مقامة القزم والعلم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ahmed_allaithy
    رئيس الجمعية
    • May 2006
    • 3961

    مقامة القزم والعلم

    <strong><font size="5"><br /><font color="#000000">كان ببادية من بوادي العرب أعرابيّ سيء الخلق ضعيف الأدب. لا يكاد يقول شيئاً من جميل الأقوال إلا وغلبه طبعه البطّال. فيفسد ما تعجز دهور على إفساده ويفتئت على الله وعلى عباده. وكان لا يعلم من نفسه أنه على هذه الحال، ويظن أن الناس من الحماقة كالدواب حَمَلَة الأحمال. وكان ماكراً متصنعا، يدَّعي عن الدنايا ترفُّعا، فكان يقابل الناس ببشاشة ووجه طلق فيجمع من حوله جموع الخلق، ويقول من الكلام ما تيسر، دون كثير تفكير أو تبصُّر. فإن عارضه من الناس معارض أحال لسانه إلى مقارض، واستحال يوم السامع إلى سواد، وأشاع سبه وشتمه في جميع الأمصار والبلاد. فكان من يعرفه يعزف عن المسير في طريقه، وينبذ طعامه والشرب من إبريقه. لا يقبل منه دعوة علنية، ولا خفية ولا سرية. أما رفاق طريقه فمنهم من على نفس الشاكلة، ومنهم من يبحث عن الماء في الأرض القاحلة، فيقول سحابة صيف عن قليل تَقَشَّعُ، أو يلتمس شفاء للمريض فينجع. <br /><br />وفي يوم مر به رجل على رأسه عمامة، هي للعلم إشارة وعلامة، فعرفه الأعرابيّ وناداه قائلا: يا شيخنا الجليل، أقبل وعلمنا من علمك الجزيل. فنحن مشتاقون للعلم والسماع، لننزع عن جهالتنا القناع. فاذكر لنا من طرائف الحكمة ما ينفعنا، ويذهب غيظ قلوبنا ويقنعنا. فعِلمُنا بك أنك لجميع الأخبار موسوعة، وتعلم كل شاردة وخافية ومُوَثَّقَة وموضوعة، وندر من بين الناس من له عقلك وفهمك، وحكمتك وعلمك. فأنت بين الناس عَلَمًا شهيرا، ومحنكاً خبيرا. لا ينتقص من قدرك إلا جاهل، بينه وبين العقل ألف حائل، أو من اعتراه مسٌّ من الجنون، والهلاوس والظنون، أو من يسعى لحتفه بجهالته، ولا يقتنع إلا بعد سحقه وإهانته. <br /><br />فاستأنس الشيخ بحسن المخاطبة والمقال، ورغم علمه بشدة المبالغة في الأقوال إلا أنه حطَّ رحاله في الحال. ووضع على الأرض جريدة كانت بحوزته، وجلس عليها بكل قوته. وقبل أن يفتح الشيخ فاه، صرخ الأعرابيّ في الناس أي اجتمعوا إليّ فالخير كله بين يديّ. هذا أبو التاريخ فينا سيحدثنا بحاضرنا وماضينا. فهو للصدق والحق لسان، وللأمانة والنزاهة عنوان، ولا يخفى عليه من الأحداث ما كان، فهو حاضر وإن لم تره العيون، ومبدد للأوهام والوساوس والظنون. فاستمعوا لمقالته وصدقوه، ولا تنكرو عليه حرفاً أو تكذبوه. <br /><br />وما أن انتهى الأعرابي من كلامه حتى أقبل الناس من كل حدب وصوب، وأنشأ الشيخ الجليل يقول: <br />- سأحكي لكم حكاية بلغت من العجب الغاية، فاستمع أيها الجمع المحترم لقصة قزمٍ ظن نفسه علم. <br /><br />يُحكى أن رجلاً كان يعيش في بيت على أطراف غابة، منعزلاً عن الأهل والأحبة والصِّحابا. وكان ينفق وقته في العلم والتحصيل، ويؤمن أن العقل للفِعال دليل. وكان لا يخرج من بيته إلا في اليوم خمس مرات، للتعبد وإقامة الصلوات، ويذهب للسوق في الشهر مرة يشتري الطعام ويملأ الجرّة. وبعدها يعكف على عمله، إذ زادُه كله في عقله. <br /><br />وخرج للسوق في يوم من أيام الله، وكانت الجريدة من بين ما اشتراه. وجلس يقلب صفحاتها، وينقل عينيه بين أعمدتها، فيقرأ مرة خبراً في السياسة، وأخرى في حسن الخلق والكياسة، ومرة قصة قصيرة أو قصيدة، وأخرى وصفة لعمل العصيدة. وبينما هو على هذه الحال إذ انتبه لمقالة فيها لطافة تتحدث عن كنوز العلم الثقافة. أخذ صاحبها يتحدث فيها عن خبرة له في سالف الأيام، وكأنها حلم من الأحلام، ويمتدح في جملة منها من كان يظنه عَلَما من الأعلام. <br /><br />ثم قلب صاحبنا الصفحة فوجد فيها رداً من العَلَم المزعوم على صاحب المقالة، تقطر خداعا ودناءة وسفالة، وتنزف وضاعة وجهالة. فبعد أن شكر الكاتبَ على تقريظه المليح استل سيفه ونضح بكل مسترذَل وقبيح -والإناء بما فيه ينضح، وما أفلح من تبجح- ونسب إلى نفسه كل شيء نبيل، وحِمْل كل عبء ثقيل. والسهر على راحة الأمة جميعا، وحمايتها ممن كان متعاليا ووضيعا. وأخذ يصول ويجول، ويقفز كالقرود ويقول: <br /><br />كان همنا في هذه الدنيا أن نحفظ للأمة إرثها، وألَمُنا أن يأتي إليها من يهدد كيانها. وكان علينا أن نحمل الأمانة دون كلل ونصبر على الإهانة والعِلل. لا نشكو إن أصابنا الملل، أو نستسلم إن طغى على غيرنا الكسل. بل العمل الدؤوب والجد والعزيمة كانوا شعاراً لأفعالنا العظيمة والكريمة. فصاحب الوعي والضمير لا يرضى بما فيه تقصير، ولا يقبل بأفعال كل متكبر وحقير. وقد ارتكب المتطفلون عديمو الأخلاق في حقنا جريمة، همُ البلطجي والانتهازي وشرذمة عقيمة، أرادوا أن يُسكتوا صوتنا، وأن يدوم صمتنا، وتأبى علينا أخلاقنا إلا أن نرد لهم الصاع صاعين، ويسمع بأمرهم الأصمُّ وينكشف أمرهم لكل ذي عينين. فلتعلم -يا حفظك الله- أن جرمهم قد بلغ منتهاه. فهم مبتزون مفلسون، فاشلون متنطعون. بلغ فسادهم ما تتقزم أمامه الجرائم النازية، وحروب الإبادة اللإنسانية، وتقشعر من هوله البشرية، فما حل بالبوسنة والهرسك وأهل رواندا يهون، إذا قارناه بجريمتهم النكراء وفعلهم المجنون. والعجيب أن يجتمع حولهم من الشياطين سلالة تزيديهم غياً بصمتها وضلالة. ولو كنت منهم -وقد أصابهم السعار- لسلمت نفسي لمحكمة لاهاى أو أشعلت في نفسيَ النار. فإعدامهم راحة لكل صاحب ضمير من أمثالي، كي نعود إلى الراحة وأيامنا الخوالي، حين كانت لنا سلطة وصولة، ونُسقِط الخصوم في كل جولة. إن أولئك الأوغاد عصابةٌ من الفاشلين من الببغاوات والأصنام والمطبلين، بلغ بهم الهبوط والانحدار أن وصل سبهم إلى باب الدار، ونسوا أن لدي مناعة وحصانة، وأني صاحب مركز ومكانة. وقد حججت ثلاث مرات، واعتمرت خمسة عشر مرة، فأنا المختار من بني جنسي، وحسناتي مستمرة. أما الخونة والحاقدون، والسفهاء والانتهازيون فلتلحق بهم كل لعنة وبلية، حتى لا تبقى لهم بقية.... <br /><br />وبينما الشيخ يكمل حديثه قاطعه أحد الحاضرين وقال: <br />- يا شيخنا ما هي جريمة هؤلاء؟ قل لنا. فقد -والله- سمعنا فيهم من الشتائم ما لا يليق أن يخرج إلا على ألسنة البهائم. وإن كان هؤلاء جماعة ظالمة فواصفهم بهذه الأوصاف قد تعدى حدود المنطق والصواب، وحرمة المسلم وكل الآداب. ولا آراه إلا دنيء النفس والطبيعة، فاجر الخصومة ومحرضا للقطيعة. يزكي نفسه كأنه قديس، ولا يفعل هذا إلا خسيس. فمادح نفسه شيطانٌ جهول إذ يظن نفسه مَلَكاً عقولْ. ويقول إنه الضحية وهو رب لكل دنية. فليس في كلامه حجة أو دليل، أو منطق وتحليل. وما سمعنا في روايتك عن حاله من جَد إلا ما يوجب عليه الحد. <br /><br />قال الشيخ: <br />- أي والله يا بني صدقت. ولكنك في تشبيهك إياه للبهائم ما أنصفت. فلم ير إنسانٌ من الدواب ما يفعل فعل هذا الباهت المغتاب. أما جريمة الجماعة المذكورة فهي جريمة كل نبي يصدع بالحق، ويدعو إلى الصلاح والصدق. كان هؤلاء اجتمعوا على نور من الله، وحَرَمَهُ المولى إياه. فكانوا يجدّون ويتوكلون على باريهم، وهو يخدعهم وبالحسنى يمنِّيهم. حتى انكشف أمره بينهم، وأرادوا له الستر إذ كان منهم، ولكنه أبى إلا أن يفضح الله مكنونه، فطاش عقله وجن جنونه. وأصابته الغيرة والحسد وانتكب، فانقلب إلى شر منقلب، ولم يبق له سوى السب والشتيمة، والبغض والتفسخ والجريمة. <br /><br />وقبل أن ينهي الشيخ قصته، هجم عليه الأعرابي وأمسك لُمَّتَه، وشرع يصرخ فيه صراخ الغراب بما يستحي منه الحَضَر والأعراب. والوقوف جميعٌ في ذهول من تصرف الأعرابي الجهول. وقال: <br />- أنا مَنَ كتب الرد الذي سلف بالصحيفة، فاستمع يا من أنت أحقر من الجيفة، أنت جاهل خَرِف، مدنس لقدسيتي، ورمز للقرف. كم طال صبري عليك، وسترى مني ما يقطع لسانك ويكبل يديك. إنني أعلم عنك من الأسرار والأدران ما يشيب لهوله الولدان، فكم خدعت من أناس وشعوب، فغيرت لهم المسالك والدروب، وأوهمتهم بالصدق وأنت كذوب. <br /><br />فانتفض الشيخ انتفاضة منها ارتعد كلُّ الحضورِ، الشيخ منهم والولد وقال للأعرابي: <br />- إنني منذ البداية ملمٌ بقصتك، عارف لغايتك. وقد اخترت من الأخبار هذه الحكاية لأنك صاحب خيانة ووشاية، فأردت منها أن أعريك بين الناس، حتى يدرك صاحب العقل والقياس أن الكاذب لا يصبر على سماع الحق حتى النهاية، وها أنت قاطعتني ولم انته من الرواية. وها هم الناس من حولك قد علموا طويتك، وكشفوا سريرتك. فلم يعد بكلامك البطالِ أحدٌ ينخدع، ولا يسير سيرك إلا كل ضال مبتدع. وقد قلتَ عني من قبل إنني صادق القول والفعل، وها أنت الآن ترميني بالكذب والنعل. فإن أعجبُ فمن جهلك وطول غبائك، وظنك الناسَ تتبعك في شقائك. <br /><br />أنا التاريخ أدوِّن ما أراه، ولا أبالي أأعجبك الكلام أم أوجعتك الآه. وإني متتبع لنقائصك وما أكثرها، مدوِّن لأرجاسك أكبرها وأصغرها. وإني أعلم أنك سليط اللسان، حقود حسود خبيث البيان. وسأُدخلك بيتي من هذا الباب، باب القذر والأوساخ والسباب. وحين ينتهي الأجل، ولا يبقى لك من العمل سوى الدجل، سأصدر فيك حكمي الفصيح، وأسطِّر فيك أسفارا، بأنك كنت رمزا لكل قبيح وكنت للدنايا شعارا.</font></font></strong>
    د. أحـمـد اللَّيثـي
    رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
    تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.

    فَعِشْ لِلْخَيْرِ، إِنَّ الْخَيْرَ أَبْقَى ... وَذِكْرُ اللهِ أَدْعَى بِانْشِغَالِـي

يعمل...
X