قراءة في ديوان ( لما بكت كل الجوارح ) لهيثم منتصر بقلم / مجدي جعفر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مجدي جعفر
    عضو منتسب
    • Jun 2021
    • 32

    قراءة في ديوان ( لما بكت كل الجوارح ) لهيثم منتصر بقلم / مجدي جعفر

    قراءة في ديوان ( لما بكت كل الجوارح ) للشاعر هيثم منتصر
    بقلم / مجدي جعفر
    ......................................
    ( 1 )
    هذا هو الديوان الخامس في مسيرة الشاعر هيثم منتصر التي تربو على ربع القرن، فصدر له من قبل : بصمة، وسكوت واللا موت، وحارة وسرداب، وروح بتضحك، وله قيد الطبع : ترنيمة القلب الشقي، وكرسي هزاز.
    والديوان يقع في تسعين صفحة من القطع المتوسط، في غلاف أربعة ألوان، وصادر عن سلسلة ديوان الشعر العامي، العدد رقم ( 65 ) عن الهيئة العامة للكتاب عام 2020 م.
    ويضم الديوان تسع قصائد، وهي : ( أمام الأوليا، شواشي قلبك الطيب، عيونك حزينة، في توهة المجاذيب، سايقه عليك الدلع، شي الله يا أوليا، واقف على استحياء، قلبي بساط أحمدي، ع الكرسي الهزاز )، وتتأرجح القصائد بين الطول والقصر، فأقصر القصائد تقع في صفحتين وهي قصيدة " أمام الأوليا "، وأطولها قصيدة " شي الله يا أوليا " التي تزيد عن العشرين صفحة.
    ........................................
    ( 2 )
    لم يختر الشاعر أي من القصائد التي يضمها الديوان، عنوانا لديوانه، ولكنه آثر أن يعنونه : " لما بكت كل الجوارح " ووردت هذه العبارة كسطر شعري صفحة ( 55 ).
    والعنوان باللغة العربية الفصحى، ولا أقول إنه استهل ديوانه " بأنسنة " الجوارح، وجعلها تبكي، فكل مسلم يعلم أن الجوارح، تبكي وتضحك، وتتكلم، وتشهد على أفعاله يوم الحساب، ويُحسب للشاعر أنه يجعل المتلقي يفيق، وينتبه إذا كان في غفلة، ويبدأ في مراجعة جوارحه، كل جوارحه، فالشاعر يقول ( كل الجوارح )، فيستعيد القارئ إذا كان غافلا جوارحه السبعة، وهي : العين والأذن ، والفم واللسان، والفرج واليد والرجل، وسيد هذه الجوارح هو القلب، وقبل أن يتهيأ القارئ لقراءة الديوان يكون قد توقف مع جوارحه، ويسأل اليد والرجل وهما أدوات الحركة، وهل كانت حركته في المسار الصحيح أم في المسار الخطأ؟ هل امتدت يده لتبطش بضعيف؟ أو لتسرق أو .. أو .. وهل سارت رجله في حرام، وهل نظر بعينيه لزوجة جاره مثلا، أو فاه بلسانه كذبا وزورا وبهتانا وسعى للفتنة والنميمة بين الناس؟، هل لاك فمه طعام من حرام؟ هل رمى بأذنيه عمدا ليتنصت على خلق الله؟ هل سار وراء النفس التي لا تكف عن التشهي والتمني؟ هل ترك قلبه يشغي بالغل والحقد والحسد؟ هل؟ وهل؟ وهل؟ ويساءل كل جوارحه بكل أدوات الاستفهام الممكنة، ويحاكمها.
    وإذا كان العنوان يثير كل هذه الأسئلة، فيأتي الإهداء ليقودنا إلى أجواء الديوان، ويجعلنا نستشرف أهم معالم تجربته الشعرية في هذا الديوان، فيقول :
    " إلى أبي وحده ..
    في عزلته الأبدية ..
    هذا المُحب، والمحبوب، والدرويش الصالح
    وإلى أولياء الله الصالحين "
    ونستشف من إهدائه إلى أبيه المُحب والمحبوب والدرويش الصالح، وإلى أولياء الله الصالحين أيضا، أن الشاعر سيأخذنا إلى المتصوفة وعالم الصوفية، وهو عالم ثري ومدهش، وتأتى أول قصيدة بالديوان تحت عنوان ( أمام الأوليا ) لتؤكد للقارئ صحة وسلامة حدسه واستشرافه.
    ويستهل نصه بوصف حالة الدرويش من الخارج، في كلمات قليلة :
    ( سبحة خشب ..
    جلابية صوف .. )
    ودلالة لبس الصوف عند الصوفية تعني الزهد.
    وسرعان ما ينتقل ليصفه لنا من الداخل، ويصف لنا أحوال قلبه :
    ( قلب تارك ..
    روحه دايما في المقام )
    وأحوال القلب المتعلق بالمقام تتغير :
    ( أخضر ساعات ..
    أبيض قوي في كل الحالات )
    وتنعكس هذه الحالات على سلوكياته، فنراه بعد الصفاء والنقاء الذي وصل إليه، وكأنه قد أخذ من الأنبياء السماحة وأخذ أمن وسلام الأتقياء:
    ( جواه سماحة أنبيا
    براه آمان الأتقيا
    توليفة دايبة في التسامح
    الملامح ..
    روح بتلبس روح إمام
    واقفة أمام الأوليا .. )
    هل تشي القصيدة الأولى من الديوان بأن الشاعر سيأخذنا إلى تجربة روحية، من تلك التجارب العميقة التي عاشها أقطاب وشعراء الصوفية المعروفين؟!.
    ................................................
    ( 3 )
    ( أ )
    لاشك أن الشاعر المعاصر استفاد من التراث الصوفي والتجربة الصوفية، وخير مثال صلاح عبدالصبور، الذي استعاد لنا الحلاج، ويكاد يكون قد بعثه لنا بعثا جديدا، فجعله يخلع الخرقة ( شارة الصوفية ) والتي كانت هذه الشارة بمثابة القيد على عقله، وتمنعه من التفكير الحر، فقدمه لنا كثائر ديني ومصلح اشتراكي، يحارب الظلم والفقر، الفقر بمعناه المادي والروحي.
    يخلع الحلاج الخرقة والتي تعني تجرد الصوفي من متاع الدنيا وينزل إلى الناس وهو يعي أن الصوفية الذين يرون إرضاء الله بشعارهم ( الخرقة ) سيرضونه اكثر بخلعها في سبيل عباده.
    ( ويمكن للقارئ أن يعود إلى دراسة الدكتور حسين علي محمد لمسرحية " مأساة الحلاج " لصلاح عبدالصبور المنشوره في كتاب " البطل في المسرح الشعري المعاصر " )
    وهيثم منتصر يرصد هؤلاء في شعره، ويحاول أن يكون هذا المريد، والذي يسعى جاهدا إلى الوصول، ولا ندري هل سيصل أم سيضل؟ قليلون هم الذين يصلون، والأغلبية تضل الطريق، كما سنرى في مقاربتنا لقصيدته ( شي الله يا أوليا ) :
    والقصيدة تقع في خمسة مشاهد، ويستهل كل مشهد بهذين البيتين :
    ( أبدأ كلامي صلاه ..
    وأنهي كلامي بذكر )
    والصلاة هنا تعني الدعاء، ويحاول أن ينتقل في مشاهده الخمس بين الرتب والدرجات، مُمنيا نفسه بالوصول، ولكنه للأسف لم يصل ولن يصل أبدا!!.
    1 – يخبرنا الشاعر بتراتيلهم :
    ( تراتيل وتلقاها ..
    تشبه لصوت دندنه )
    2 - ينقصه الصبر والجلد :
    ( صبري .. نفد صبره )
    3 - بداخله بذور التمرد :
    ( ولإني مش " أيوب " ..
    ما رضيتشي بالمكتوب )
    وكان موفقا في استدعاء " أيوب " كرمز تراثي ديني، النموذج والمثال في الصبر على الابتلاء والجلد، والرضى بالقضاء والقدر.
    4 – إعمال العقل :
    وفي كل المشاهد سنرى محاولة إعمال العقل، ويبدو لنا أن هذا العقل هو الذي يعوق خُطا تقدمه خطوات نحو الوصول، حتى لو قام بدفن قلبه في اضرحة الأوليا :
    ( كان لي قلب، ومات
    ودفنته جنبيكم
    أبقى ولي واللا ...
    أنا ضعت جنبيكم )
    وعندما يُعمل عقله، نجده يتراجع للخلف خطوات، فيراهم بعين عقله أموات :
    ( عقلي شرد تاني
    بصيت لفوق في السما
    لاقيته ودّاني
    لكريم وفيضه كتير
    ما يقولشي ليه، وإزاي
    ولا ينتظر منك ..
    غير بس أنت تتوب
    تصبر على المكتوب
    وإن كان بلاؤه كبير
    هو أكيد أكبر "
    ونجح الشاعر في إقامة الصراع بين العقل والقلب بداخل المريد.
    ( ب )
    ويأتي المشهد الثاني من المشاهد الماتعة والبديعة، ويتخلله الرمز المراوغ الجميل، الذي يومض ويشي بأكثر من معنى، فالشاعر / المريد، تعلق قلبه بالولي صاحب المقام :
    ( يا صاحب الكرامات
    كان ليّا قلب، ومات
    في عشقك المكنون
    فوصلت للدرجة
    إني بقيت مجنون )
    وهذا العاشق المجنون، قد ضل الطريق، لأن قلبه تعلق بالولي صاحب المقام دون الله، فالأولى أن يتعلق القلب بالله، وبحبه، وكان عقابه :
    ( شافني شاويش الليل
    أخذني ع المخفر )
    فأحسّ للحظة بأنه لم يصل بعد، ولكنه عاد إلى الوهم، وراح يستشعر بأنه على مشارف الوصول، ولم يبق أمامه غير أن يطير :
    ( إحساس وصل روحي
    يبقى ناقصني أطير )
    ونكتشف أنه طريق الوهم بالنسبة له، فهو يحلم بالمشي على الماء وبالطيران في الهواء!!
    وعندما يفيق :
    ( بصيت لفوق مني ..
    فالقيتها زنزانه )
    ويراوح الشاعر بمهارة بين الحقيقة والخيال، فهو حط على أرض الواقع، واكتشف أنه بسجن، ويتماهى مع السجن بالمعنى الحقيقي والسجن بالمعنى المجازي والرمزي، فهل لم تزل الروح حبيسة أغلال الجسد؟ .. وهو يحلم بالتخلص من كل أدران الجسد واشتهاءات النفس، يحلم بروح حرة طليقة، نقية ومُحلقة، روح طيبة تصل به إلى حدود الذات الإلهية، ويتفانى فيها، وهذا أسمى وأعظم ما يطمح أن يصل إليه الصوفي.
    هل يستطيع أن يخرج من هذه الزنزانة؟.
    ( جناحاتي ياربي ..
    خلاص بتتكسر )
    ويستدعي يوسف الصديق :
    ( و " يوسف " الصديق
    فسر دا يبقى إيه )
    وهذا يجعلنا نعيد التأمل في :
    1 – رمزية الزنزانة.
    2 – الجناحات التي تتكسر.
    3 – استدعاء يوسف الصديق وتأويله للرؤى، سواء تأويله لرؤية الملك أو تأويله لرؤيتي صاحباه في السجن، خباز الملك وساقي الملك.
    " يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ " .. سورة يوسف – الآية 41.
    4 – استرفاد شخصية سيدنا الخضر :
    ( و " الخضر " فين ألقاه
    أمشي معاه في طريق )
    لماذا الخضر ؟
    ( ويكشف المستور )
    فهو – أي سيدنا الخضر –
    ( جواه بيارق نور ..
    ودليله طوق موصول )
    وهذا المشهد من أجمل المشاهد في هذا النص، وحاول الشاعر أن يستبطن العالم الداخلي للمريد الذي يسعى للوصول، ولكن الشاعر لم يستثمر الفرصة لينقل لنا أحوال مريده، ويجعله يتنقل بين الدرجات والمراتب، ولكنه آثر في باقي المشاهد أن يرصد التجربة الصوفية من الخارج، ومنتقدا لها وماشابها من ضلالات.
    ( ج )
    وينتقد هيثم منتصر ظاهرة تعلق البسطاء بالأولياء، وابتعادهم عن الخالق :
    ( صندوق خشب ومقام ..
    والناس بتتمسح
    توصل لدرجة سُكر )
    وهو لا ينتقص من شأن الأولياء، فهم :
    ( الزهد كان توبكم
    فضلتوا لبس الصوف )
    وهم أيضا :
    ( حنيتوا أرواحكم
    يا أوليا بالخوف
    من رب عالي مقام
    لا يغفل ولا بينام )
    فالعيب ليس في الأولياء، الذين اختاروا الزهد، ولبس الصوف، ولكن العيب فيما شاب معتقدات الناس، وعكر صفو الدين الصافي، فينتقد اعتقاد الناس في قدرات هؤلاء الأولياء :
    ( تاخد بإيد الواد ..
    تجوز البنتين
    واللي اتعمت عينه
    ترجع عينيه الاتنين )
    وينتقد انحراف الناس عن التوحيد الخالص لله، بسبب قناعتهم بالأولياء، وأشركوهم مع الله في العبودية :
    ( سميتنا مريدينك
    ونسينا بيك ديننا
    ورحلت عنا بجسد
    ومشينا على دينك
    يا إمامنا، وطريقه )
    فيؤلمه أن الناس تصدق :
    ( يا مصدقين إن الحما بأمره
    وبمسحه من قبره )
    و..
    ( إن الحديد بيلين ..
    من لفة المريدين )
    ويذكرهم بالله الذي نسوه :
    ( نسيوا بإن الله ..
    فوق السما السابعة
    لكن قريب جدا
    وما فيش وسيط تلقاه )
    وعليك أن تناجيه :
    ( وتقول له : ياربي ..
    عبدك ضعيف الحال ..
    من غير ما يقصد شيء
    راح بدل الأحوال
    لكن رجع تايب ..
    تايب ومستغفر ..
    تايب ومستغفر ..)
    ( د )
    لم يذكر الشاعر أي من أقطاب وأئمة الصوفية المعروفين صراحة، ولكننا نستطيع ان نتعرف على السيد أحمد البدوي صاحب المقام الشهير بطنطا، من خلال عنوان قصيدته " قلبي بساط أحمدي "، واستثمر الشاعر المثل الشعبي " خلي البساط أحمدي " والذي يعود أصله إلى صاحب المقام الشهير الذي كان لديه كما يُشاع بساط صغير، بالكاد يكفي جلسته، وكلما جاءه ضيفا يتسع له البساط، وقيل أنه كان يسع من أحبته المئات!!.
    والشاعر لم يتماهى مع " البدوي "، ولا تجربته الروحية، ولكنه أخذ بساطه، ليبسطه لأحبابه هو، فيسع الكثيرين من مجايليه ومعاصرية، ومن أساتذته أيضا، فيُجلس عليه، عبدالرحمن الأبنودي وبدر بدير وطاهر البرنبالي وغيرهم، والشاعر بدلا من أن يحل في البدوي أو غيره من أقطاب المتصوفة يؤثر أن يحل في هؤلاء، لينقل لنا عبر حلوله فيهم وإعاشته الكاملة لهم ولأعمالهم الإبداعية، ينقل لنا في قصائد قصار خلاصة تجاربهم النفسية والروحية والإنسانية والإبداعية، بعد أن مرت بمصفاة نفسه وروحه، وهذه القصائد القصيرة المكثفة، من أجمل القصائد التي قرأتها، فلا لغو ولا ثرثرة، ولا زوائد ولا فضول، ولم يضع لهذه القصائد القصار عناوين، ولكنه اكتفى بأن يضع نجمة في أعلى كل صفحة، وكأنها إشارة إلى هؤلاء، فكل منهم نجم بذاته، وهؤلاء النجوم هم من ينثرون الضوء في سماواتنا المعتمة، وهذه القصائد تحتاج إلى مبحث خاص.
    ( بنتقابل ..
    في سُنه وفرض
    بتشبه روحنا روح الضل ..
    في الملكوت
    بيجمع بينا نبرة صوت
    ولون حُمرة خدود ..
    في سكوت )
    ويتألق الشاعر أكثر في نصوصه الكونية، تألق وألق الكون ذاته، ويتجلى هذا في نصه الكوني البديع ص ص 53-54 وتتناثر مفردات مثل : الأرض البور، المطر، النار، السحابة، الاخضرار، الطبيعة، الحمم، الطين، الصبح، الغيامة، الضلام، النور ... إلخ ) ويشكل من هذه الفردات لوحة كونية بديعة وماتعة ومبهرة.
    وورد أيضا ذكر سيدنا الحسين صراحة في قصيدة " واقف على استحياء "، وفي حضرة سيدنا الحسين، يرصد ظاهرة تحلق الناس حول ضريحه وينتقدها :
    ( لافيت على المريدين
    وف حضرتك يا " حسين "
    شفت البشر كهجين )
    ..............................................
    ( 4 )
    ( أ )
    الشاعر رصد ظاهرة الدراويش والمجاذيب، وتعلقهم بالأولياء، وبالأضرحة، وانتقد سلوكياتهم التي ابتعدوا فيها عن التوحيد الخالص، وعن الله، الجدير وحده بالعبادة، وإذا كان الشاعر لم يتعمق التجربة الصوفية من الداخل بالقدر الذي كنا نتمناه، ولم يقدم لنا التجربة الروحية العميقة التي تهزنا من الداخل وتمسك بتلابيب أرواحنا، لم يفعل ذلك لأنه لا يريد أن يكرس للسلبية التي هم عليها، ويؤثر أن يقوم بدوره كشاعر ثائر، ثائر على الظلم، وعلى القهر، والفقر، فخلاص الصوفي يراه الشاعر فرديا، وهو في بعده عن الناس، وفي اعتكافه، والشاعر يرى الخلاص في الخروج إلى الناس، وتبني همومهم وقضاياهم، والتعبير عن أحلامهم وتطلعاتهم وانكساراتهم، وهذا دور المثقف الحقيقي، فالشاعر يجب أن يأخذ دور الريادة، ويكون في مقدمة الصفوف، ليأخذ بيدهم، وشاعرنا لا يغفل دوره الاجتماعي، ويبصر الناس ويرشدهم إلى طريق الخلاص، وطريق شاعرنا الثائر غير طريق المتصوف، الذي كل همه أن يصل إلى حالة التفاني، ويظل يتنقل بين المراتب والدرجات حتى يصل إلى المرتبة التي يستطيع فيها التعبير عن لذة الوصول، ولذة الحالة التي وصل إليها، وليس كل المريدين يصلون، فيتساقطون في الطريق كأوراق الخريف، وما أكثر من ضلوا الطريق، وأضلوا الناس، وشاعرنا على وعي بصير بمتطلبات عصرة، وبقضاياه، وهو في هذا الديوان يسير على درب صلاح عبدالصبور الذي قدم لنا الحلاج ثائرا ومصلحا اجتماعيا، وسار أيضا على درب عبدالرحمن الشرقاوي الذي استعاد لنا الحسين مرة ثائرا ومرة أخرى شهيدا، ووعي هيثم بهموم ومشاكل عصره لا يقل عن وعي هذين الرائدين الكبيرين بهموم ومشاكل عصرهما، فهو ينتقد الفقر والجوع، وانكسار الحلم، وغياب الفكرة، فأمام الجوع لا حلم ولا فكرة، فيقول في قصيدة ( ع الكرسي الهزاز ) من المشهد رقم ( 10 ) ملخصا لأحوالنا اليوم :
    ( مرهون على لقمة عيش
    والفكرة بقت ما تجيش
    بنعيش عيشة دراويش )
    فهم يريدون لنا أن نعيش حياة الدراويش! وأن نكون أسرى البحث عن لقمة العيش، وعندما نصل إلى هذه الحالة ستغيب الفكرة، وكيف نفكر؟ ولماذا نفكر؟ وهم لايريدون أصحاب الرؤية والفكر، لا يريدون المثقف المتعلم، ولا يكتفون بهذا، بل يسعون ليجهضوا حتى الحلم! :
    ( أحلامي خلاص بتودّع
    مكسبها زي الجوع
    ينهش جوا الممنوع
    يدهس على خيط الفكره
    يسرق أحلام من بكره )
    ولعلنا نلمح اتساع زوايا الرؤية عند هيثم، وتكثيفه الشديد للمشهد.
    وشاعرنا قدم لنا بعض المشاهد المؤلمة، والتي هي إدانة للحال المزري الذي وصلنا إليه، سواء اجتماعيا أو سياسيا، ، فانظر إلى رسمه لصورة الطفولة البريئة في المشهد رقم ( 8 ) :
    ( مناديل كانت سارحة بواد ..
    ماسكه في إيديه الاتنين
    وصوابعه ع القزاز ..
    راسمه له ضحكة باهته )
    ومن زاوية أخرى في المشهد رقم ( 9 ) :
    ( يفط الإعلان بتهيج ..
    وعيال عريانه بتلعب
    والضحك في إيد كرابيج
    بنوتة في إيد مناديل ..
    بضفيرة وغمزتين
    والعين مكسوره وتايهه )
    وفي هذه المشاهد إدانة سياسية واجتماعية، ويُظهر فيها الشاعر براعته في رسم الصورة، فتأمل معي :
    ( مناديل كانت سارحة بواد ..
    ماسكه في إيديه الاتنين )
    وتأمل أيضا :
    ( بنوتة في إيد مناديل .. )

    ( ب )
    1 – الشاعر هيثم منتصر من أصحاب النفس الطويل، فالقصيده عنده قد تشغل العشرين صفحة أو أكثر، ويقسم القصيدة إلى مشاهد، فقصيدة ( ع الكرسي الهزاز ) مقسمة إلى إحدى عشر مشهدا، وقصيدة ( شي الله يا أوليا ) مقسمة إلى خمسة مشاهد، وهما أطول قصائد الديوان.
    والمشاهد بصرية غالبا، تأتي أحيانا كمشاهد قصصية، يعبر في المشهد عن موقف قصصي، وأحيانا تأتي المشاهد كلوحات، يرسمها بالكلمات كما يقول نزار قباني، وأحيانا تأتي المشاهد كصور قلمية، كتلك الصور التي كان يقدمها لنا يحيي حقي نثريا، ولكن هيثم يقدمها شعريا، وقد تأتي كصور سينمائية، ولا تخلو في طريقة ترتيبها، وتبويبها، وتقديم بعض المشاهد وتأخير الأخرى من دخول فن " المونتاج " عليها، وهذا يؤكد إنفتاح الشاعر على الفنون الأخرى، والاستفادة منها، وتوظيفها في إثراء نصه الشعري.
    ........
    2 – غلبة اللغة النثرية أحيانا، ونراها مبثوثة في القصائد التي تمتح من الواقع المعيش، ولكنها لا تخلو من جمال عندما تساهم في بناء وتشكيل المشهد أو اللوحة أو الصورة، وتصبح وكأنها لبنة رئيسة في البناء ولا يمكن الاستغناء عنها، فانظر :
    ( صندوق ورنيش ..
    وقديم
    وإيدين عيل ويتيم
    داير في سواقي ..
    بواقي
    مطرح ما يروح بيلاقي ..
    الهم بياكل فيه )
    فكل الألفاظ نثرية تقريبا باستثناء السطر الأخير, ولكننا لا نستطيع أن نحذف كلمة أو نستبدل كلمة بأخرى رغم النثرية الواضحة، وهنا تكمن قدرة الشاعر وبراعته.
    .........
    3 – رموز الشاعر في مجملها رموز إيحائية بسيطة، باستثناء الرمز الكلي المراوغ الذي انتظم المشهد الثاني من قصيدة " شي الله يا أوليا " وقد أشرنا إليه سابقا، وجاءت نصوصه غير مستغلقة على القارئ، لا يكتنفها الغموض ولا الإبهام ولا تستعصي على الفهم على العكس تماما من شعر المتصوفة، فالشعر الصوفي يقوم على الصور، وهي غالبا صور جديدة، ويكتنفه أيضا الرمز، ولكنه الرمز الذي يستعصي على المتلقي، وخاصة المتلقي البعيد عن تراث الشعر الصوفي والبعيد عن مسالك ودروب الصوفية.
    ...........
    4 – لا يقع الشاعر في أسر الصور التقليدية والمكررة والمستهلكة، ولكنه يحاول أن يبحث عن الصور الجديدة والألفاظ البكر، وقد أشرنا إلى بعض هذه الصور سابقا، وندعو القارئ إلى تأمل عشرات الصور التي يعج بها الديوان :
    ( فاردة دراعاتك زرع )،( وأنا بسمع صوتها رذاذ .. )، ( والحلم الفاضل عندي / مش عارف يبقى فصيح )، ( تنهيده بتجرح حلقي )، ( فتزهزه .. /ضحكة قلبه )، ( مناديل كانت سارحه بواد .. )، ( بنوته في إيد مناديل .. )، ( فاشد الحيل بالتيله / واضفر روحي جديله )، ( وأنا هايش .. / عايش شيخوخه )، ( الهم بياكل فيه ) ،( والضحك في إيد كرابيج )، ( بنت احتلال الروح .. / تدخل شواشي قلبك الطيب )، ( ياسايبه المشاعر .. / في ضل الكلام، وسايبه لي قلبك .. في لمس السلام )، ( تسبيلة لقا طارح )، ( كزيت على روحي )، ( وانا هايش .. / عايش شيخوخة ).
    وللمزيد من الصور : انظر الديوان
    .......
    5 – تناثر بعض الكلمات غير الشعرية، وبعضها ليست عربية مثل : بلكونة، ماسك، منوّر .. وغيرها :
    ( بلكونة ..
    قلبي الطاله
    دايبه ..
    في بلكونة قلبك )
    ثم يقول :
    ( بلكونة قلبك
    طاله على منور ضيق )
    ويقول :
    ( من وشك ..
    خدت ملامحك
    وعملتك ماسك ل وشي )
    وهذا لا يمنع أن الشاعر قد نجح في توظيف كلمات غير عربية توظيفا جيدا، مثل كلمتي: " سبووت " و " زووم "
    ( والكادر يا دوب دقيقه / مش هي دي الحقيقه / spootعليه و zoom )
    .........
    6 – التوظيف غير الجيد لبعض الألفاظ التي تبتر المعنى، وتأتي دلالتها على غير ما يريد الشاعر :
    ( شايفك ..
    في تاريخ أجدادي
    هكسوس، وصليب، وتتار. )
    فالهكسوس والتتار والصليبيين من الغزاة المحتلين، فهل يريد الشاعر استنهاض هممنا وتذكيرنا بمقاومة أجدادنا لهم، أم أن الأمر اختلط على الشاعر ويظنهم من الأجداد؟
    الرؤية هنا ملتبسة وغائمة.
    .........
    7 – النص ص ص 49 – 51 كنت اتمنى أن تبدأ القصيدة من صفحة ( 50 ) ويتم حذف صفحة ( 49 ) كاملة، فيحكي الشاعر ببساطة وتلقائية وعفوية، قصة حب جمعت بين فتى وفتاة في عمر الزهور، وتم اجهاضها بلا رحمة، وبعد سنوات يستعيدها الشاعر :
    ( كان فيه زمان ..
    بنوته زي النور
    تخطف الشمس البراري
    بنُور ينور كون
    يلالي
    يا ليالي عودي عودي
    لمبه بتنور عمودي
    يستقيم وياها عودي
    تسهر النجماية لما الصبح يظهر
    أو يدوب يبدأ يبان
    كان عمرها ..
    عمر الطفوله الكامنه
    تهمس لي، وبدون أزمنه
    بشويش ..
    بشويش ..
    من خلف شيش
    وكأنها بتضخ شريان الحياه
    وبترسم الأحلام أمان
    وباسمها ..
    يكبر إمام العشق.
    .........
    8 - الحب عند شاعرنا يخالطه الرغبة والشهوة، فهو إنسان، لا هو بالملاك ولا هو بالشيطان، فيخطئ، ويتوب ويستغفر، وتأخذه نداهة الغواية إلى أبعد مدى أحيانا :
    ( عايز غوايه
    وبنت من آخر مدى الإحساس )
    ويقول :
    ( بنت الخطيئة ..
    غوتني
    راودتني عن نفسي
    و " همت بي " )
    والحب عنده غير الحب عند المتصوفة، فالحب عندهم هو حب الله ( الحب الإلهي ) وهو أسمى أنواع الحب، ولفظة الحب، تم قصرها على الله، والتعلق به وحده، والتفاني فيه، والحب عندهم أكثر نقاء، حب سماوي مقدس، لا يخالطه شهوة ولا يدنسه غرض، فتقول رابعة :
    (أحبك حبين حب الهوي / وحباً لأنك أهل لذاك
    فأما الذي هو حب الهوي / فشغلي بذكرك عمن سواك
    أما الذي أنت أهل له / فكشفك لي الحجب حتي أراك
    فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي / ولكن لك الحمد في ذا وذاك )
    وهم يسكرون من لذة الحب، ولذة الوصول، ولذا جاءت اشعارهم في الخمر وصارت رمزا دالا على حالة الوجد، يقول ابن الفارض في قصيدته " الخمرية " :
    ( شربنا على ذكر الحبيب مدامة / سكرنا بها من قبل أن يُخلق الكرم
    لها البدر كأس وهي شمس يديرها / هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم
    ولولا شذاها ما اهتديت لحالها / ولولا سناها ما تصورها الوهم )
    ......
    وأرجو أن أكون قد نثرت بعض قطرات الضوء حول الديوان، وخالص تحيتي ومحبتي وتقديري للشاعر الذي اتخذ لنفسه طريقا مختلفا، وله صوته الخاص، ونتمنى أن يأخذ المكانة التي يستحقها، قياسا على جودة إبداعه، والله الموفق.
    ( ورقة نقدية لمناقشة الديوان يوم الخميس الموافق 31/ 3 / 2022م بقصر ثقافة ديرب نجم – محافظة الشرقية )
يعمل...
X