الفرنكفونية والمشروع السياسي الفرنكفوني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد زعل السلوم
    عضو منتسب
    • Oct 2009
    • 746

    الفرنكفونية والمشروع السياسي الفرنكفوني

    الفرنكفونية والمشروع السياسي الفرنكفوني


    ظهر مفهوم الفرنكفونية لأول مرة في نهاية القرن التاسع عشر (1880), وقد وضعه الجغرافي الفرنسي أو نسيم ركلوس للإشارة إلى الأشخاص والدول التي تستعمل اللغة الفرنسية بأشكال مختلفة. ولم تكن الحمولة الدلالية لهذه الكلمة قبل منتصف القرن العشرين، تتجاوز ما ألمحنا إليه، بالرغم من أن دلالاتها الجغرافية واللغوية تشير بصورة غير مباشرة إلى المستعمرات الفرنسية.

    تواصلت الفكرة التي تقف ضمنيا وراء المفهوم في صورة تربط مؤسسات المستعمرات الفرنسية بفرنسا. وبرزت في عدة مبادرات، من بينها الإشارة في الخطاب الذي ألقاه الجنرال ديجول سنة 1944 وذلك أثناء المناقشات التي كانت تجرى حول مشروع إنشاء الاتحاد الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تم إبراز العلاقة الخاصة، التي تصل الدول الناطقة بالفرنسية بفرنسا.

    وفي سنة 1950 تأسس الاتحاد العالمي للصحافة الناطقة بالفرنسية، كما تبلور المفهوم والمشروع بوضوح أكبر سنة 1960، وذلك ضمن أعمال المؤتمر الأول لوزراء التربية في فرنسا وإفريقيا، وقيام اتحاد الجامعات الناطقة كليا أو جزئيا بالفرنسية بعد ذلك عام 1961.

    وابتداء من ستينيات القرن الماضي، لم يعد مفهوم الفرنكفونية يطرح دون ردود فعل مساندة أو معادية، لقد تحول المفهوم المشروع إلى قضية تنسب إلى اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية، وتستعين بالأدوات والوسائل المادية (ميزانية محددة) لترجمة مشاريع في العمل، ذات أبعاد ومرام متعددة، من بينها إنشاء جمعيات وتنظيمات ووكالات ولجان، بهدف تمتين الروابط والصلات مع المستعمرات القديمة، وتشكيل إطار للحركة اللغوية الثقافية السياسية، لمنح الدولة الراعية امتياز التفوق التاريخي والرمزي، في إطار علاقات دولية تحركها آليات في الهيمنة مكشوفة ومعلنة. ومعنى هذا في نظر البعض، أن الفرنكفونية تحولت شيئا فشيئا من فكرة إلى مشروع، إلى جملة من الوسائط المادية، بهدف ظاهر، يتمثل في تسهيل التعاون بين الناطقين جزئيا أو كليا بالفرنسية، وأغلبهم كما أشرنا سابقا، مستعمرات قديمة لفرنسا، إلى واجهة للهمينة اللغوية والثقافية أولاً، والهيمنة السياسية في نهاية التحليل.

    ففي سنة 1962 نشرت مجلة الفكر الفرنسية عدداً خصصته لمحور بعنوان «الفرنسية لغة حية»، تضمن مجموعة من المقالات في مدح اللغة الفرنسية. واعتبر محتوى مواده بمنزلة بيان الفرنكفونية الأول. وفي عام 1966 الذي يعتبر حاسما في تاريخ المشروع الفرنكفوني. تشكلت اللجنة العليا للدفاع عن اللغة الفرنسية، وتم إقرارها بمرسوم جمهوري.

    تتألف هذه اللجنة من عشرين شخصية، تنتمي لعالم الأدب والفن والعلوم والإعلام والصناعة والسياسة، ويرأسها رئيس الوزراء الفرنسي. وقد حددت لنفسها مهمة بحث دراسة الوسائل الملائمة لتشجيع جميع المبادرات، التي تهدف إلى تطوير العلاقات الثقافية والتقنية بين حاملي تراث اللغة الفرنسية.

    كما تأسس كذلك، المجلس الدولي للغة الفرنسية، وذلك في صيغة أكاديمية فرنسية دولية، تملك الحق في إنهاء النزاعات اللغوية، المتوقعة بين الدول الفرنكفونية وبين المشتغلين في حقل اللغة الفرنسية (لجنة التحكيم اللغوي العليا).

    الشباب الفرنكفوني

    وتوالت بعد ذلك التنظيمات الفرنكفونية وبصورة متواترة، فقد تم إنشاء منظمة الشباب الفرنكفوني سنة 1966، وفي السنة نفسها طالب الرئيس ليوبولد سوار سنجور أحد مؤسسي الفرنكفونية في صيغتها الحركية، رفقة بعض رؤساء المستعمرات الفرنسية في إفريقيا وآسيا، نذكر منهم، على سبيل المثال: الحبيب بورقيبة (تونس)، وحماني ديوري (النيجر)، بتأسيس المنظمة الدولية للبرلمانيين الناطقين بالفرنسية، وبالرغم من أن هذه المنظمة جعلت من بروكسيل مقرا لها، فإن أمانة سرها توجد في باريس. وقد أنشأت هذه الأخيرة بدورها تجمعا ثقافيا باسم «كوكبة المشاهير»، وظيفته منح جوائز أدبية لأفضل الكتاب والشعراء الفرنكفونيين. وفي 1969 تأسست في باريس الفيدرالية الدولية للمعلمين الناطقين بالفرنسية.

    وقد استمر تناسل التنظيمات والمؤسسات بصورة تؤكد أن الفرنكفونية عبارة عن إرادة سياسية تروم بتوسط وسائل اللغة والثقافة، تحقيق الهيمنة اللغوية، ففي سنة 1970 تم تأسيس وكالة للتعاون الثقافي والفني، وهي منظمة للتبادل الثقافي مع الحكومات، وتَحَوَّل تاريخ تأسيسها، الموافق ليوم 20 مارس إلى يوم عالمي للفرنكفونية.

    نشير هنا أيضا، إلى أن القناة التلفزيونية الفرنسية الخامسة، الموجهة أساساً لاستقطاب واستيعاب الفضاء الفرنكفوني، ساهمت بدورها في تعزيز الحضور الفرنسي والفرنكفوني بصورة قوية، وذلك بواسطة المسابقات اللغوية والثقافية، الموجهة للمتحدثين كليا أو جزئيا بالفرنسية، والبرامج المخصصة لرعاية كل المتحدثين بالفرنسية، ومن بينها الجوائز الثقافية في مختلف مجالات المعرفة.

    ومن المعلوم أن عدد المتحدثين باللغة الفرنسية بلغ 150 مليون نسمة، حسب التقديرات التي قدمت سنة 1992، وهم ينتمون إلى 35 دولة حائزة على العضوية في القمة الفرنكفونية.

    وقد تكرست الفرنكفونية في النهاية، بمؤتمرها الأول، الذي تم التحضير له سنة 1985 بدكار عاصمة السنغال. وانعقد في باريس بعد ذلك سنة 1986، وضم إضافة إلى المستعمرات الفرنسية السابقة، بلدانا أوربية مثل بلجيكا ولكسمبوج ومقاطعة كيبيك الكندية. وتتابعت المؤتمرات ضمن هذا الإطار كل سنتين، في كل من كيبيك ودكار وجزر موريس وكوتوكو وهانوي ..إلخ، مما حول الفرنكفونية وبشكل معلن إلى إطار سياسي لا لبس فيه.

    تتمثل الأهداف المعلنة للفرنكفونية، في التأكيد على مبدأ تحقيق التقارب بين الناطقين بالفرنسية، لكن الأهداف البعيدة، تتجلى أولا في وجود موقف من اللغات الإفريقية الأم، وفي النظر وبصورة ضمنية إلى الفرنسية باعتبارها لغة متفوقة على كل اللغات الأخرى، وذلك بالرغم من شعارات التعددية والاختلاف. وهي شعارات تتردد في أرجاء اللقاءات الفرنكفونية، التي تعمل بما يناقضها كلية وبصورة قطعية، الأمر الذي يبرز تماما، ازدواجية وتناقض المشروع الفرنكفوني في أبعاده السياسية الفعلية.

    إضافة إلى ذلك، فإن فرنسا وهي تقود وتوجه المؤتمر الفرنكفوني وترعاه، توجه في الآن نفسه خطابا للفضاء الأنكلوفوني، بمختلف التحديات الثقافية والسياسية التي يطرحها. بل إنها تتجه لتحويل الإطار الفرنكفوني، من إطار لغوي ثقافي إلى إطار للتكتل السياسي، مقاوم للهيمنة الأمريكية، ولمختلف أشكال الصراع المثارة داخل القارة الأوربية، في سياق جدليات الاتحاد الأوربي وصور التنافس والهيمنة القائمة داخله وبين أقطاره.

    دخلت الفرنكفونية القرن الواحد والعشرين في صيغة جديدة، كشفت عنها قمة هانوي المنعقدة سنة 1997، حيث عهدت فرنسا إلى الأمين العام السابق للأمم المتحدة الدكتور بطرس غالي بمنصب الأمين العام لمؤسسة الفرنكفونية.

    يتمثل التوجه الجديد أو الصيغة الجديدة، التي تلون اليوم المشروع الفرنكفوني، في إبرازه للبعد السياسي، باعتباره مكملا مركزيا للملامح اللغوية والثقافية. ومعنى ذلك أن الطابع المؤسسي الجديد يتجه اليوم لتحويل الفرنكفونية إلى تنظيم دولي مكافئ للمنظمات الدولية والإقليمية المعروفة، كالجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي ومنظمة الوحدة الإفريقية، ثم المنظمات المرتبطة بالأمم المتحدة مثل اليونسكو، من أجل تعاون يهدف - كما صرح ذلك بطرس غالي الأمين العام للفرنكفونية - إلى تحقيق الاستقرار والتنمية والترابط بين مختلف الدول.


    صيغة جديدة للفرنكونية

    تعلن الفرنكفونية في صيغتها الجديدة، وصايتها على الشأن السياسي في العالم، وتخصص ميزانيتها السنوية، التي تبلغ قيمتها مليار فرنك فرنسي، لتقديم العون والمشورة للحكومات الفرنكفونية، لمساعدتها على تنظيم الانتخابات، واستيعاب بعض مشاريع التنمية الاقتصادية.

    ولعل هذه الاختيارات المعلنة، تكشف مرة أخرى عن التوجه الجديد الذي ترومه الفرنكفونية، بل إنها تصل بالمشروع إلى الحدود التي ظلت غير معلنة، عبر حلقاته الأولى الجنينية، وذلك منذ أن انطلق كمشروع للعناية باللغة والثقافة الفرنسية، ثم تحول إلى مشروع يرعى مجموعة من التنظيمات الثقافية والمهنية، إلى أن استوى في شكله الجديد وسيلةً من وسائل مواصلة «عناية» فرنسا بمستعمراتها القديمة والجديدة، أي كل الدول التي تجمعها مصالح محددة مع فرنسا. بل إن الأمر تجاوز ذلك في التصريحات الجديدة للأمين العام للفرنكفونية، الذي يرى «أن العالم قد تخلى منذ انتهاء الحرب الباردة، عن الاهتمام بحوار الشمال والجنوب، ونتيجة لذلك تراجعت المساعدات التي كانت تمنح للدول الفقيرة بهدف تأهيل بناها التحتية، وهنا يمكن للفرنكفونية أن تتحرك لإعادة تفعيل هذا الحوار، والتنسيق مع البنك الدولي، للحصول على مساعدات إنمائية لدول آسيا وإفريقيا الناطقة بالفرنسية».

    تلك جملة من المعطيات العامة حول الفرنكفونية وسياقات تطورها كمشروع يكشف عن إرادة تتوخى الهيمنة الايديولوجية (اللغوية) والسياسية، وهي تطرح إشكالات تبدأ بمسائل اللغة والهوية، وترتبط بإشكالات السياسة والايديولوجية في الفضاء السياسي والثقافي، سواء في بلدان المغرب العربي، أو في كل من إفريقيا وآسيا.

    كمال عبد اللطيف
يعمل...
X