كتاب- التاريخ الضائع

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد زعل السلوم
    عضو منتسب
    • Oct 2009
    • 746

    كتاب- التاريخ الضائع

    كتاب- التاريخ الضائع-الحلقة(1)
    الثقافة الإسلامية حملت البذور الطيبة لعصر النهضة الأوروبية
    تأليف :مايكل مورغان



    يستمد هذا الكتاب أهميته من أهمية الموضوع الذي يتناوله وهو الحضارة الإسلامية ومساهمتها في نشوء الحضارة الغربية وما تلي ذلك من تقدم في شتى ميادين الحياة. ويكتسب هذا الموضوع أهمية خاصة في ضوء ما يتعرض له المسلمون من ملاحقة وتضييق في جميع أنحاء العالم وما يتعرض له الإسلام من تشويه وهجوم يصل إلى حد إنكار ونفي أية مساهمة للمسلمين في الحضارة الإنسانية.

    يلقي المؤلف في هذه الحلقة الضوء على العصر الذهبي للإسلام مركزاً على منجزات الخلافة الأموية والعباسية ورعايتهما للعلم والعلماء، ويشير إلى الجهل السائد في الغرب عموماً، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص، إزاء تاريخ الإسلام ومنجزاته، وما يتركه هذا الجهل من تأثير سلبي على مجمل العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب.«هذا كتاب يضع يده على الحلقة المفقودة في قصة عالم مترابط الوشائج: إنها حلقة المنجزات التي حققتها الحضارة الإسلامية بكل تأثيراتها في الشرق والغرب على السواء». هذه العبارات صدرت عن قارئ جاد للكتاب ومسؤول يزن كلماته جيدا اسمه جيمي كارتر، وهو الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأميركية.

    أما ناشر الكتاب فيحتفل بالموضوع الذي عالجه المؤلف إلى حد أن يبدأ التصدير بالعبارة الجميلة الجامعة من الحديث الشريف، يقدمها الناشر، بالإنجليزية طبعا إلى قارئ كتابنا، والعبارة هي: اطلبوا العلم ولو في الصين. من ناحية أخرى يؤكد ناشر الكتاب، وهو مؤسسة «ناشيونال جيوغرافيك» العالمية أن مثل هذه النوعية من الكتب والدراسات أصبحت من ألزم ما يكون في حقبة نعيشها حاليا وتكتنفها عوامل من سوء الفهم بين الغرب والإسلام الأمر الذي يطرح سؤالا بديهيا يقول: ـ كم من جماهير الغرب يعرف أو يدرك أن المنجزات الثقافية والفكرية للمسلمين كانت مثار الغيرة بل والحسد في نفوس العالم في يوم من الأيام؟

    ـ ثم تستطرد المؤسسة العالمية قائلة في هذا السياق: في مراكز العلم الزاهرة من دمشق إلى بغداد ومن القاهرة إلى الأندلس استطاع علماء الرياضيات المسلمون منذ ألف سنة أن يطوروا علوم الجبر واللوغاريتمات وحساب المثلثات التي قامت على أسسها التكنولوجيا الحديثة. وفي تلك الحقبة من الزمان ابتكر المخترعون المسلمون النماذج الرائدة من أدوات وآلات شتى ومنها مثلا قاذفات الطوربيد ومظلات الهبوط الجوي (الباراشوت)، وعمل الأطباء المسلمون على تطوير الأساليب العلمية للعلاج الناجع من الأمراض، بينما توصل الفلكي المسلم إلى حساب وقياس قطر الأرض بدرجة مرموقة من الدقة وفي وقت كان الأوروبيون (في العصر الوسيط) يحسبون فيه أن الأرض كيان مسطح ليس إلا.

    العصر الذهبي للإسلام

    والحق أن المرء يسعده منذ أولى الصفحات، بل وعلى الغلاف الخارجي الأنيق لهذا الكتاب ـ أن يطالع إشارات واعدة بالبحث والعرض والتفصيل والتحليل ـ إلى ما يصفه المؤلف الأميركي بأنه العصر الذهبي للإسلام: العقيدة والكيان والحضارة، موضحا أن هذا العصر يبدأ من عام 570 للميلاد بمولد الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.

    ثم لا تلبث تفاعلات العقيدة مع الشريعة أن تفضي، على مهاد العلم والمعرفة والبحث والاستقصاء، إلى أن تتجلى مع الكتاب أسماء: جابر بن حيان والحسن ابن الهيثم وابن سينا والخوارزمي والطوسي وعمر الخيام، الذين يصفهم المؤلف منذ فواتح الأسطر بأنهم المفكرون والعلماء الامبريقيون (الذين جمعوا بين الفكر النظري والتجربة العملية) ممن مهدوا، كما يضيف لمن جاء بعدهم من رموز وأسماء في سجل العلم الإنساني الحديث من أمثال نيوتن وكوبرنيكوس وآينشتاين.

    أخيرا تختتم مؤسسة النشر المرموقة التي احتضنت هذا الكتاب تصديرها الجميل بثناء تضفيه على الجهد العلمي الذي بذله المؤلف ـ الكاتب الأميركي مايكل مورغان ـ الذي تابع مسيرة الإسلام منذ بعثة الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم إلى عصر السلطان العثماني سليمان القانوني (1520 ـ 1566)، أو سليمان العظيم كما تعرفه حوليات التاريخ الأوروبي وما بعده.

    وهي عصور ـ يؤكد الكتاب ـ أنها قامت على أساس التسامح الديني والبحث العلمي في آن معا ويحمد لمؤلف الكتاب أنه بعث الحياة من جديد في حقائق لم يكد يعرفها أحد (في الغرب بالذات) عن الإسلام وحضارته ومآثره ومنجزاته وأنه تعامل مع مادة البحث ونتائجه من منطلق يجمع بين الاحترام وعرفان الفضل ومن هنا استطاع المؤلف ـ كما يضيف الناشر ـ أن يزودنا ـ كقارئين بقصة من قصص الحضارة (الإنسانية) نابضة بالحيوية مائجة بالحياة وباقية على مر الأزمان.

    حتى لا يضيع التاريخ

    العنوان الرئيسي لهذا الكتاب تجسّده حرفيا العبارة الموجزة، التالية: التاريخ الضائع

    والعنوان الفرعي الذي يشرح للقارئ الموضوع الذي يتناوله المؤلف عبر الصفحات هو: التراث الباقي لعلماء ومفكري ومبدعي المسلمين.

    في 300 صفحة يعرض المؤلف الأميركي موضوعه الذي استهدف به إنصاف عقيدة وحضارة وتراث وشعوب استقامت لها دعوة «لا إله إلا الله» ما بين مقدمة وخاتمة تضمان بينهما 8 فصول يتألف منها هذا الكتاب الذي يلفت النظر منذ استهلاله أمر وهو:

    جدول منشور بالتسلسل الزمني يبدأ بمولد النبي الكريم في مكة حتى يصل به المؤلف إلى اختتام آخر مراحل هذا الجدول بإلغاء الخلافة أو كما يسميها نهاية، الإمبراطورية العثمانية عام 1922.

    بعدها يسجل المؤلف في مقدمته الإضافية أهمية استعادة منجزات الحضارة التي شادها المسلمون عبر التاريخ، من حيث ارتباطها بقدرات الإبداع والابتكار والاختراع، وطرح الأفكار الكبرى، وإشاعة روح التسامح والتعايش بين البشر.

    وهو ماض، يؤكد المؤلف، أنه اتسع لكي يعيش ويسهم وينجز فيه أفراد ينتمون إلى أديان وعقائد وحضارات أخرى تحت لواء الإسلام من مسيحيين ويهود وهندوس وبوذيين وغيرهم وهي ثقافة ـ يضيف المؤلف ـ حملت في طياتها البذور الطيبة للنهضة الأوروبية، الأمر الذي ينعى معه المؤلف أن تأتي بداية القرن الحادي والعشرين فإذا بهذه الحضارة المجيدة الباذخة تتعرض لآفة النسيان أو التجاهل أو سوء الفهم أو القمع بل ومحاولات التبديل والتشويه أو التزييف في بعض الأحيان.

    السير في حقل الألغام

    يبادر المؤلف من سطور المقدمة فيقول بوضوح: هذا الكتاب توفرْتُ على تأليفه موجها إلى القارئ العادي وليس إلى القارئ الأكاديمي (الدارس أو المتخصص).

    ومع ذلك فأنا على يقين بأنني أخوض في حقل ألغام وهذا الحقل الملغم ازدادت وطأته بفعل الخلط الذي بتنا نشهده بين الإرهاب الراديكالي (المتشدد) وبين صعود النماذج الدينية الأصولية (الحَرْفية ـ النصّية) سواء في تنظيم المجتمع أو في حياة الأفراد ـ هذا فضلا عن استمرار المعارك المحتدمة بين إسرائيل وجيرانها وحملتي غزو الولايات المتحدة لكل من أفغانستان والعراق وحربها التي أعلنتها على الإرهاب ثم الأزمات السياسية والاقتصادية في عدد من المجتمعات الإسلامية.

    ثم يعرض المؤلف إلى ما يلمسه ويعايشه من محدودية معلومات مواطنيه الأميركيين بتاريخ الإسلام وحضارته ومنجزاته ومآثره يقول: معظم الأميركيين ـ بمن فيهم المسلمون الأميركان أنفسهم ـ بل وكثير من أبناء العالم الإسلامي في أنحاء شتى من العالم، لا يعرفون سوى النزر اليسير عن تاريخ المسلمين. ولقد يقول قائلهم مثلا: كانوا عظماء في يوم من الأيام ابتكروا الرياضيات ولكنهم ما لبثوا أن تخلفوا عن المسيرة الخ.

    والمشكلة أن معظم أهل الغرب تعلموا أن أمجاد الغرب تعود بجذورها الثقافية إلى أيام اليونان والرومان، وأنه بعد سبات وخمول دام خلال القرون المظلمة الوسطى جاءت المعجزة فإذا بأوروبا تصحو إلى وعي جذورها الإغريقية والرومانية مقترنة بالعقائد اليهودية - المسيحية مما أدى إلى حركة النهضة وعصر التنوير .

    وفي هذا الإطار نجدهم يتناسون في أصول هذه الصورة تلك المساهمات الفكرية والعلمية التي أنجزها العرب والفرس والهنود والصينيون والأفارقة وغيرهم من أبناء العالم الإسلامي لدرجة أن تصبح تلك المنجزات (المبهرة أصلا وحقا) مجرد حاشية على متن الثورة العالمية والصناعية التي شهدتها أوروبا.

    من ناحية أخرى ـ يضيف المؤلف ـ فإن معظمنا (في أقطار الغرب) لا يعرف الكثير عن تفاصيل تاريخ المسلمين: أولا بسبب حاجز اللغة، وثانيا بحكم انقضاء العديد من القرون، وثالثا في غمار تلك السحابة من الغمام الذي ما برح يحيط بما لم نألف سماعه ولا تعودنا على استخدامه من الأسماء والأماكن والأحداث التي تراجعت أو انحسر مدها أمام نزعة التفوق الأوروبي (أو هي «المركزية الأوروبية» كما يعرفها المصطلح العلمي الشائع الاستخدام).

    مجموعات الاهتمام

    ـ هل معنى هذا أن الغرب نسي كل هذا التاريخ الحافل للإسلام والمسلمين؟

    ـ المؤلف يجيب بالنفي من ناحية المبدأ. ويؤكد أن مآثر الحضارة الإسلامية (والإسهام العروبي في قلبها) كانت محل اهتمام من عناصر وشخصيات شتى (يسميها أحيانا مجموعات وأحيانا معسكرات) تنوعت بينها أساليب الاقتراب من الحضارة الإسلامية وتحليل جوانبها وإصدار الأحكام عليها واتخاذ المواقف تجاهها. وفي هذا السياق يعرض الأستاذ مايكل مورغان لخمس مجموعات أو خمسة معسكرات على النحو التالي:

    أولا، جماعة المستشرقين: وهم في معظمهم يرون أن العالم الإسلامي دانت له دنيا المجد العلمي والعطاء الفكري على مدار فترة تمتد تقريبا بين عامي 800 إلى 1200 للميلاد وترى مدارس الاستشراق في هذا الصدد أن تلك الفترة هي التي شهدت ترجمة المسلمين لتراث اليونان والرومان مما حفظ للبشرية هذا التراث، إلى أن تلقفته أوروبا لتعبُر على جسوره إلى دنيا الاستنارة والتقدم التي تعرف أنها عصر النهضة.

    وهذه النزعة الاستشراقية هي التي ترى أن المسلمين تعثرت خطاهم وانكسفت شمس حضارتهم بسبب تغلب عناصر من قبيل التتار فضلا عما أصاب مجتمعاتهم من تناحر وانقسام مما حال دون التطور إلى مجتمعات تسودها حرية الفكر ومدنية الدولة أو الديمقراطية.

    ثانياً، جماعة «المحافظين الجدد»: وهم المتحكمون حاليا في إدارة بوش بالولايات المتحدة وهم الذين يرون أن الشرق الأوسط ـ العربي بالذات ـ منطقة قلاقل واضطرابات إذ يطلون عليها من منظور أحداث 11 سبتمبر 2001.

    ورغم أن العرب ـ كما يوضح المؤلف ـ يشكلون نسبة 17 في المئة فقط من مسلمي العالم إلا أن «المحافظين الجدد» الأميركيين باتوا يخلطون بين مشكلاتهم إزاء العرب وبين عموم الكيان الإسلامي فإذا بهم يقولون بأن الكيان المسلم معاد للحرية وللديمقراطية وللتقدم العلمي والانفتاح الاجتماعي (!). وهو ما روجته، وما برحت تروجه قطاعات شتى في أوساط وسائل الإعلام والسياسة الخارجية الأميركية.

    ثالثا، هناك في رأي المؤلف معسكر «السبق العلمي» كما يسميه: وهم القائلون بسبق المسلمين حتى القرن الخامس عشر في مضمار العلم والتكنولوجيا متفوقين بذلك على أوروبا ولكن ما لبث هذا كله أن توقفت مسيرته وتصلبت شرايينه فكان أن تخلف العالم الإسلامي لا عن أوروبا ذاتها بل عن أقطار أقل شأناً مثل الهند والصين.

    رابعا، هناك المعسكر الليبرالي: وفيه عناصر منصفة وموضوعية من حيث (النظرة إلى الإسلام): في عقيدته وشريعته وتجلياته العلمية والحضارية وهذه الجماعة من أهل الغرب المنصفين ترى أن دعوة الإسلام إلى مساواة الناس جميعا أمام الله سبحانه وتعالى، دعوة من الإسلام إلى الاستزادة من العلم وتوقير العلماء إلى حيث منزلة وراثة الأنبياء كل هذه القيم الإيجابية ينبغي أن تظل منابع للإلهام والهداية مع سنوات القرن الحادي والعشرين جنبا إلى جنب مع سائر العقائد الدينية والرسالات السماوية.

    أخيرا، يختتم المؤلف تحليله في هذا المضمار بلمحة عمن يصفهم بأنهم «معسكر التحزب»، ويقصد بذلك الفئة القليلة عددا، وإن كانت تشمل بعض الأكاديميين أيضاً ـ ممن يقولون إن المسلمين اخترعوا كل شيء وسبقوا المجتمع والعصر الحديث في أكثر من مجال وميدان، وأن المشكلة هي إنكار فضلهم واستبعاد مآثرهم. وفي كل حال، يحرص المؤلف على القول إنه أفاد من هذه الاتجاهات والطروحات جميعا وإن لم يتعصب لأي منها في سياق رحلته هذه عبر الزمان والمكان.

    ونحرص نحن من جانبنا على القول إن كتابنا هذا من تأليف كاتب من أهل الغرب حاول أن يطل على تراثنا الإسلامي ـ العربي من منظور يجمع بين الموضوعية والفهم أو محاولة الفهم، وذلك اجتهاد محمود من جانب باحث وكاتب أميركي في كل حال. قد نوافقه وأحيانا لا نوافقه على ما يذهب إليه ولكننا نحمد له محاولته التي يبغي منها قدرا من الإنصاف التاريخي من ناحية ويقصد من ورائها كذلك المشاركة ولو بوضع لبنة واحدة في صرح التفاهم والتعاطف والتعايش بين الثقافات والحضارات في عصر ينذر فيه الأفق باحتدام الصراع بين الثقافات والحضارات بما يهدد سلام البشرية ورفاه شعوبها.

    رسالة إلى القارئ

    وحسبنا أن نبدأ فصول الكتاب من خلال هذه السطور التي يمهد بها مؤلفنا لهذا البحث حيث يقول: عندما نستعيد تاريخنا الضائع المشترك. يحدوني الأمل في أن يتحلى غير المسلمين بالمزيد من الاحترام ومن الفهم العميق لأبناء عمومتهم المسلمين بأكثر مما توحي به العناوين الإعلامية والسياسية التي نطالعها في هذه الأيام كما أرجو أن يدرك مسلمو اليوم كيف أن الإسلام وجد طريقه يوما إلى التطبيق فكان أن أعلى من شأن روح الابتكار وملكة الإبداع والتسامح والتنوع في الأفكار والسلوكيات سواء على صعيد الفرد أو المجتمع بشكل عام.

    بعد هذا التمهيد، المسهب كما قد نعترف، يتحول بنا المؤلف إلى أول فصول الكتاب وقد حرص على تصديره بالآية الكريمة التي تقول:

    (غلبت الروم في أدنى الأرض. وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) صدق الله العظيم.

    نعتقد أن المؤلف كأنما يريد أن يقول هنا إن الأيام والحضارات دُول ما بين تقدم وانحسار أو بين شروق وغروب، يوم لك ويوم آخر عليك. ها هو يفتتح الفصل الأول من الكتاب بلمحة عن مدينة «تور» جنوب فرنسا، وهي التي شهدت توقف زحف جيوش الأمويين بقيادة عبد الرحمن الغافقي في عام 732 للميلاد.

    وبعدها استقرت الأمور لبناء دولة مسلمة وإرساء دعائم نهضة حضارية إسلامية زاهرة في ربوع الأندلس بشبه جزيرة أيبيريا الأوروبية (أسبانيا والبرتغال). صحيح أنها الحدود التي توقفت عندها جيوش الأمويين في جنوب أوروبا، وبعدها انصرف مسلمو الأندلس إلى ترسيخ بناء حضارتهم ونهضتهم في مجالات العلم والفن والاختراع والإبداع إلا أن هناك من الآراء التي يتابعها مؤلف الكتاب في أوساط الغربيين من يتصور أنها كانت حدا تاريخيا فاصلا بين أوروبا وبين أن يسيطر عليها الإسلام والمسلمون، .

    وإلا لكانوا قد واصلوا زحفهم وانتشارهم من حدود بولندا في شرقي القارة الأوروبي إلى مرتفعات اسكتلندا في شماليها على نحو ما كتب المؤرخ الإنجليزي الشهير إدوارد جيبون عام 1776.

    وقد حرص يومها على أن ينّبه قومه قائلا: إن عبور نهر الراين (وسط أوروبا) لم يكن صعبا على المسلمين ولا كان أصعب من عبور الفرات أو النيل ولو كان الأمر كذلك لاستطاعت الأساطيل العربية أن تبحر شمالا حتى مصب نهر التيمز في انجلترا ولترددت بذلك آيات القرآن في قاعات وأروقة جامعة أكسفورد.

    الكتابات المتحاملة

    تلك هي نوعية الكتابات المتحاملة التي لم تر في العرب والمسلمين سوى جيوش الغزو أو جحافل السيطرة وغفلت بذلك عمدا أو جهلا، عن متابعة المدخلات الحضارية التي أنجزوها وأسهموا بها في ترقية الحياة والفكر والإبداع والرفاه الإنساني ـ ما بين الطروحات الفكرية والمثل العليا التي انطوى عليها هذا الفكر المسلم وقد تلقفتها أوروبا ذاتها ـ كما يوضح المؤلف (ص 41) وتأثرت بها ابتداء من أناشيد الحب العفيف الرومانسي في أغاني التروبادور.

    وهم مغنو أوروبا في العصر الوسيط إلى حكايات شهر زاد في ألف ليلة وليلة إلى الأعمال الفلسفية التي شارك فيها مع فلاسفة المسلمين معاصروهم أهل الديانات السماوية الأخرى، إلى فكرة المدرسة ـ الجامعة التي عرفها العالم من أيام الحكم الإسلامي في الأندلس إلى الطب الحديث والمجتمع الحديث الذي يقوم على تعددية الأعراق والعقائد والأديان. كل هذا ـ يقول المؤلف ـ تاريخ منسي أو ضائع، أو فلنقل إن أهل أوروبا أو الغرب تعمدوا أن يتناسوه.

    مآثر المأمون

    في هذا الخصوص يحرص المؤلف على أن يعرض في لمحات ثاقبة بالغة التكثيف مسيرة وتطور تاريخ الإسلام منذ بدأ دعوة روحية ووحيا من لدن السماء على يد النبي محمد صلوات الله عليه إلى أن نضج وتطور واكتهل إلى حيث شاد المسلمون دولتهم الكبرى وحضارتهم الباذخة التي بلغت ذروتها في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد سنة 790 للميلاد في العاصمة بغداد، التي يصفها المؤلف بأنها أصبحت في ذلك العصر مركزا للعلم تمازجت فيه الثقافتان العربية والفارسية، وكانت المحصلة نهضة علمية وفلسفية وأعمالا ما زالت تعد من عيون الأدب وروائع الإبداع.

    وفي سنة 823 أصبح عبد الله المأمون خليفة للدولة العباسية يقول مؤلف الكتاب: هنالك توسعت الإمبراطورية الإسلامية فأضيفت إليها ربوع ما نعرفه اليوم بأنه تركمانستان وأفغانستان. لكن ها هي الإمبراطورية تزدان بإنشاء المأمون «بيت الحكمة» .

    حيث عكف المترجمون الثقات على أن ينقلوا إلى العربية الذخائر الكلاسيكية عن اليونانية والسريانية والفارسية، ومنهم كان الطبيب السورياني حنين بن اسحق الذي أوقف جهوده على ترجمة أعمال غالينوس وأرسطو وأبوقراط ثم هيأت له إمكانات بيت الحكمة وتشجيع خليفة المسلمين عبد الله المأمون أن يكتب أعماله الكلاسيكية بدورها في تخصص طب العيون تحت عنوان «مقالات العيون العشر» وما زالت تعرف في الغرب باسم «جوهانتيوس».

    في هذا الإطار يبدو مؤلفنا معجبا بسيرة المأمون، ففي معرض الحديث عن هذا الخليفة العباسي المحب للعلم والمشجع للعلماء، نلاحظ أن أسلوب السرد والتحليل في الكتاب يكاد يرقى إلى مرتبة الشعر وربما الإيقاع الدرامي إن صح التعبير. يستعيد المؤلف حلما راود المأمون حين زاره في المنام فيلسوف اليونان الأشهر أرسطو وخاطب الحاكم المسلم قائلا:

    أوصيك بأهل الفكر والعلم كن رفيقا بهم حادبا عليهم ـ وسّع أمامهم «حرية التفكير» بغير خشية من عاقبة ـ فالمعرفة لا حدود لها، والعقل أغلى هدية وهبتها السماء للبشر فاتخذ من أهل العقل والحكمة من ينقل إلى لغتك العربية ما تناهى إليكم من أعمال السابقين.

    بهذا يمهد المؤلف لقرار الخليفة المسلم تأسيس «بيت الحكمة» وبسط رعايته على المفكرين والعلماء وثقات المترجمين فيما يحرص المؤلف أيضاً على أن يستعيد التوصيات الأصيلة من واقع العقيدة الإسلامية بالعلم والعلماء ومن ثم فهو يبدأ الفصل الثاني من الكتاب بالآية الكريمة: (وقل ربي زدني علما).
  • محمد زعل السلوم
    عضو منتسب
    • Oct 2009
    • 746

    #2
    كتاب- التاريخ الضائع-الحلقة(2)

    كتاب- التاريخ الضائع-الحلقة(2)
    نوابغ عباقرة أسسوا لمسيرة العلم والبحث النظري والتطبيقي في الإسلام
    تأليف :مايكل مورغان



    يتناول المؤلف في هذه الحلقة بعضاً من منجزات العلماء المسلمين في ميادين العلوم المختلفة كالرياضيات والفلك والطب والفلسفة والجبر والهندسة والعمارة.

    ويرى أن المسلمين لم يكتفوا بالأخذ عمن سبقوهم من علماء ومفكرين وإنما أضافوا إلى ذلك نتاج ما توصلوا إليه بعد دراسات وبحوث تطبيقية وصححوا ما كان سائداً من نظريات خاطئة، ويروي لنا كيف تحولت حواضر البلدان الإسلامية إلى منارات تشع علماً وثقافة، وكيف كانت كل واحدة منها تكمل ما توصلت إليه الأخرى لكي تمضي مسيرة العلم والعلماء إلى الأمام.ويؤكد المؤلف على أن العوامل التي ساعدت على تقدم العلم في العالم الإسلامي يمكن تلخيصها في الانفتاح على الآخر وتشجيع العلماء ودعمهم من قبل الحكام والازدهار الاقتصادي الذي أتاح المجال لتأسيس مراكز البحوث وبناء الصروح المعمارية التي تعتبر روائع فنية ليس لها مثيل في شتى بقاع الأرض.في ظل ازدهار الحضارة الإسلامية تعددت مراكز وعواصم العلم والفكر والبحث والإبداع ما بين بغداد.

    وقد بلغت الذروة بوصفها حاضرة الإمبراطورية الإسلامية وخاصة في عصر المأمون، إلى قرطبة وأشبيلية وغرناطة في أسبانيا - الأندلس الإسلامية الزاهرة - إلى كل من القاهرة عاصمة مصر التي تحرس الساحل الأفريقي المطل على البحر المتوسط، إلى سمرقند في وسط آسيا إلى أصفهان في فارس ومن ثم إلى دلهي وأخيرا في شبه القارة الهندية. في القرن الحادي عشر للميلاد حلقت القاهرة الفاطمية إلى ذروة العلم والمعرفة حيث شهدت تسامحا بين الأديان وجاءها من المشرق علماء كبار مثل «ابن الهيثم» نابغة الطبيعيات ومؤسس وأستاذ علم الضوء والبصريات.وتحولت فيه مؤسسة الأزهر من مركز للدعاية المذهبية إلى جامعة للعلوم الدينية والدراسات الكلاسيكية التي تخرجت من أروقتها أجيال من بعد أجيال عاشت وعلمت وأضاءت جنبات العالم الإسلامي بأسره حتى كتابة هذه السطور.

    هذا التحول تم بالذات في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، الذي ارتبط اسمه ونضاله بمعركة «حطين» المظفرة (سنة 1187 للميلاد) وكانت هي المواجهة الفاصلة التي حررت أرض فلسطين والشام من الاحتلال الأوروبي الذي كان مستترا أيامها خلف شعارات الصليبيين.

    يقول مؤلف الكتاب (ص 74): بفضل شمائله وسلوكياته أصبح صلاح الدين (صلادين كما يعرف في حوليات التاريخ الغربي) رمزا للمقدرة على حشد الإمكانات والموارد الإسلامية لإنهاء الغزوات المسيحية (الأوروبية) في أواخر القرن الثاني عشر، بيد أن صلاح الدين لن يقتصر أمره على تحويل مسار الأحداث (في فلسطين) لصالح المسلمين.

    بل سيصبح أيضاً عند أهل أوروبا رمزا لشهامة المسلم وكرامته سواء بفضل معاملته الرحيمة للسكان المسيحيين عندما استرد بيت المقدس أو بفضل علاقته التي ربطته عبر الحدود والمسافات مع القائد الأوروبي ريتشارد قلب الأسد وكانت علاقة قامت على أساس من الشرف والاحترام المتبادل.

    وعند هذا المنعطف من طروحات الكتاب، يوضح المؤلف تلك الظاهرة، هذه الكيمياء العجيبة كما نسميها من جانبنا ويتسم بها عالم الإسلام والمسلمين وقد يترجمها شطر البيت الشعري القديم الذي يقول: «إذا مات منا سيدٌ قام سيدُ».

    والمعنى أنه عندما كانت الدوائر تدور على مركز من مراكز الثقافة والحضارة والازدهار في دولة الإسلام، إذا بالمراكز الأخرى تنهض ويشتد ساعدها كي تحل محله وتقوم بدوره تعويضا وسلوى وإضافة وقدرة على مواصلة مسيرة الحضارة كي لا تنطفئ لها شعلة في بلاد المسلمين.

    ابن النفيس في «البيمارستان»

    هكذا، عندما اجتاح المغول بغداد في القرن الثالث عشر وغربت شمس عاصمة الرافدين تحت سنابل هذه الجحافل البربرية من التتار، نهضت القاهرة كي تصبح مركز العالم الإسلامي والسياسي والثقافي، ولتكون مهوى ومثابة للقاصدين من النوابغ والعلماء والمفكرين والمبتكرين الذين سكنوها وأنتجوا بين ربوعها ولقوا التشجيع من حكامها ومثقفيها.

    وهكذا ففي القرن الثالث عشر جاء إلى القاهرة «ابن النفيس» السوري المولد ليعمل أستاذا للعلوم الطبية في المصح المنصوري (البيمارستان) بالقاهرة، ولم يكن الرجل مجرد مردّد لمقولات القدماء من حكماء الطب وفلاسفته حتى ولو كانوا في قامة غالينوس حكيم الطب الشهير في حضارة الإغريق:

    لقد عمد ابن النفيس العربي المسلم إلى تفنيد نظريات الطبيب اليوناني القديم بالنسبة لحركة الدم في شرايين الجسم البشري وأكد لتلاميذه وفي كتاباته بالشرح والوصف البياني كيف أن الدم يتدفق من القلب عن طريق الرئتين إلى سائر أوصال الجسم وجوارحه ثم لا يلبث أن يعود إلى القلب من جديد. وبهذا كان الحكيم المسلم أول من اكتشف الدورة الدموية التي سيطوّرها هارفي الإنجليزي ويسهب في شرحها بعد ريادة ابن النفيس بعدّة قرون

    أصفهان ونيسابور

    تصدق مقولات الازدهار العلمي والفكري نفسها على أصفهان الفارسية وخاصة في ظل دولة السلاجقة في القرن الحادي عشر الذين لم يقصروا في بناء مؤسسات التعليم ومراكز البحث العلمي.

    ولا قصروا في اجتذاب العلماء والمفكرين من أنحاء العالم الإسلامي كافة. وهكذا بسط السلاجقة رعايتهم على العلماء والفنانين والشعراء والمبدعين. وليس صدفة مثلا أن تزدهر في ظلهم مدن أخرى في تلك الربوع ومنها نيسابور التي كانت مع أصفهان موئلا للعالم والشاعر الأشهر «عمر الخيام».

    حيث بلغت نيسابور ذرى التقدم تحت رعاية حاكمها «نظام الملك» فيما كانت مدينة قونيه تجاوبها من ناحية الأناضول - آسيا الصغرى التركية وتؤوي واحدا من أعلام التصوف الإسلامي هو الشاعر الفيلسوف جلال الدين الرومي الذي ما برحت أوروبا واقعة في سحر مثنوياته الشعرية بعد ترجمتها إلى العديد من لغاتها حيث يوقرها كما يوضح المؤلف (ص 75) المسيحيون بقدر ما يعتز بها المسلمون حول العالم كله منذ رحيل الرومي إلى عالم الخلود وعلى امتداد 800 سنة حتى الآن.

    منجزات العمارة الإسلامية

    إلى جانب الفكر والعلم والتعليم بالكلمة والعبارة والقصيدة، تجسدت مآثر الحضارة الإسلامية في فن العمارة الشامخ الباذخ الذي تحفل أصفهان بإبداعاته حتى الآن.

    يقول مؤلف الكتاب في نفس السياق: «هذه البدائع المعمارية هي التي دفعت الرحالة البريطاني «روبرت بايرون» إلى التجوال في أنحاء المدينة الإسلامية ليقول بعدها: عجائب المعمار في أصفهان لا تباريها أي صروح معمارية في أوروبا بأسرها ولا حتى كنيسة سان بيتر (في روما - الفاتيكان) ولا قصر فرساي في باريس».

    في القرن الثامن للميلاد وصلت مشاعل الضياء الإسلامي: تعاليم العقيدة ومنظومات القيم ومثل الأخلاق العليا ومن ثم بشائر العمران والحضارة إلى أصقاع آسيا الوسطى وتضوعت بأريجها مدن تلك المنطقة ما بين كابول إلى بخارى إلى سمرقند وكلها ستصبح مراكز زاهرة للثقافة والمواهب والنوابغ والابتكارات الإسلامية.

    أما في شمالي شبه القارة الهندية فكانت بلاد السند قد فتحت أمام الديانة والتعاليم الإسلامية منذ القرن الثامن، ونشطت فيها عمليات التبادل التجاري على طول سواحل بحر العرب. وبدأت تتبلور على صعيدها مراكز للثقافة الإسلامية في لاهور ودلهي لدرجة أن سلطنة دلهي التي امتد عزها من عام 1206 إلى عام 1526 ظلت تسيطر على كامل شمالي الهند ما بين الحدود الأفغانية إلى بلاد البنغال.

    عصر نهضة الإسلام في الهند

    أما العصر الذهبي للهند المسلمة فكان مقدرا له أن يحل مع وصول المغول المحدثين من وسط آسيا في القرن السادس عشر وتأسيس إمبراطورية المغول التي دامت وازدهرت وأثمرت من عام 1526 وحتى خضوع الهند للاستعمار البريطاني عام 1857.

    وكان أول حكامهم الكبار هو السلطان «بابور» الذي انطلق من مقره الأصلي في أوزبكستان، وكان كما يقول مترجمو سيرته رجلا مثقفا، كاتبا وقارئا ومشجعا للعلم والعلماء وقد ترك ترجمة ذاتية لحياته تحت عنوان «بابوراما».

    ورغم أنه كان لكل من مدينتي دلهي ولاهور نصيب في مجد وازدهار هذه الإمبراطورية المسلمة إلا أن أعظم عواصمها كانت مدينة أجرا التي ازدهرت بين عامي 1526 و1658 للميلاد.

    ولعل أفضل حكام هذه السلسلة هو السلطان «أكبر» حفيد بابور الذي أحبه جميع سكان الهند مسلمين وغير مسلمين لأنه عمد - كما يضيف مؤلف الكتاب - إلى تعميق الشعور بالمحبة والوئام والتسامح بين المسلمين وسائر الملل الأخرى.

    ومن سلالته يذكر المؤلف، والتاريخ أيضاً اسم شهاب الدين محمد شاه جيهان الذي يصفه المؤلف بأنه كان من «سادة» البنائين العظام» وهو الذي أمر بتشييد صرح «تاج محل» في أجرا والقلعة الحمراء في دلهي وكثير من الصروح والروائع المعمارية التي تشهد بعظمة الحضارة الإسلامية في أوج مجدها في بلاد الهند.

    ومن الطبيعي أن يصوّر مؤلفنا قصة الحب الرائعة التي سجلها تاريخ العالم بعد زواج شاه جيهان من أميرته الجميلة ممتاز محل: فقد أراد العاهل المسلم أن يخلّد ذكرى محبوبته الموصولة لزوجته، فدعا إلى بلاطه عشرات من المعماريين والشعراء والفنانين والمفكرين الذين ازدان بهم قصره فضلا عن تشييد تحفة تاج محل تخليدا لذكرى زوجته التي رحلت زهرة في أوج الشباب.

    ولقد بلغ ازدهار هذه الإمبراطورية الإسلامية في الهند الحد الذي يقول معه مؤلف الكتاب: ما إن وافت بدايات القرن الثامن عشر حتى أصبحت إمبراطورية المغول المسلمة في الهند تمتلك ما يقرب من 25 في المئة من كل أسباب الثروة المادية في طول الدنيا وعرضها، ومن ثم زاد عدد سكانها بفضل الازدهار ورغد العيش في ظلها إلى 140 مليون نسمة وبذلك فاقوا فيها سائر شعوب المعمورة في ذلك الوقت باستثناء سكان الصين.

    حكاية الباحثة فاطمة خان

    الفصل الثالث من الكتاب يفتح سطوره بالحديث عن علم الرياضيات والحساب، وعلى عادته يقتبس المؤلف من أنوار الكتاب الكريم في قوله تعالى: «وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا» صدق الله العظيم. وعلى عادة المؤلف أيضاً فهو ينطلق من الواقع المعاصر في زماننا، ثم يرجع به قرونا إلى حيث أوج ازدهار الحضارة والفكر الإسلامي.

    لهذا يبدأ الفصل الثالث من منطقة بنجالور بالهند التي تغطيها أشجار السافانا وهي قابعة في أهاب من الحداثة والتقدم المرموق في هضبة الدكن الهندية ببنجالور عمرها 500 عام وهو عمر هين وبسيط في بلد تمتد حياته آلافا من السنين.

    ولكن نموها يرجع معظمه إلى 30 سنة وحسب من زماننا الراهن، يتحول المؤلف بين المكاتب والبنايات التي تجسد أعلى درجات التحديث في هذا العصر - يحدثنا (ص 81) عن فاطمة خان، التي تقبع في أحد المكاتب وتسجل وتستخدم اللوغاريتمات الرياضية لاستخدامها في برامج الحاسوب الإلكتروني من أجل دعم تجارة السلع التي أصبحت تغطي بقاعا شتى من عالمنا ما بين شيكاغو في أميركا إلى سنغافورة في جنوب شرقي آسيا.

    اللوغاريتمات - يقول المؤلف - تشكل حزمة من الحسابات العددية والتعليمات الرياضية التي تستخدم بطريقة منهجية وصولا إلى النتائج المنشودة، وهي بذلك أمر أساسي بالنسبة لتصميم برامج الحواسيب ومن ثم تأتي أهميتها الفائقة بالنسبة إلى العلوم الطبيعية والهندسية الحديثة وخاصة ما يتعلق بأجهزة الحساب والتقدير الإلكترونية، كائنات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية كما يسمونها.

    الباحثة فاطمة خان، النابغة المسلمة تعمل في المكتب الذي أسسته بنفسها وجعلت منه تجسيدا لأحدث منجزات عصر العلم والتكنولوجيا.

    وامتدت دوائر عملائها لتغطي قارات العالم. تعلمت فاطمة مهاراتها هذه في وادي السيليكون بولاية كاليفورنيا الأميركية حيث تخرجت بتفوق من الجامعة وحيث كان ينتظرها مستقبل أكثر من واعد ومبشر لو استمرت تعمل مع مؤسسات الحواسيب الكبرى في الولايات المتحدة.

    لكنها قررت يوما أن تعود إلى وطنها، وتؤسس شركتها الخاصة، وكذلك فعل الكثيرون من جيلها، أطباء ومهندسون ومنظمو مشاريع من نوابغ الخريجين عادوا إلى الوطن ليشكلوا طبقة وسطى أصبح أفرادها معقد الآمال في الأخذ بيد شعوبهم إلى حياة ومنجزات القرن الحادي والعشرين.

    كتاب الخوارزمي

    بين أحدث أجهزة الحاسوب، وفي غمار التعامل عبر أحدث الهواتف مع عملاء في كل أنحاء الدنيا، ما زالت فاطمة خان تعتز بكتاب قديم يطل عليها من فوق رف المكتبة، ما برحت تستعيد معه ذكرى دراستها الجامعية وتكاد تتنسم بين صفحاته عبق التاريخ. الكتاب يحمل العنوان التالي:

    عناصر اللوغاريتمات. وتعلوه صورة لمؤلفه القديم، أبو بكر الخوارزمي، عالم الرياضيات المسلم الذي كتب بالعربية دراساته الرياضية ونبغ في تطوير أفكاره إلى حيث اهتدى إلى مسائل اللوغاريتمات الرياضية، أو هي في الأصل اللوخاريزمات - الخوارزميات التي ما زالت منسوبة إلى هذا النابغة المسلم في كل بلد وفي كل تخصص رياضي وحسابي على صعيد الدنيا كلها.

    ولد الخوارزمي باسم محمد في منطقة حشائش الاستبس في خوارزم بوسط آسيا على طريق الحرير القديم الذي كانوا ينقلون التجارة عبره بين الصين في الشرق وأوروبا في الغرب، استدعاه المأمون عام 832 فكان أن اندمج في مواكب كبار المترجمين وعلماء الحساب والرياضيات العرب من مسلمين وغير مسلمين ومنهم من كان عاكفا على حل معادلات أقليدس ودراسة نظريات فيثاغورس.

    يقول المؤلف: كأنما كان يلمح أسرار الكون وقوانين حركته وسط ما تعامل معه من المعادلات والحسابات وسلاسل الأرقام الرياضية، وحيث كل شيء بمقدار.

    وبوصفه مسلما، كان يدرك بيقين أن قدرة الله سبحانه تتجلى إذا ما سار المرء على طريق العقل والحكمة، وهكذا أوصله تفكيره ونبوغه إلى أنْ قام بثورة في علم الرياضيات وعالم الحساب.

    اكتشاف «الصفر»

    في هذا السياق يمضي مؤلف الكتاب ليتقصّى بتفصيل دقيق يدعو للإعجاب جوانب التطور العلمي والسيرة الإبداعية لعالم الرياضيات المسلم لدرجة أن حرص الأستاذ مايكل مورغان على أن ينشر طابع البريد التذكاري الذي أصدره الاتحاد السوفيتي يحمل صورة (متخيلة طبعا) للخوارزمي تخليدا لذكراه.

    يحكي لنا المؤلف أيضاً عن تأثر الرياضي المسلم بعلوم الرياضيات في حضارة الهند، وعن حرصه على أن ينقل له المترجمون الكتاب الذي ترجموه عن السنسكريتية - لغة الهند القديمة بعنوان «سند هند». وقد استوعبه الخوارزمي وكان أن فتح أمام عبقريته آفاقا رحبة، وأتاح له منظورا مبتكرا على دنيا الحساب، فكان أن توصل إلى اكتشاف قيمة «الصفر» التي أعيت من سبقه من علماء الحضارات الغابرة.

    وكان أن وضع أساس علم «الجبر» وطرح كذلك مصطلح «المقابلة» وفي هذا الصدد يحرص المؤلف، في جهد مشكور حقا، على تقريب هذين المصطلحين اللذين يوردهما في سطور الكتاب في أصلهما العربي موضحا لقارئ الإنجليزية أن الجبر من معنى التعويض والاستعاضة، والمقابلة بمعنى المقارنة أو التناظر. بعدها يواصل المؤلف حديثه عن الخوارزمي قائلا:

    هكذا استطاع الخوارزمي أن يستحدث نظاما قُيض له أن يهيئ مفتاحا يفضي إلى فك أسرار الكون. أتاحت أرقامه الرياضية وطرائق الحساب التي ابتدعها إمكانية أن يشيّد البشر أبراجا (ناطحات سحاب) ارتفاعها 100 طابق وجسورا طولها 100 ميل، لقد أتاح هذا كله حسابات النقطة التي تتقاطع معها مجريات الكواكب.

    وحسابات ردود الفعل في مجال الطبيعة النووية وعمليات الخلايا في التكنولوجيا الحيوية وفي بحوث العقاقير الدوائية والتسويق، فضلا عما يعيشه عالمنا اليوم في مجالات لغة برامج الحاسوب وتكنولوجيا الهواتف المحمولة. لكن ها هو اليوم يأتي لكي ينسى الأوروبيون، وينسى معهم قوم كثيرون آخرون، مَنْ كان هذا العالم المسلم وما الذي أسداه من فضل للبشرية.

    وقد يكتفون - بغير أن يعرفوا - بترديد اسمه عَلمَاً على اللوغاريتمات الرياضية، بل قد يأتي اليوم الذي ينكر فيه بعض مؤرخي الرياضيات في أوروبا فضل الخوارزمي وعظمة عطائه.

    جحود الفضل وتشويه التاريخ

    إن نسيان - أو تناسي التاريخ، يمكن - كما يقول مؤلف الكتاب - أن ينجم عنه غرائب لا تصدق حتى في مجال الرياضيات، هذا النسيان أو الجحود يمكن أن يجرّد المخترع من نبوغه وعطائه ويحيله إلى طرف آخر محظوظ ليس إلا.

    ومع ذلك فالتاريخ يظل أشبه بمعادلة رياضية تقوم على افتراض مغلوط، فالتاريخ المليء بالثغرات يظل كتابا مشوشا وينطوي على أخطاء لا تنال منها سوى الخلط والارتباك. ولأن العلم حلقات من سلسلة مضيئة يقوم على أمر كل منها نابغة عبقري، كذلك كانت مسيرة العلم والبحث النظري والتطبيقي في ظل حضارة الإسلام.

    رائد علم البصريات

    لهذا فعندما يعرض كتابنا، أو بالأدق عندما يحرص الكتاب، على تقليب أو إحياء سيرة الحسن ابن الهيثم أمام قارئه الأوروبي يظل مؤلفنا حريصا على إثبات أن ابن الهيثم انطلق من إنجازات الخوارزمي عام 850 للميلاد.

    يوضح المؤلف أن «ابن الهيثم»، قد نشأ في البصرة مع أواخر القرن العاشر الميلادي، ثم نزح إلى القاهرة في سن النضوج، كتب أكثر من 200 كتاب ضاع أغلبها، ولكنه سجل اسمه في تاريخ العلم من خلال تأكيده على ضرورة البحث التجريبي دون الاكتفاء بالدراسة النظرية، وبهذا يعد هذا العالم المسلم رائد المدرسة الإمبريقية في مضمار العلوم التطبيقية، ومن خلال بحوثه استطاع تفنيد وتصحيح كثير من النظريات العلمية القديمة التي كادت تكون موضع تسليم في زمانه.

    وأولها - كما هو معروف - نظرية أن الأشعة تنبعث من الأشياء إلى العين المبصرة وليس العكس على نحو ما ظل يقول به القدماء منذ أيام بطليموس في عصر ما قبل الميلاد. والحق أن ابن الهيثم شغف بالضوء وظل يتابع دراساته نظريا وعمليا ويكتب عن مسرى الأشعة، ونفاذ الأشعة، في الأجسام الشفافة وعن انكسار الأشعة وتعدد عناصر حزمة الأشعة حسب ألوان الطيف.

    وكم شهدتْه لحظات الغسق عند الغروب أو لحظات الانبلاج عند الشروق، وسط أنواء الصيف والشتاء فوق تلال القاهرة وهضابها منصرفا إلى ربط الفكر بالملاحظة، وتطبيق النظرية على المشاهدة المباشرة في الطبيعة ذاتها، وهو بذلك يطور فكره ويعمق بحوثه في دراسة الضوء حتى ليعد بحق رائدا في علم البصريات.

    يضيف مؤلفنا قائلا (ص 105): بلغ ابن الهيثم في علوم الفيزياء شأنا بعيدا ويبدو أنه كان واعيا بظاهرة الجاذبية ذاتها فقد كتب في مؤلفاته عن ظاهرة اجتذاب الكتلة وكان بذلك سابقا على كل من جاليليو الإيطالي وإسحق نيوتن الانجليزي بنحو 600 سنة.

    عرض ومناقشة: محمد الخولي

    تعليق

    • محمد زعل السلوم
      عضو منتسب
      • Oct 2009
      • 746

      #3
      كتاب -التاريخ الضائع ح3

      التركة الدائمة للعلماء والمفكرين والفنانين المسلمين
      تاريخ ضائع
      تأليف :مايكل ه. مورغان



      مايكل ه. مورغان، مؤلف هذا الكتاب هو دبلوماسي سابق. تحوّل إلى الاهتمام بمناصرة قضايا السلام في العالم والحوار الثقافي بين الشعوب. سبق له وقدّم العديد من الدراسات وساهم في البرامج الإذاعية والتلفزيونية الخاصة بمظاهر السياسة الخارجية للدول. من كتبه «حرب الفجر» «مقبرة المحيط الهادئ» و«صدمة التاريخ».

      « تاريخ ضائع» الذي يقصده في عنوان هذا الكتاب هو ما يتم نسيانه غالبا في الحقبة الراهنة التي يسودها التوتر في العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي. هذه الحقبة، وكما يعبّر مايكل مورغان، محكومة بحالة من الحذر وسوء الفهم، مما يؤدي إلى «تجاهل» التاريخ، خاصة نسيان واقع أن الحضارة الإسلامية كانت في فترة العصور الوسطى هي مصدر العلم والتنوير بينما كانت أوروبا تغرق في ظلام الجهل ومحاكم التفتيش. إن مؤلف هذا الكتاب يكرّس صفحاته التي يزيد عددها على الثلاثمئة صفحة للبرهان على أن الإنجازات العلمية والثقافية المبكّرة التي حققها العالم الإسلامي شكّلت «حجر الزاوية الأساسي» في عصر النهضة الأوروبية التي بدأت ملامحها الأولى بشكل واضح اعتبارا من القرن الخامس عشر تعززت مسيرتها خلال القرن السادس عشر.

      وهكذا لا يتردد في القول إن الحداثة الغربية عامة، والأوروبية حيث أرست أسسها مع الثورة الصناعية، إنما هي، وإلى حد كبير، وليدة مسيرة انطلقت خطواتها الأولى من أرض الإسلام. وبهذا المعنى كان العديد من المفكرين، وحتى السياسيين الأوروبيين، تحدثوا عن «الجذر الإسلامي» للحضارة الأوروبية الحديثة وليس الاكتفاء كما هو سائد بالحديث عن الجذر «اليهودي ـ المسيحي».

      يبدأ المؤلف تحليلاته اعتبارا من بدايات العصر الإسلامي الأول وصولا إلى الحقبة الحديثة. هكذا يجد القارئ أمامه تأريخا للعديد من المحطات الهامة التي عرفتها العلوم والآداب والفنون التي برز فيها مسلمون واستلهم منها الغربيون بعد ذلك ما شكّل منطلقات نهضتهم. إن أسماء ابن الهيثم وابن سينا وابن خلدون وابن رشد والخوارزمي والفارابي وعمر الخيام وغيرهم تتردد عند حديث المؤلف عن علوم الرياضيات وعلم الفلك وعلوم الطب في عصر النهضة الأوروبي الذي نقلها لتشكل القاعدة الأولى التي ما كان له لولاها أن ينطلق.

      هؤلاء العلماء والمفكرون والفلاسفة المسلمون هم الذين «مهّدوا الطريق أمام نيوتن وكوبرنيك وغيرهما»، كما يقول المؤلف ويضيف أن الفنون والعمارة والآداب لمعت في الغرب انطلاقا من الفضاءات الإسلامية. يرى مايكل مورغان أن العودة إلى التاريخ واستقراءه عبر مراحله السابقة يمكن أن يكون عاملا حقيقيا في تشجيع السلام والاستقرار في العالم. وذلك على قاعدة المساعدة على التخلص من الكثير من الأفكار الخاطئة التي قادت إلى حالة «اللاتسامح» القائمة، وبالتالي إلى «العنف» والمواجهات بين الشعوب والأمم.

      وتتم الإشارة في هذا السياق إلى واقع الغياب شبه الكامل لتدريس التلامذة حقيقة التقدم الذي عرفته قرون عديدة في إطار الحضارة الإسلامية والتي استمر ازدهارها ما يقارب السبعة قرون، وخاصة التي ساهمت بشكل فعّال في عصر النهضة الأوروبي.

      لقد ترك المسلمون إرثا هاما في ميادين علم الفلك والرياضيات والطب وعلوم الصيدلة والعمارة والفلسفة وفي الفنون وذلك على خلفية «حث معتقدهم الديني لهم على البحث عن العلم»، كما يشرح المؤلف لقارئه الغربي الذي يجهل تماما في أغلب الأحيان مثل هذه الحقيقة التي غابت تحت الصرة السائدة عن الإسلام في الغرب اليوم على أنه دين العنف والحرب.

      ولا يتردد المؤلف في التأكيد على أن الغرب يجهل إلى حد كبير، وتقريبا إلى حد مطلق باستثناء بعض الباحثين الذين يذكر أسماء العديد منهم، «الجانب المضيئ» من التاريخ الإسلامي، الذي يبدو وكأنه يقتصر على «الحرب الصليبية» سابقا وعلى تفجيرات 11 سبتمبر «لاحقا». هكذا يتم تجاهل واقع أن المفكرين المسلمين الكبار في الحقبة الأولى من تاريخ الإسلام التي امتدت حتى نهاية العصور الوسطى كانوا يتحلّون بـ «عقل خلاّق» واستطاعوا أن يحققوا إنجازات و«مبتكرات» في الكثير من ميادين العلوم والمعارف.

      الأمثلة التي يضربها المؤلف على علماء المسلمين ومفكريهم كثيرة. ويذكر في رأس القائمة ابن سينا الذي ألّف حوالي 300 دراسة في مجالات الطب والفلسفة والرياضيات وعلم الفلك. ويؤكد أن كتابه الخاص بـ «قانون الطب» ساهم في تطوير الطب الأوروبي في بداياته أكثر مما طوّره أي عمل آخر. ويشرح في هذا الإطار بالتفصيل العامل الآليات والسبل التي تمّ بها نقل تعاليم ابن سينا إلى الأوروبيين. ويفعل الأمر نفسه بالنسبة لجميع العلماء والمفكرين والفنانين الذين يتعرّض لهم.

      ما يؤكده المؤلف منذ الصفحات الأولى في كتابه هو أنه ليس كتابا في الدين، وإنما عن حضارة لعب فيها الإسلام دورا جوهريا، كما يشرح على مدى الفصول الثمانية التي يتألف منها. وهو يستعرض حياة وأعمال كبار مفكري الإسلام ومبدعيه في شتى الميادين بطريقة يغدون فيها «مألوفين» تماما بالنسبة لحضارة كانوا قد ساهموا في إيصالها إلى ما هي عليه. وكذلك يتحدث عن مدن كبغداد ودمشق والقدس والقاهرة وقرطبة واشبيلية وكأنها المهود الأولى للآمال التي أثمرت فيما بعد في رحاب القارة الأوروبية.

      في معرض حديث المؤلف عن مدينة القدس يتحدث عن شخصية صلاح الدين الأيوبي بطريقة فيها الكثير من «التعاطف» بعيدا عن «الكليشيهات» السائدة. ويصف هذا القائد المسلم ، أنه كان شديد الورع والتقوى، إلى جانب كونه فارسا ومحاربا «لا يشق له غبار»، إذ كان قد قهر الصليبيين وخلّص مدينة القدس منهم في عام 1187، لكن الدماء لم تسل حسب الشهادات التي يقدمها المؤلف ممن عايشوا أو عاشوا تلك الأحداث.

      وكان صلاح الدين قد حرص على استخدام العقل والحكمة في نقاش شروط الاستسلام مع الصليبيين وأبدى استعداده لقبول فديات مالية عن الأسرى. ولم يتردد في أن يقوم هو نفسه بدفع ما هو مطلوب عن حوالي ثلاثين ألفا من الأسرى «الفقراء» واختار مائة ألف من المسيحيين في الشرق طريق المنفى حيث اصطحبوا معهم جميع ممتلكاتهم.

      ويؤكد المؤلف في تحليلاته على حرص ملوك وخلفاء المسلمين أنفسهم على التزود بأكبر قدر ممكن من العلوم والمعارف، بل ويذكر أن السلطان سليمان الأول كان يقرض الشعر، الأمر الذي أثبته عبر تقديم مقاطع من قصيدة له حصل عليها من إحدى المخطوطات النادرة القديمة.

      تتمثل إحدى النقاط التي يؤكد عليها مؤلف هذا الكتاب في القول إن «التركة العلمية والفكرية» الكبيرة لكبار علماء العالم الإسلامي ومفكريه. جرى «تمثّلها»، بالتالي المحافظة عليها، من قبل الثقافة الأوروبية، هذا في الوقت الذي نسيها فيها إلى حد كبير المسلمون. و«نسيت» أوروبا لاحقا هذا الإرث، بل إنها اعتبرته جزءا من تراثها بعيدا عن «نسبه» الأصلي.

      ويتم التأكيد في هذا السياق على أهمية التذكير بتلك الحقائق كي يفهم الجميع الانتماء للمسيرة المستمرة للعقل الإنساني وللتعريف أن العالم ليس عبارة عن جزر منفصلة عن بعضها البعض. على قاعدة مثل هذا الفهم للتاريخ يمكن للسلام أن يصبح ممكنا بين مختلف حضارات العالم وشعوبه. «فالنزعة الإنسانية» هي ذات منشأ إسلامي في الأصل.

      وتتم الإشارة في أكثر من موضع في هذا الكتاب إلى أن الجهل بالدور الكبير الذي لعبه العلماء والمفكرون والمبدعون المسلمون في شتى المشارب والمجالات في انبثاق عصر النهضة الأوروبي، ليس محصورا بالأوروبيين، الذين قد يتجاهلونه عن سابق إصرار وتصميم، وإنما أيضا من قبل الأغلبية العظمى من المسلمين أنفسهم.

      ولعلّ أكثر الفترات ازدهارا، ولكن أيضا أكثرها جهلا وتجاهلا في الوقت الحاضر، هي فترة الوجود العربي ـ الإسلامي في اسبانيا التي كانت فترة «برّاقة» على الأصعدة العلمية والاقتصادية والأدبية والفلسفية والفنية. تجدر الإشارة إلى أن المؤلف يتعرض كثيرا في شروحاته لأفكار ابن خلدون وابن رشد اللذين كان لهما تأثير كبير على مدى حوض البحر الأبيض المتوسط بأكمله. أما الاسم الأكثر ترددا في مجال الإبداع الفني فهو زرياب.

      في المحصلة يمكن اعتبار كتاب «التاريخ الضائع» بمثابة صلة الوصل الغائبة، أو المغيّبة، في العلاقة بين العالم الغربي والعالم العربي ـ الإسلامي اليوم، العلاقة التي يسودها الحذر وسوء الفهم. الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك كان قد تحدّث ذات مرّة عن «جذور أوروبا الإسلامية بمقدار ما هي المسيحية».

      *الكتاب:تاريخ ضائع - التركة الدائمة للعلماء والمفكرين والفنانين المسلمين

      *الناشر:ناشيونال جيوغرافيك واشنطن 2007

      *الصفحات: 320 صفحة من القطع المتوسط

      Lost history, the enduring legacy of muslim scientists, thinkers and artists

      Michael H. Morgan

      National Geographic Washington 2007

      P.320

      تعليق

      • محمد زعل السلوم
        عضو منتسب
        • Oct 2009
        • 746

        #4
        كتاب- التاريخ الضائع-الحلقة(4)

        كتاب- التاريخ الضائع-الحلقة(4)
        كتابات ابن رشد تحفز العلماء الأوروبيين على تعلم العربية
        تأليف :مايكل مورغان



        يتناول المؤلف في هذه الحلقة العصر الذهبي للمسلمين في الأندلس، حيث ينقل لنا مساهمات علماء المسلمين في ذلك الزمان في مسيرة الحضارة الإنسانية، ويخص بالذكر علماء اشتهروا ولمعوا من خلال أعمالهم التي ترجمت إلى اللغة اللاتينية مما أتاح المجال لعلماء الغرب كي يطلعوا عليها.

        ومن هؤلاء المجريطي والزرقالي والبطروجي وابن رشد والطوسي، الذين قدموا للعالم خلاصة علوم الحضارات السابقة من اليونانية والفارسية إلى الرومانية والهندية والصينية، هذا بالإضافة إلى ما قدموه هم أنفسهم من تصحيح لبعض المفاهيم الخاطئة وما توصلوا إليه من خلال البحث والاكتشاف العلمي. يحدثنا المؤلف أيضاً عن شغف العلماء الغربيين بتعلم اللغة العربية من أجل الاطلاع على علوم العرب من منبعها.

        تضم شبه جزيرة أيبيريا كلا من أسبانيا والبرتغال. وعلى أرضها الواقعة جنوب غربي أوروبا، قامت الدولة الإسلامية الزاهرة تحت اسم الأندلس. تحوي شبه الجزيرة سهولا وهضابا ويشق أرضها الخصيبة عدد من الأنهار والجداول فضلا عن منابع المياه التي تجري في الوديان الثرية بالشجر والثمر والطير،

        وبالشِعْر أيضا. وعندما كانت الأندلس ـ أسبانيا الإسلامية ـ تتكلم العربية كان أهلها يطلقون على نبع المياه وموقع انسيابها اسم مجريات المياه. وقد حرفوها من باب التسهيل إلى كلمة «مجريت» وهو الاسم الذي ما زالت تحمله حتى اليوم عاصمة دولة أسبانيا، ولكن مع تحريف تّم بالطبع عبر القرون لتصبح كما نعرف: مدريد.

        عند الموقع القديم لمدريد، يوم أن كان اسمها «مجريت» (أو مجريط) نشأ مسلمة المجريدي أو المجريتي (المجريطي كما عرفه العرب) ودرس علوم الأرض وبخاصة الرياضيات، وعلوم السماء وبخاصة الفلك، وكان ذلك خلال القرن العاشر للميلاد. وعندما ذاعت شهرته واعترف العلماء بنبوغه انضم إلى بلاط الخلفاء الأمويين حكام الأندلس في ذلك الزمن،

        وفي ظل هذه الرعاية استطاع أن يصحح الجداول الفلكية التي سبقه إلى وضعها أستاذ الرياضيات الخوارزمي وكان ذلك بعد رحيل الخوارزمي إلى دار الخلود بأكثر من 150 سنة. ورغم أن المجريطي عاش في أسبانيا المسلمة في أقصى الغرب

        فقد شغف بحضارة فارس في بلاد الشرق وابتدع ـ كما يقول مؤلف كتابنا ـ أسلوبا مبتكرا لتحويل الروزنامة التاريخية الفارسية إلى التواريخ الإسلامية مما أتاح لأول مرة إجراء حسابات دقيقة وتوقيتات وتحديدات مضبوطة لتاريخ ووقائع الحضارة الفارسية القديمة السابقة على الإسلام.

        العربية بوابة المعرفة

        يعزو المؤلف إلى هذا النابغة الأندلسي المسلم فضلا ربما لم يخطر له شخصيا على بال، لقد ذاعت شهرة دراساته في علوم الفلك والرياضيات وعبرت هذه الشهرة جبال البرانس الشمالية إلى حدود فرنسا ومنها إلى إيطاليا وسائر أنحاء أوروبا حيث ترجموا كتبه من العربية إلى اللاتينية وبعدها عرف مثقفو أوروبا فضل الرجل ومن خلاله أدركوا عظمة المساهمة الجليلة التي أسدتها الدولة والحضارة الإسلامية إلى أهل ذلك الزمان، من العصور الوسطى إلى فجر العصر الحديث.

        وإذن كان لا بد من الاطلاع على كل مجالات وإبداعات هذا التراث الإسلامي، وبالتالي كان حقا على كل مثقف يحترم نفسه في تلك الفترة أن يتعلم اللغة العربية، يأتي إلى قرطبة أو غرناطة أو أشبيلية أو غيرها كي يثقف لغة العرب وآدابها ويقطف ثمارها في مجال العلوم الإنسانية والتطبيقية على السواء.

        هكذا دارت عملية التفاعل في مجال المعارف الإنسانية، يعلق المؤلف في هذا السياق (ص 131) قائلا: بعد قرن من رحيل المجريطي عام 1006 للميلاد شهدت أسبانيا المسلمة قدوم أو نزوح الرهبان والمفكرين الكاثوليك وقد أخذهم ما يشبه السحر إزاء ما قدم العرب والمسلمون،

        وهكذا شاء القدر أن تكون أعمال المجريطي هي نقطة البداية للكثيرين، تفتح أمامهم أبواب هذا العالم، المجيد الحافل بالفكر والعلم والإبداع الذي شاده المسلمون في ميادين علوم الفلك والفلسفة والرياضيات، ولم يكن الأمر ليقتصر فقط على أن «سلفستر الثاني» وهو بابا فرنسي قد حرص على أن يدرس العربية في أسبانيا ويتعلم من مؤلفات المجريطي،

        بل امتد الأمر ليشمل شخصيات ورموزا عاشت في ذلك الزمان مثل إبيلار من مدينة باث وجيرار الكريموني وروبرت سستر وغيرهم كثيرين، تأكد حرصهم على دخول هذا العالم السحري المحفوف بالأسرار. وكان باب الدخول هو المجريطي الذي امتد عطاؤه، لا في مجال التنظير وحسب، بل شمل أيضا تطوير آلة ـ أو بوصلة الاسطرلاب

        لكي يوسع استخدامها بحيث لا تقتصر ـ كما أسلفنا في حلقة سابقة ـ على أغراض الملاحة البحرية بل استطاع العالم الأندلسي أن يضفي عليها تطويرات كي يستخدمها في قياس أبعاد الأراضي، وبهذا استطاع المجريطي، بالتعاون مع زميل له اسمه ابن الصفار،

        أن يدخلا أول تحسينات تقنية على طرائق قياس ومسح مساحات الأراضي منذ أيام الرومان، وهكذا لم يقتصر استخدام الاسطرلاب على تقسيم مساحات البساتين إلى بيارات غراس الزيتون والبرتقال والليمون بل امتد الاستخدام إلى تصميم حفر قنوات الري التي كانت لازمة لري الأراضي الشاسعة في أصقاع الأندلس.

        وجاء دور طليطلة

        مدينة أخرى ـ بخلاف مجريط أو مدريد القديمة قدمت نابغة آخر أضاف مْجدا إلى تكنولوجيا عصر الأندلس الإسلامية، المدينة هي طليطلة (توليدو كما تعرفها المراجع الغربية). ففي حي من أحيائها ولد أبو اسحق إبراهيم الزرقالي الذي سيعرفونه في المراجع اللاتينية باسم «ارزاشل» أو «أرزاكل»، وكان مولده في عام 1029 للميلاد ويدل اسمه ـ كما يشير المؤلف ـ على أنه من أسرة كانت تحترف الحفر على المعدن.

        لم ينتظم أبو اسحق في دراسة رسمية ولا جلس إلى حكيم يتعلم منه النظريات الفلسفية أو غيرها، بل نشأ تلميذا يتعلم من حرفة أبيه، ويستخدم مواهبه ونبوغه من أجل تطوير وتصنيع الأجهزة التي يمكن استخدامها لأغراض الضبط والتدقيق المطلوبين في البحث العلمي ـ التطبيقي أو الامبريقي على وجه الخصوص.

        طلبوا منه يوما أن يصنع جهازا يستخدمه العلماء الفلكيون، وعندما دقق في تصنيعه استرعى انتباههم فبدأوا يختبرون معارفه العلمية من باب التقدير والإعجاب، وما كان منه إلا أن ضحك قائلا في تواضع إنه لم يفتح كتابا في يوم من الأيام، وما كان منهم إلا أن توسموا فيه نجابة واستعدادا وشجعوه على معاودة الدراسة المنتظمة

        فإذا بصاحبنا يبدأ تلميذا ومتعلما في سن الحادية والثلاثين، متمثلا في ذلك القول الكريم المأثور في تراث الإسلام الذي يحض المسلمين على أن يطلبوا العلم من المهد إلى اللحد. سنتان عاد بعدهما الزرقالي وقد حصّل علوما ومعارف لدرجة أن أفسح له كبار علماء عصره مكانا ومكانة بين صفوفهم.

        رائد صناعة الساعات

        بعدها تخصص العالم الأندلسي في دراسة وتصنيع آلات ضبط الوقت. وكان بهذا رائدا مقتدرا ومشهودا بفضله في تاريخ صناعة الساعات. وفي عام 1062 للميلاد استطاع أن يصمم ويشيد الساعة المائية الأسطورية كما يصفها مؤلف كتابنا وقد اشتهرت في التاريخ باسم ساعة طليطلة التي لم تكن كفاءتها لتقتصر على تبيان ساعات الليل والنهار بل كانت تبين أيضا أيام الشهور الهجرية القمرية بكل أهميتها بالنسبة للمسلمين.

        يضيف المؤلف قائلا في هذا السياق: هذا الجهاز العجيب سيظل يؤدي مهامه في تحديد المواقيت حتى القرن الثالث عشر للميلاد، فيما تظل سيرة الزرقالي مرتبطة بعكوفه على إعداد وإصدار سفر جليل آخر حمل اسم «جداول طليطلة ويمثل واحدا من أدق حسابات البيانات الفلكية إضافة إلى إنتاجه واحدا من أوائل التقاويم في العالم باسم «كتاب الجداول» (وبالمناسبة يشير المؤلف بحق إلى أن كلمة تقويم - روزنامة في لغات العرب وهي «المناك» مستقاة من كلمة «المناخ» العربية).

        والمهم أن كتاب - تقويم النابغة الأندلسي جاء عبارة عن سلسلة من الجداول التي تتيح للمستخدم أن يحدد بدقة بداية الشهور الإسلامية والفارسية والرومانية والقبطية. كما أن الجداول ترصد وتتنبأ بكسوف الشمس وخسوف القمر وتسمح للمرء أن يحدد بدقة أيضا مواقع الكواكب في أي يوم من أيام السنة.

        نابغة أشبيلية

        ما زال المؤلف يواصل سياحته الفكرية في ربوع الأندلس الإسلامية ليتحول بالبحث من مدريد وطليطلة إلى أشبيلية، الحاضرة التي ارتبط اسمها بالوزير الشاعر المعتمد بن عباد الذي كان يأوى إلى مكان يعرف باسم «وادي الطلح» لكثرة أشجاره وصفاء ينابيعه وسجع حمائمه التي كانت تتخذ أعشاشها بين أفنانه وأغصانه.

        لا عجب أن يقول أمير شعراء العروبة شوقي إذ نفاه المستعمرون الانجليز إلى الأندلس في العقد الثاني من القرن العشرين مخاطبا الحمام في وادي الطلح: يا نائح الطلح أشباهٌ عوادينا

        نشجي لواديك أم نأسى لوادينا؟

        أشبيلية احتوت بدورها نابغة أندلسيا آخر اسمه نور الدين البطروجي ويعرفونه في المتون اللاتينية باسم «البتراجيوس». ولد في بلاد المغرب الأقصى بعد عقود قليلة من رحيل سلفه المجريطي ونزح إلى أشبيلية مفعما بكل ما وعاه من علوم المشارقة وإخوانهم المغاربة وفي مقدمتهم كان الحسن بن الهيثم رائدا لعلوم الضوء والبصريات،

        وبدوره استطاع تنقية وتصحيح أعمال ونظريات بطليموس مما شابها من أخطاء وما خالطها من أوهام وأساطير. وبدوره أيضا ترجمت أعماله العلمية إلى اللاتينية على يد باحث من اسكتلندا اسمه مايكل سكوت عاش وأنتج ترجماته في جزيرة صقلية إذ كانت تحت حكم المسلمين.

        المسلمون الموسوعيون

        ولأن أهل العلم في تلك المراحل العفيّة من تاريخ الحضارة الإسلامية كانوا موسوعيي النزعة بمعنى أن يجمع الفرد منهم بين دراسة الرياضيات والفلك، وأحيانا الطب والفلسفة وأحيانا بين هذا كله وبين التفقه في أحكام الشريعة وعلوم الدين، إلا أن واحدا منهم هو الأشهر من سلسلة العلماء المسلمين الذي يستعرض مؤلف كتابنا سيرتهم وعطاءهم الفكري: اشتغل بالفلك لكن شهرته وذيوع صيته ارتبطا أساسا بمجال الفلسفة،

        هنا يحدثنا مؤلف الكتاب في إكبار وإعجاب واضحين عن «أفيروس» كما يعرفه الأوروبيون حتى أيامنا هذه، وهو بالطبع فيلسوف الأندلس أبو الوليد ابن رشد المولود في قرطبة في عام 1126 لميلاد. ويقدم كتابنا لسيرته قائلا: يتمحور جوهر معتقداته حول منهج يدعو إلى حرية التفكير والتخلي عن المناهج التقليدية التي درج الناس على اتباعها، ومن ثم فقد عاود التركيز على عقلانية أرسطو، وبذلك لم يكن نهجه الفلسفي ليبعد كثيرا عن نهج مُعاصره في بلاد المشرق، عمر الخيام.

        ولكن تأثير ابن رشد الأندلسي المسلم كان عميقا لدرجة أن تأثر به إعلام عصره حتى من غير المسلمين وكان في مقدمتهم مُعاصره أيضا الفيلسوف اليهودي ابن ميمون ثم العلامة المسيحي توما الأكويني ويكفي أن يأتي في مستقبل الأيام رسام عصر النهضة رافاييل لكي يضمه إلى لوحة «مدرسة أثينا» عن حكماء الدنيا وباعتبار ابن رشد واحدا من أعظم فلاسفة الإنسانية عبر التاريخ.

        عرف ابن رشد كيف يحدق به الخطر وكيف يقارب حافة المخاطرة، شأن أي مفكر جسور يجرؤ على تحدي التقليد ويرفض مجاراة العرف القديم المتبع، في عصره تعرض لنقد لاذع من العلماء المحافظين (ولا يزال هناك من يأخذ عليه بعضا من أفكاره وطروحاته) وكان أن فارق قرطبة إلى مراكش وخاض مناظرات شتى في مواجهة ناقديه وحاسديه ومنافسيه لكنه نجح في الانقطاع للفكر والتأمل والتدوين،

        رغم أن عصره كان حافلا بالمتقلبات والاضطرابات. ومن خلال شروحاته المسهبة وتعليقاته الضافية وإضافته النقدية المستنيرة إلى كتابات المعلم الأول أرسطو ـ كما يسمونه، فقد دخل ابن رشد تاريخ الفكر الإنساني تحت اسم «المعلم الثاني اعترافا بفضل مفكر مسلم مستنير من بلاد الأندلس.

        وبدوره ترجمت أعماله إلى اللاتينية فكان أن حفزت العلماء الأوروبيين على تعلم العربية من أجل اكتشاف المنبع الأول والأصول الأساسية لهذا الفكر المستنير، وكان أن عبرت أفكاره مع غيره من بناة الحضارة الإسلامية جبال البرانس فاجتازت بذلك حدود فرنسا ومنها إلى سائر أصقاع أوروبا.

        وما أن وافى القرن الثالث عشر حتى رصد الملك الفونسو الحكيم بندا ماليا خاصا لترجمة أعمال هؤلاء المفكرين المسلمين وفي مقدمتهم الحسن بن الهيثم إلى الأسبانية، ومن ثم كانت ترجمة هذه الأعمال إلى اللاتينية لدرجة أن ظل علماء الفلك وأساتذة الرياضيات يتسابقون ـ كما يؤكد المؤلف ـ على اقتناء ولو نسخة واحدة منها.

        عصر النهضة في أوروبا

        رحل ابن رشد قبل نهاية القرن الثاني عشر بسنتين، وجاء القرن الثالث عشر ليشهد تأثيرات الفيلسوف الأندلسي المسلم ومعه تلك الكوكبة التي عرض لها مؤلف كتابنا فيما تناولناه من فصول، جاء ليشهد الخيوط الأولى من بزوغ شمس المرحلة الجديدة التي تسلمت فيها قارة أوروبا مشاعل الحضارة الإنسانية، مرحلة عرفت حرفيا بأنها «الرينسانس» بمعنى الميلاد الجديد، وبمعنى انبعاث ـ استعادة التراث الإنساني النفيس الذي أودعته في ذاكرة الإنسانية حضارة اليونان الإغريقية ثم حضارة الرومان اللاتينية.

        وما كان لهذا التراث أن يبعث ويحيا من جديد كي يشكل الأساس الوطيد لنهضة أوروبا بعد ظلمات القرون الوسطى لولا أن حافظ على أضواء هذه المشاعل الحضارية علماء ومفكرو وفلاسفة ومترجمو العالم الإسلامي على امتداد فترة زمنية طويلة ومباركة وحافلة بدأت في مطالع القرن التاسع وامتدت حتى القرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد.

        وإذا كان المأمون العباسي قد أمر ببناء مراصده الفلكية الرائدة سنة 829 ميلادية في بغداد العراقية وفي تدمر السورية وغيرهما فقد امتد شغف المسلمين بعلوم الفلك. ورغم ما مر على العالم الإسلامي بعد ذلك من مواجهات ومحن ليس أقلها غزوات الإعصار المغولي المنطلق من أواسط آسيا فقد استجمعت الحضارة الإسلامية إرادتها وطاقاتها فإذا بعام 1259 يشهد بناء أكبر مرصد فلكي في عالم ذلك الزمان على الإطلاق

        وهو الذي أشرف على تصميمه وتشييده محمد بن الحسن الطوسي المولود في عام 1201 وقد عاش الرجل بدوره وسط دوامات النوائب التي حاقت بالعالم الإسلامي، وتحوي سيرته الشخصية عددا من المآخذ والسلبيات. بيد أن الذي بقي منها هو جوانبها الفكرية كعالم ضليع في مجال الفلك والهندسة والرياضيات بشكل عام مع نهج مبتكر اتبعه الطوسي في مجال التأثر العلمي والتفاعل مع ثقافات الأمم الأخرى.

        وبينما ظلت الحضارة الإسلامية منذ عصر المأمون تتأثر وتفيد من منجزات الحضارات القديمة في الهند وفارس واليونان والرومان، تطلع الطوسي إلى آماد وآفاق أبعد وربما عبر طريق الحرير القديم عبر آسيا فكان أن أفاد كثيرا من منجزات حضارة الصين.

        شغف مقدس

        رغم الظروف السلبية التي أحاطت بالطوسي، إلا أنه استطاع مع تلاميذه ومساعديه مواصلة مسيرة العلم والبحث ـ منطلقين من هذا الشغف المقدس بالتأمل الموضوعي في آلاء الكون وعبقرية خلقه بحيث ارتبط اسمه بجعل حساب المثلثات علما قائما بذاته في مضمار الرياضيات، وبحيث استوفى بحوثه من الهندسة في مجال الزاوية القائمة فضلا عن بحوث أخرى عن خواص الفلزات ونظرية التلوين وكتابات أخرى في علوم الطب وفي الفلسفة والأخلاقيات.

        صحيح أن إيقاع الحوادث وتحولات الزمان بدأت تصيب بسلبياتها كيان العالم الإسلامي، إلا إن التاريخ ما زال ينصف كل هذه الإسهامات والاجتهادات، يعلق مؤلف كتابنا (ص 149) قائلا: رغم أن بغداد اجتاحها إعصار التتار. ورغم أن القاهرة بدأت في زمان الطوسي ومعاصريه تشعر بالقلق خشية من غزو مغولي ثاني يأتي ليعصف بالحضارة والتقدم.

        ورغم كيان الأندلس الذي كان يتهاوى في ظل دويلات الطوائف ويترنح تحت ضربات أوروبا التي كانت تستعد لاستردادها بعد قرون من الحكم الإسلامي، ورغم أن فارس أصبحت في ذلك الحين خاضعة للنفوذ المغولي، إلا أن الطوسي سيظل له فضل الاستمرار رغم كل هذه المحن،

        منطلقا من إصرار عجيب على أن يواصل مسيرة العلم والبحث الإسلامي، بحيث ظل متوهجا ونافعا ومثابرا ومجتهدا في مباحث وتخصصات شتى، إلى أن حان الأجل وآذنت ساعة الرحيل - شأنه في ذلك شأن النجم الذي كان قد شاهده متوهجا الباحث المصري الشاب ابن رضوان من منارة مسجد الحاكم في القاهرة ثم ما لبث أن عاينه وقد خبا ضياؤه بعد أن طوته الآفاق وكان ذلك كما أسلفنا من قبل في سنة 1006 للميلاد.

        عرض ومناقشة: محمد الخولي

        تعليق

        • محمد زعل السلوم
          عضو منتسب
          • Oct 2009
          • 746

          #5
          كتاب- التاريخ الضائع-الحلقة(5)

          كتاب- التاريخ الضائع-الحلقة(5)
          قرطبة تتحول إلى عاصمة للحضارة الإنسانية في غرب العالم
          تأليف :مايكل مورغان



          يتناول المؤلف في هذه الحلقة سير وانجازات من برزوا من المسلمين في مجالات الابتكار والاختراع في بلاد الأندلس إبان فترة الازدهار التي رعاها الأمراء من بني أمية، حيث يشير إلى أن هذه الفترة شهدت نهوضاً في كل شيء إلى درجة الاهتمام بفنون الذوق وأصول وآداب الطعام وفنون اللبس والزينة، الأمر الذي جعل قرطبة، حاضرة الأندلس.

          تتحول من بلدة صغيرة إلى واحدة من أكبر المدن في أوروبا يتميز الناس فيها بأخلاقهم وأدبهم ولباسهم وسلوكياتهم الراقية التي تنم عن ذوق رفيع وتهذيب عال. ويشير كذلك إلى مساهمة العلماء المسلمين في تحقيق حلم الطيران من خلال تجارب ودراسات بل ومحاولات جريئة قام بها علماء مثل عباس بن فرناس في قرطبة والتركي أحمد جلبي في اسطنبول.

          المخترعون والمبدعون المسلمون، هم موضوع الفصل الخامس من هذا الكتاب. في بداية الصفحات يعترف المؤلف بأن كثيرا من الوثائق والأسانيد التي تتناول الشأن العلمي وسير الأساتذة المسلمين الذين نبغوا في مجال العلوم التطبيقية ـ الكيمياء، الطب، الهندسة، الفيزياء وما في حكمها ـ هذه الوثائق ضاع منها الكثير،

          بل وتعّرض بعضها للإخفاء أو التدمير المتعمد أو حتى للتدليس والتزييف، من جانب الخصوم الذين أرادوا أن يضنّوا بالاعتراف الموضوعي بعناصر الإبداع والابتكار والنبوغ التي ازدهرت في ظل الحضارة الإسلامية. مع هذا كله، فقد حاول المؤلف الأميركي أن يتابع قراءاته التحليلية لما بقي من مراجع تشهد بالتقدم الإسلامي في عصور التفتح والاستنارة والازدهار.

          زرياب في الأندلس

          ها هو ينقلنا بعدسة التاريخ إلى قرطبة، العاصمة الأندلسية الزاهرة. في سنة 852 للميلاد كانت قرطبة قد بلغت من الحضارة والتقدم والازدهار شأوا جعلها تنافس بغداد العباسية، عاصمة الإمبراطورية المسلمة سواء بسواء. بل كانت كما يصفها مؤلفنا أكبر مدن أوروبا في ذلك الزمان وأهمها تقدما من ناحية العلم والتكنولوجيا في منتصف القرن التاسع الميلادي.

          ها هي قرطبة تصعد إلى مستوى من الرقي والتجديد على نحو لم يكن متاحا بالنسبة لأي مدينة أخرى في طول القارة الأوروبية وعرضها: موسيقى جديدة، طراز معماري غير مسبوق يجمع بين عناصر الجمال وبين إمكانات المنفعة وخدمة الإنسان، بل أن هذا الجمال لم يكن مجرد زخرفة

          ولا تزويق: إنه روعة في التصميم والتشييد في فن البناء بحيث استقطرت كل ما أبدعته حضارات الإنسان التي سبقت في التاريخ، ما بين أكروبول الإغريق وأعمدة الرومان، وروحانية الوجدان الإسلامي وخاصة في تشييد المآذن والمحاريب والمنارات مشرعة كأنما تتضرع إلى خالق الأرض والسموات،

          هذا فضلا عما انعكس في سلوك أهل قرطبة وما حولها من ذوق رفيع ورقي مشهود في آداب المائدة وفي معاملات الأسواق، حيث يعود كثير من الفضل ـ كما يذكر مؤلف كتابنا (ص 155) إلى ما استقبلته الحاضرة الإسلامية الشهيرة من فنون الذوق ورقي السلوكيات وأعراف التمدين وإبداعات الموسيقى والتصرف ـ الاتيكيت كما قد نسميه.

          وكله جاء من بغداد على يد رجل قدم أيامها من عاصمة هارون الرشيد فاستقبلته قرطبة عاصمة الأمويين الأندلسية وأكرمت وفادته وتعلمت من عطائه وكان اسمه أبو الحسن علي ابن نافع، وإن كان التاريخ الإسلامي،

          بل وتاريخ أوروبا ذاتها يعرفه باسم ذاعت شهرته منذ ذلك الحين في الأقطار والأمصار: زرياب يصفه مؤلف الكتاب في العبارات التالية: كان زرياب رجلا متعدد المواهب، استطاع البلاط الأندلسي أيامها أن يجتذبه أو يستأثر بنبوغه، فوجّه إليه الدعوة لزيارة قرطبة، وجعل له مرتبا سنويا يصل إلى نحو 1200 دينار من الذهب

          إضافة إلى عطايا وهدايا في المواسم والأعياد الإسلامية، ثم وهبوه دارة فاخرة لسكناه في رياض قرطبة الخضراء ومعها «عدد من الفيللات» لسكنى أتباعه وتلاميذه ومعاونيه، هكذا تحولت حياة زرياب من موسيقار ينتمي إلى طائفة الموالي التابعة في البلاط العباسي ليصبح وجيها أمثل في موطنه الأندلسي الجديد، وكانت حياة واعدة وكان عطاء مبشرا بكل معنى. يضيف المؤلف قائلا في السياق نفسه:

          من هنا تفرغ زرياب كي يعلم الناس كيف يلبسون وكيف يطبخون وكيف يعزفون الموسيقى.

          ومن هنا أيضا نقول في معرض التعليق: أن الحضارة الإسلامية بدأت تتعلم وقتها، ومن ثم آثرت أن تعلّم الناس، والتاريخ أيضا، معنى أن يرتفع الإنسان عن مجرد تلبية احتياجاته أو إشباع غرائزه الأساسية، يرتقي البشر من كائنات تدب فوق ظهر الأرض ليصبحوا عقولا وقرائح مبدعة وملكات خلاقة ويتحول بهم الأمر من مجرد الأكل إلى الطعام،

          ومن مجرد العيش إلى الحياة، ومن مجرد الثوب إلى الزي، وبهذا أصبح الجلوس إلى المائدة فنّا، وأصبح ارتداء الثياب فنا وأصبح الإصغاء إلى الموسيقى وعزفها إبداعا للتعبير عن خلجات النفس وارتقاء بمشاعر الإنسان وليس مجرد تعامل مع الآلات أو إرسال النغمات لإزجاء الفراغ أو لإرضاء مجالس البلاط أو نيل العطايا من التمدح بمآثر السادة.

          وهنا أيضا يعاود المؤلف حديثه فيقول: هكذا تطلع القرطبيون أيامها إلى زرياب الموهوب القادم من عاصمة إمبراطورية الإسلام، وظلوا يقلدون، يحاكون ويتابعون ما جاء به زرياب في مجالات تجمع بين تفصيل الملابس لزوم حسن الهندام إلى تسريحة الشعر لزوم حسن السمت إلى طريقة الكلام، نطق الحروف واختيار الألفاظ،

          و سبك العبارات من أجل موافقة الكلام لمقتضيات الأحوال، سواء من حيث الظروف السائدة من حولنا، أو مقام الشخص الذي تخاطبه، أو طريقة التعبير عما يدور بين جوانحنا من مشاعر وسكنات وخلجات.

          بلغ الأمر أن تعلمت حرائر قرطبة ـ وحسناواتها طبعا ـ معنى أن يكون هناك دار متخصصة في فنون زينة المكياج وأساليب التجميل وكانت أول دار شهدها العالم من قرطبة تخصص لهذا الغرض حيث أمر زرياب بتزويدها بأنواع مبتكرة من العطور والمساحيق والدهون.

          اكتشاف معجون الأسنان

          ولم يقتصر الأمر على النساء بل وجه زرياب اهتماماته في مجالات الذوق والصحة والرقي إلى الرجال أيضا. فكان أول من أشار على رجال قرطبة بأهمية استخدام معجون الأسنان (وربما فات المؤلف هنا الإشارة إلى أن المعلّم الأندلسي، العباسي سابقا

          كان يصدر في هذا الصدد عن تعاليم إسلامية راسخة تحض الناس على استخدام السواك لتنظيف الفم، وتحث المصلين على أن يراعوا زينتهم بمعنى قواعد النظافة الشخصية، واللياقة الاجتماعية واستخدام الطيب المعطر عند أداء الصلوات الجامعة على وجه الخصوص).

          باختصار يوضح المؤلف أيضا كيف عمل زرياب كذلك على تطوير عزف العود (ومن ثم كانت موسيقى الأندلسيات التي ما زالت تشنف آذان أهل الشرق والغرب وما برحت تترامى إلى أسماعنا من معزوفات التراث الأصيل الجميل عند أهلنا في المنطقة المغاربية العربية،

          ما بين تونس إلى المغرب الأقصى) وفي هذا المضمار من فن الموسيقى كان زرياب هو الذي أضاف الوتر الخامس للعود وكأنه وضع أولى لمسات تطويره إلى آلة الجيتار كما يعرفها الغربيون في موسيقاهم المحدثة ـ والمعروف أن ثمة نسبا مشتركا بين كلمة الجيتار (بالجيم القاهرية غير المعطشة) وكلمة القيثارة في قاموس لغتنا العربية.

          أخيرا يحاول مؤلفنا الأميركي أن يختصر في عبارة موجزة سيرة زرياب فيقول: هذا رجل استطاع أن يبث روح التجديد والابتكار في أوصال الحياة اليومية للناس منذ أن وطئ المسلمون أرض الأندلس. وبهذا تحولت قرطبة على يديه، إلى عاصمة الإسلام في الأصقاع الغربية، بعد أن كانت مجرد بلدة يعيش فيها القوط الغربيون بكل خشونتهم وشظف حياتهم إلى حيث أضحت قرطبة مكانا لأحدث الموضات وأفضل العادات الراقية وأسلوب الحياة الرفيع.

          الهبوط بالمظلة

          عند هذه النقطة يزيح المؤلف ستار الأحداث في ميدان الجامع الكبير بمدينة قرطبة بكل ما عرض إليه من رقيها وأذواقها وتجديد أسلوب حياتها وسلوكيات ساكنيها، كان ذلك بالتحديد عام 832 للميلاد، امتلأ ميدان الجامع القرطبي بالبشر ولوحظ أن الجميع يتطلع بالنظر إلى أعلى وبالتحديد إلى المئذنة الشامخة التي تعلو مبنى المسجد الكبير.

          كانوا يتابعون ـ كما يوضح المؤلف ـ حركة رجل رقيق الجسم ماثلا محل المؤذن في منارة الجامع. همهمات تسري وسط الجمع الحاشد، ليس هذا هو المؤذن الذي نعرف، وكم أصغينا إلى نبرات صوته مؤثرا، وخاشعا وهو يسري في عذوبة روحانية مع شفق الغروب أو عند أنفاس الصبح أو في رائعة النهار داعيا المؤمنين إلى أداء الصلوات.

          هذا رجل غريب عن المكان، أتراه يريد أن يلقي بنفسه من حالق كي ينتحر؟ مع الهمهمات كانوا يرددون اسم الرجل الغريب، اسمه فرمان، يرتزق من ركوب المخاطرات العجيبة والمغامرات التي لا يقدر عليها أحد، وها هو يتهيأ للقفز في الهواء من حالق المئذنة، انتظارا لمكافأة رصدها الميسورون من سادة المدينة وعندما حانت لحظة الهبوط فتح فرمان ما بين ذراعيه،

          ولاحظ المجتمعون شيئا أقرب إلى الأجنحة، كان يرتدي حلة من ثياب مصممة بشكل خاص، وعندما قفز انفتح نسيج الثياب وطوفت في الهواء فإذا بها تؤدي إلى إبطاء الهبوط إلى حيث سيطر المغامر على نزوله إلى سطح الأرض بغير صدمة شديدة أو ارتطام يودي للهلاك. صحيح أنه أصيب برضوض إلا أنه ظل على قيد الحياة مسيطرا على أعصابه دون غشية أو إغماء.

          يعلق المؤلف على المشهد القديم: هكذا قيض للقرطبي فرمان أن يقوم بما يمكن وصفه بأنه أول قفزة بالمظلة (الباراشوت) في التاريخ رغم أن تعبير الباراشوت سيظل بعيدا عن الاستعمال على مستوى العالم على مدار ألف سنة بعد ذلك. ولكن فرمان الأندلسي لم يكن يهمه، لا المصطلح ولا العلم ولا التاريخ: كان همه منصبا على شيء واحد، أن يحصل على مكافأة مالية تعينه على مطالب الحياة.

          ملاحظات السيد عباس

          رجل آخر كان يتأمل الحادثة وسط هذا الجمع الحاشد في قرطبة، ويستخرج منها عبرة من نوع مختلف تماما، كان مشتغلا بالعلم والتجارب العلمية ولهذا انتزع نفسه من مختبره البحثي، لكي يشاهد حادثة التحليق في الهواء، وكان اسمه عباس بن فرناس.

          بدأ حياته تلميذا لزرياب في البلاط الأندلسي. لكنه عند منتصف العمر شرع يوجه اهتماماته إلى مجال آخر بخلاف الأوتار وآلات العزف والإيقاع، وتركزت اهتماماته على الماكينات وآلات ضبط الوقت وخواص الزجاج وبلورات الكريستال،

          فضلا عن اهتمام ولو فرعي بعلوم الفلك ورصد الكواكب ومتابعة حركة النجوم في المجرات، في مختبره العلمي استطاع أن يصطنع طريقة لتذويب الرمال وصنع أكواباً وأقداحاً من الكريستال الفاخر لاستخدام بلاط الخلفاء.

          ومن هذا المجال توصل أيضا إلى صنع عدسات رقيقة لاستخدامها في أغراض شتى من احتياجات العلم والصناعة فحتى زمانه كان الأسبان لا يعرفون سوى أقداح وأكواب من خشب بدائي أو من معدن غير مصقول وأحيانا من جلود الحيوانات.

          أول طيران في التاريخ

          مع هذا كله كان القدر يهيئ له اهتماما من نوع غير مألوف، هكذا بدأ عباس بن فرناس يقرأ عن محاولات الأقدمين التحليق في طبقات الفضاء، أمضى الساعات الطوال يقرأ في تواريخ الحضارات الغابرة ـ أساطير تحكي عن ديدالوس وإيكاروس ومن في حكمهما من رواد الحضارات القديمة الذين غامروا بمحاولات الطيران.

          وها هو ابن فرناس يقف في ركن من ساحة جامع قرطبة الكبير، يرقب مغامرة فرمان ويتابع الرجل على صهوة المئذنة فيما يحاول ابن فرناس أن يخفي وجهة عن جموع الناس، فكيف له، وهو أستاذ العلم الضليع وصاحب المخترعات والدراسات الفريدة وصديق كبار القوم في البلاط الأندلسي،

          أن يسمح لنفسه بمشاهدة مغامرة شبه مجنونة يقدم عليها رجل لا يبالي بشيء سوى بضعة دنانير لزوم الارتزاق؟ وعندما هبط أول مظلي (أندلسي) في التاريخ كانت عيون ابن فرناس ترمقه وتعاين الرضوض التي أصابته ـ ولكن كانت الحاسة النقدية ـ الملاحظة العلمية تقول بأن المغامر أصيب بالأضرار .

          لأن مظلته لم تكن دقيقة التصميم، لحظتها راحت أفكاره تسترجع تحليقات ديدالوس وابنه إيكاروس من أيام الزمن الإغريقي القديم فوق بحر أيجه، وبعدها سرح خياله متصورا إمكانية أن يطير بشر مثله محلقا في فضاء الله المنبسط الفسيح.

          هذه الأفكار، والتصورات لم تكن سهلة، ولا كان تحقيق حلم الطيران ميسورا ولا بسيطا، استغرق الأمر 23 عاما قضاها ابن فرناس، كما يبين مؤلف الكتاب، في التفكير والبحث ووضع التصاميم، كان قد شارف السبعين من العمر إلى أن جاء ذلك اليوم المشرق من أيام قرطبة الزاهرة في عام 875 للميلاد وقف عباس بن فرناس على قمة تل من روابي المدينة يطل على جمع الأصدقاء والزملاء من الدارسين والعلماء ومنهم من هو شغوف.

          ومنهم من هو متشكك، أو مشفق على التجربة الرهيبة التي سيخوضها على مشهد منهم عالم قرطبة الكبير، كان قد أمضى السنوات الثلاث والعشرين يرقب ويدرس خواص الطيور وقوانين حركتها وتوازن أجنحتها وقدرتها على الطيران منسابة في أركان السماء، واصطنع بذلك جناحين ضخمين يناسبان جسم الإنسان،ثم ها هو يفردهما

          ويحلق بهما تحت أنظار الجمع الغفير: كم خفقت القلوب إعجابا أو دهشة أو إشفاقا فيما شاهدوا عباس ابن فرناس محلقا في الفضاء، طائرا «بشريا» تستغرق رحلة طيرانه من فوق التلال نحو عشر دقائق وتطالع عيناه في لمحة خاطفة انبساط الوادي من تحته تتخلله مآذن قرطبة الجميلة وقلاعها ومساكنها وأبراجها،

          ها هو حلم الطيران يتحقق على يد إنسان مسلم يشتغل بالعلم والتجربة والصناعة ويراوده الأمل الطموح أيضا، أقترب ابن فرناس في طيرانه من الأرض خلال عملية الهبوط، لكن ما بال الأرض تقترب بسرعة مخيفة!، هكذا ارتطم بها جسده المثقل تحت وقر السنوات السبعين وها هو ملقي فوق الثرى، كأنما تحيط به ظلمات من الألم والمرارة حين سأله الرفاق المشفقون: أبا عباس: هل ما زلت حيا؟

          أنا على قيد الحياة، الحمد لله.

          هل أصابك الألم؟

          كلي آلام.

          نعم آلام التجربة ظلت تصاحبه على مدى 12 عاما هي كل ما تبقّى من العمر، ورغم قسوة الألم فقد كان طعم المرارة أقسى، ظل يفكر ويتأمل في عبرة التجربة الرائدة، وربما كان غاضبا من نفسه، من قصور نظرته، وكان لسان حاله يقولها نطقا أو تفكرا خلال تلك الأعوام الاثنى عشرة. لقد صمّمت الجناحين فكان أن حلقت بهما كالطير في السماء، لكنني ارتطمت بالأرض لحظة الهبوط لأني نسيت أن أصمم الذيل أسوة بالطيور، فما أشد قصور الإنسان!

          تجربة إسلامية من تركيا

          بهذه التجربة، الرائدة بكل معنى، دخل عباس بن فرناس سجل التاريخ، وانقضى من سنوات هذا التاريخ 755 عاما إحصاءً وعداً لكي يعاود محاولة الطيران رائد آخر جاء ليؤكد بدوره ما يتمتع به العقل المسلم من ملكات الإبداع، هنا ينتقل بنا المؤلف عبر الزمان إلى سنة 1630 وعبر المكان إلى برج غلطة في اسطنبول على ضفاف البوسفور، الرائد المسلم هذه المرة اسمه أحمد جلبي من عائلة عريقة في مضمار الدرس والبحث العلمي ،

          تابع بدوره تراث من سبقوه في علوم وتجارب الطيران، من ابن فرناس الأندلسي إلى ليوناردو دافنشي الإيطالي. وكان من الطبيعي أن يتعلم جلبي ـ الشاب التركي ـ من أخطاء أسلافه من الرواد ولهذا نجحت تجربته فكان أن حلق لمسافة ميلين،

          فاجتاز البحر الفاصل بين أوروبا وآسيا وسجل بذلك محاولة أخرى للطيران كانت ولا شك نموذجا يجسده الوجدان ويتواصل مع منطق التطور وسنن الحضارة، تمهيدا لكي ينسج على منواله مبدعون ومبتكرون آخرون.

          عرض ومناقشة: محمد الخولي

          تعليق

          • محمد زعل السلوم
            عضو منتسب
            • Oct 2009
            • 746

            #6
            كتاب- التاريخ الضائع- الحلقة(الأخيرة)

            كتاب- التاريخ الضائع- الحلقة(الأخيرة)
            المسلمون أحدثوا ثورة في العلم والحضارة باكتشاف الصفر والدورة الدموية
            تأليف :مايكل مورغان



            نختتم عرض هذا الكتاب بما أورده المؤلف من اعتراف بالفضل للحضارة الإسلامية ومساهمات المسلمين الأوائل من علماء ومفكرين ومبدعين ممن أخذوا برسالة الإسلام التي تدعو إلى العلم والبحث وتحض على التفكير والتدبر، وهو لا يتوقف عن الاستشهاد بالآيات القرآنية الكريمة التي يصدر بها فصول كتابه.

            وينقل للقارئ الغربي صوراً لإنجازات العلماء المسلمين في مجالات الطب والفلسفة والجغرافيا والفلك وغيرها من العلوم الأخرى التي كان للعرب والمسلمين الريادة فيها طوال قرون عديدة قبل أن ينتقل مشعل الحضارة إلى الغرب، الذي جحد للأسف هذا الفضل العربي والإسلامي بل وتجاهله وحاول تزييفه لأغراض الإساءة إليه.على مدار الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب يطالع القارئ صورا مرسومة بعين الخيال إلى حد ليس بالقليل لآباء الحضارة الإسلامية العربية العظام، ويطالع أيضا لقطات مستقاة ولا شك من أكبر المتاحف والمكتبات العلمية في الشرق والغرب وكلها تُلقي لمحات من ضوء كاشف على الأعمال ـ المؤلفات ـ الخرائط ـ الروائع ـ التصميمات العلمية.

            وما في حكمها وجميعها من إبداعات هؤلاء الرواد المفكرين ـ الفلاسفة ـ الأطباء ـ الحكماء ـ علماء الفيزياء والكيمياء وأساتذة الرياضيات، ومن في حكمهم من المبدعين والمخترعين والمكتشفين والمستكشفين ـ الجغرافيين، وكأن مؤلف الكتاب ـ الأميركي كما نعرف ـ يؤكد بهذه الصور والرسومات المقولة المحورية التي ذهب إليها بشأن ريادة الحضارة الإسلامية وتاريخها المنسي. وقد ظل يعالجها على مدى صفحات هذا الكتاب (300 صفحة)، هذا فضلا عما عمد إليه الأستاذ «مايكل مورغان» من تصدير كل فصل من فصول كتابه الثمانية بآية محكمة التعبير وبليغة الدلالة من آيات القرآن الكريم وكأنما يقصد أن يدخل بقارئ الانجليزية، إلى الأجواء الروحية والعقيدية التي أسبغتها رسالة الإسلام على حياة الإنسانية:

            علما ومعرفة، وسكينة وسلاما، وسلوكا يصدر عن منظومة من القيم العليا التي ترمي في نهاية المطاف إلى تقدم البشر وبناء الحضارة ضمن هذه الأطر المعرفية التي دارت على أساسها مقولات هذا الكتاب. وها نحن نقرأ الكلمات الطيبات في ترجمتها الانجليزية بطبيعة الحال:«وإذا مرضت فهو يشفين»، وقد اختارها المؤلف تصديرا للفصل الذي يتحدث فيه عن «الأطباء والمستشفيات في عالم الإسلام»، أما في الحديث عن المخترعين والمبدعين ورواد الطيران فنقرأ الآية الكريمة: «يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض، فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان».

            ثم نقرأ عند الحديث عن منجزات المسلمين الباهرة في علم الحساب والرياضيات قوله الكريم: «وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا» صدق الله العظيم.

            مسرد المصطلحات

            لا يفوت مؤلفنا في هذا السياق أيضا، أن يورد في أواخر الصفحات (295-296) معجما شديد التركيز لإطلاع القارئ غير المسلم وغير العربي، أو بالأحرى تذكيره.

            بأهم المصطلحات التي صادفها في سياق معايشته لأفكار الكتاب ومباحثه التي انتظمت مسالك شتى من الفنون والصنائع والمبتكرات التي أبدعتها الحضارة الإسلامية، وكأنما يعيد تنبيه القارئ بأهمية معاودة التفكر والتذكر لذلك التاريخ الحافل المجيد للمؤمنين برسالة محمد عليه الصلاة والسلام عربا وغير عرب.

            وهو نفس التاريخ الذي تحاول قطاعات وخصومات شتى أن ينساه الناس وكأنما تريد لو نسيت البشرية ردحا طويلا من زمان نهضتها وسفرا مجيدا من أسفار المدنية والحضارة التي أسهم بها الإسلام والمسلمون من أجل تقدم الإنسانية.

            حيث شيدت الحضارة الإسلامية جسرا مضيئا فكان أن عبرت عليه الإنسانية كي تصل فيها بين إبداعات اليونان والهند والصين والرومان وحضارات مصر وفارس وقرطاجنة وبلاد الرافدين والشام إلى أن تسلمت أوروبا مشعل الحضارة من يد المسلمين مع حلول عصر النهضة في القرن الخامس عشر، وقد تزود بوقود جديد وازدان برحيق متجدد بفضل إضافات المسلمين.

            من طارق إلى الخيام

            في ضوء هذا كله تتألق الصفحات بصور قادة ورواد منهم مثلا: طارق بن زياد فاتح الأندلس، وعمر الخيام الصوفي الشاعر والخوارزمي حكيم الرياضيات وابن سينا الذي يكتب المؤلف في تعليق على صورته «أنه كان في زمانه ـ القرن الحادي عشر ـ يعد أعظم الفلاسفة والأطباء» وأن كتبه ترجمت على نطاق واسع في الشرق والغرب على السواء.

            وفي ضوئه أيضا تتعدد أمام ناظري القارئ بالصور المنشورة ثمار حضارة الإسلام والمسلمين على نحو ما يقدمها الكتاب لقارئيه:

            ـ آلة الإسطرلاب التي ظل المبدعون المسلمون يضفون عليها التحسينات إلى أن ارتقوا بها لتصبح بوصلة بالغة الدقة في هداية السفن في أعالي البحار، وأيضا لتصلح أداة لمسوحات وقياس الأراضي، وتعّم فائدتها آفاق الدنيا حتى القرن الثامن عشر للميلاد.

            ـ مسجد قرطبة الكبير في أسبانيا الذي كان ـ كما يقول مؤلف الكتاب ـ من أكبر المساجد ودور العلم الجامعة في العالم الإسلامي بأعمدته الباسقة وطرازه المعماري الباذخ وزخارفه التي جمعت في آن معا بين أشواق الروح وإبداع الفن.

            ـ شكل الأرقام العربية التي اعتمدتها أوروبا حتى الآن برسمها المعروف الراهن، وكان استخدامها أقرب إلى الثورة الفكرية باعتبار أن كلا من تلك الأرقام العربية يمثل قيمة رياضية وحسابية في حد ذاته، وأن تلك القيمة العددية مجسدة في شكل هذا الرقم. استغنت بها أوروبا وحساباتها عن الأرقام الرومانية التي كانت تستخدم أسلوبا بدائيا في عرض القيم العددية.

            ـ صورة التصميم الذي وضعه البيروني عالم الفلكيات المسلم في القرن العاشر ويصور بدقة عليه حالة خسوف القمر حين تحجب الأرض عنه نور الشمس.

            ـ وصورة مستقاة من كتاب تزدان به الحضارة الإسلامية لأنه يدور حول موضوع المعرفة بالأجهزة والآلات الميكانيكية، هنا يبدع المسلمون في مجال التحول من النظرية إلى التطبيق، من العلم إلى التكنولوجيا كما قد نقول وهذا العمل الجليل بعنوان «كتاب في معرفة الحيل الهندسية» وقد صدر عام 1205 للميلاد من تأليف دافنشي العرب ـ المسلمين الذي حمل اسم الجزري المولود في منطقة ديار بكر بالأناضول وظل كتابه عن الآلات والماكينات، حافلا بعشرات التصاميم والرسومات والعروض البيانية العملية النافعة التي أبدعتها قريحته وكم ظل كتابه هذا حبيس المكتبات الخاصة على مدار قرون، وأن تسربت منه .

            ـ كما يقول مؤلفنا ـ رسومات وتصاميم عبر مناطق شرقي المتوسط إلى أسبانيا الأندلسية وعبر جزيرة صقلية إذ كان يحكمها المسلمون ثم تحول هذا كله إلى أوروبا فاستفاد منه علماؤها ومهندسوها في تصميم وتصنيع أحدث الآلات التي يستفيد منها الإنسان إلى أن أدركت الدوائر العلمية مدى نفاسة كتاب الجزري فتمت ترجمته ـ كما يوضح مؤلفنا (ص 172) في القرن العشرين.

            مخترع المضخة الحديثة

            من مخترعات هذا التكنولوجي المسلم تلك المضخة المبتكرة التي يحرص كتابنا على نشر تصميمها من واقع «كتاب الحيل الهندسية» المذكور ، وقد حرص المخترع المسلم على تزويدها بعدد من التروس والمكابس التي تلف حول عمود الدوران موصولا بالبدالات التي تؤدي إلى رفع المياه من النهر ليتدفق في مواسير خاصة ومنها إلى شوارع المدينة ومن ثم إلى ساحات البساتين وقنوات الحقول.

            تتوالى أيضا مشاهد الإبداع المعماري في ظل الحضارة الإسلامية، وإذا كان الغرب قد عمد جهلا أو تجاهلا، حسداً أو غيرة، رفضا أو تربصا، إلى محاولة طمس منجزات الحضارة الإسلامية ـ (ولا نبرئ مدخلات التحريض الصهيونية من هذا السلوك .

            وهو بالطبع ما لم يشر إليه مؤلف هذا الكتاب) ـ إلا أن المؤلف أحسن صنعا كذلك من خلال حرصه على أن يتوقف عند إبداعات المسلمين عبر اختلاف الأفكار والأمصار ولا سيما في فن المعمار، وتلك مبتكرات ومنجزات لا سبيل إلى إنكار روعتها ولا محل لتجاهل عظمتها، بحيث لا يمكن أن تصدق عليها مخططات التاريخ الضائع أو التراث الذي تعرّض للإنكار أو للنسيان.

            وإلى جانب مسجد قرطبة الكبير، وما برح أثراً جليلا يزوره السائحون في أسبانيا وتصب زيارته الملايين في خزائنها، نلمح مخططا لقبة الصخرة ومسجدها الذي يقول المؤلف أن تم إنجازهما عام 691 للميلاد في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وترجع الصورة المنشورة على صفحة 227 من كتابنا إلى عمل رائع من فنون الحفر ينتمي إلى القرن التاسع عشر، فيما يؤكد مؤلفنا أن هذا البناء المعماري الإسلامي الذي تمثله قبة الصخرة يعد أقدم صرح توقره جموع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

            وثمة صرح آخر ما زال قائما وشاهدا على روعة ودقة وجمال فن المعمار في دفتر الحضارة الإسلامية هو «تاج محل» الذي ينتمي إلى القرن السابع عشر وما برح رمزا لوفاء الزوج للزوجة وعظمة ورخاء دولة الهند في عصورها الإسلامية الزاهرة.

            ومع توالي هذه الصورة وتعدد الرسومات، تتعدد عبر الصفحات الأواخر من كتابنا أسماء ومنجزات رواد الحضارة الإسلامية الكبار في ميادين شتى من التخصصات وكلها من النوع الذي يمكث في الأرض وينفع الناس. وفي هذا الصدد أيضا ـ أحسن المؤلف عندما لم يقتصر في عرضه وتحليله على أسماء الرجال وأعمال الرواد، ولكن توسعت بوصلة اهتماماته لتضم ما يمكن أن نصفه بأنه الجانب المؤسسي من عظمة حضارة الإسلام ومآثر المسلمين. هذا الجانب المهم في مجال الطب والعلاج أصبح العالم يعرفه باسم المصحات ـ العيادات ـ المستشفيات.

            يقول المؤلف (ص 211 وما بعدها): عبر أجيال مضت، عاش أطباء المسلمين ورحلوا إلى دار البقاء، لكن بقيت المرافق والهياكل (المؤسسات) التي ظلت شاهدا على ما بذله هؤلاء الحكماء من جهود في ميدان علوم الطب وأساليب العلاج. والحق أن هذه المرافق ـ المؤسسات لم تكن معروفة من قبل في أي مكان آخر من العالم.

            ومن ثم كانت جديرة بان تجد من ينسجون على منوالها ويؤسسون مثيلات لها في مواقع أخرى، بعضها كان تصميمه أقرب إلى القصور بل كانت بالفعل قصورا وسرايات سبق وتبرع بها سراة المسلمين وحكامهم تقربا إلى الله ورغبة في منفعة عامة الناس في مجال الطب والمداواة، كانوا في هذا ـ يضيف المؤلف (ص 210) يصدرون عن تعاليم نبيهم (صلوات الله عليه) بأن الناس سواسية وأن كل راع مسؤول عن رعيته، ومن ثم كانت رعايتهم للفقير والمريض والمسكين والمحتاج.

            المستشفى الجامعي

            في السياق نفسه يلاحظ مؤلفنا أن تلك العيادات، البيمارستانات كما كانت تسمى أحيانا، كانت تفتح أبوابها لاستقبال الفقراء على وجه الخصوص. لماذا؟ لأن الموسرين والخاصة في تلك المجتمعات كانوا يؤثرون أن يتم علاجهم في بيوتهم.

            ومن هنا ـ يضيف مؤلفنا ـ كانت المستشفيات (في ظل الحضارة الإسلامية) ـ تستقبل كل من يطرق بابها إذا استطاع أن يصل على قدميه إلى الباب، فإن لم يستطع فهو يحملونه على محفات خاصة كي يتلقى ما يشير به الأطباء المختصون من أساليب الرعاية وصنوف العقاقير والدواء.

            حيث كان ملحقا بكل مستشفى (بيمارستان) صيدلية تحوي أنواع الأدوية التي توّصل إليها أطباء المسلمين وحكماؤهم، لا نتيجة لأعمال السحر والشعوذة على نحو ما يحرص المؤلف على تأكيده (ص 212)، ولكن نتيجة سنوات من البحث والاطلاع والحوار العلمي والتجريب المعملي، ولهذا سبقت دور العلاج في ظل حضارة المسلمين نظيراتها في أوروبا بأشواط طويلة من عمر الزمن.

            وقد يسترعى الاهتمام أن المؤلف يتابع إنشاء هذه المصحات منذ تاريخ قديم يرجع إلى أيام دولة الأمويين الذين أنشأوا بين عامي 705 و 715 ميلادية أول مستشفى أو مصحة إسلامية وكانت أساسا لعزل المصابين بالجذام عن عموم السكان. بعدها أنشأ الخليفة العباسي هارون الرشيد أول مستشفى في بغداد، وفي القرن التاسع سوف يعيّنون مديرا جديدا لأحدث مستشفيات العاصمة العباسية اسمه الرازي.

            ويروي المؤلف أن الرازي شارك في تحديد موقع هذه المؤسسة الصحية غير المسبوقة فكان أن عمد إلى توزيع قطع عديدة من اللحم على مواقع مختلفة من المدينة، وبعد فحصها أشار ببناء المستشفى الجديد في الموقع الذي لم يفسد فيه اللحم إلا بعد أيام آية على أن المكان أفضل من سواه من حيث التلوث بالآفات ـ الجراثيم التي سوف يكتشف لويس باستور أمرها بعد الرازي بأكثر من ألف عام، أو من حيث التلوث الذي بات ـ كما يعرف الجميع ـ محور الاهتمام مع سنوات القرن الحادي والعشرين.

            قراءة في وقفية المستشفى

            يواصل مؤلفنا حديثه في هذه النقطة فيقول: في القرن الثالث عشر شهدت مصر بناء المستشفى المنصوري، وكان يسع 8 آلاف سرير، وبلغت ميزانيته السنوية مليون دينار وتمثلت سياسته في علاج كل مريض يدخل من أبوابه بغير فرق في ذلك بين الأغنياء والفقراء.

            وكانوا يقيمون في أماكن مخصوصة يعزل الرجال فيها عن النساء (ويبدو) أن المنصوري أيضا كان أقرب إلى المستشفى الجامعي إذ كانت أروقته تشهد إلقاء المحاضرات من جانب كبار الأطباء والحكماء كما كانوا يسمونهم، على الدارسين والمتدربين، فضلا عن صيدلية حافلة ملحقة بالمستشفى وعنابر مستقلة لإجراء الجراحات وأقسام تختص بإصابات الحمى وأمراض العيون.

            هنا أيضا يعرض كتابنا قراءة في وقفية المستشفى المنصوري بالقاهرة ومن سطورها ما يلي: يسهر المستشفى على رعاية المرضى من ذكور وإناث إلى أن يُتم المولى عليهم نعمة الشفاء ويتحمل البيمارستان كل تكاليف العلاج لمن يقصده قاصيا كان أم دانيا، قاطنا مقيما كان أم غريبا وافدا، ضعيفا أو قويا فقيرا أم غنيا، كفيفا أم مبصرا، عالما أم أميا، راشدا كان أو مختلط الجنان.

            أما المغارم والنفقات من وراء هذا كله فلا يقصد بها سوى وجه الله تعالى. وهكذا كانت أعراف وأخلاقيات الحضارة الإسلامية في مصحات القاهرة التي لم تكن نسيج وحدها في هذا المضمار: إن عواصم العالم الإسلامي الأخرى كان لها مستشفياتها ومصحاتها وأمهر أطبائها ـ في دمشق والأندلس وفي الهند ومراكش. يلفت اهتمامنا أيضا، ونحن نستعرض مع مؤلف الكتاب منجزات الحضارة الإسلامية وتاريخها (المنسي أو المضيّع)

            اكتشافان ثوريان

            اكتشافان ثوريان في مجال الطب والعلاج ـ القضية التي يثيرها المؤلف (ص 214-215) بشأن الظلم الذي لحق ابن النفيس الذي عاش وعلّم في منتصف القرن الثالث عشر وكان أول عميد أو مدير للمستشفى المنصوري وكلية الطب التي ألحقوها به بالقاهرة. لقد اكتشف ابن النفيس الدورة الدموية وكتب عن حركة الدماء تسري متدفقة من القلب إلى الرئتين كي يخالطها كما قال الطبيب المسلم الهواء النقي.

            جاء هذا الاكتشاف عكس ما سبق وقال به غالينوس عمدة الطب عند الأغريق ـ وكان اكتشافا «ثوريا» كما يصفه المؤلف، ويضاهيه فتح ثوري آخر قدمه عباقرة المسلمين إلى الحضارة الإنسانية وهو اكتشاف «الصفر» على يد الخوارزمي حكيم الرياضيات.

            بل قدم ابن النفيس أول خارطة طبية في التاريخ للأوعية الدموية التي تُوصل الدم إلى القلب. ولكن اكتشافاته المرموقة ظلت حبيسة عالمه العربي ـ الإسلامي لسنوات طويلة إلى أن ترجم بعض أعماله الإيطالي أندريا الباغو في عام 1547.

            يستدرك المؤلف قائلا: ومما يدعو للشك أن هذه الترجمة ظهرت قبل 60 عاما أو نحوها من إذاعة اكتشافات ويليام هارفي، طبيب البلاط الملكي الانجليزي الذي كان يدرس في جامعة بادوا في إيطاليا. والأغرب أنه من خلال التحقيق الوثائقي اتضح أن ترجمة الباغو الإيطالية حذفت بالعمد ما سجّله ابن النفيس عن حركة الدم بين القلب والرئتين ، وربما يرجع ذلك إلى خشية المترجم من انتقاد المحافظين المتشددين دينيا في إيطاليا.

            وإن كان المحتمل أيضا أن المترجم أفضى باكتشافات الطبيب المسلم إلى بعض خلصائه إلى أن وصل سر الكشف الطبي الخطير إلى جامعة بادوا حيث كان هارفي، الطبيب الانجليزي يتعلم، وفي كل حال فقد تعرض ابن النفيس للظلم رغم سبقه لزميله الانجليزي بنحو 350 عاما.

            وربما تفاقم هذا الظلم لأن أعماله بدأت تشق طريقها إلى ترجمات أوروبا مع منتصف القرن السادس عشر حين كانت أوروبا قد بلورت مكانتها في عصر النهضة الحديثة ولم تعد تتخذ نفس الموقف من الإجلال إلى حد الخشية بل الرهبة إزاء علماء المسلمين.

            لهذا لم يحظ مكتشف الدورة الدموية المسلم باسم أوروبي يشتقونه من التحوير من اسمه العربي الأصلي، عرفت أوروبا ابن سينا بأنه «أفيسينا»، وعرفت أوروبا ابن رشد بأنه «أفيروس» وعرفت ابن الهيثم بأنه «الهازن» وعرفت الرازي بأنه «رازس» ، أما الطبيب الرائد وعميد كلية الطب في قاهرة ـ العصور الوسطى فقد ظل على اسمه ابن النفيس وكأنه تعرض لآفة النسيان، أو لظاهرة التاريخ الضائع كما يقول عنوان هذا الكتاب.

            وكذلك فعلت أوروبا مع الإدريسي، الجغرافي الكبير الذي ينشر كتابنا في صفحته قبل الأخيرة صورة عن خارطته الذكية التي وضعها عالم الجغرافيا المسلم في القرن الثاني عشر لتجسد أحدث ما تناهت إليه معارف عصره وتصور بدقة علمية ملحوظة تضاريس حوض البحر الأبيض المتوسط ومنطقة الشرق الأوسط وقارة آسيا ـ مثل هذه الخرائط هي التي اهتدى بها البحارة الأوروبيون، كما يؤكد مؤلفنا، فيما أصبح يعرف في التاريخ الحديث باسم «عصر الكشوف الجغرافية».

            هكذا آذنت صفحات الكتاب وأحاديث مؤلفه الأميركي إلى نهايتها. وها هو الأستاذ مورغان يودع قارئيه في ختام السطور فيقول: راحت إذن العصور الذهبية الأولى من حضارة المسلمين، وبرغم أن عناوين الحاضر قد تحكي قصة أخرى، إلا أن المرجح أن عصورا زاهرة مثلها جديرة بأن تولد في المستقبل من جديد.

            عرض ومناقشة: محمد الخولي

            تعليق

            يعمل...
            X