ترجمة مقال البروفيسورة التركية بينار بيلغين What Is the Point About Sykes-Picot - منظور سياسي جديد لتقسيم العالم العربي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • فيصل كريم
    مشرف
    • Oct 2011
    • 296

    ترجمة مقال البروفيسورة التركية بينار بيلغين What Is the Point About Sykes-Picot - منظور سياسي جديد لتقسيم العالم العربي

    بسم الله الرحمن الرحيم

    توطئة:

    ثار جدل متجدد منذ صيفي العامين المنصرمين لذكرى مرور 100 عام على ما أطلق عليه "اتفاقية سايكس-بيكو". واندلع جدل حول حقيقة تقسيم العالم العربي إلى دول ودويلات وتجزئته من خلال فرض حدود اعتباطية (لوضوح رسم معظمها بخط اليد والمسطرة المستقيمة)، وما إذا تسببت هذه الاتفاقية السرية، التي قُدّر لها أن تُفضح بعد شهور قليلة من عقدها، في هذا التقسيم والتجزئة للوطن العربي الذي لا تظهر عليه وجود اختلافات قومية أو دينية أو سياسية أو تاريخية تحتم وضع حدود معينة. كما لا تبرز أية موانع أو عوائق جغرافية تبرّر هذه الحدود. لكن يبدو أن هذه الاتفاقية ليست المسؤولة لوحدها عن تكريس وجود هذه الدول والدويلات العربية المتشرذمة، بل تأتي كحلقة ضمن سلسلة طويلة عقدتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. فلعل انكشاف أمر اتفاقية سايكس-بيكو على يد الثوار البلاشفة في روسيا بعد اندلاع ثورتهم سنة 1917 أدى إلى ضرورة تغييرها وتعديلها غير مرّة، فهي اتفاقية مثّلت خطوة تمهيدية أثناء الحرب العالمية الأولى لاستهلال التقسيم الذي عزمت عليه القوى الغربية الاستعمارية. ومع أن هذه القوى واجهت إحباطات متعددة لمشروعها -كهزيمتها في معركة غاليبولي، وانتصار بريطانيا المكلّف جدا في جنوب العراق ومعركة كوت العمارة، ثم مواجهتها للثورة العراقية الكبرى سنة 1920، واندلاع أكثر من تمرد على الحكم البريطاني في مصر، وأحداث أخرى كثيرة- إلا إن القوى الاستعمارية آنذاك أصرّت على مشروعها التقسيمي للوطن العربي مهما كلّف الثمن. ولا يختلف إثنان على أن هذا المشروع جرّ على الدول الغربية أحمالا باهظة الثمن ومشاكل لا حصر لها بسبب عدم تحمل المنطقة العربية أعباء مسؤولياتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية لوجود قوى الاستعمار كاحتلال مباشر تارة، وظهور أنظمة تسلطية قمعية تابعة للغرب تارة أخرى.

    وهكذا، كان من بين المقالات البحثية التي ظهرت عن هذا الموضوع خلال العامين المنصرمين المقال الذي قدمته البروفيسورة التركية بينار بيلغين (سنقدم نبذة عنها أدناه) الذي وضعنا له عنوان "دلالات على سايكس-بيكو"، وقد حصلتُ عليه من أحد المواقع الإليكترونية. يجدر التنويه إلى أن الباحثة أخذت من زعم ما أطلق عليه "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) تدمير الحدود بين البلدين و"القضاء على سايكس-بيكو" نقطة انطلاق لمقالها –الذي ربما هو جزء من بحث أو دراسة أكبر- لا لكي ترد على ذلك التنظيم، بل لإثبات حقيقة تطرحها وترى أنها هامة للغاية، وهي أن المشكلة لا تكمن في اتفاقية سايكس-بيكو بحد ذاتها أو الحدود التي نتجت عن عملية التقسيم لاحقا، بل في الأسلوب السياسي الذي تُدار من خلاله بلدان المنطقة حيث الأنظمة القمعية التسلطية والاستبدادية المتماثلة في الشرق الأوسط (وتحديدا بلدان العالم العربي) وإن اختلفت أشكالها وأحجامها وأدوارها. ويظهر لنا من النص استخدام الباحثة التركية لجملة ن المفاهيم التي تبدو لكثير منا أنها بحاجة لمزيد من الشرح والتفسير. ونحن كمترجمين للنص نترك الحكم على هذه المفاهيم المعاصرة للقارئ الواعي والمجتهد في البحث، سوى أن ترجمتها وتعريبها يقع على عاتقنا وفي صميم مسؤوليتنا المعرفية، مع صعوبة هذه المهمة وتعقيدها.

    اقترحت على الزميل الطيب جابر عطاالله ترجمته فوافق مشكورا وأتم الترجمة خلال مدة معقولة. لكن مع مراجعة الترجمة برزت إشكاليات دلالية ووظيفية في النص لتعريفات ومفاهيم لها نصيب محوري وهام في المقال يتعذر المرور عليها مرور الكرام. وبدا لنا أن ليس لبعض هذه المفاهيم مقابلات ومكافئات واضحة ومنضبطة في لغتنا العربية، فهي عبارات حديثة التكوين والاستعمال حتى في اللغات الأخرى كاللغة الإنجليزية التي تخلو من تعريف دلالي ووظيفي مباشر ومنضبط. من هذه المفاهيم التي ذكرتها الباحثة في مقالها واستخدمتها استخداما جوهريا المصطلح التالي الذي استوقفنا كثيرا:
    Discursive Economy
    وقد اجتهدتُ في البحث عن مقابلات معقولة له في أرشيف الإنترنت فلم يظهر شيء مفيد. ثم فتحت نقاشات في صفحات التواصل الاجتماعي وكذلك منتدى الجمعية الدولية لمترجمي العربية ATI فتوجهت اقتراحات بعض الزملاء إلى الترجمة المباشرة للمصطلح "الإقتصاد الخطابي أو التخاطبي". لكن المشكلة أنه ما من مدلول أو وظيفة أو استخدام لهذا التعبير إذا أخذناه كمقابل للمصطلح المذكور أعلاه، لا سيما وإن سياق المصطلح لا يشير لأي نوع من أنواع الإقتصاد المعلومة التي بحثت فيها ونقّبت عن معنى قريب لهذا السياق. إذا استخدمنا تعبير "الإقتصاد الخطابي أو التخاطبي" فلن يعني هذا شيئا مفهوما له تجسيد معلوم أكاديميا أو واقعيا، وسيصبح الاستخدام الترجمي مجرد تأدية واجب كيفما اتفق، وهو ما لا نريده لنشاطنا المعرفي في هذا المجال. ثم جاءتني إحدى الزميلات من فلسطين وأشارت لي على رابط لندوة وضع فيه أستاذ أكاديمي من فلسطين المحتلة اسمه د. إمطانيس شحادة تعريبا للمصطلح وهو "الهياكل المقونِنة للإقتصاد" . فعرضت هذا التعريب في منتدى الجمعية الدولية فناقشني فيه الأستاذ حامد السحلي مشكورا نقاشا مستفيضا، إذ أعرب عن تحفظه على الاستخدام أو "الإطراد الصرفي" بهذا الأسلوب اللغوي. ثم سار بنا النقاش إلى تحويله إلى "الهياكل الإقتصادية المقوننة" كأسلوب أصح لغويا. ومع النقاش المستمر الذي اشترك فيه الدكتور عبد الحميد مظهر، اقترح الأستاذ حامد تعبير "الإقتصاد القسري" أو "النمط الإقتصادي القسري"، وهو أفضل ما يمكن استنباطه من مدلول المصطلح في السياق. غير أنني وضعت عاملين رئيسين لفهم المصطلح وتفكيكه ثم تركيب تعريب أظن أنه يقترب من المعنى السياقي بطريقة أو بأخرى، ولا أزعم هنا أنه التعريب النهائي أو الصحيح أو الفعلي للمصطلح، بل هو محاولة للتقريب والمقاربة في ظل عدم وجود مقابل صريح أو حتى قريب. فأما العاملان فهما:
    - التعريف القاموسي
    - الحكم السياقي
    فأرى أن المصطلح يتكون من صفة discursive وموصوف economy ولذا فإن تفكيك المصطلح بالإنجليزية يعتمد على كلمته الأساسية هنا economy التي اقترحنا أن معناها الدلالي -وربما الوظيفي- كما شرحه قاموس (مريم-وبستر) يقترب من المدخل الثالث في بنده (a) الذي ينص على:
    the arrangement or mode of operation of something: organization
    في حين إذا تتبعنا مفردة discursive قاموسيا (كما في مريم-وبستر أيضا) سنرى أن مدخلها الثالث يرتبط بمفردة discourse التي إن تفحصنا مدخلاتها في هذا الرابط
    verbal interchange of ideas; especially : conversation; formal and orderly and usually extended expression of thought on a subject; connected speech or writing… See the full definition

    سنلحظ أن مدخلها الثالث يقترب شيئا ما كذلك من السياق الوارد بالبحث فيقول التالي:
    a mode of organizing knowledge, ideas, or experience that is rooted in language and its concrete contexts (such as history or institutions) * critical discourse
    وهو نوع أو نسق من التنظيم يرتبط (بالنهاية) بسياقات تاريخية أو مؤسساتية مادية أو صلبة.
    فانتقاء المدخلين الثالث والثالث للمفردتين أرجو ألا يفهم منه الاعتباط أو التعسف، بل جاء نتيجة لحكم السياق الوارد. وهو أفضل فهم لي -على الأقل- للمصطلح، ولا أدعي أنه الفهم الصحيح البتة.
    وعلى الرغم من الإشكال الماثل بصعوبة ربط ذلك مع السياق الوارد في البحث، لحداثة العهد بالمصطلح أوربما لتعسف الباحثة باستخدامه كفكرة جوهرية بَنَت عليها ورقتها، إلا إن المترجم لا بد أن يواجه مثل هذه المواقف بأفضل الحلول المتاحة. وليس ذنبه ولا ذنب اللغة أن ثمة قيود وعراقيل تواجه التقدم الحضاري والمعرفي في واقعه المعاصر. فإنما هي قيود صنعناها نحن بإيدينا وكبلنا بها أنفسنا.
    فأقترح كترجمة -غير نهائية- استخدام تعبير "تنظيم قسري" كتعميم يشمل فكرة الإقتصاد (إن كان إقتصادا) متضمنا في "تنظيم" لأن الإقتصاد نوع من أنواع التنظيم. ويشمل القانون (إن كان قانونا) متضمنا في "قسري" لأن القانون يأتي بالقسر والإجبار في النهاية.
    كما أننا واجهنا تعبيرا طويلا آخر محوري وجوهري استخدمته الباحثة في نص المقال مرارا ألا وهو
    top-down, military focused, state-centric and statist security governance
    الذي استخدمنا له تعبير "حوكمة أمنية سيادية ذات دولة مركزية وعسكرية وهرمية" الذي هو أفضل فهم لنا في هذا السياق، ولا نزعم أنه التعبير الأساسي المقابل والمعمول به في المجال الفكري السياسي الأكاديمي،إن كان يمثل مصطلحا ثابتا بطبيعة الحال.
    سنضطر لاستخدام هذه الحلول، مع التأكيد أن نص الترجمة خاضع للتعديل وتقبّل الاقتراحات المؤكدة من أهل الاختصاص ومن لديه معلومة ثابتة حول أي مصطلح استخدمناه في الترجمة.


    ====================

    سنبقي في متن النص الحواشي التي ذكرتها الباحثة، لكننا لن نضع قائمة المراجع في هذا المنشور بل سنخصص له ملفًا نصيًا pdf سننشره لاحقًا أو نقدمه لمن يرغب، حفاظًا على حقوق المترجمين. والله الموفق والمعين.


    ====================


    نص المقال في المشاركة التالية ==>
  • فيصل كريم
    مشرف
    • Oct 2011
    • 296

    #2
    نبذة عن الباحثة:

    بينار بيلغين، دكتوراة في السياسة الدولية من جامعة ويلز، أبريسويث (2000)، ماجستير علوم في الدراسات الاستراتيجية من جامعة وسترن الأسترالية UWA، وماجستير في العلاقات الدولية من جامعة بيلكنت، وبكالوريوس في العلاقات الدولية من جامعة الشرق الأوسط التقنية في تركيا.
    متخصصة في الاتجاهات النقدية في العلاقات الدولية والدراسات الامنية. ومؤلفة كتاب"الأمن الأقليمي في الشرق الأوسط: منظور نقدي" (2005)، إضافة إلى كتاب العامل الدولي في الأمن والأمن في العامل الدولي (2016). قائمة كاملة بكافة المؤلفات متوفرة على الموقع التالي:





    دلالات على اتفاقية سايكس-بيكو

    ترجمة: الطيب جابر عطاالله
    مراجعة: فيصل كريم الظفيري


    الكاتبة:بينار بيلغين
    قسم العلاقات الدولية، والعلوم السياسية والادارة العامة
    جامعة بيلكينت-انقرة، تركيا


    تلخيص:
    عادت اتفاقية سايكس-بيكو المبرمة سنة 1916 للتداول العام كاتفاقية شائنة عقب نشر جماعة تطلق على نفسها الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) تغريدة تتضمن مقطعًا مرئيًا دعائيًا تعلن فيه «نهاية اتفاقية سايكس-بيكو»، وأشير في هذا المقال إلى أن دلالات اتفاقية سايكس بيكو لا تكمن بـ"اصطناع" حدود الشرق الاوسط (ذلك أن كل الحدود مصطنعة بطرق متباينة) أو الطريقة التي رُسِمت فيها (ذلك أن كل الحدود تقريبًا اتفق عليها قلةٌ من الرجال، ونساء أقل، خلف أبواب موصدة) لكن جرى (كذلك) تشكيلها على يد تنظيم قسري* سمح للمجتمع الدولى بتقرير مصير أولئك الذين حُكِم عليهم أنهم غير قادرين على حكم أنفسهم حتى الآن. أما انهماك (داعش) بـ"نهاية سايكس- بيكو" فمرهون بالتنظيم القسري ذاته الذي يسعى بوضوح للمقاومة.
    المقدمة

    أصبحت اتفاقية سايكس- بيكو في سنة 2014 مشينة مجددًا بعد تغريدة تعلن عن مقطع دعائي نشرته الجماعة التي تطلق على نفسها الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش)(1) ، وأظهر المقطع الجماعة وهم يدمرون الحواجز الحدودية بين العراق وسوريا مشيرين بذلك إلى نهاية الحاجة إلى التحكم بـ"حدود قومية؛ لأنهما أصبحا شعبًا واحدًا" تحت حكم داعش. زعم تنظيم داعش بذلك أنه يقدّم نهاية فعلية لما يُطلق عليه «نظام سايكس-بيكو» مع اخضاع التنظيم جانبي حدود البلدين لهيمنته. وشكّلت تلك الخطوة أيضًا نهايةً مجازيةً تحدى فيها داعش مسألتي الحدود ونظام الدولة القومية القائم في الشرق الأوسط الذي تأسس في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ومنذ ذلك الحين، جرى البحث على جوجل آلاف المرات في عنوان "سايكس-بيكو"، كما كُتبت مئات مقالات رأى تسعى كلها للبحث عن إجابة سؤال: هل هي "نهاية سايكس-بيكو" فعلا كما أعلن تنظيم داعش؟ أشير في هذا المقال إلى أن دلالات اتفاقية سايكس بيكو لا تكمن في اصطناع تلك الحدود (ذلك أن كل الحدود مصطنعة بطرق متباينة) أو بالطريقة التي رُسِمت فيها (ذلك أن كل الحدود تقريبًا اتفق عليها قلة من الرجال، ونساء أقل، خلف أبواب موصدة) بل بالأساليب التي تشكّلت بها السياسة الخاصة بالشرق الأوسط في غضون قرن من الزمان عقب الحرب العالمية الأولى (2) . إن مربط الفرس لا يرتبط فقط بالحدود ذاتها، بل بالحياة داخل هذه الحدود وعبرها، إذ جعلت من اتفاقية سايكس-بيكو رمزًا لنظام يمتد قرنًا لحوكمة أمنية سيادية ذات دولة مركزية وعسكرية وهرمية* في الشرق الأوسط.

    ينقسم هذا المقال لقسمين رئيسين. ففي القسم الأول سأقدم خلفية موجزة عن اتفاقية سايكس-بيكو وأتفحص الزعم القائل إن داعش لم ينهِ هذه الاتفاقية لأنها لم تنفذ أصلاً (تنفيذًا كاملاً). ثانيًا، سأتحوّل إلى جهة من يوافقون على ضرورة وضع نهاية لاتفاقية سايكس-بيكو استنادًا إلى أن الحدود التي رسمتها القوى الاستعمارية الاوروبية "مصطنعة". وهنا، أثبت أنه في الوقت الذي يتمنى فيه نقاد ما يُطلق عليه "نظام سايكس-بيكو" استبدال الحدود "المصطنعة" بحدود "طبيعية" (وفقًا لوجهة نظرهم)، يرغب داعش في الوقت ذاته في إزالة الحدود أمام كافة جموع المسلمين متحديًا بذلك فكرة "الدولة القومية" بحد ذاتها. غير أنني أؤكد أن داعش والمنتقدون الآخرون لاتفاقية سايكس-بيكو يتشاطران افتراضات مماثلة فيما يتعلق بـ"الدولة" والاصطناع. في القسم الختامي، أسلّم بأن عددًا من العوامل قد وضعت رمزية سايكس-بيكو موضع التنفيذ، غير أن أيًا منها لم يقدم حتى اللحظة سبلاً للتخلص من نظام يمتد قرنًا لحوكمة أمنية سيادية ذات دولة مركزية وعسكرية وهرمية، وهي الفكرة التي يجسّد رمزيتها نظام سايكس-بيكو. إن داعش ليست استثناءً من هذا الإطار-بغض النظر عن تصريحات الجماعة المعاكسة لذلك.

    هذه ليست نهاية سايكس-بيكو، لأنها لم تنفذ أصلاً


    «سايكس-بيكو» هو الأسم الشهير لاتفاقية آسيا الصغرى التي جرى التفاوض عليها شهر مايو/أيار سنة 1916، وكان طرفيها السير ماركس سايكس (بريطانيا) وجورج بيكو (فرنسا) لتقرير مصير الشرق الأوسط ما بعد الحرب العالمية الأولى. وظلت هذه الإتفاقية سرية حتى سنة 1917 عندما فضح الثوار الروس أمر "الصفقات السرية التي تعقدها القوى الإمبريالية". وكان يجب أن تبقى تلك الاتفاقية سرية، إذ أنها نكثت العهود البريطانية للشعوب العربية التي وافقت على الانضمام للقتال ضد العثمانيين مقابل وعود قطعت لهم تتعلق بحكم الأراضي العربية. ومع أن درجة الخيانة البريطانية مثار خلاف وجدل، غير أن ما يتجاوز نطاق الخلاف أن الاتفاق لا يتطرق إلا قليلاً لمستقبل الشرق الأوسط ويهتم أكثر بالتنافس البريطاني-الفرنسي على هذه البقعة من العالم. ومن ثم فإن الاتفاقية لم تكن معنيةً بتكوين ما يطلق عليه "دولاً قابلة للحياة" بل بتعزيز مصالح بريطانيا وفرنسا الاستعمارية.
    إن الاتفاقية التي أبرمها سايكس وبيكو لم تنفذ تنفيذًا كاملاً. إذ أُجريت عليها مراجعات عدّة، وجاءت احدى تلك المراجعات بعد أن هُزمت قوات الحلفاء في الحرب في آسيا الصغرى (البقعة من العالم الذي تسمّت على اسمه الاتفاقية في الأصل)، ونتيجة لذلك فُسِح الطريق لتشكيل جمهورية تركية. أما معاهدة لوزان سنة 1923 المُوقعة بين قوات الحلفاء وتركيا فقررت رسم حدود الجمهورية التركية حديثة التأسيس. وما يثير الإشكال الحالي، مع ولادة "نظام سايكس-بيكو" في مؤتمر سان ريمو سنة 1920، أن الاتفاقية خضعت لمزيد من التفاوض خلال السنوات القادمة. بعبارة أخرى، يستند من يجادل بأن داعش لم "ينهِ سايكس-بيكو" في حججهم بالحقيقة التاريخية التي تشير إلى أن تلك الاتفاقية بعينها لم تُنفذ تنفيذًا (كاملاً).

    اذا كانت هذه "الحقيقة التاريخية" تعطي انطباعًا بأنها من التفاهة بمكان ما يقتضي الزهد بالتفكير فيها، فإن ما يدعو إلى التدقيق هو شعور البعض بجواز "فحص طروحات" داعش. لذا فإنني سأثير قضيتين؛ أولهما حقيقة أن اتفاقية سايكس-بيكو قد تحوّلت تدريجيًا لمعاهدة سان ريمو التي جمعت قوات الحلفاء (المملكة المتحدة وفرنسا وايطاليا واليابان) ثم صادقت عليها لاحقًا عصبة الأمم، لا يقدم للمنظومة الناشئة عن ذلك تقليلا لمراعاة الإرث الاستعماري في الشرق الاوسط. إذ لم تعد اتفاقية سايكس-بيكو بعد معاهدة سان ريمو مجرد اتفاق سري بين قوتين استعمارتين، بل أصبحت كذلك جزءًا من نظام الحوكمة الأمني المدعوم من المجتمع الدولي. وهكذا صادقت معاهدة سان ريمو وعصبة الامم لاحقًا على خطط القوى الإستعمارية المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط. وثانيهما، حقيقة أن عدم تنفيذ اتفاقية سايكس-بيكو متعلق كذلك بالسبل التي ظهر فيها أن بعض الأطراف كانت مهيئة أكثر من غيرها للاشتراك في رسم حدودها. فقد تمتعت تركيا بقدرة مكّنتها من المشاركة في ترسيم حدودها بعد انتهاء حرب الاستقلال القومي، في حين عجزت أطراف أخرى عن ذلك. إذ تدخّل آنذاك بعض أعضاء المجتمع الدولي في شؤون أولئك الذين صوّروهم على أنهم "متخلفين" استنادًا إلى "اخفاقهم" في تحقيق معايير الحضارة. فيما رأت عصبة الأمم أن من الحكمة فرض انظمة انتداب على بعض مناطق الشرق الاوسط نظرًا للحكم على شعوب تلك البقعة من العالم بعدم القدرة على حكم انفسهم. أما هؤلاء الذين يصرون أن داعش لم يضع نهاية لاتفاق سايكس بيكو فيتغاضون عن المدخول المتواصل لمثل هذا التنظيم القسري الذي يسمح لأحد ما بالإدعاء بأنه "يعلم" و/أو "ينظّم" الآخرين.

    حدود "مصطنعة" فرضها سايكس-بيكو – إلى حيث ألقت!

    لا يطعن النقاد الذين يستنبطون نقطة «الاصطناع» برغبة تنظيم داعش في إنهاء ما يطلق عليه نظام سايكس-بيكو. بل يتفقون مع داعش في أن الحدود في منطقة الشرق الاوسط حسمتها (إلى حد كبير لكن ليس كليًا) القوى الأوروبية تحت ظروف الحكم الاستعماري، وهم يتفقون كذلك على ضرورة القيام بعمل شيء تجاهها. غير أنه عند النظر عن كثب إلى الحلول التي يقدمها منتقدو نظام سايكس بيكو يبرز مدى ابتعادهم عن المخاوف التي أثارها داعش. كما تشير نظرة أخرى إلى أنهم يتقاسمون بعض الافتراضات ذات التوجه الأوربي حول "الشرق الأوسط" والمنظومة الامنية.
    عندما نستهل بمنتقدي نظام سايكس-بيكو، نراهم يشددون على حقيقة أن شعوب الأقليم ذاتها لم تجلس على الطاولة وقت ترسيم حدود المنطقة، وهذا ما جعل الحدود بين سوريا والعراق (ضمن الحدود الأخرى) "مصطنعة". ويشير البعض، كحل لهذه المعضلة، أن الحدود يجب أن يُعاد رسمها للسماح لنوع معين من الاستقرار. في حين يجادل آخرون باستحالة السعي نحو إعادة تنظيم المنطقة في ظل غياب إرادة قوة عظمى تؤدي إلى ذلك. ولا يختلف هذان الحلان الهرميان عن الحلول التي وضعها منشأو ما يُطلق عليه نظام سايكس بيكو، وهو ما يبدو كتهرّب من مناصريها. ومن ثم، يخفق المنتقدون في ملاحظة أن نظرتهم الهرمية تجاه الشرق الأوسط إنما هي جزء لا يتجزأ من المشكلة التي أبرزها داعش. أما ما يتعلق بداعش، فيشرح الفيديو المذكور آنفًا الأسباب التي دفعتهم إلى ذلك كما يلي:

    "أننا سعداء اليوم للمشاركة في إزالة الحدود التي وضعها الطواغيت لتكون حاجزًا يحول دون ترحال المسلمين وتنقلهم على أراضيهم؛ وقد دمر أولئك الطواغيت الخلافة الاسلامية ثم قسّموها إلى بلدان مثل سوريا والعراق، لتحكمها قوانين وضعية. إننا نبدأ اليوم المرحلة الأخيرة بعد تقسيم الامة. كانت مؤامرتهم تتمحور حول التقسيم والغزو. هذا ما ارادوه فعله بنا."
    تختلف حلولهم المطروحة اختلافًا كبيرًا عن الحلول التي يطرحها المنتقدون المشار إليهم أنفًا في كونهم يرغبون بالتخلص من "الدولة القومية". غير أن أسلوبهم في تطبيق ذلك هو التهيئة لدولة أخرى وفرض منظومة لا تقل عسكرية وسيادية في نزعتها عن النظام الحالي ذي الحوكمة الأمنية. وهكذا، يشترك داعش مع منتقدي نظام سايكس-بيكو في الالتزام نحو الحوكمة الأمنية السيادية ذات الدولة المركزية والعسكرية والهرمية كسمة اتصفت بها منطقة الشرق الاوسط في القرن الماضي.
    علاوة على ذلك، يجمع داعش ومنتقدو نظام سايكس-بيكو معًا على الافتراض ذي التوجه الأوربي القائل إن بعض الحدود "مصطنعة"، وبعضها الآخر "طبيعية". غير أن كافة الحدود مصطنعة الى درجة أن من يحسمها قلة من الرجال، ونساء أقل، خلف أبواب مغلقة. على سبيل المثال:

    لعل من الصحيح أن ونستون تشرشل هو من رسم الحدود بين العراق وسوريا بقلم خطّه بيده، غير أنه نفسه كان محوريًا عند تحديد الحدود بين فرنسا والمانيا، حينما قاد الحلفاء إلى تحقيق النصر في الحرب العالمية الثانية. كما أن اتخاذ قرار حاسم حول ما إذا كان أقليم إلزاس ولورين يتبع فرنسا أو المانيا لم يكن من السهولة بمكان كسهولة إرسال لجنة لمعرفة مكان انتهاء أراضي الفرنسيين وبداية أراضي الألمان- بل دُرِج على منح الإقليم كمكافئة بعد كل صراع دموي من صراعات أوروبا.
    في الشرق الأوسط، تعد إيران وتركيا والسعودية من البلدان التي تمتلك حدودًا "طبيعية" إلي درجة أن مندوبيهم اشتركوا في رسم تلك الحدود إما بعد حرب أو على طاولة المفاوضات. كما أن الحد الفاصل بين دولتي تركيا واليونان هو نهر ماريتسا. فما الذي هو أكثر طبيعية من ذلك؟ إلا أن الأمر تطلب من عصبة الأمم السماح باجراء تبادل سكاني بين اليونان وتركيا لكي يصبح السكان في المنطقتين أكثر "تجانسًا". تكمن الفكرة هنا في أن الحدود دائما ما تكون "مصطنعة" إلى حد أنها تُرسم بأسلوب هرمي، دون الأخذ بعين الاعتبار الناس الذين تعتمد حياتهم على العبور منها وإليها.

    أخيرًا، الادعاء أن الحدود في الشرق الأوسط «مصطنعة» إنما هى حركة أوربية المنحى تؤكد التأثير الاستعماري الأوربي في نشر الخراب والاضطراب في هذا الجزء من العالم والاستهانة بمقدار التأثير الذي تمارسه شعوب المنطقة. على ألا يقلل هذا الأمر من العواقب المدمرة لسياسة «فرق تسد» الذي وظفته القوى الاستعمارية والذي يعد كعامل أدى إلى "تأخير ظهور نظام جديد يصاغ من داخل المنطقة" (كامل، 2016، صفحة 8). وتتناول النقطة التي أثيرها فضلاً عن ذلك أن منتقدي «اصطناع» حدود سايكس-بيكو، حتى وإن سعوا للانتقاد الذاتي، (بموجب الإقرار بالإرث الاستعماري)، إنما يكشفون عن عدم إدراكهم لتاريخ المنطقة وشعوبها. وقد ذكر لورنزو كامل مستشهدًا "كان لسوريا والعراق المعاصرتين عددًا من السوابق ذات الدلالة في العصور السابقة للإسلام" وأن
    "الزعم بأن العراق ما هو إلا كيان مصطنع عمل البريطانيون على ربط مناطقه بعضها ببعض يتغاضى عن حقيقة أنه... بمعظم القرنين الثامن عشر والتاسع عشر... حُكمت البصرة وبغداد والموصل كوحدة واحدة مع كون بغداد مركزًا لثقلها. وقد أشار في ذلك العصر عدد من المثقفين والمفكرين المحليين إلى هذه المنطقة باسم "العراق".
    لا يزعم هذا المنظور النفاذ إلى "الحقائق التاريخية" حول المنطقة وشعوبها. وإنما تتجلى صلب فكرته في أن نزعة داعش الذاتية التي تدعي لنفسها مناهضة الاستعمار إنما تكشف النقاب عن فكرة أوربية التوجه حول "الاصطناع" و"كيان الدولة" تقوم على فرضية وجوب امتلاك الدول حدودًا "طبيعية" لكي تجعلها دولاً "سليمة أو شرعية" بطريقة تعيد إلى الأذهان سجالات "فشل" الدولة في العقد الأول من الألفية الجديدة. يتجسد الاختلاف بين داعش ومنتقديه في أنه بينما يرى الأول في التدخل في شؤون المنطقة لزمن استغرق قرنًا كمشكلة تتطلب علاجًا، لا يتحمل الثاني سوى مسؤولية وقوع لحظة سايكس-بيكو في بداية القرن العشرين. غير أن أيًا منهما لا يطعن في الحوكمة الأمنية السيادية ذات الدولة المركزية والعسكرية والهرمية. ويمكن القول أن ذلك النظام ذي المنظومة الأمنية في حد ذاته، الذي صاغه التنظيم القسري للمجتمع الدولي، هو الذي سمح للتدخل العسكري في منطقة الشرق الاوسط في السياسة المعاصرة. كما أن منتقدي "نظام سايكس-بيكو" لم يطعنوا في التنظيم القسري الذي سمح لذلك النظام بأن يضعه المجتمع الدولي موضع التنفيذ. وكذلك لم يطعن الطرفان في نظام الحوكمة الأمنية التي نُصّبت كجزء لا يتجزّأ من هذا النظام.

    الاستنتاج

    إن معنى سايكس-بيكو ودلالاتها لا يتجلى (فقط) في كونها اتفاقية سرية جرى توقيعها بين القوى الاستعمارية بل (أيضًا) كاتفاقية صاغها تنظيم قسري سمح للمجتمع الدولي بتقرير مصير من حُكِم عليهم بعدم النضج لحكم أنفسهم. وإن انهماك داعش "بانهاء سايكس-بيكو" مرهون بالتنظيم القسري ذاته الذي تسعى بوضوح لمقاومته. وبما أن المناقشات الحالية حول نهاية سايكس-بيكو تدار بأسلوب هرمي مماثل، فيشير هذا إلى أن النظام القسري ذاته له اليد الطولى ومستمر في صياغة الحوكمة الأمنية السيادية ذات الدولة المركزية والعسكرية والهرمية. لا يسعى تنظيم داعش إلى استبدال هذا النظام ذي الحوكمة الأمنية، بل إلى وراثته. وما من اختلاف سوى في استبدال "الدولة القومية" بدولة للأمة تطبق "فهمًا معيّنًا للشريعة الاسلامية"(3).


    [line]-[/line]

    1- نشرت نسخة موجزة سابقة لهذا المقال على الرابط التالي:

    2- يذكرونني أحيانًا بأن دور جيترود بيل كامرأة مشاركة في «ابتداع» الشرق الأوسط ينفي معنى فكرتي. على العكس، فمن يشيرون إلى دور جيترود بيل يساعدون في تدعيم فكرتي حول استمرار المنحى أوروبي التوجّه في دراسة الشرق الاوسط. انظر بيلغين (2016).
    3- وضعت توكيدًا على كلمة "معينًا" لأن التفسيرات التقليدية للإسلام تفرض قواعد صارمة على ممارسة العنف المباشر، خاصة ضد معتنقي الأديان التوحيدية وأتباع الدين الاسلامي. فمن خلال طمس هذا المفهوم التقليدي للإسلام ومن خلال فرضهم لتفسيرهم الخاص بهم الذي يصنف غير المسلمين كافة كـ"كفّار"، وأن المسلمين الذين لا يتوافقون مع تصنيفهم «غير إسلاميين"، يسعى داعش وأتباعه إلى مسوغ يبررون فيه ممارسة العنف المباشر. هذه تركيبة معينة من الفقه في الإسلام تتمنى داعش ترويجها وانتشارها، مستبدلة بذلك تفسيرات النصوص المقدسة الأخرى المناوئة. وهكذا يمكن النظر لداعش كطرف يطلق العنان لنوعها الخاص من "العنف المعرفي" لتسويغ ممارسته للعنف المباشر.
    * يرجى الإطلاع على التوطئة لشرح هذا التعريب.

    تعليق

    • فيصل كريم
      مشرف
      • Oct 2011
      • 296

      #3
      يمكن الإطلاع على النص الإنجليزي المصدر وتنزيله

      من هنا


      وتقبلوا أطيب تحية

      الطيب جابر عطاالله

      و

      فيصل كريم الظفيري

      تعليق

      يعمل...
      X