قراءة في كتاب "الإسلام والغرب.. الأنا والآخر"

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • زهير سوكاح
    مجلس الإدارة
    • Nov 2006
    • 795

    قراءة في كتاب "الإسلام والغرب.. الأنا والآخر"

    قراءة في كتاب "الإسلام والغرب.. الأنا والآخر"
    جدالات التناحر والتقارب بين الاسلام والغرب

    د. محمد حلمي عبد الوهاب*
    يضم هذا الكتاب - الذي يمثل الإصدار الأول من سلسلة "فكر ونقد"- مجموعة مختارة من المقالات التي كانت تُنشر في المجلة التي تحمل العنوان ذاته في المغرب، وترأس تحريرها المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري (1936- 2010). وبحسب ما ورد في تمهيد الكتاب؛ فإن الهدف من وراء اختيار تلك المقالات التي كتبها نخبة من المفكرين المغاربة - في مقدمتهم الجابري وبلقزيز وكمال عبد اللطيف، إلى جانب ثلاث مقالات مترجمة إحداها لإدوارد سعيد- إبرازُ السمات الأساسية التي تتحكم بنظرة كل من: "الغرب" و "الإسلام" إلى الآخر سياسيا وثقافيا وتاريخيا.
    صحيح أنّ أغلب هذه المقالات كان جزءا من مؤلفات للباحثين، أو تم تضمينها في أعمال صدرت لهم في وقت لاحق، لكن جمعها بهذا الشكل يمثل إضافة مهمة لسببين مباشرين:
    أولهما أن أغلب تلك المؤلفات - مع استثناءات قليلة تتعلق بالجابري وبلقزيز وعبد اللطيف- لم يطلع عليها "المشرقيون" - إن صح التعبير- وبقيت بذلك أسيرة في سياقها المحلي/المغاربيّ.
    ثانيهما أن المقالات المنشورة في الكتاب سبق وأن نشرت في المجلة على فترات متباعدة زمنيا بحيث يصعب الوقوف عليها من جهة، فضلا عن أن كل واحد منها يتناول جانبا بعينه من محطات الاختلاف والافتراق من جهة أخرى. وبالتالي فإنها تعود بأسبابها إلى جذورها الأولى، وتدرس تطورها الثقافي والأنثروبولوجي، وتعالج العقبات العديدة التي ترتسم في وجه قيام حوار من شأنه أن يقرب كلا من الآخر، فتحدد ملامحها، وتلقي الضوء على الهدف من وراء الإبقاء على تلك العقبات في مختلف الصعد الأيديولوجية والثقافية، كما في الفكر الديني والاجتماع السياسي بصفة خاصة.
    نحن إذن إزاء "وحدة موضوعية" تلم شمل المقالات المختارة من ناحية، وتبرز في المقابل من ذلك وقفات نقدية في تقييم الأمور من كلا الجانبين، مع تسليط للضوء على المواقف والمبادرات الإيجابية التي صدرت عن كلا الطرفين من ناحية أخرى. ونتيجة لذلك؛ تتميز هذه المقالات بأنها لا تقتصر في معالجتها النظرة إلى الآخر على المستوى الأيديولوجي الذي كثيرا ما يحكم الخطاب السياسي الغربي اليوم؛ بل تنطلق في مقارباتها من الفلسفة في تحليل مسألة "الغيرية" و "الوعي بالآخر"، وتناقش "المسألة الثقافية" بين الإسلام والغرب عبر التاريخ، كما تستعرض بالمثل صعوبات الحوار ومعوقاته على كلا الجانبين.
    بقي أن نشير إلى ملاحظة مهمة، وإن كانت شكلية، إلا أن إغفالها أثر بدوره على إخراج تلك المقالات بصورة متميزة، وهي تتعلق بعدم ضم المقالات ضمن محاور رئيسية يتم من خلالها إبراز موضوع هذا المحور أو ذاك عبر المقالات التي تتقاطع معه بالدرجة الأولى، بدلا من ترتيب المقالات الأربعة الأولى للجابري على سبيل المثال بصيغة السرد المتتابع رغم إمكانية توزعها على محورين أو ثلاثة.
    صحيح أن ضم مقالات الجابري إلى بعضها البعض وفق الترتيب المعمول به في الكتاب يسمح للقارئ بتتبع رؤى المسألة عنده؛ خاصة وأنها جاءت منسمجة مع ترتيب نشرها التاريخي (باستثناء المقالة الأخيرة)، لكن ما يصح بالنسبة للجابري قد لا يصح بالنسبة لغيرة بحال من الأحوال. ففي حالة الجابري نحن إزاء مثقف موسوعي يمتلك نسقا فكريا خاصا به بحيث يسهل بالنسبة للقارئ تعقب جذور المسألة لديه وتطورها، على حين قد لا يصح هذا الأمر بالنسبة لآخرين تبقى معالجتهم للقضية رهنا بمناسبة ثقافية ما – عادة ما تكون المقالة عبارة عن ورقة شارك بها كاتبها في ندوة أو مؤتمر، أو جزءا من كتاب، أو فصلا من أطروحة جامعية قيد الإعداد...إلخ- ومع ذلك بقي هذا الأمر على حاله (عدم تضمين المقالات وتوزيعها ضمن محاور) بالنسبة إلى الإصدار أو الكتاب الثاني من السلسلة والذي صدر مؤخرا.
    وفي كل الأحوال؛ سنحاول من جانبنا أن نركز بالدرجة الأولى على رؤى الجابري للمسألة في مقالاته الأربعة وتقاطعها مع رؤى وطروحات باقي الكتاب والباحثين بحيت نبرز القواسم المشتركة من جهة، ونعين الاختلافات والفروقات المنشورة حول التفريعات المتعلقة بكل مسالة على حدة من جهة ثانية، وصولا إلى معالجة أشمل للقضايا المثارة بحيث تتقاطع فيها الجدالات، وتتعدد فيها المداخل، وتتنوع في خاتمتها النتائج من جهة ثالثة.

    جدالات الأنا والآخر في السياق الثقافي

    عرفت العقود الأخيرة من القرن الماضي، ومنذ اندلاع الثورة الإيرانية بصفة خاصة، اهتماما متزايدا بموضوع الإسلام والغرب. وقد بدأ هذا الأمر في أوربا وأمريكا أكثر منه في البلاد العربية والإسلامية حيث عقدت - إلى جانب ما ينشر في كبريات الصحف والمجلات بمختلف اللغات الأوربية، وبصورة متواصلة تكاد تكون يومية- العديد من الندوات وورش العمل والمؤتمرات. ثم تطور الأمر بعد ذلك وتوسع الكلام في هذا الموضوع ليندرج أخيرا تحت ما أسماه هانتنجون بـ "صراع الحضارات"، وهو الصراع الذي يتركز عنده على محور "الغرب والإسلام"، بحيث يجعل منه الصراع الرئيس الذي سيسود حسب زعمه في المستقبل المنظور.
    وعند هذا الحد، أي في إطار محاولته القيام بنوع من التفكيك لعبارة "الإسلام والغرب"، تستلفت الجابري ملاحظتان مهمتان:
    الملاحظة الأولى: مفادها أنّ التقابل الذي يُراد تضمينه لهذه العبارة غير مبرر ولا مشروع، ابتداءً. لأن الأمر يتعلق هنا بمقولتين مختلفتين في "الطبيعة"، بحيث لا تقوم بينهما علاقة تقابل أصلا: فالغرب مقولة جغرافية، والإسلام دين. والتقابل إنما يكون بين المختلفات التي تندرج تحت جنس واحد كـ "الشرق والغرب"، و "المسيحية والإسلام"، ومع أنّ هذه الحقيقة تبدو كما لو كانت أقرب إلى البديهية؛ فإن أحدا لا يشعر اليوم – في بلاد الغرب كما في بلاد الإسلام- بوجود مفارقة عند الجمع في الخطاب الواحد بين هاتين المفردتين "الغرب" و "الإسلام"، وهو ما يرده البعض إلى كثرة التكرار الذي يعمل في العادة على التخفيف من حدة الأشياء، المادية والمعنوية على حد سواء، بحيث يجعلها من المألوف اليومي الذي لا يثير تساؤلا ولا نقاشا.
    على أن الجابري لا يكتفي بذكر التبرير أو الذريعة السابقة وإنما يتبناها من حيث المبدأ ثم يحورها لتصب في اتجاه آخر – وفي ذلك تكمن عبقريته- وفي ذلك يقول: "إذا، الأمر يتعلق بتكرار من نوع آخر: تكرار المخاوف والرغبات بفعل مؤثرات ودوافع تَجِدُ مصدرها في قراءة معينة لأحداث معينة، قراءة المتشابه من الحوادث بواسطة أفكار يتلقاها الناس خلفا عن سلف، أو بتوجيهٍ من أحكام مُسَّبَقة". والواقع؛ أن التقابل الذي يتم في تلك الصيغة ما بين مفهومين غير متكافئين- نظريا على الأقل- يجعل منها صيغة غير محايدة تماما، ليس فقط لأنها تقابل بين مفهوم يحيل إلى عقيدة (إلى الإسلام باعتباره ديانة تعلن أنها تصحح وتتدارك نواقص الديانات الأخرى) ومفهوم يشير إلى فضاء جغرافي مشحون بدلالة حضارية تستند إلى التراث الإغريقيّ الرومانيّ المسيحيّ، ثم تراث النهضة الأوربية بمختلف مكتسباتها.
    أما الملاحظة الثانية؛ فتتعلق بأنّ المقولتين كلتيهما (الغرب والإسلام)، تخضعان عند وضعهما متقابلتين لوحدة أيديولوجية تخفي [في داخل كل واحدة منهما] النسبية والتعدد على صعيد الماهية. فلا الغرب واحدا بطبيعة الحال، ولا الإسلام كذلك (أعني في تجليه الثقافي وتوزعه الجعرافي)، ومن ثم فالتعدد يفرض نفسه على المقولتين رغم التعميم الأيديولوجي الذي يطالهما بهدف إبراز علاقة التقابل بينهما كعلاقة مقبولة ابتداءً.
    ويخلص الجابري من خلال استعراضه لمعنى كلمة "إسلام" في القواميس الغربية إلى أنها تنصرف إلى ثلاثة أمور هي: الدين الإسلامي؛ والبلدان والشعوب الإسلامية؛ والحضارة الإسلامية، مؤكدا أن القواميس الغربية لم تستق تلك المعاني من نظيرتاه العربية الإسلامية؛ فهي خالية من هذا التعدد ولا تعرِّف الإسلام إلا بكونه الدين المعروف بهذا الاسم، وإنما تشتير تلك المعاني الغربية للإسلام إلى "أطراف" وضعت ليكون كل منها كالمقابل لأحد المعاني التي تحملها كلمة "الغرب" في المرجعية الأوربية. وهكذا فالغرب مسيحي والإسلام دين إسلامي، والغرب أقطار وشعوب، والإسلام أقطار وشعوب كذلك، والغرب حضارة، والإسلام حضارة كذلك.
    بمعنى أن الإسلام هنا هو الآخر/المرآة التي يرى فيه الغرب ذاته! ومن ثم يسقط عليه تعدديته وتقسيماته ويجعل منه الآخرَ لكل وجه من وجوهه: فالإسلام آخر على مستوى الديانة؛ وعلى مستوى البلدان والشعوب، وعلى مستوى الحضارة كذلك! وهكذا يتحدد الإسلام في مرجعية الغرب، لا بما هو نفسه، بل بما هو آخر للغرب ذاته في ضرب من التقابل الذي به تتحد العلاقة بين "الأنا" و "الآخر"، معبرا عن "الغيرية الضدية". أما في الحقل البياني العربي فلا تفيد عبارة "الإسلام والغرب" شيئا آخر غير ما تفيده عبارات: "المسلمون والنصارى"، "المسلمون واليهود"، أو "الإيمان والكفر"...إلخ. أي كعلاقة تشابه أو اختلاف بين شيئين من أشياء العالم وليس كعلاقة بين "الأنا/الإسلام" و "الآخر/ الغرب".
    بقيت هنالك نقطة أخيرة تتعلق بمركزية الأنا الغربية ورؤيتها للأخر في إطار من التضاد والتناحر. ذلك أن الآخر يتم تعريفه في قواميس الفكر الأوربي ومصطلحاته الفلسفية باعتباره مقابلا للذات Le Même أو الأنا التي لا معنى لها سوى أنها المقابل لـ "الآخر" Autre. وبالتالي فإن ما يؤسس مفهوم "الغيرية Altêritê" في الفكر الأوربي ليس مطلق الاختلاف، كما هو الحال في الفكر العربي، بل إنها مقولة رئيسية تؤسسها فكرة "السلب"، أو النفي La Nêgation، حيث "الأنا" لا يفهم إلا بوصفه سلبا، أو نفيا، الآخر!!

    رؤيتان مختلفتان من الوعي بـ "الآخر"

    إذا كان الغرب ينطلق في تصوره لـ "الأنا" كمبدأ للسيطرة، بحيث يتحدد موقع "الآخر" بالنسبة له كهدف للسيطرة، أو باعتباره عدوا، أو بوصفه قنطرة للتعرف على الذات من خلاله بحسب مقولة سارتر: "أنا في حاجة إلى توسط الآخر لأكون ما أنا عليه [بالفعل]"؛ فإن الكيفية التي يعي بها الفكر الأوربي المعاصر العلاقة بين الإسلام والغرب يمكن الوقوف عليها من خلال مقالة للباحث الاجتماعي الفرنسي المعاصر بيرتراند بادي جاء فيها:
    "إننا نتحدث دائما عن الآخر، خصوصا عندما لا نحبه [ومن ثم نعتبره عدوا لنا]، أو عندما نخافه [ربما لأنه يعتبرنا أعداء له]، أو عندما يكون فاتنا ساحرا. ... والغيرية من هذه الزاوية يمكن اعتبارها "غيرية متخيلة" (أو وهمية). وهذا التعريف لـ "الآخر" يخلق وضعيات مصطنعة من التوترات والنزاعات، كما يخلق في الوقت نفسه مناسبات تُستغلُ [سياسيا واجتماعيا واقتصاديا] لتأكيد الذات وتبرير التصرفات [العنصرية إزاء الآخر] وفرض الإرادة [السياسية: مَن ليس معنا فهو ضدنا!!]، أو الظهور بمظهر الضحية [ذرائع الحرب على الإرهاب نموذجا!]، ففي هذا المستوى من التحليل يمكن الحديث بكل اطمئنان عن غيرية استرتيجية. غير أن هذه الأخيرة التي تشيدها تمثلات وافتراضات ومصالح لا يمكن النظر إليها مع ذلك كغيرية مخترعة ابتداءً، ذلك أنها تتغذى من قراءة لتاريخ عُزِلَ بصورة تعسفية عن تواريخ أخرى... وبالتالي يمكن النظر إليها بوصفها غيرية منهجية".
    ويخلص الجابري إلى أن هذه الأنماط الثلاثة من الوعي بالآخر موجودة في القرآن ذاته! حيث ينطلق موقف القرآن من النصارى – بحسبه- من الاعتراف بهم، لا كـ "آخر" بالمعنى الأوربيّ للكلمة، وإنما كواحد من "آخرين" يَعترف بهم كأهل دين، وهم جميعا – بما في ذلك الإسلام ذاته (الأنا)- متساوون أمام الله. يقول تعالى: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (البقرة: 62).
    ويُطلق الجابري على هذا الموقف اسم "الغيرية الإيجابية" الذي اعتبر فيه القرآن النصارى أقرب مودة إلى المسلمين من اليهود والمشركين بحسب الآية الكريمة: "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون" (المائدة: 82). وفي القرآن ضرب آخر من الغيرية أشبه بالغيرية النهجية ظهرت حين برزت الحاجة إلى تحديد الهوية وهي تؤكد الانفصال والاختلاف الماهوي، كما في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" (المائدة: 51).
    وأخيرا تأتي سورة التوبة لتقرر "غيرية" أخرى إزاء أصناف "الآخر" التي تعاملت معا: إزاء المشركين من قريش، الذين كانت تربطهم مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) معاهدات نقضوها، وإزاء اليهود والنصارى الذين صاروا خصوما معلنين: إنها "غيرية البراءة"، وهي غيرية استراتيجية لا لبس فيها وقد عبّر عنها القرآن الكريم في غير ما آية من السورة المذكورة، ومن ذلك قوله تعالى: "وقالت اليهود عُزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون..." (التوبة: 30-33).
    وبعد استعراض مطول لنماذج من الوعي المزدوج بالآخر على الجانبين الغربي والإسلامي، يخلص الجابري – بعد أن يتساءل: هل تعود تلك الازدواجية إلى طبيعة الوعي ذاته، أم إلى موضوعه- إلى نتيجة مفادها أن الأمر يتعلق قبل كل شيء وبعد كل شيء بغالب يمارس الغلبة، وبمغلوب ينتفض ضدها. وإذا كان هذا الانتفاض يُمارَس بطرق ووسائل لاعقلانية، فلأن غلبة الغرب الاستعمارية كانت دوما غير عقلانية، فضلا عن أنها تمت وتتم بوسائل غير أخلاقية.

    صورة الإسلام في متخيل الغرب

    ثمة تساؤل يطرح نفسه باستمرار كلما تجدد الحديث حول نظرية - أو بالأحرى دعوى- "صراع الحضارات"، ألا وهو: إلامَ استندتْ تلك الدعوى، ولماذا حظيت بهذا الكم الهائل من الشهرة والانتشار على الرغم من طابعها الهش أساسا؟ في مقاله "الإسلام والغرب: الجوار المفقود" يسعى المستشرق الألماني غيرنوت روتر إلى تفنيد دعوى هانتنجون عبر التأكيد بأن الأمر كان بسيطا جدا في العقود الماضية – تحديدا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الدول التي تبنت نظرية الخلاص الشيوعية- حيث كان الغرب الرأسمالي ينظر إلى الشرق الشيوعي – والعكس صحيح- باعتبار الآخر شريرا، وذلك بفضل مركزية صورة العدو الوهمي.
    لكن سرعان ما أصيبت صورة تلك العدو بالتصدع نتيجة انهيار المعسكر الشرقي 1989-1990، بحيث أصبحت غير ذات جدوى ولم تعد صالحة للاستعمال من قبل القادة العسكريين ومنتجي السلاح. على أن الأمر في التصورات العدائية المتبادلة لا يتعلق بمسائل الخلاف العقائدي على الإطلاق؛ فالتناقض لا يُبنى عند كلا الطرفين ما بين المسيحية والإسلام، وإنما بين كتلتين ثقافيتين متجانستين: تُسمى الأولى باسم دينها، والثانية باسم موقعها الجغرافي.
    وفي المحصلة؛ يمكن القول إن ثمة ثلاثَ صور نمطية كبرى صاغها الوعي والمخيلة المسيحية الغربية عن الإسلام في الزمن الوسيط، ألا وهي: الوثنية، والعنف، والشبقية، بكل ما يفترض ذلك من كفر وتوحش وانحلال أخلاقي! وبهذه الصور تمت عملية بناء خطاب مسيحي عن الإسلام، يحتل فيه الخيال والجوانب "الفانتازية" مكانة بارزة حيث ارتهن ذلك الخطاب بقاموس لفظي ورمزي في الوقت نفسه كان للوهم والتخيل دور حاسم فيه.
    فالوعي الضدي بالآخر، والإدراك القوي للمنافسة، وصراعات الهوية القاتلة، كل أولئك ولد لدى المؤسسة الكنسية شعورا قويا بضرورة شحن المتخيل الجمعي بالصور المضادة للحقيقة المسيحية، سواء تقدمت هذه الصور في شكل "صور متخيلة" تشوه الإسلام باعتباره عقيدة، أو "صور- كاريكاتورية" تضخم بعض الجوانب الواقعية وتصوغها في قالب منفر ولاأخلاقي، أو في صور "انتقائية" تجعل من بعض المواقف الإسلامية، ولاسيما في موضوع الجنس، فرصة للتهويل، بغية إنتاج ردود أفعال رافضة للإسلام في كليته، وخلق شروط تعبئة نفسية ومعنوية لمحاربته.
    لكن في المقابل من ذلك؛ يصعب فهم موقف بعض الخطابات الإسلامية من الغرب والذي يشار إليه عادة – كما هو واضح في كتابات المودودي بصفة خاصة- باعتباره حضارة على مشارف الانتحار، حضارة مغالية في طابعها المادي، ومن ثم يتعين مواجهتها بمختلف الوسائل المتاحة. وبذلك ينتمي المودودي إلى الفضاء الأيديولوجي الذي رسمت ملامحه العامة نصوص الأفغاني في نهاية القرن التاسع عشر، بل وتتجاوزها أحيانا بتعبيرها عن نمط الصراع الأيديولوجي السائد في المحيط الإسلامي بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانتشار عنف اللغة الرمزي الذي كان يتغذى من عنف الصراع التاريخي والواقعي الذي أحدثه الاستعمار الأوربي.

    *أكاديمي وباحث مصري
يعمل...
X