا لا يحتمل أحدا. وذات يوم دخل إلى مطعمه زبون روسي مع صديقته، فطردهما، فشتمه الروسي فتبعه بلال وطعنه عدة طعنات بالسكين وكاد أن يقتله .. ثم حكم عليه بالسجن عشر سنوات. زرته في السجن فقال لي إن نوبة اعترته فجعلته يفعل ما فعل، وإنه ليس عدوانيا إلى هذا الحد، لكن شيئا بداخله، أقوى منه، جعله يفعل ذلك. فحدثت له طبيبا نفسانيا خبيرا في طب النفس القضائي، وهو صديق لي، فأخرجه من السجن بعدما تأكد من إصابته بمرض نفساني ما، ونقله إلى مصح نفساني مفتوح، بشرط أن يلتزم بالعلاج من جهة، وأن أكون أنا القائم عليه حتى يبرأ من جهة أخرى. قبلت على الفور، وقبل بلال، وانتقل إلى مصح نفساني تابع لجامعة مدينة (غينت) في بلجيكا. والمصح مفتوح أي بدون حراسة .. وكنت تحدثت مع بلال بشأن العلاح فيه، وقبل بلال العلاج فيه لأن البديل هو السجن .. فبقي في المصح حوالي سنة، تحسنت في أثنائها حالته. وذات صباح، خرج بلال من المصح، ولم يعد إليه .. كان ذلك بداية سنة 2001 .. ثم بحثت كثيرا عن بلال لأني كنت خائفا عليه .. أبلغنا الإنتربول .. ولم يعثر أحد على أثر لبلال. ظننت أنه عاد إلى أرض الوطن الذي كان غاضبا عليه بسبب الظلم الذي لحقه فيه .. آيسنا من العثور عليه .. غاب بلال عن العين، فالتفت إليه القلب، ولا يزال يفعل ..

    وأمس اتصل بي بلال .. فوجئت واضطربت كثيرا. أردت أن أعاتبه لكني شعرت بضعف في صوته، فأمسكت ، ثم أنصت إليه:

    ـ "أتصل بك لكي أودعك .. قال الأطباء إني لن أعيش حتى الغد أو بعده .. لقد انتشر المرض الخبيث في جسدي منذ أشهر .. ولم أعد أستطيع تحمل العلاج الكيميائي والمورفين. ادعُ لي يا أخي".
    ـ "ولكن أين أنت يا بلال؟ دلني على مكان إقامتك. أريد أن أراك" ..
    ـ "في فرنسا، في بلدة صغيرة بين بواتييه وبوردو .. لا تعذب نفسك. فقط سامحني .. وادعُ لي".

    إيه يا بلال .. بعد أيام سينقل جثمانك في صندوق خشبي موصد لتدفن في مدينتك التي أحببت، بعد ثلاثين سنة من حرمانك منها .. بعد أيام ستعود لترى أهلك وذويك الذين حرمت منهم ثلاثين عاما .. بعد أيام ستعود إلى الوطن الذي كنت تحن إليه، وستخلد فيه للراحة دون أن تخشى من أن يخرجك منه أحد .. ستعود يا بلال دون أن تخشى أحدا على الحدود .. ودون أن تخشى على أظافرك الصناعية، وأسنانك الصناعية، وجمجمتك .. إيه يا بلال لا يخشى ضيفُ الرحمن شيئا، فلا تخشى أحدا وأنت في ضيافة الرحمن ..

    إيه يا بلال كم كان بودي أن أراك، وأن أودّعك .. يرحمك الله يا بلال .. وإني لأرجو أن يحتسب الله لك الظلم الذي أنزل بك، والعذاب الذي عانيت منه، وتهجيرك من ديارك بغير حق، فيغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.

    لك الله يا بلال ..

    [/align]
  • alshamali
    عضو منتسب
    • May 2006
    • 192

    #2
    إن قضى نحبه فرحمه الله وغفر لنا وله
    جميل أن يتذكر من أحسن إليه وهو في هذه الظروف الحرجة
    نسأل الله أن يجعل مكانه الجنة .

    شكر الله لك أخي الدكتور السليمان على هذه الموعظة الحية .
    أحمد الغنام
    http://www.dhifaaf.com/vb
    شبكة ضفاف لعلوم اللغة العربية

    تعليق

    • ahmed_allaithy
      رئيس الجمعية
      • May 2006
      • 3961

      #3
      نعم أخي عبد الرحمن. ليس له سوى الله.
      أعجب لمن يأمن لهذه الدنيا، وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة.
      وأعجب أكثر ممن يتجبرون فيها على عباد الله وليس لهم من الله مهرب.
      أما غرباء الدنيا، فطوبى للغرباء.
      د. أحـمـد اللَّيثـي
      رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
      تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.

      فَعِشْ لِلْخَيْرِ، إِنَّ الْخَيْرَ أَبْقَى ... وَذِكْرُ اللهِ أَدْعَى بِانْشِغَالِـي

      تعليق

      • عبدالرحمن السليمان
        عضو مؤسس، أستاذ جامعي
        • May 2006
        • 5732

        #4
        [align=justify]أخويَّ الكريمين الأستاذ أحمد شمالي والدكتور أحمد الليثي،

        السلام عليكم.

        فاضت روح بلال وتوفاه الله في الساعة الرابعة من صباح هذا اليوم، في بلدة قريبة من مدينة (بواتييه) في جنوب غربي فرنسا (تعرف "بواتييه" في المصادر العربية باسم "بلاط الشهداء").

        لم يتزوج بلال .. ولم ينجب. فعاش وحيدا غريبا، ومات وحيدا غريبا، وسينقل جثمانه بعد أيام إلى وطنه وحيدا غريبا، ليدفن فيه وحيدا غريبا أيضا.

        إنا لله وإنا إليه راجعون. [/align]

        تعليق

        • Dr_Wisam_Albakry
          عضو منتسب
          • Mar 2008
          • 15

          #5
          إنّا لله وإنّا إليه راجعون
          رحم الله بلال وأسكنه فسيح جنّاته
          وإنّا لله وإنّا إليه راجعون

          * * *

          كنتُ أقرأ المشاركة رقم 1، وقلت في نفسي مؤثّرة جداً، فلعل (بلال) يظنّ بنفسه !!، سندعو له، فإذا به يُنعى (ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ).

          جزاك الله خيراً د. عبد الرحمن ، وعظّم الله أجرك.
          د. وسام البكري
          dr.wisam.albakry@gmail.com

          تعليق

          • lailasaw
            عضو منتسب
            • Dec 2008
            • 375

            #6
            إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون
            رحم الله بلالاً وموتى المسلمين.
            لعلّ كل من يقرأ هذه الخاطرة يهدي روح بلال سورة الفاتحة.

            عظَّم الله أجركم د. عبد الرحمن.

            تعليق

            • عبدالرحمن السليمان
              عضو مؤسس، أستاذ جامعي
              • May 2006
              • 5732

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة dr_wisam_albakry مشاهدة المشاركة
              إنّا لله وإنّا إليه راجعون
              رحم الله بلال وأسكنه فسيح جنّاته
              وإنّا لله وإنّا إليه راجعون

              * * *

              كنتُ أقرأ المشاركة رقم 1، وقلت في نفسي مؤثّرة جداً، فلعل (بلال) يظنّ بنفسه !!، سندعو له، فإذا به يُنعى (ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ).

              جزاك الله خيراً د. عبد الرحمن ، وعظّم الله أجرك.
              [align=justify]
              جزاك الله خيرا د. وسام على الدعاء. قاتل الله الغربة ما أصعبها في لحظات كهذه.

              من حسن الحظ أن الحكومة السورية تنقل جثث السوريين الذين توفاهم الله في الخارج على حسابها. ويذكرني الأمر بإخوة عراقيين تعرفت عليهم في غربتي الطويلة قضوا في أرض المهجر ودفنوا فيها لأن حكومة بلادهم لم تكن ترغب في استقبالهم ولو أمواتا!

              للموت رهبة يا دكتور وسام، أتعجب ممن لا يعتبر به.

              آنسك الله.[/align]

              تعليق

              • عبدالرحمن السليمان
                عضو مؤسس، أستاذ جامعي
                • May 2006
                • 5732

                #8
                المشاركة الأصلية بواسطة lailasaw مشاهدة المشاركة
                إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون
                رحم الله بلالاً وموتى المسلمين.
                لعلّ كل من يقرأ هذه الخاطرة يهدي روح بلال سورة الفاتحة.

                عظَّم الله أجركم د. عبد الرحمن.
                [align=justify]جزاك الله خيرا أستاذة ليلى.

                في لحظات كهذه نعتبر ونتذكر حالتنا وحالة الدنيا والأوطان ونأسف على انقضاء العمر في الأحزان. قال:

                ما من غريب وإن أبدى تجلده ***** إلا سيذكر عند العلة الوطنا.

                ولكن الغريب ليس غريب الأوطان بل غريب الأديان. قال:

                ليس الغريب غريب الشام واليمن ***** إن الغريب غريب اللحد والكفن!

                وتحية طيبة عطرة. [/align]

                تعليق

                • ahmed_allaithy
                  رئيس الجمعية
                  • May 2006
                  • 3961

                  #9
                  كفى بالموت واعظاً.
                  أما من لا يتعظ به فلا واعظ له.
                  أسأل الله أن يتغمد كل مسلم برحمته، وأن يغفر للفقيد، ويتجاوز عنه. وأن يحسن ختامنا جميعاً.
                  د. أحـمـد اللَّيثـي
                  رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
                  تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.

                  فَعِشْ لِلْخَيْرِ، إِنَّ الْخَيْرَ أَبْقَى ... وَذِكْرُ اللهِ أَدْعَى بِانْشِغَالِـي

                  تعليق

                  • عبدالرحمن السليمان
                    عضو مؤسس، أستاذ جامعي
                    • May 2006
                    • 5732

                    #10
                    [align=justify]عدت لتوي من "مجلس عزاء" تواجد فيه عشرات السوريين والمغاربة للدعاء لبلال - رحمه الله - الذي توفاه الله قبل يومين .. كان المجلس حزينا. وكان الحاضرون يتأملون بعضهم بعضا وشفاههم تتحرك .. وربما شاهدت دمعة هنا وأخرى هناك، والجميع في حالة تأمل حزين واعتبار ..

                    حدّثنا من شهد وفاة بلال، رحمة الله، قال: كان في آخر لحظة قبل إغمائه الذي لم يفق منه - يناجي الله بقوله: يا رب، علمك بحالي يغنيني عن سؤالك .. فقط خفف عني سكرات الموت.

                    رحمة الله عليك يا بلال، لقد صرت إلى ربك.[/align]

                    تعليق

                    يعمل...
                    X