حركة الترجة والنقل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • amattouch
    عضو منتسب
    • May 2006
    • 971

    حركة الترجة والنقل

    عن موقع الدكتور يوسف زيدان مشكورا عن موقع الدكتور يوسف زيدان مشكورا
    حَرَكَةُ التَّرْجَمَةِ والنَّقْلِ : دَرْسٌ تَارِيخىٌّ

    تمهيد :

    كانت حركةُ الترجمة والنقل واحدةً من اللحظات الركيزية فى بواكير الحضارة العربية الإسلامية ، فمن خلالها تم تعرُّف العرب المسلمين إلى الآثار الباقية من القرون الخالية ، وتمت معرفتهم بالمتون الرئيسة فى العلم السابق عليهم .. فكان ذلك بمثابة إشارة الانطلاق فى مسيرة التحضُّر التى امتدت عدة قرونٍ تالية .

    .

    ونودُّ التأكيد، فى هذا التمهيد ، على أن حركة الترجمة والنقل لم تتطوَّر خلال هذه المراحل السابقة ، بمعزل عن ظروف -بل شروط- موضوعية أدَّت إلى توالى المراحل ، واكتساء كل مرحلة منها بطابعٍ مميز .. فلم يكن الأمر تتابعاً زمنياً ساذجاً، مجتثاً من سياقاته المعرفية ، وإنما كانت لكل مرحلة أزمة دافعة ، ثم تواصلت المراحل .. فأُطلق على المجموع : حركة الترجمة والنقل !

    كما لابد من الإشارة إلى حقيقةٍ مهمة ، مفادها أن حركة الترجمة والنقل، على تنوُّع مراحلها .. تمت فى إطار منظومة إنسانية - وإن شئتَ قلتَ : مظلة إنسانية - هى التفاعل المستمر بين الحضارات . ففى البدء كانت مصر، فجاءت اليونان إليها ممثَّلة فى الثلاثة الكبار : طاليس (أول الفلاسفة) فيثاغورث (أعظم الرياضيين) أفلاطون (أشهر فيلسوف) .. فأخذ هؤلاء ، مشافهةً ومشاهدةً، علوم مصر القديمة إلى بلادهم . ثم أبدع اليونان ، وسرعان ما انسرب إبداعهم - الملقَّح أيضاً بمعارف شرقية - فاستقر بالإسكندرية .. ومن الإسكندرية إلى بغداد ( ) ، انتقلت العلوم والمعارف إلى ديار العرب المسلمين، ومالبثت -بعد حين- أن انتقلت إلى أوروبا فى فجر الرينسانس خلال المعابر الحضارية : باليرمو، صقلية ، إسبانيا .. وغيرها.

    وفى كل نقلةٍ من تلك، كانت الترجمة هى الواسطة الأولى للتفاعل الحضارى ، فمن الهيروغليفية إلى اليونانية، ومن اليونانية إلى السريانية ، ومن كليهما إلى العربية ، ومن العربية إلى اللاتينية واللغات الأوروبية .. واليوم بعكس الأخيرة !

    .. وفى هذه الورقة البحثية، نعمد إلى تحليل حركة الترجمة والنقل، ليس بغرض التعرُّف إلى تتابعها التاريخى، أو سرد المعلومات عنها .. وإنما بُغية الفهم ومعرفة تجارب الأمم() ورؤية التراث من زاوية استخلاص العبر من خبر من غبر() .. وما من شك، فى أن الهم المعاصر هو شاغلنا الأول عند تحليل حركة الترجمة والنقل، قديماً، وهو الداعى إلى النظر إليها من هذه الزاوية بالذات.

    أولاً : التَّرْجَمَةُ والأَزْمَةُ

    ارتبطت حركة الترجمة والنقل ، قديماً ، بأزمات كانت هى الدافع القوى لهذه الحركة .. فمنها أزمات فردية ، وأخرى جماعية . والمثال على الأزمة الفردية، هو ما نراه فى حالتىْ : خالد بن يزيد .. المأمون .

    أما الأول فهو الأمير الأموى : خالد بن يزيد بن معاوية ، الملقَّب بحكيم آل مروان() المتوفى سنة 82 هجرية ، أو 90 هجرية ؛ على اختلاف الأقوال.. ويقول ابن النديم : كان فاضلاً فى نفسه ، وله همة ومحبة للعلوم، خطر بباله الصنعة( ) ، فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ، ممن كان ينزل مدينة مصر وقد تفصَّح بالعربية( ) ، وأمرهم بنقل الكتب فى الصنعة من اللسان اليونانى والقبطى( ) إلى العربى ، وهذا أول نقل فى الإسلام من لغة إلى لغة( ). فما الذى دفع خالد بن يزيد إلى هذا الطريق ؟ هذا ما يبدو لنا، إذا اقتربنا قليلاً منه ..

    اتفق المؤرخون فى الثناء على خالد بن يزيد ، فذكر الذهبى أقوالاً تصفه بأنه : كان موصوفاً بالعلم ، من صالحى القوم، يصوم الأعياد (أى أيام الجمعة والسبت والأحد) أجاز شاعراً بمائة ألف درهم ، لقوله فيه :

    سَأَلْتُ النَّدَى والجودَ : حُـرَّانَ أَنْتُمَا؟ فَقَالا جَميعاً : إنَّنا لعَبِيــــد

    فَقُلْتُ : فَمَنْ مَوْلاكُما ؟ فَتطَــــاوَلا عَلىَّ وَقَالا : خَالدُ بن يَزيِد()

    وذكر عنه الجاحظ أنه كان : خطيباً، شاعراً، فصيحاً، جيد الرأى، كثير الأدب( ) .. وفى كتاب الأغانى نراه موصوفاً بكونه : من أكثر رجال قريش سخاءً وفصاحة() . كما اتفق المؤرِّخون على أن خالد بن يزيد كان أول من ترجم كتب اليونان إلى اللغة العربية ، وأنه اشتغل بالكيمياء ووضع فيها بعض المؤلَّفات() .

    ولإدراك أزمة خالد بن يزيد، نتوقَّف عند محاورتين من محاوراته التى روتها كتب التاريخ .. الحوار الأول ما كان قد جرى بين خالد بن يزيد وعبد الملك بن مروان، فقد كان خالد مرشَّحاً لتولِّى الخلافة بعد وفاة أخيه معاوية بن يزيد لكن عبد الملك بن مروان قفز على الأمر ، فتولَّى الخلافة وتزوَّج أم خالد - ربما لإغاظته- فكان بين الرجلين ما كان، ومنه هذا الحوار الذى دار بينهما، حين هدَّده عبد الملك بن مروان بالحرمان، فرد عليه خالد بقوله : أتهددنى ويد الله فوقك مانعة، وعطاؤه دونك مبذول ؟ قال له عبد الملك : إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة (الآية) فقال خالد : وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (الآية) .. إلى آخر تلك الحوارات التصادمية التى جرت بين الرجلين ، ولم يتورَّع فيها عبد الملك عن الإشارة إلى أنه يُضاجع أم خالد ، مما كان يكسر نفس الأخير() . وإن كان عبد الملك بن مروان، فى بعض الأحيان، يستجيب لأقوال خالد، ويمرِّر حوارهما دون صدام وتعيير .. وأعتقد أن هذه العلاقة بين الرجلين فى حاجة لدراسة تاريخية / نفسية، تكشف لنا عن صفحة مهمة من صفحات تاريخنا الثقافى والسياسى.

    أما الحوار الثانى فهو ما يرويه الخطيب البغدادى على لسان خالد نفسه، إذ يقول: كانت لى حاجة بالجزيرة ، فخرجت إليها مستخفياً ، فبينما أسير بين أظهرهم، إذ أنا بشمامسةٍ ورهبان، فقلتُ لهم : ما جمعكم هنا ؟ فقالوا : إن شيخاً سيَّاحاً نلقاه فى كل يوم مرة فى مكانك هذا ، فنعرض عليه ديننا، وننتهى منه إلى رأيه .. فقال خالد فى نفسه ، إنه مَعْنِىٌّ بالحديث النبوى ، ولعله لو استمع إلى هذا الشيخ يستفيد منه شيئاً ، ولن يلحق به ضرر. فلما جاء هذا الشيخ النصرانى ، قال لخالد : إنك لستَ من هؤلاء الرهبان، فأنت من أمة محمد. فقال : نعم . قال: من علمائهم أو من جُهَّالهم ؟ قال : لستُ من علمائهم أو من جهالهم. قال : ألستم تزعمون فى كتابكم (القرآن الكريم) أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولايبولون .. فقال خالد : إن لهذا مثلاً فى الدنيا. فقال : فما هو ؟ قال : الصبى فى بطن أمه ، يأتيه بالرزق الرحمنُ بكرةً وعشياًّ، ولايبول ولايتغوَّط .. هنا عرف الرجل أنه يحاور عالماً ذا عقلٍ راجح، فقال له: ألم تزعم بأنك لست من علمائهم ؟ فتواضع خالد ، وأَكَّد : بلى ، ما أنا من علمائهم ولا من جهالهم() .

    ................

    ادعى رجلٌ النبوة فى زمن خالد بن عبد الله القسرى وعارض القرآن ، فأُتى به إلى خالد ، فقال له : ما تقول ؟ قال: عارضتُ القرآن ! قال : بماذا ؟ قال : قال تعالى إنا أعطيناك الكوثر .. (الآية) وقلت: إنا أعطيناك الجماهر ، فصلِّ لربك وجاهر، ولا تطع كل ساحر .. فأمر به خالد ، فضُرب عنقه .. وصُلب()



    وتنبَّأ رجلٌ فى أيام المأمون وادَّعى أنه إبراهيم الخليل . فقال له المأمون : إن إبراهيم كانت له معجزات وبراهين . قال : وما براهينه؟ قال: أُضرمت له نارٌ وألقى فيها، فصارت عليه برداً وسلاماً، ونحن نوقد لك ناراً ونطرحك فيها فإن كانت عليك كما كانت عليه، آمناَّ بك. قال : أريدُ واحدةً أخفَّ من هذه. قال : فبراهين موسى . قال: وما براهينه ؟ قال : ألقى عصاه فاذا هى حَيَّةٌ تسعى، وضرب بها البحر فانفلق، وأدخل يده فى جيبه فأخرجها بيضاء. قال: وهذه علىَّ أصعبُ من الأولى . قال فبراهين عيسى. قال : وما هى ؟ قال : إحياء الموتى . قال : مكانك ، قد وصلت أنا أضرب رقبة القاضى يحيى بن أكثم ، وأحييه لكم الساعة ! فقال يحيى : أنا أوَّل من آمن بك وصدَّق .

    وتنبَّأ آخر فى زمن المأمون فقال المأمون : أريد منك بطيخاً فى هذه الساعة . قال : أمهلنى ثلاثة أيام . قال : ما أريده إلا الساعة . قال: ما أنصفتنى يا أمير المؤمنين ، إذا كان الله تعالى الذى خلق السموات والأرض فى ستة أيام ، وما يخرجه إلا فى ثلاثة أشهر، فما تصبر أنت على ثلاثة أيام .. فضحك منه ووصله.

    وتنبَّأ آخر فى زمن المأمون فلما مَثُل بين يديه قال له: من أنت؟ قال أنا أحمدُ النبى . قال: لقد ادَّعيت زوراً. فلما رأى الأعوان قد أحاطت به، وهو ذاهب معهم قال: يا أمير المؤمنين أنا أحمدُ النبى ، فهل تذُّمه أنت ؟.. فضحك المأمون منه وخلَّى سبيله.

    وأُتى المأمون برجلٍ ادَّعى النبوة، فقال له: ألك علامة؟ قال: علامتى إنى أعلم ما فى نفسك. قال: وما فى نفسى؟ قال: فى نفسك أنى كاذب. قال: صدقت. ثم أمر به إلى السجن، فأقام فيه أياماً ، ثم أخرجه فقال له : أوحى إليك بشئ ؟ قال : لا . قال: ولم ؟ قال : لأن الملائكة لاتدخل الحبوس ..() .

    وإذا كان مدخلنا لفهم أزمة خالد بن يزيد ، هو حواراته السابقة.. فإن مدخلنا لفهم أزمة المأمون ، هو أحلامه ! ولسوف نورد حلمه بنصِّه ، كما جاء فى المصادر القديمة .. قال ابن النديم فى الفهرست فى ذكر السبب الذى من أجله كثرت كتب الفلسفة وغيرها من العلوم :

    إن المأمون رأى فى منامه كأن رجلاً ابيض اللون مشرباً حمرة، واسع الجبهة ، مقرون الحاجب ، أجلح الرأس ، أشهل العينين، حسن الشمائل، جالس على سريره . قال المأمون : وكأنى بين يديه قد مُلئت له هيبة. فقلت: من أنت ؟ قال : أنا أرسطاليس. فسرُرتُ به، وقلت : أيها الحكيم، أسألك ؟ قال : سَلْ. قلت : ما الحسنُ ؟ قال : ما حَسَنَ فى العقل . قلتُ : ثم ماذا ؟ قال : ما حَسَنَ فى الشرع . قلت : ثم ماذا ؟ قال : ما حَسَنَ عند الجمهور . قلت: ثم ماذا. قال: ثم لا ثم.

    وفى رواية أخرى ، قلت : زدنى . قال : مَنْ نصحك فى الذهب ، فليكن عندك كالذهب. وعليك بالتوحيد .

    فكان هذا المنام من أوكد الأسباب فى إخراج الكتب . فإن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات، وقد استظهر عليه المأمون . فكتب إلى ملك الروم، يسأله الإذن فى إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة المدَّخرة ببلد الروم. فأجاب إلى ذلك، بعد امتناع . فأخرج المأمون لذلك جماعة ، منهم الحجاج بن مطر وابن البطريق، وسلمان صاحب بيت الحكمة، وغيرهم. فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا . فلما حملوه إليه، أمرهم بنقله ، فنُقل() .

    وبالطبع ، فإن ما يعنينا هنا ليس صدق الرواية .. وليس طبيعة الإطار الذى اختاره المأمون لتبرير إقباله على الترجمة وتشجيع المترجمين والنقلة . إذ نعنى هنا، فقط، بالظروف الموضوعية التى أدَّت بالمأمون إلى إحداث استنارة عصرية، وتوجيه الأنظار نحو عوالم معرفية جديدة ، بعيداً عن احتدام الجدل الدينى الذى وصل به علم الكلام آنذاك إلى منتهاه، وصار عاملاً من العوامل المؤرِّقة لهذا الخليفة .. الحالم .. واسع الأفق .

    * * *

    أما الأزمة الجماعية التى أدت إلى نشــاط حركة الترجمة والنقل ، آنــذاك،

    فمن الممكن تعديد مظاهرها فيما يلى:

    أولاً : شعور المسلمين بضآلة موروثهم المعرفى، العلمى ، أمام التراث الهائل الذى تركته الأمم السابقة .. وهى الأمم التى انتصروا عليها عسكرياً ، وفتحوها ؛ غير أنها بقيت متفوِّقة عليهم من حيث الإرث المعرفى .. والمعروف أن العرب خرجوا من الجزيرة ، مسلَّحين بالإيمان والرغبة العارمة فى نشر الدين وفتح البلاد ، بيد أن المعارف والعلوم كانت تنقصهم ! يقول صاعد الأندلسى: كانت العرب فى صدر الإسلام، لاتعنى بشئ من العلم، إلا بلُغتها ومعرفة أحكام شريعتها ، حاشا صناعة الطب() . فكان لابد من استكمال هذا النقص ، بالتعرُّف إلى علوم الأوائل .. فكان لابد من الترجمة .

    ثانياً : حدوث جدل دينى واسع بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى، فكان منطق أصحاب الديانات أبلغ .. فاحتاج المسلمون إلى ندب فريق منهم لهذه المهمة - وهم المتكلمون- كما احتاجوا إلى التعرُّف إلى طرائق الجدل والبرهان .. وهو علم المنطق ! ولا سبيل لمعرفة هذا العلم ، المدوَّن باليونانية والسريانية ؛ إلا بالترجمة .

    ثالثاً : إحساس الدولة الإسلامية بالغرابة تجاه موروث الأمم السابقة .. فالخلفاءُ ينبهرون بآثار مصر ، ويصرُّ المأمون على فتح الهرم (وهى الفتحة الحالية الوحيدة) وعقولُ العامة والخاصة تهوِّم بين أساطير الأولين والروايات المختلفة حول البرابى والمبانى والآثار() ، وتندهش مما بأيدى الرهبان النساطرة من الكتب ، ومن خصوصية الثقافات الفارسية والهندية .. فكان لابد من إيجاد سبيل لاقتحام هذه العوالم الغامضة، المحيِّرة ، فكانت الكتب هى السبيل، والترجمةُ الوسيلة .

    رابعاً : التطور الطبيعى للعلوم ، مع استقرار الدولة .. وتأكيد الإسلام على طلب العلم ولو بالصين . فما بالك ومتون العلم بداخل الحدود السياسية لدولة الإسلام ! فكان لابد من الترجمة .

    وأدَّت هذه الأزمات ، إلى نشاطٍ متنام للترجمة ، بلغ أوج ازدهاره، وفعاليته، مع جهود بيت الحكمة ببغداد .

    ثانياً : التَّرْجَمَةُ والمؤَسَّسَةُ

    فى أغلب الكتابات السابقة التى تَعرَّضت لحركة الترجمة والنقل، نرى اختزالاً للحركة فى أسماءٍ بعينها .. ففى بدايات الحركة، نجد أسماء : يوحنا بن ماسويه، يوحنا البطريق ، عبد الله بن المقفع .. وفى طورها المأمونى المزدهر أسماء: حنين بن إسحاق ، قسطا بن لوقا ، ثابت بن قره، ابن ناعمة الحمصى.. وفى المرحلة الأخيرة : متى بن يونس، السجستانى ، الدمشقى ، ابن زرعة !

    والأمر على هذا النحو ، فيما نرى ، محض ابتسارٍ واختزالٍ مخلٍّ بالصورة العامة لهذه الحركة العلمية الكبرى .. فالمسألة لم تكن قاصرة على أفرادٍ قاموا بنقل الكتب وإنما جاء عمل هؤلاء الأفراد فى إطار منظومة معرفية وحالة حضارية، اتخذت الطابع المؤسسى .

    والمؤسسة التى قامت حركة الترجمة على قاعدتها ، لها تجلِّيان .. الأول المؤسسة الرسمية المتمثِّلة فى بيت الحكمة ببغداد وفى مجالس الخلفاء. والتجلِّى الآخر ، هو تلك الأسر العلمية التى تبنَّت مشروع الترجمة ودعمته بالجهد المباشر لأفراد الأسرة - المترجمين - أو بشكل غير مباشر ، من خلال التمويل المالى اللازم لإحضار المتون ومكافأة النقلة والمترجمين .

    وإذا نظرنا عن قرب ، إلى حنين بن إسحاق باعتباره أكبر مترجمى الحركة وأكثرهم إنتاجاً فى هذا الميدان ، وجدنا المؤسسة الرسمية هى الخلفية التى تحرك الرجل خلالها .. فهو المتولى بيت الحكمة وهو المرتبط دوماً بالخلفاء (على التوالى: المأمون ، الواثق ، المتوكل()) وهو الذى يُكافئ على الترجمة بوزن الكتاب المترجم ذهباً ودراهم() . فإذا نشطت المؤسسة ، توالت المترجمات .. وإذا ضعفت بيت الحكمة أو تغيَّر قلب الخليفة على حنين توقفت الجهود ! فالمسألة، إذن، لم تكن مشروعاً فردياً لهذا المترجم أو ذاك .. بل هى إطارٌ مؤسَّساتى، من خلاله ظهرت جهود حنين وغيره .. ولم يكن حنين بن إسحاق يعمل وحده ، وإنما كان بمثابة المشرف العام على النقلة والمترجمين، أمثال : ابنه إسحاق بن حنين ، ابن أخته حبيش بن الأعسم ، تلميذه عيس بن على ، تلميذه عيسى بن يحيى .. وغيرهم ، ممن يتراوح عددهم بين التسعين والمائة() ! نحن، إذن ، أمام فريق منظم ، يتولَّى أمره مشرفٌ بارع ومترجمٌ واسع المعرفة باللغات، فى إطار مشروع رسمى تتبنَّاه الدولة . وكان نتيجة ذلك كله ، تلك المترجمات التى عدَّدها ابن النديم وابن أبى أصيبعة ، وسنذكرها -كاملةً - لإمعان النظر فى نوعيتها ، وهو ما سنعود إليه فى خاتمة البحث :

    1- فينكس (فهرس كتب جالينوس)

    2- كتاب فى مراتب قراءة كتبه (أى : جالينوس)

    3- كتاب الفرق (فرق الطب للمتعلمين) لجالينوس

    4- كتاب الصناعة الصغيرة، لجالينوس

    5- كتاب النبض الصغير، لجالينوس

    6- كتاب جالينوس إلى أغلوقن (فى التأتِّى لشفاء الأمراض)

    7- كتاب فى العظام

    8- كتاب فى العضل

    9- كتاب فى العصب

    10- كتاب فى العروق

    11- كتاب الأسطقسات

    12- كتاب المزاج

    13- كتاب القوى الطبيعية

    14- كتاب العلل والأغراض

    15- كتاب تعرّف على علل الأعضاء الباطنة

    16- كتاب النبض الكبير

    17- كتاب أصناف الحميَّات

    18- كتاب البُحْران

    19- كتاب أيام البُحْران

    20- كتاب حيلة البرء

    21- كتاب علاج التشريح

    22- كتاب فيما وقع من الاختلاف بين القدماء فى التشريح

    23- كتاب تشريح الأموات

    24- كتاب تشريح الأحياء

    25- كتاب فى علم أبقراط بالتشريح

    26- كتاب فى آراء أراسطراطس() بالتشريح

    27- كتاب فى تشريح الرحِم

    28- كتاب فى حركة الصدر والرئة

    29- كتاب فى علل النفس

    30- كتاب فى الصوت

    31- فى حركة العضل

    32- مقالة فى مناقضة الخطأ الذى اعتُقد من تمييز البول من الدم

    33- مقالة فى الحاجة إلى النبض

    34- مقالة فى الحاجة إلى التنفس

    35- مقالة فى العروق الضوارب ، هل يجرى فيها الدم بالطبع أم لا ؟

    36- كتاب فى قوى الأدوية المسهلة

    37- كتاب فى العادات

    38- كتاب فى آراء أبقراط وفلاطن

    39- كتاب فى الحركة المعتاصة

    40- كتاب فى آلة الشم

    41- كتاب منافع الأعضاء

    42- مقالة فى أفضل هيئات البدن

    43- مقالة فى خصب البدن

    44- مقالة فى سوء المزاج المختلف

    45- كتاب الأدوية المفردة

    46- مقالة فى دلائل علل العين

    47- مقالة فى أوصاف الأمراض

    48- كتاب الامتلاء

    49- مقالة فى الأورام

    50- مقالة فى الأسباب البادية

    51- مقالة فى الأسباب المتصلة بالأمراض

    52- مقالة فى الرعشة والنافض والاختلاج والتشنُّج

    53- مقالة فى أجزاء الطب

    54- كتاب المنى

    55- مقالة فى تولُّد الجنين

    56- مقالة فى المرأة السوداء

    57- كتاب أدوار الحميات وتراكيبها

    58- اختصار كتاب جالينوس المعروف بالنبض الكبير

    59- كتاب فى النبض

    60- كتاب فى رداءة التنفس

    61- كتاب نوادر تقدمة المعرفة

    62- اختصار كتابه فى حيلة البرء

    63- كتاب المفيد

    64- كتاب البول

    65- مقالة فى صفات لصبى يصرع

    66- كتاب قوى الأغذية

    67- كتاب التدبير الملطف

    68- اختصار الكتاب الذى فى التدبير الملطِّف

    69- كتاب الكيموس الجيد والردئ

    70- كتاب فى أفكار أراسطراطس فى مداواة الأمراض

    71- كتاب تدبير الأمراض الحادة على رأى أبقراط

    72- كتاب تركيب الأدوية

    73- كتاب الأدوية التى يسهل وجودها وهى الموجودة فى كل مكان

    74- كتاب الأدوية المقابلة للأدواء

    75- كتاب الترياق إلى مغيليانوس

    76- كتاب الترياق إلى قيصر

    77- كتاب الحيلة لحفظ الصحة

    78- كتاب إلى أسبولوس

    79- كتاب الرياضة بالكرة الصغيرة

    80- تفسير كتاب عهد أبقراط (قسم أبقراط)

    81- تفسير كتاب الفصول ، لأبقراط

    82- تفسير كتاب الكسر ، لأبقراط

    83- تفسير كتاب رد الخلع ، لأبقراط

    84- تفسير كتاب تقدمة المعرفة ، لأبقراط

    85- تفسير كتاب تدبير الأمراض الحادة ، لأبقراط

    86- تفسير كتاب القروح ، لأبقراط

    87- تفسير كتاب جراحات الرأس ، لأبقراط

    88- تفسير كتاب أبيذيميا() ، لأبقراط

    89- تفسير كتاب الأخلاط ، لأبقراط

    90- تفسير كتاب تقدمة الإنذار، لأبقراط

    91- تفسير كتاب قاطيطريون()، لأبقراط

    92- تفسير كتاب الهواء والماء والمساكن، لأبقراط

    93- تفسير كتاب الغذاء، لأبقراط

    94- تفسير كتاب طبيعة الجنين، لأبقراط

    95- تفسير كتاب طبيعة الإنسان، لأبقراط

    96- كتاب فى رأى أبقراط من كتاب طبيعة الإنسان

    97- كتاب فى أن الطبيب الفاضل يجب أن يكون فيلسوفاً

    98- كتاب فى كتب أبقراط الصحيحة وغير الصحيحة

    99- كتاب فى التجربة الطبيعية

    100- كتاب فى الحث على تعلُّم الطب

    101- كتاب فى جمل التجربة

    102- كتاب فى محنة() أفضل الأطباء

    103- كتاب فى الأسماء الطبية

    104- كتاب البرهان

    105- كتاب الأخلاق

    106- مقالة فى صرف الاغتمام

    107- كتاب فيما ذكره أفلاطون فى كتابه المعروف بطيماوس من علم الطب

    108- كتاب فى أن قوى النفس تابعة لمزاج البدن

    109- كتاب جوامع أفلاطون

    110- كتاب فى أن المحرك الأول لايتحرك

    111- كتاب المدخل إلى المنطق

    112- مقالة فى عدد المقاييس() ولم يقتصر جهد حنين بن إسحاق على إخراج() هذه الترجمات المذكورة، وإنما ترك لنا - أيضاً - مجموعة كبيرة من الرسائل العلمية والمؤلفات، ومع ذلك .. نراه يشكو أهل زمانه ، قائلاً : يقولون : مَنْ هو حنين ؟ إنما حنين ناقل لهذه الكتب ، ليأخذ على نقله الأُجرة ، كما يأخذ الكتب، ليأخذ على نقله الأُجرة ، كما يأخذ الصُّنَّاع الأُجرة على صناعتهم .. فهو خادمٌ لأدائنا، وليس هو عاملٌ بها، كما أن الحدَّاد وإن كان يُحسن صنعة السيـف،

    إلا أنه ليس يُحسن أن يعمل به ، فما للحدَّاد والفروسية . الخ() .

    وتهمنا هنا ، ملاحظة روزنتال التالية : ذكر حنين فى قائمة ترجماته لمؤلفات جالينوس، أسماء الأشخاص الذين أعدَّ هذه الترجمات لهم ، وأنه فى حالات معينة كان يبذل جهداً خاصاً فى تحسين الترجمة وإدخال التعديلات عليها، لاسيما عندما تكون لرجل من العلماء الأفذاذ ! ونظرة حنين إلى منزلة العلماء والأدباء الذين كان يترجم لهم ، تُظهر لنا جلياً ، أنه كان يميزِّ بين التأليف العلمى الرفيع، وبين التأليف لعامة الناس()..نقول: هذا دليلٌ آخر على ما ذكرناه ، من أن حنين لم يكن يعمل وفق مشروع فردى وإنما أتت جهوده فى إطار منظومة فكرية عامة، وفى إطار مؤسسة .. وبحسب تنوع مقامات الطالبين !

    وكان الدكتور على سامى النشار، قد استخدم تعبيراً على قدر من الرفاهة -وإن كان يسوقه عفو الخاطر - حين أرَّخ لانتقال كتب المنطق والفلسفة من اليونانية للعربية ، فأشار إلى أن المسلمين : عرفوا الفلسفة اليونانية فى القرن الأول الهجرى ، ومظهر ذلك إذا ما وصلنا إلى عهد الترجمة الرسمية أن مؤرخى الفكر الفلسفى فى العالم الإسلامى.. إلخ() . فهناك ، إذن ، جانب رسمى من حركة الترجمة ، ومن هنا يمكن الكلام عن الترجمة الرسمية : ترجمة مؤسسة الدولة.

    أما المؤسسة غير الرسمية ، فقد تمثَّلت فى الأسر العلمية من أمثال أسرة بختيشوع ، وبنى موسى بن شاكر .. ولم يكن هؤلاء ببعيدين عن المؤسسة الرسمية للدولة . فأسرة بختيشوع كان جدهم جبريل طبيباً للخلفاء العباسيين، فصار أولاده وأحفاده من بعدهم،أطباء بلاطٍ وقصور .. وعلى الجانب الآخر من العالم العربى الإسلامى ، نجد أسرة طبية أخرى ، هم بنو زُهْر الذين اشتغلوا أيضاً بالطب ، وكان منهم مشاهير الأطباء فى الأندلس وبلاد المغرب.

    وهناك أُسرة موسى بن شاكـــر التى تخصَّصت فى الهندسة والحيل (الميكانيكـــا) والمساحة والفلك والفيزياء ، وكان ربُّ هذه الأسرة موسى() من منجِّمى المأمون وندمائه، وقيل إنه كان فى بداية أمره قاطعاً للطريق، مُغيراً على القوافل بالليل، ومتظاهراً بالتقوى وملازمة المسجد فى النهار() . ويبدو أنه اهتدى على يد الخليفة المأمون ، وصار من خلصائه .. وقد عهد موسى بأولاده الثلاثة إلى المأمون ، وأوصاه برعايتهم حين حضره الموت المبكر ؛ فقام المأمون برعاية أبناء موسى بن شاكر محمد ، أحمد ، الحسن فخرجوا - كما تقول المصادر التاريخية() - نهايةً فى علومهم . وصار موسى وبنوه، من أهم مظاهر الإسهام العربى فى مجال العلوم .. والترجمة .

    وفى كتابهم المخطوط الدرجات المعروفة يقدِّم الإخوة الثلاثـة نصاًّ مهمــاًّ فى الفلك والرياضة . وتبدأ مقدمة المخطوطة بقولهم : إن القدماء من أهل اليونانية تسلَّموا علومهم التجريبية من الهند() .. ولما نظرنا فى الكتب الموجودة إلى الآن ، فى معرفة أحكام النجوم ، وجدنا أكثرها حايداً عن الصواب وعن ما سَطره أولوهم، ووجدنا لقدمائهم كتباً قد هجرها المتأخرون لجهلهم كيفية استعمال ما فيها ، وبُعدها عن أذهانهم ، فتكلَّفنا التعب الشديد فى نقله إلى لغة العرب ، واستعنَّا فى ذلك بأفضل ما وجدناه من الناقلين (المترجمين) فى زماننا، واجتهدنا فى تهذيب العبارة وإصلاحها() .

    وفى مقدمـــة المخطوطــة ، نكتشف أننا بصدد ثلاثة كتب وليس كتابـــاً

    واحداً؛ وكلها (مترجمة) عن الهند .. يقول الإخوة : ووجدنا لهم ثلاثة كتب، أحدها فى طبائع الدرج التى تسمى المتحيِّرة ، كالمشترى والزهرة .. إلخ ؛ وهو هذا الكتاب . والثانى كتابٌ كبير، وهو اثنتا عشرة مقالة فى طبائع الدرج وخواصها ، إذا دخلتها الكواكب العظيمة .. ووجدنا هذا الكتاب قد اختلَّ نظمه وتخلَّط وضعه ، فأصلحناه إصلاحاً يشهد لنفسه . والكتاب الثالث فى كيفية حال البروج فى درج البروج، مع اتصالات الكواكب المتحيِّرة() .. وهذا الكتاب لم نجده كاملاً ، وقد نقلنا ما وجدناه، منه وأصلحناه.

    ثالثـاً : التَّرْجَمَةُ والحِسُّ الحَضَارِى

    حين أوردنا القائمة الطويلة لمترجمات حنين بن إسحاق ، كانت غايتنا من ذلك، تأمُّل الموضوعات والفنون التى اهتم الرجل بترجمتها ، أو بالأحرى : طُلبت منه ! ولسوف نلحظ على الفور أنها فى أغلبها - إن لم يكن كلها - كتبٌ طبية .. لقد ترجم حنين ومترجمى عصره ، المجموعة الأبقراطية (12 كتاباً) ومنتخبات الإسكندرانيين لجالينوس (16 كتاباً ) لتكون المجموعتان، لاحقاً، هى المقرر الدراسى الأساسى للطب ، لعدة قرون تالية .

    ولم تُترجم آنذاك الإلياذة والأوديسة أو النصوص المسرحية العظيمة ، أو غيرها من كتب الأدب اليونانى .. وإنما بدأت الترجمة بالكيمياء ، ثم الطب والفلك والرياضيات، وأيضاً : المنطق والفلسفة() . فعلام يدل ذلك ؟

    من الواضح أن حركة الترجمة والنقل، قديماً ، تمت فى إطارٍ من الوعى بما هو إنسانىٌّ عام، وما هو ثقافى خاص .. بعبارة أخرى : أدرك المسلمون آنذاك أن التراث اليونانى السابق عليهم ، اشتمل على نصوص تخصُّ اليونان أنفسهم، كفنون الأدب ، واشتمل أيضاً على نصوص العلوم التى طوَّرها اليونان بعدما استلموا مقدماتها من مصر القديمة وبلاد الشرق .. فترجم المسلمون العلوم، باعتبارها النصُّ الأَوْلى بالمعرفة ، من حيث طابعها الإنسانى العام، لا الثقافى الخاص.

    كما يظهر من الفقرة التى أوردناها من مخطوطة بنى موسى بن شاكر الدرجات المعروفة إن عملية الترجمة لم تقتصر على التراث اليونانى ، وإنما استهدفت أيضا علوم الهند وبلاد المشرق . وهناك دلائل أخرى على ذلك، منها ما فعله البيرونى فى كتابيه : تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة فى العقل أو مرذولة ، الآثار الباقية عن القرون الخالية .. فقد عمد البيرونى إلى النقل عن اللغة السنسكريتية ، فنقل لنا عوالم رحبة من إسهام الهند فى الفلك والرياضيات والتقويم .. والفلسفة !

    فإذا قارنَّا ذلك، بما فعلناه نحن فى عصرنا الحديث .. فلسوف نجد البونَ شاسعاً ، ولسوف نجدنا أقل وعياً وحسّاً حضارياً من السابقين ! فقد عمدنا إلى ترجمة كتب الأدب الأوروبى ، والفلسفات؛ من دون اهتمام بالكتب العلمية! والمتون الرئيسة فى العلم الحديث ، لايزال أغلبها حتى الآن ، بلا ترجمة.

    وأدَّت هذه المفارقة إلى وضعٍ معرفىٍّ بائس .. فقد أثمرت حركة الترجمة والنقل ، قديماً ، ثمارها المعرفية .. فجعلت العلوم تنطق بالعربية . ليس العلوم فحسب ، وإنما المفاهيم العلمية ، والعلماء ! فقد تطوَّرت الإصطلاحات العلمية واتَّسعت دلالتها مع انتقالها التدريجى من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، واتَّشح العلماء والفلاسفة بثوبٍ عربى ، فصار أبقراط هو الفاضل أبو قراط وصار أفلاطون الإلهى وأفلوطين الشيخ اليونانى وانبادوقليس ابن دقليس ! وصار فلاسفة العالم القديم والحكماء القدماء ، على يد السهروردى وأتباعه من الإشراقيين : الحكماء المتألهين .. الذين ماخلا العالم ، قط ، من واحدٍ منهم !

    ومن هنا يمكن القول بأنه تم إدخال التراث القديم إلى المنظومة المعرفية العربية، فسهل على العرب والمسلمين تطويره وتحريره() .

    بينما انتهى الأمر بنا اليوم - بعد الترجمة الحديثة - إلى تغريب العقل ونطق

    العلوم بالإنجليزية والفرنسية ، وبقيت اللغة العربية .. كما قال محمــود درويش فى قصيدةٍ له:

    لغةٌ تفتِّشُ عن بَنِيها

    ورَاويها

    تموتُ ككُلِّ من فيها

    وتُرمى فى المعَاجِم

    والحالة التى انتهينا إليها ، بعد قرنٍ ونصف من الترجمة - منذ عصر رفاعة وحتى اليوم - تمثل أزمة معرفية على مستوى العقل الجمعى، وتهدِّد اللغة التى ننتمى إليها .. التى هى : نحن !

    رابعاً : التَّرْجَمَةُ والحرِّيَّةُ

    أوردنا فيما سبق ، عامدين ، ما جاء من أخبار المأمون مع مدَّعى النبوة فى زمنه .. وكان مرادناً من ذلك ، الإلماح إلى ذلك المناخ الذى ساد الدولة الإسلامية فى زمن المأمون ، والطريقة التى تعامل بها الخليفة مع هؤلاء الأدعياء، وهى طريقة تُظهر مساحة كبيرة من سعة الصدر - فى مقابل التعصُّب- ومساحة أكبر من الحرية المتاحة أمام فرادى الناس ، حتى أن بعضهم يتجاوز، فيدَّعى النبوة ! فيتجاوز المأمون عن ذلك، ويعتبره مزاحاً.

    وقريباً من عهد المأمون ، سوف يشتهر الشاعر أحمد بن الحسين بن الحسن (ولد سنة 303 وتوفى 354 هجرية بلقب مشهور ظل زائعاً فى عصره وماتلاه من عصور ، هو المتنبى .. ولم ير الواقع الثقافى آنذاك ضرراً من هذا اللقب -وإن كان الواقع السياسى ينظر إليه بحساسية() - ولم يتحرَّج الناس من ترديده؛

    وهو ما يعكس أيضاً ، مساحة الحرية وسعة الصدر التى توفَّرت آنذاك.

    ومن ناحية أخرى ، عاصرت حركة الترجمة حركةٌ أخرى تشهد بمناخ الحرية السائد آنذاك .. هى حركة علم الكلام المسمى علم التوحيد وعلم أصول الدين وكلها تسميات لعلم يُعدُّ : النتاج الخالص للمسلمين() .

    ومع أن علم الكلام ، بحسب تعريفه ، هو : علم الدفاع عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية .. إلا أن مناخ الحرية الذى كان سائداً ، مكَّن المتكلمين (علماء الكلام) من التعليق بعيداً عن الموروث الدينى والعقائدى السابق عليهم، وهو ما نراه بشكل خاص فى مذهب المعتزلة الكلامى . ففى فترة سابقة عليهم، قُتل معبد الجهنى وغيلان الدمشقى والجهم بن صفوان .. الأول قتله الأمويون لقوله بالجبرية() ، وثانيهم قتلوه لقوله بالإرادة الإنسانية() ، وثالثهم قتلوه لقوله بخلق القرآن() - فى عصر الحرية - فلا يقتل منهم أحد . بل بالغ المعتزلة فى التأويل العقلى للآيات القرآنية ، وإعمال النظر فى أمور العقيدة، فوصلوا إلى قضايا خطيرة منها أن الله لا يقبل الشفاعة، وأن صفاته تعالى عين ذاته ، وأن الله لاتراه الأبصار .. وغير ذلك ، ولم يؤد ذلك لاضطهادهم .

    من تلك الشواهد يتضح مناخ الحرية الذى عاصر حركة الترجمة، فأدى إلى ازدهارها .. فإذا انتقلنا - مرة أخرى- من الماضى إلى الحاضر ، ونظرنا فى الساحة الثقافية المعاصرة ، عرفنا أن ثمة معوق رئيسى لنجاح عملية الترجمة !

    ولايتبادر إلى أدهاننا ، وَهْمُ الحركة التقدمية للتاريخ ، إذ لايشترط - من وجهة نظرى - أن يكون اللاحق من العصور أفضل من السابق، ولا يصح أن المجتمعات تتطور دوماً إلى الأمام .. وإلا ، فقد شهدت لحظة الترجمة - قديماً - قدراً من الحرية، ، لانراه اليوم متوفراً .

    * * *

    وهكذا ، فمن الواجب علينا ، ما دمنا سنشرع فى مشروع حضارىٍّ هائل كالترجمة، أن نعى درس الماضى .. وأن نتمثَّل العبر من حركة الترجمة والنقل، قديماً، فنسترشد بما فعله الأوائل، ونطوِّر رؤيتهم واتجاهاتهم. ولكن - كما يقول هيجل - يبدو من التاريخ ، أن أحداً لم يتعلم من التاريخ .

    وبعد .. فها نحن، اليوم ، بصدد أزمة تذكِّرنا بالأزمة التى انطلقت منها حركة الترجمة والنقل قديماً، وعلينا أن نخرج من أزمتنا الحالية خروجاً رشيداً كخروج أجدادنا .. بشرط مراعاة عدة أمور ، من بينها ما استخلصناه من درس التاريخ : لاغنى عن المؤسسة .. لابد من حِسِّ حضارىٍّ واعٍ .. لامناص عن مناخ حريةٍ !

    والله الموفق .



    المصادر والمـراجـع



    1- ابن أبى أصيبعة : عيون الأنباء فى طبقات الأطباء ، تحقيق د. نزار رضا (دار مكتبة الحياة بيروت)

    2- الأبشيهى : المستطرف فى كل فى مستظرف (دار مكتبة الحياة ، بيروت 1990)

    3- الأصفهانى : الأغانى (طبعة بولاق)

    4- ابن النديم : الفهرست ، تحقيق رضا المازندانى (دار المسيرة - بيروت ، الطبعة الثالثة 1988)

    5- بنو موسى بن شاكر : كتاب الدرجات المعروفة فى طبائع البروج ، منقولاً من حكماء الهند وكتبهم المصحَّحة ومعرفة المواليد (مخطوطة مكتبة نور عثمانية رقم 2800 )

    6- الجاحظ : البيان والتبيين (القاهرة 1367 هـ)

    7- الذهبى : سير أعلام النبلاء ( مؤسسة الرسالة ، بيروت- الطبعة الأولى)

    8- صاعد الأندلس : طبقات الأمم ، نشرة لويس شيخو (بيروت 1912)

    9-على سامى النشار : نشأة الفكر الفلسفى فى الإسلام (دار المعارف - الطبعة الرابعة 1965)

    10- : مناهج البحث عند مفكرى الإسلام (دار النهضة العربية - بيروت 1984)

    11- فاضل الطائى : أعلام العرب فى الكيمياء (الهيئة العامة للكتاب، سلسلة الألف كتاب )

    12- فرانتز روزنتال : مناهج العلماء المسلمين فى البحث العلمى ، ترجمة د. أنيس فريحة (دار الثقافة - بيروت، الطبعة الرابعة 1983)

    13- القفطى : إخبار العلماء بأخبار الحكماء (دار الآثار -بيروت)

    14-ماهر عبد القادر محمد : حنين بن إسحاق ، العصر الذهبى للترجمة (دار النهضة العربية - بيروت)

    15- محمد على أبوريان : تاريخ الفكر الفلسفى فى الإسلام (دار المعرفة الجامعية - الإسكندرية 1986)

    16- هونكه : شمس العرب تسطع على الغرب (دار الآفاق الجديدة - بيروت)

    17- يوسف زيدان : التراث المجهول (دار الأمين ، القاهرة - الطبعة الثانية 1997)





    --------------------------------------------------------------------------------

    (1) محمد على أبوريان : تاريخ الفكر الفلسفى فى الإسلام (دار المعرفة الجامعية - الإسكندرية 1986) ص 89.

    (2) من سنة 136 هجرية ، إلى سنة 198 هجرية.

    (3) المرجع السابق، ص 104.



    (1) من الإسكندرية إلى بغداد ، عنوان دراسة بديعة لماكس مايرهوف - ترجمها د. عبد الرحمن بدوى - تعرَّضت لانتقال مجالس التعليم الطبى الهللينستى من الإسكندرية إلى الشام ، حتى استقر أمرها ببغداد .

    (1) تجارب الأمم عنوان بديع، اختاره صاعد الأندلسى لكتابه فى التاريخ الثقافى .

    (2) هو عنوان كتاب للذهبى .. ولابن خلدون : كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر . وتدل هذه العناوين بذاتها ، على تلك الرغبة لدى المؤرخين العرب القدماء ، وعلى سعيهم وراء استنباط العبرة من التاريخ ، لا سرده سرداً متوالياً .. وهو ما سوف يحقِّقه ابن خلدون.

    (3) انظر ترجمته فى : الفهرست لابن النديم ص 419 - التاريخ الكبير لابن عساكر 5/116 - وفيات الأعيان لابن خلكان 1/ 210 - معجم الأدباء لياقوت الحموى 11/ 35 - معجم المؤلفين لكحالة 4/ 98 - البداية والنهاية لابن كثير 8/ 236 - النجوم الزاهرة لابن تغرى بردى 1/ 221 .. وغيرها . وانظر الفصل الذى كتبناه عنه، فى كتابنا : التراث المجهول ص 121 ومابعدها.

    (4) يقصد : الكيمياء ، السحرية منها خصوصاً (عملية تحويل المعادن الخسيسة إلى نفيسة )

    (1) أشهرهم الراهب السكندرى : مارينوس (الذى يُقال إنه اختفى بعد نجاحه فى تخليق الذهب لخالد بن يزيد !) وهو يعرف فى الكتابات العربية القديمة باسم : مريانوس .

    (2) يقصد : السريانية .

    (3) ابن النديم : الفهرست ، تحقيق رضا المازندانى (دار المسيرة - بيروت ، الطبعة الثالثة 1988) ص 303.

    (4) الذهبى : سير أعلام النبلاء 4/ 382.

    (5) الجاحظ : البيان والتبيين (القاهرة 1367 هـ) 1/328.

    (6) الأصفهانى : الأغانى (طبعة بولاق) 16/ 88.

    (7) ابن النديم : الفهرست ص 419.

    (1) احتدَّ النقاش مرة بين خالد وعبد الملك بن مروان ، فقال له الأخير أتخالفنى يا بن الواسعة فانسحب خالد من المجلس، فجاءته أمه تطيِّب خاطره ، فقال لها : لقد قال شيئاً، هو أعلم منى به !

    (1) د. فاضل الطائى : أعلام العرب فى الكيمياء ص 19.

    (2) ابن النديم : الفهرست ، ص 419.

    (1) وهى المحنة المعروفة بخلق القرآن .. وكان الإمام ابن حنبل يقول بأن القرآن قديم خلافاً للمعتزلة.

    (2) الأبشيهى : المستطرف فى كل فى مستظرف (دار مكتبة الحياة ، بيروت 1990) 2/323.



    (1) المرجع السابق ، ص 322.

    (1) الفهرست ، ص 303 ، 304.

    (1) صاعد الأندلس : طبقات الأمم ، نشرة لويس شيخو (بيروت 1912) ص 47.

    (2) انظر ما أورده الأبشيهى تحت عنوان : ذكر المبانى العظيمة وغرائبها وعجائبها (المستطرف ص 167 وما بعدها ) وفيه واقعة فتح المأمون للهرم الأكبر بمصر .

    (1) راجع بخصوص ذلك ، الفصل الذى خصصه د. ماهر عبد القادر لهذا الموضوع فى كتابه حنين بن إسحاق ، العصر الذهبى للترجمة وجعله بعنوان: حنين والخلفاء .

    (2) وردت هذه القصة المشهورة ، فى أغلب المصادر والمراجع التى تَعرَّضت لموضوع الترجمة .. وقد علَّق ابن أبى أصيبعة عليها، عند ترجمته لحنين بن إسحاق ، بما مفاده أن حنين كان يبالغ فى الكتابة على الورق السميك ، ليضمن مكافأةً أكبر عند الوزن ! وكان ذلك سبباً فى بقاء ترجماته إلى عصور متأخرة ، لأن الورق السميك أكثر قدرة على مقاومة الزمن (انظر : عيون الأنباء ص 257 وما بعدها)

    (3) د. ماهر عبد القادر محمد : حنين بن إسحاق ، العصر الذهبى للترجمة (دار النهضة العربية - بيروت) ص 148 .



    (1) هو الطبيب السكندرى العظيم : إيرازستراتوس.



    (1) هو كتاب الأوبئة أو المرض الوافد .

    (2) يُعرف هذا الكتاب بعنوان : حانوت الطبيب.

    (3) اختبار (امتحان)

    (1) القائمة التى أوردناها هنا ، مستفادةٌ مما نقله د. ماهر عبد القادر محمد على ، فى كتابه سالف الذكر ، عن عيون الأنباء لابن أبى أصيبعة ، ودراسات ونصوص فى الفلسفة والعلوم لعبد الرحمن بدوى، والفهرست لابن النديم (وقد نقل القفطى ما ورد عند ابن النديم ، من دون تعديل )

    (2) بعض هذه المترجمات قام بها حنين ابتداءً ، وبعضها كان إصلاحاً لترجمةٍ سابقة قام بها غيره، من المترجمين من السابقين عليه، أو من تلامذته .. وبعض الترجمات ، كان حنين قد عملها فى مطلع اشتغاله ، ثم أعاد ترجمتها وتنقيحها بعدما ازداد خبرة .

    (1) ابن أبى أصيبعة : عيون الأنباء فى طبقات الأطباء ، ص 265.

    (2) فرانتز روزنتال : مناهج العلماء المسلمين فى البحث العلمى ، ترجمة د. أنيس فريحة (دار الثقافة - بيروت، الطبعة الرابعة 1983) ص 113.

    (3) د. النشار : مناهج البحث عند مفكرى الإسلام (دار النهضة العربية - بيروت 1984) ص 22.

    (1) توفى سنة 259 هجرية .. على أرجح الأقوال.

    (2) هونكه : شمس العرب تسطع على الغرب ، ص 113.

    (3) أسهبت زيجريد هونكه فى كتابها : شمس العرب (الترجمة العربية - دار الآفاق، بيروت - ص111: 217) فى الكلام عن بنى موسى بن شاكر ، وذلك بأسلوب أدبى شائق ؛ أما عن موسى بن شاكر وأبنائه فى المصادر العربية ، فيمكن الرجوع إلى :

    الفهرست لابن النديم ص 330 - أخبار الحكماء للقفطى ص 208 .. وقد نقل القفطى كلام ابن النديم وزاد عليه أشياء ، فقال : موسى بن شاكر ، مقدَّم فى علم الهندسة هو وبنوه محمد بن موسى وأحمد أخوه والحسن أخوهما، وكانوا جميعاً متقدمين فى النوع الرياضى =

    = وهيئة الأفلاك وحركات النجوم، وكان موسى ابن شاكر هذا مشهوراً فى منجمى المأمون، وكان بنوه الثلاثة أبصر الناس بالهندسة وعلم الحيل ، ولهم فى ذلك تآليف عجيبة تُعرف بحيل بنى موسى ، وهى شريفة الأغراض عظيمة الفائدة مشهورة عند الناس ، وهم ممن تناهى فى طلب العلوم القديمة وبذل فيها الرغائب ، وقد أتعبوا نفوسهم فيها وأنفذوا إلى بلاد الروم مَنْ أخرجها إليهم، فأحضروا النقلة من الأصقاع والأماكن بالبدل السَّنى (المكافأة المجزية) فأظهروا عجائب الحكمة .. (إخبار العلماء بأخبار الحكماء ، ص 208)

    (1) ساد الاعتقاد أن علوم العرب مستفادة من علوم اليونان ، وهى مسألة تعبر عن جزء واحد من الحقيقة - لكنها سادت بفعل الكتابات الاستشراقية - لكن واقع الأمر أن العرب والمسلون استفادوا، كثيراً ، من حضارات الشرق (فارس، الهند) إلى جانب العلم اليونانى .

    واللافت للنظر أن بنى موسى بن شاكر انتبهوا إلى أن العلوم التجريبية بالذات، استفادها اليونانيون من العلم الهندى، ذلك أن العقلية اليونانية كانت تزدرى العلم التجريبى ، وتراه أقل مرتبة من العلوم النظرية والفلسفية ، وهذا بخلاف العقلية العلمية العربية التى أسهمت إسهاماً كبيراً فى تأسيس المنهج التجريبى .. قبل أوروبا بقرون.

    (2) بنو موسى بن شاكر : كتاب الدرجات المعروفة فى طبائع البروج ، منقولاً من حكماء الهند وكتبهم المصحَّحة ومعرفة المواليد (مخطوطة مكتبة نور عثمانية رقم 2800 ) الورقة الأولى.

    (1) الكواكب السيارة.

    (2) عرف المسلمون المنطق منذ وقت مبكر ، لكن الترجمة الكاملة لأعمال أرسطو المنطقية، تمت على يد الجيل الأخير من المترجمين : متى بن يونس ، ابن ناعمة الحمصى .

    (1) هناك ما لاحصر له من جهود عربية من إعادة ضبط وتنقيح متون العلم القديم ، منها : الشكوك على بطليموس لابن الهيثم الشكوك على جالينوس للرازى .. إلخ ، أما أكبر عملية عربية لإعادة كتابة العلم القديم ، وتحريره من الأخطاء ، فقد تمت على يد العلاَّمة نصير الدين الطوسى (المتوفى 672) بعد حركة الترجمة بثلاثة قرون من العمل العلمى ، فكتب الطوسى :

    تحرير المجسطى (فى علم الفلك )

    تحرير أصول الهندسة لأقليدس

    تحرير أكر مانالاوس

    تحرير كتاب ثاوذوسيوس فى الأيام والليالى

    تحرير كتاب أرسطرخس فى جرمى النيرين وما بعدهما

    تحرير كتاب إسقلاوس فى المطالع

    تحرير كتاب الطلوع والغروب لأوطولوقس

    تحرير كتاب المساكن لثاوذوسيوس

    تحرير كتاب الأكر لثاوذوسيوس

    تحرير كتاب معرفة الأشكال البسيطة والكرية لبنى موسى بن شاكر

    تحرير كتاب المعطيات فى الهندسة لأقليدس

    تحرير كتاب المأخوذات فى الهندسة لأرشميدس

    تحرير كتاب الكرة والأسطوانة لأرشميدس

    تحرير كتاب الكرة المتحركة لأوطولوقس

    (1) حينما تغيَّر كافور الإخشيدى على المتنبى ، ومنع عنه ما كان يريده من عطايا (مكافأة على =

    = مدح المتنبى لكافور) عوتب كافور فيه ، فقال : يا قوم مَنْ ادَّعى النبوة بعد محمد r أما يدَّعى المملكة مع كافور ؟ فحسبكم (البرقوقى : شرح ديوان المتنبى ، دار الكتاب اللبنانى ، بيروت 1980 ، ص 4)

    (1) د. النشار : نشأة الفكر الفلسفى فى الإسلام (دار المعارف - الطبعة الرابعة 1965) ص 31.

    (2) قُتل معبد الجهنى سنة 80 هجرية ، وهو مؤسس المذهب الجبرى.

    (3) كان هشام بن عبد الملك يكره غيلان الدمشقى، فقتله بعد مناظرة جرت بين الأخير وميمون بن مهران ، لم يستطع فيها غيلان الدفاع عن مذهبه فى الحرية الإنسانية ، سنة 106 هجرية.

    (4) قتل الجهم بن صفوان سنة 128 هجرية (انظر ترجمته ومصادره ، فى : سير أعلام النبلاء ، للذهبى - مؤسسة الرسالة ، بيروت 1981 ، الجزء السادس ص 26)

    عدل سابقا من قبل amattouch في الخميس مارس 02, 2006 11:58 pm, عدل 2 مرات

    الرجوع الى المقدمة


    amattouch



    شاركت: 15 فبراير 2006
    نشرات: 285

    ارسل: الخميس مارس 02, 2006 11:52 pm موضوع الرسالة:

    --------------------------------------------------------------------------------

    تاريخ الطـب وأعلام الأطباء عند السـريـان
    في العصـرين الأمـوي والعباسـي
    الأسـتاذ الدكتور فيصل دبســي
    كلية الطب – جامعة حلب



    مقدمــة

    خدم السريان الطب في العصر العربي بالممارسة والترجمة والتأليف والتعليم، وكان أكثرهم فلاسفة وأطباء معاً لأن دراستهم الطبية لم تكن منفصلة عن دراستهم الفلسفية. إن إبداع هؤلاء الأطباء يندرج ضمن الحضارة العربية، طالما أنهم نشئوا ضمن الدولة العربية وتكلموا لغتها ونعموا واستفادوا من دعمها المعنوي والمادي، فقد كانوا من أطباء البلاط، وكانت أغلب مؤلفاتهم بالعربية.

    كان السريان ينقلون الكتب اليونانية إلى لغتهم السريانية ثم يترجموه بعدئذ من السريانية إلى العربية. وهكذا أصبحوا حلقة للاتصال بين الثقافة الهيلينية و الثقافة العربية، و قد وصلت الثقافة الهيلينية إلى الفكر العربي عن طريق السريان واللغة السريانية.

    المراكز العلمية للأطباء السريان

    جنديسابور

    جنديسابور مدينة في خوزستان، في الأحواز (الأهواز ) ، تقوم مقامها الآن مدينة شاه آباد في الجنوب الغربي من إيران. أسسها الملك الساساني ( شابور الأول ) الذي تزوج ابنة القيصر البيزنطي أورليانوس و بنا لها هذه المدينة، ومنح الأطباء الذين رافقوها مكاناً لبناء مدرسة ومستشفى ، فانتقل بذلك الطب اليوناني إلى بلاد فارس. وقد عني كسرى أنوشروان (531 -579 م)، بمدينة جنديسابور وجامعتها، فساعد على توسع علوم الطب، كما أوعز بوضع مؤلف في السموم بلغ ثلاثين مجلداً، نقله العرب فيما بعد إلى لغتهم .

    كانت مدرسة طب جنديسابور في أوج مجدها حين فتح العرب بلاد فارس سنة ( 19هـ - 642 م) في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وقد التقت فيها حضارة اليونان بحضارات الشرق بفضل العلماء السريان ، فجعلوها مركزاً مرموقاً بين مراكز الدولة الإسلامية العلمية. كانت لغة العلم في جنديسابور اليونانية مع اللغات الفارسية والسريانية والعربية. وكان لمدرسة جنديسابور مستشفى يعد من أكبر المشافي في العهد السابق للإسلام بثلاثة قرون.

    كان للسريان إسهام كبير في جنديسابور وشهرة واسعة، لذلك فقد اعتمد الخلفاء المسلمون عليهم في العلاج والترجمة.

    الـرهــا

    الرها هي أدسا Edessa، ( وحاليا" أورفه Urfa )، وهي أقدم مقر للنصارى السريان. كان في الرها مدرسة طبية ألحق بها مستشفيان، وكانت تلحق بها مدرسة وأراض لزراعة النباتات الطبية بحسب المعيار الذي وضعه الساسانيون لدى إنشاء مسشفى جنديسابور.

    حــران

    تقع حران على أحد روافد الفرات الشرقية في سوريا، وسكانها من السريان الوثنيين الذين انتحلوا الصابئية تسترا" ليعدهم المسلمون من أهل الكتاب. انتقلت إليها والى أنطاكية معارف الإسكندرية الهيلينية، ولاسيما الطبية، لانقطاع صلتها بالروم، ولهذا واصل، كما يذكر بروكلمان– السوريون في إنطاكية وحران حماية تراث بيزنطة وتنميته ونقله إلى بغداد .

    لقد كانت حران مع المدن السورية المهمة الأخرى مراكز علمية تقوم فيها الدراسات العلمية والفلسفية والدينية – الكنسية، ولما جاء المسلمون حافظت على مكانتها وأهميتها العلمية لجهل الفاتحين باللغتين الإغريقية واللاتينية، التي يتقنها الكثير من أبناء السريان المسيحيون والوثنيون ( الصابئة ). لذلك فقد اعتمد العرب في أول أمرهم على ترجمات أخرجها لهم السريان، وكانت طريقة هؤلاء الأخيرين أن ينقلوا الكتاب اليوناني إلى لغتهم السريانية ثم يترجموه بعدئذ من السريانية إلى العربية . وهكذا أصبحوا أعظم حلقة للاتصال بين الثقافة الهيلينية والحضارة العربية.

    الحيــرة

    كانت الحيرة (حيرتا – بالسريانية - مخيم أو معسكر ) ، والتي تقع على بعد 5 كيلو مترات جنوبي الكوفة، مركزا" حضاريا" في عهد المناذرة ،حيث كانت عاصمتهم . وفي الحيرة كان يسكن ، بالإضافة إلى العرب ، النبط (وهم سكان العراق القدماء ) و الإيرانيون والروم، وهم من أديان مختلفة، زرادشتية ونصرانية ويهودية وصابئة ، وكانت ملتقى الحضارات القديمة ؛ وأهلها يتكلمون في الغالب العربية ويكتبون بالسريانية ، لغلبة المسيحية فيها ، ويستخدمون الخط النبطي ( الذي عرف بالكوفي بعد الفتح الإسلامي ) ، ويعرفون الفارسية والآرامية ( سلف السريانية ). و قد فقدت الحيرة أهميتها بعد الفتح الإسلامي، ولاسيما بعد إنشاء الكوفة القريبة منها. غير أن كنائسها وأديرتها القريبة أصبحت منبعا" لرواد المعرفة من المؤرخين العرب، حيث كان باستطاعتهم شراء المخطوطات وتدارسها و النقل عنها. وكان في العراق، المحتل من قبل الإيرانيين الساسانيين، قد توفرت، قبيل قدوم العرب المسلمين الفاتحين إليه، ظروف موضوعية وذاتية لان يمارس المسيحيون نشاطهم بحرية أوفر ، نتيجة تطور العلاقات الاجتماعية وتسامح السلطة الإيرانية الزرادشتية - غير التبشيرية – مما خلق ظروفا" أفضل لممارسة النساطرة السريان، الفرقة الأكثر قبولا" وتجاوبا" مع السلطة الساسانية، لمجمل نشاطاتهم الدينية والثقافية والحضارية، وان كانت على العموم غير عميقة وذات أبعاد غير فسيحة .

    بصــرى

    كانت بصرى ( بسترا ) قبل الإسلام تنافس الحيرة بصفتها عاصمة الغساسنة، أعداء المناذرة حكام الحيرة. و بصرى وان لم تكن العاصمة الوحيدة للغساسنة غير أن لها شهرتها ومركزها ومدنيتها، التي فاقت منافستها، حيث كان الغساسنة أكثر التصاقا" بالبيزنطيين، ولاسيما بعد هجرهم لآلهتهم وتنصرهم نظرا" لمجاورتهم وتبعيتهم للبيزنطيين. كما كانت بصرى مركزا"لشبكة الطرق التي أسسها الرومان، لأنها كانت قديما"سوقا"تجارية نبطية ، فمنها كانت تسير القوافل في كل الاتجاهات.
    لقد أخذ الغساسنة بالتحضر والتقرب إلى البيزنطيين حتى تنصروا ( الكنيسة السورية الغربية – اليعقوبية ) واتخذوا الآرامية لغة ثانية مع العربية .

    لقد ورث نصارى المدن الغسانية في العهد الإسلامي خبرات ومعارف أسلافهم، وقد استفادوا من إتقانهم للآرامية والعربية والسريانية و الإغريقية في الترجمة، وأستعين بهم لهذا السبب.
    العصـر الأمــوي
    عني الأمويون بنقل العلوم القديمة من يونانية وفارسية وهندية إلى اللغة العربية. و قد وجدوا في المدارس السورية ومدرسيها من السريان ما يحقق غاياتهم، كما بادلهم هؤلاء الإخلاص والولاء. كان للسريان مدارس متعددة فيما بين النهرين والبلاد المجاورة لها، رعاها الأمويون. اشتهر منهم في العصر الأموي يعقوب الرهاوي.

    كان السريان ينقلون العلوم اليونانية إلى اللغة العربية كالمنطق والطب والطبيعة. وظلت المدارس السريانية مفتوحة الأبواب عند الدولة الأموية كما كانت في الدولة البيزنطية. وقد حفظت اللغة السريانية بعض الكتب اليونانية التي فقد أصلها، وقد كانت الترجمة التي أنجزها السريان في عهدها الأول ترجمة حرفية تقريباً ثم تحرر المتأخرون من حرفية الترجمة . ولم يقتصر السريان على الترجمة من اليونانية بل ترجموا من الفهلوية ( الفارسية ) أيضا" .

    ماسـرجويـه
    هو ماسرجش اليهودي، الذي يعرف بيحيى بن ماسرجويه السوري و الذي ترجم كتاب الطب ( كناش ) أهرون Syntagma للقس النصراني والطبيب الاسكندراني هارون ، من السريانية إلى العربية، وهو من أقدم التآليف العربية الطبية. يرى مايرهوف بأنه ربما كتب بالإغريقية ثم ترجم إلى السريانية، ثم إلى العربية. كان يهوديَّ المذهب سريانياً، وهو الذي يعنيه أبو بكر محمد بن زكريا الرازي في كتابه الحاوي بقوله: قال اليهودي. ويظهر أن أبحاث أهرون كانت تشتمل على أول وصف لمرض الجدري، وهو داء لم يكن معروفا" في الطب اليوناني القديم.

    كان في أيام بني أمية، وإنه تولى في الدولة المروانية ترجمة هذا الكتاب إلى العربية والذي وجده عمر بن عبد العزيز رحمه الله في خزائن الكتب فأمر بإخراجه ووضعه في مُصَلاّه واستخار الله في إخراجه إلى المسلمين للانتفاع به، فلما تم له في ذلك أربعون صباحاً أخرجه إلى الناس وبثَّه في أيديهم.

    لماسرجويه من الكتب : كناش، وكتاب في الغذاء، وكتاب في طب العين.
    العصـر العبـاســي

    اقتبس العباسيون الطب عن اليونان خاصة، و عن الفرس والهنود أيضا". وكان عصر هارون الرشيد، عصر الإسلام الذهبي فأصبحت بغداد عاصمة العالم في الثقافة والسياسة والاقتصاد. و قد نشّط الخليفة الرشيد العلوم بجميع الوسائل، وتبعه في ذلك رجاله فزادوها تبسطاً في الأبحاث وتوسعاً في العلاج ومهارة في الجراحة والتشريح وخبرة في العقاقير وتركيبها ومعرفة في الكيمياء وتحليلها، وكانوا قد استقدموا إليهم كثيرين من أطباء تلك الأمم فطببوا الخلفاء ونقلوا لهم الكتب. و قد اشتهر من خلفاء العباسيين المنصور والمأمون بحبهما للتوسع العلمي ورغبتهما في التطلع إلى آفاقه البعيدة مما أثار سخط الجامدين عليهم.

    يعزي بعضهم ترجمة الكتب اليونانية في عصر المأمون، إلى رؤيا رآها المأمون، فقد رأى في منامه شيخاً بهي الشكل، جالساً على منبر وهو يخطب ويقول: أنا ارسطوطاليس، فانتبه من منامه وسأل عن أرسطوطاليس فقيل له: رجل حكيم من اليونانيين، فاحضر حنين بن اسحاق، إذ لم يجد من يضاهيه في الترجمة و طلب منه نقل كتب الحكماء اليونانيين إلى اللغة العربية وبذل له من الأموال والعطايا شيئاً كثيراً. إن هذه القصة لا يصح أن تكون سبباً أساسياً في نقل العلوم، إلا أنها تبين في كل حال رغبة الخلفاء في العلم ونقل كل ما كان معروفاً من علوم الأولين إلى اللغة العربية، والدليل على ذلك أن حركة الترجمة بدأت قبل عهد المأمون، وقصة رؤياه إن صحت فهي تدل على أن الحلم كان انعكاس صورة طبيعية لما كان يفكر فيه المأمون في اليقظة.

    لقد داخل الخلفاء ملوك الروم، وأتحفهم المنصور بالهدايا الثمينة وسألهم صلته بما لديهم من كتب الحكماء والفلاسفة، وعين لها مهرة التراجمة وكلفهم إحكام ترجمتها، ثم حض الناس على قراءتها ورغّبهم في تعلمها، فنفقت سوق العلم في زمانه، وقامت دولة الحكمة في قصره وتنافس أولو النباهة في العلوم، لما كانوا يرونه من الحظوة التي ينالها أصحاب العلم عند الخليفة، واهتمامه بهم و تقديره لهم، فكان يخلو بهم، ويأنس لمناظرتهم، ويسر بمذاكرتهم، و ينالون عنده المنازل الرفيعة والمراتب السنية، حتى صارت الدولة العباسية تضاهي الدولة الرومانية عندما كانت في أوج حضارتها. ولم يمض أكثر من ثلاثة أرباع القرن الأول لتأسيس بغداد حتى تم للعالم العربي أن يقف على أهم كتب أرسطو الفلسفية وعلى نخبة من كتب الشروح لأهل الفلسفة الأفلاطونية الجديدة وعلى جملة من كتب جالينوس الطبية وطائفة من الكتب العلمية الفارسية والهندية.
    دار الحكـمة في بغـداد ودور الأطباء السريان فيها
    أنشأ الرشيد سنة ( 174 هـ / 790 م ) دار الحكمة في بغداد، و كانت مكتبة ومركز علمي ودار ترجمة. و قد كان هذا المعهد من وجوه كثيرة أعظم المعاهد الثقافية التي نشأت بعد مكتبة الاسكندرية التي أسست في القرن الثالث قبل الميلاد. و قد ترجم ما وجد من الكتب القديمة اليونانية في أنقرة و عمورية وغيرها من بلاد الروم خلال الحروب مع البيزنطيين، بعد نقلها إلى دار الحكمة، و كذلك ما يهدى للخليفة من الكتب من الأباطرة البيزنطيين، و ما يرسل الخليفة لشرائه. و قد كلف الرشيد الطبيب السرياني يوحنا بن ماسويه بإدارتها فجعله أمينا" للترجمة، ورتب له كتّابا" حاذقين لتدوين الترجمة ونسخها، فترجم كثيرا" من الذخائر اليونانية. كانت دار الحكمة منارا" للثقافة و الفكر في العالم ذلك الحين. و في سنة ( 208 هـ / 823 م ) قام المأمون بتدعيم دار الحكمة بالعلماء و المترجمين، و قد عين حنين بن اسحاق السرياني قيما" على دار الحكمة ووضع بين يديه مترجمين، فكان حنين يراجع ما يترجمونه من كتب.

    جورجيوس بن جبرائيل
    مرض المنصور في سنة 148هـ - 770 م، وفسدت معدته وفقد شهيته للطعام، وكلما عالجه أطباؤه ازداد مرضه، فطلب من وزيره وكاتم أسراره الربيع أن يجمع له الأطباء لمشاورتهم، فسألهم المنصور: "من تعرفون من الأطباء في سائر المدن طبيباً ماهراً ؟ فأجابوه: ليس هناك في هذا الوقت أحداً يشبه جرجس رئيس أطباء جنديسابور. فأرسل المنصور حالاً من يحضره.

    وصل الرسول إلى حاكم جنديسابور الذي أحضر جورجيوس وطلب منه الذهاب إلى بغداد، فخرج بعد أن أوصى ابنه بختيشوع بأمر البيمارستان، وأخذ معه تلميذيه إبراهيم ، وعيسى بن شهلا.

    لما وصل جرجس إلى المنصور، دعا له بالفارسية والعربية، فأعجب الخليفة بحسن منظره ومنطقه، وأجلسه أمامه، وسأله عن أشياء ، فأجابه عنها بهدوء ، فقال له المنصور: قد ظفرت منك بما كنت أحبه و أشتاقه، وحدثه عن مرضه، وطلب من الوزير الربيع أن يُكرم كما تُكرم أخص الأهل. وقد عالجه جرجس حتى شُفي . وكان فرح الخليفة به عظيماً، وأمر أن يُجاب له كل ما يسأل.

    في سنة 152هـ 774 م أي بعد أربع سنوات من حياة جرجس في بغداد ، مرض جرجس مرضاً صعبا ً، وكان الخليفة يطمئن عليه كل يوم. ولما اشتد مرضه، قال له : وجدت راحةً عظيمة في جسمي منذ رأيتك، كما تخلصت من أمراضي. وأمر الخليفة أن يُنقل جورجيوس إلى بلده جنديسابور، وأن يُدفع له عشرة آلاف دينار، وأرسل معه خادماً وقال له : "إن مات في طريقه، فاحمله إلى منزله ليُدفن هناك كما آثر، وقد وصل إلى بلده حيا ً. توفي سنة 152 هـ - 774 م في جنديسابور.

    كان رئيساً لأطباء جنديسابور، وله مؤلفات جليلة، منها كتاب في الطب باللغة السريانية، نقله فيما بعد حنين بن اسحق إلى اللغة العربية .
    بختيشوع بن جورجيوس
    وصل إلى مرتبة أبيه في الطب. وقد خلف أباه في رئاسة بيمارستان جنديسابور.

    استقدمه الهادي من جنديسابور لمعالجته، إلا أنه لما وصل ورآه علم أنه لن ينجو من الموت ، وذلك في سنة 170هـ - 792م .

    من مؤلفاته : كتاب في الطب ( كناش ) مختصر، وكتاب التذكرة ألفه لابنه جبرائيل .
    جبرائيل بن بختيشوع
    أعظم الأطباء السريان وأشهرهم. لازم هارون الرشيد ثلاثاً وعشرين سنة حتى وفاة الرشيد ، وقد جعله رئيساً على جميع الأطباء. كما خدم الأمين والمأمون، و حصَّل منهم من الأموال ما لم يحصَّله غيره من الأطباء. وكان عند المأمون مثلما كان عند أبيه الرشيد.

    ازدهرت في عصر المأمون العلوم والفنون ، ونُقلت المؤلفات اليونانية إلى اللغة العربية ، ويعتبر عصره عصر الدولة الذهبي. ولما عزم المأمون على حرب الروم سنة 213هـ،835 م مرض جبرائيل مرضاً شديداً. فلما رآه المأمون ضعيفاً، طلب منه إرسال ابنه بختيشوع معه فأحضره وكان مثل أبيه في الفهم والعقل والفضل والسخاء. ولما خاطبه المأمون وسمع حسن جوابه، فرح به فرحاً شديداً وأكرمه غاية الإكرام ، ورفع منزلته واصطحبه معه في غزواته إلى بلاد الروم . وفي خلال غياب المأمون مرض جبرائيل إلى أن بلغ الموت ، وكتب وصيته إلى المأمون وتركها عند صهره ميخائيل ومات. وقد أقيمت له جنازة لم تقم لأمثاله وذلك لفضله وبره، ودفن في دير مار سرجيوس بالمدائن (على مسافة 30 كم جنوبي بغداد) . ولما عاد ابنه بختيشوع من بلاد الروم جمع للدير رهباناً وتكفل جميع نفقاتهم.

    لجبرائيل بن بختيشوع من الكتب: رسالة إلى المأمون في المطعم والمشرب ، وكتاب صنعة البخور ألفه أيضاً للمأمون ، وكتاب المدخل في صناعة المنطق، وكتاب الباه ، ورسالة مختصرة في الطب ، و كتاب شامل في الطب ( كناش ).

    يوحنا بن ماسوية

    ( ...-240هـ /...- 862 م)

    واجهة مخطوط من القرن الرابع عشر الميلادي

    للرسام الايطاليGiohanne Cademosto

    تظهر ابن ماسويه( الأول من أسفل اليمين) بين مجموعة

    من آباء الطب والصيدلة اليونانيين والعرب المسلمين.
    كان أبوه صيدلانيا" في بيمارستان جنديسابور ثم من أطباء العيون في بغداد، وقد تقدم أبوه في دولة الرشيد . كان سريانيا مسيحي المذهب، و تلقى علومه في بيمارستان جنديسابور، وكان طبيباً ذ كياً فاضلاً خبيراً بالطب، وكان أحد الذين عهد إليهم الرشيد بترجمة ما وجد من الكتب القديمة اليونانية في أنقرة و عمورية وغيرها من بلاد الروم. و قد نقلت هذه الكتب إلى بيت الحكمة في بغداد، وجعل يوحنا أمينا" لترجمتها إلى العربية، ورتب له الرشيد كتابا" حاذقين لتدوين الترجمة ونسخها، وقد ترجم كثيرا" من الذخائر اليونانية. تولى تطبيب الرشيد و المأمون و المعتصم و الواثق و المتوكل. حظي بتقدير كبير من الخليفة الواثق، وقد أغدق عليه مالا" وفيرا". أصاب شهرة واسعة وثروة طائلة.

    ينسب إلى يوحنا أقدم معالجة للرمد و كذلك تميزه في طب العيون.

    كان مبجلاً وحظياً عند الملوك ، وقد لازم الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل من الخلفاء العباسين ، وكان ملوك بني هاشم لا يتناولون أطعمتهم إلا بحضوره .

    كان ضعيف التمسك بدينه، ورغم أنه كان شماساً، فقد كانت له نساء كثيرات.

    كما كان مجلس يوحنا أفضل مجلس لطبيبٍ أو فيلسوفٍ في بغداد، لأنه كان يجمع كل أصناف العلوم، و كان ذو دعابة شديدة، يحضر بعض من يحضر لأجلها. وكان عصبياً شد يد الحدة ،على أشد مما كان عليه جبرائيل بن بختيشوع، وحدته هذه تخرج منه ألفاظاً مضحكة. و كان أطيب ما يكون مجلسه، في وقت نظره في قوارير البول، وكان يعتمد عليها في تشخيص المرض.

    واشتدت على يوحنا علة كان فيها حتى يئس منه أهله، ومن عادة النصارى إحضار من يئس منه أهله جماعة من الرهبان والقسيسين والشمامسة يقرؤون حوله ففعلوا مثل ذلك بيوحنا . فأفاق والرهبان حوله يقرؤون فقال لهم: يا أولاد الفسق ماذا تصنعون في بيتي ؟ فقالوا له : كنا ندعو ربنا ليتفضل عليك بالعافية ، فقال لهم يوحنا: قرص ورد أفضل من صلوات جميع أهل النصرانية منذ كانت إلى يوم القيامة، اخرجوا من منزلي فخرجوا. و إن هذا يعكس قناعته بالطب المادي بعيدا" عن الغيبيات.

    كان يوحنا غزير الإنتاج، من مؤلفاته: في التشريح ( كتاب مجسة العروق، وكتاب الجنين ، وكتاب تركيب خلق الإنسان وأجزائه وعدد أعضائه ومفاصله وعظامه وعروقه ، وكتاب التشريح ) وفي طب العين ( معرفة محنة الكحالين)، وفي الطب العام (كتاب البرهان وهو في ثلاثين باباً، وكتاب جامع الطب، و كتاب معرفة أسباب الأوجاع ألفه للمأمون، وكتاب السموم وعلاجها ) وفي الطب النفسي ( كتاب الماليخوليا وأسبابها وعلاماتها وعلاجها)، وفي الأدب الطبي ( كتاب محنة الطبيب)، وفي طب الجلد ( كتاب في الجذام) لم يسبقه أحد إلى مثله، وفي طب الحنجرة ( كتاب الصوت والبحّة).

    بختيشوع بن جبرائيل
    (...- 256هـ / ...- 878 م)

    كان سريانياً نبيل القدر بلغ من عظم المنزلة والحال، وكثرة المال ما لم يبلغه أحد من أطباء عصره. نقل حنين بن إسحاق لبختيشوع بن جبرائيل كتباً كثيرة من كتب جالينوس إلى اللغة السريانية و اللغة العربية. ولما تولى الواثق تاسع الخلفاء العباسين وقد تسلط القواد الأتراك على الحكم في أيامه ، كان وزيره محمد بن عبد الملك الزيات وابن أبي داوود يعاديان بختيشوع ويحسدانه، فكانا يوغران صدر الواثق عليه إذا خلوا به، فسخط الواثق عليه وصادر أملاكه وضياعه وأمواله ونفاه إلى جنديسابور ، وذلك في سنة( 230هـ / 852 م) ، لكنه لما أصيب الواثق بالاستسقاء واشتد عليه المرض ، طلب بختيشوع من منفاه في جنديسابور، إلا أنه توفي قبل وصوله. قضى بختيشوع بن جبرائيل أكثر أيامه بصحبة الخليفة المتوكل . وقد علا شأنه في عهد المتوكل، حتى بلغ من الجلالة والرفعة، وعظم المنزلة وحسن الحال وكثرة المال والجاه ، ومباراة الخليفة في الزي واللباس والطيب والفرش وبذخ الحياة مبلغاً يفوق الوصف. ويُروى أن المتوكل أمر وزيره شفاهاً قائلاً: "أكتب من ضياع بختيشوع كأنها ضياعي وملكي لأن محله منا محل أرواحنا من أبداننا". لكن بختيشوع أفرط في إدلاله على الخليفة ، فصادر المتوكل أمواله ونقله من سامراء إلى بغداد. وعرض للمتوكل بعد ذلك قولنج فاستحضره واعتذر إليه، وعالجه بختيشوع فشفي ، فأنعم عليه المتوكل ورضي عنه، وأعاد له أمواله وأملاكه . أصيب بختيشوع بنكبة أخرى أيام المتوكل عندما تآمر عليه وزيره وكاتبه لقتله ، وكانا يعلمان محبة بختيشوع له ، فأوغرا صدر الخليفة عليه، فنُفي إلى البصرة، واغتيل المتوكل. ولما استخلف المستعين ، رد بختيشوع إلى الخدمة وأحسن إليه إحساناً كثيرا. وعندما صار الأمر إلى المهتدي جرى على حال المتوكل في أنسه بالأطباء وتقديمه إياهم وإحسانه إليهم. وقد شكا بختيشوع إلى المهتدي ما أُخذ منه في أواخر أيام المتوكل وقبل اغتياله ، فأمر برد ما كان له . وقد توفي سنة 256هـ - 878 م .

    لبختيشوع بن جبرائيل من الكتب: كتاب الحجامة بطريقة السؤال والجواب.

    حنين بن إسحاق

    (194 - 264 هـ /810 - 873 م )

    حنين بن إسحاق هو أبو زيد العبادي نسبة إلى قبائل عباد، وهي قبائل عربية نصرانية نسطورية من الحيرة. ولغته الأم السريانية. ولد بالحيرة في العصر الذهبي من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية سنة 194 هـ / 810 م، وحين شب تنقل في البلدان وقد أقام مدة في البصرة حيث لازم الخليل بن أحمد الفراهيدي حتى برع في اللغة العربية كبراعته بلغته الأم السريانية. وكان فصيحا" لسنا" بارعا" شاعرا" . ثم حل به المطاف في بغداد ، وبدا يحضر مجالس العلماء والأدباء

    وعلى الأخص مجلس يوحنا بن ماسويه مترجم البلاط العباسي آنذاك . واشتغل بصناعة الطب حيث لازم مجلس يوحنا بن ماسويه الذي كان مجلسه الأفضل لتعلم الطب ، وكان يقرأ عليه كتاب فرق الطب المسمى باللغة اليونانية والسريانية " هراسيس " . كان حنين كثير السؤال مما كان يزعج يوحنا،و كان أهل جنديسابور وأطباؤها خاصة ينفرون من أهل الحيرة ويكرهون دخول أبناء التجار في مهنتهم ، وقد سأله حنين في بعض الأيام عن بعض ما كان يقرأ عليه مستفسرا"، فانزعج يوحنا وقال: ما لأهل الحيرة وتعلم الطب ، اذهب للبيع والشراء فذلك أنفع لك ، وطرده من داره ، فخرج حنين باكيا" حزينا". فقرر الرحلة في طلب العلم وعاد إلى التنقل في البلدان والأمصار حتى حل به المطاف في بلاد الروم ( البيزنطيين ) حيث بقي هناك مدة تزيد على السنتين تعلم خلالها اللغة اليونانية بطلاقة وإتقان بحيث أصبح قادرا" على حفظ أشعار هوميروس.

    . ويقول ابن جلجل في ذلك: كان حنين عالما" بلسان العرب فصيحا" باللسان اليوناني جدا" بارعا" في اللسانين بلاغة بلغ فيها تمييز علل اللسانين. وقد أحسن الخليفة المأمون ( 198 - 218 هـ /814 – 833 م ) استغلال مواهب حنين بن إسحاق فعينه مترجما" ، وأمره بنقل ما يقدر عليه من كتب الحكماء اليونانيين إلى العربية وإصلاح ما ينقله غيره، وهكذا بدأ حنين يترجم للبلاط العباسي ولما يبلغ العشرين من عمره. كان بارعا" في ترجمته، وهو الذي أوضح معاني كتب أبقراط و جالينوس ولخصها أحسن تلخيص، وشرح ما صعب منها. و قد كان عهد المأمون من أفضل فترات النشاط العلمي في الدولة العباسية، فقد أبدى الخليفة اهتماما"كبيرا"في جلب الكتب من مختلف أصناف المعرفة وترجمتها إلى العربية. كما وان المذهب الرسمي الذي تبناه الخليفة كان مذهب المعتزلة وهو مذهب، رغم سلبياته المتمثلة بالمحنة ، يؤمن بحرية الرأي و الإرادة والنزعة العقلية. و يبدو أن هذا الجو الفكري شجع حنين على العمل الجدي المستمر سواء"كان ترجمة أو إنتاجا"، إلا أن عهد المأمون لم يدم طويلا".

    ترجم لجبرائيل بن بختيشوع كتاب جالينوس في التشريح ، وعاد فلازم يوحنا بن ماسويه وتتلمذ على يده في الطب ونقل له كتبا" كثيرة وخصوصا" من كتب جالينوس ، بعضها إلى اللغة السريانية، والبعض الآخر إلى العربية. كان حنين أعلم أهل زمانه باللغات اليونانية والسريانية والفارسية بالإضافة إلى إتقانه اللغة العربية وتميزه فيها، وقد جعله المأمون قيما" على دار الحكمة ، و طلب منه ترجمة كتب الفلاسفة اليونانيين إلى العربية، كما وضع بين يديه مترجمين ، فكان حنين يراجع ما يترجمونه من كتب. وكان يعطيه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربي مثلا" بمثل، لذلك كانت كتب حنين مكتوبة بحروف كبيرة وخط غليظ على أسطر متفرقة، وورق سميك يعادل ثلاث أو أربع ورقات بسماكته، و كان مقصده تعظيم حجم الكتاب وزيادة وزنه ، لأجل ما يقابل به من وزنه دراهم، وكان يستعمل ذلك الورق عمدا"، وهذا ما حفظ هذه الكتب سنوات طويلة.

    سافر حنين إلى بلاد كثيرة، منها فارس حيث تعلم الفارسية، ووصل إلى أقصى بلاد الروم لطلب الكتب التي قصد نقلها، كما أقام فيها ما يقرب من سنتين حيث تعلم اليونانية. وكان مهتما" بنقل الكتب الطبية وخصوصا" كتب جالينوس ، حتى أنه في غالب الأمر لا يوجد شيء من كتب جالينوس المترجمة إلا وهي بنقل حنين أو بإصلاحه ما نقله غيره . كما اهتم بالفلسفة أيضا" والتاريخ.

    صفحة من كتاب جالينوس في القوى الطبيعية ترجمة

    حنين بن اسحاق كتبت سنة 572 هـ ، وهي من المخطوطة

    رقم 433 في مكتبة ليدن – هولاندا

    صفحة من كتاب جالينوس في منافع الأعضاء

    ترجمة حنين بن إسحاق. كتبت في القرن الثالث عشر الميلادي

    ( رقم 2853 ص 301 أ – المكتبة الوطنية في باريس )

    استمر حنين بن إسحاق في السنوات الأولى من عهد المتوكل على مرتبته السابقة التي كانت عند المأمون والمعتصم والواثق، مؤتمنا"ومقربا" من البلاط العباسي وطبيبا"للخليفة ورئيسا"للمترجمين. وخدم حنين بالطب المتوكل وحظي في أيامه " ويقول القفطي: " واختير للترجمة وائتمن عليها وكان المتخير له المتوكل على الله، وعين له كتابا" محررين عالمين بالترجمة .كانوا يترجمون ويتصفح ما ترجموا ". و لكن الخليفة المتوكل لم يلبث أن غير وبدل من علاقته بحنين بعد أن اتهمه رجال الدين المسيحيين بالكفر فأمر الخليفة بضربه وسجنه وصادر أمواله وكتبه. وقد بقي حنين بن إسحاق في السجن حوالي ستة أشهر أطلق بعدها وأعيد إلى منصبه. إلا أنه، كما يبدو، تعلم تجربة مريرة من خلال محنته هذه فآثر العزلة والانصراف إلى بحوثه وترجماته الخاصة، إضافة إلى أن وضع البلاط وسيطرة الأتراك الذين لم يكونوا ليفهموا شيئا" من نشاطات حنين العلمية والأدبية مما دفعه إلى الابتعاد أكثر فأكثر عن حياة البلاط والحياة الرسمية.

    ورغم كون حنين بن إسحاق طبيبا" في البلاط ومترجما" مؤتمنا" إلا أن الشكوك كانت تساور الخليفة تجاهه منذ البدء فاقامته في بلاد الروم، واشتغاله بالفلسفة والمنطق وآراؤه الفكرية في الفلسفة والدين، كل ذلك شكك الخليفة بحنين وزاد من ريبته. ولعل هذه الرواية تدل على ذلك بوضوح حيث تشير بان المتوكل كان: يسمع علمه ( علم حنين ) ولا يأخذ بقوله ( دواء") يصفه حتى يشاور غيره.

    إن السبب الرئيسي وراء محنة حنين بن إسحاق في عهد المتوكل هو ما عرضه من آراء في الفلسفة والمنطق والدين. فقد منع هذا الخليفة الكلام في الفلسفة والمنطق ولذلك كان لابد أن يضيق على الفلاسفة وعلماء المنطق ومنهم حنين بن إسحاق الذي اعتبر خطرا" على المجتمع، من وجهة نظر السلطة العباسية، بما يبثه من أفكار فلسفية تدعو إلى التشكيك في العقيدة . إضافة إلى رسالته الجدلية ( إدراك حقيقة الديانة ) والتي ناقش فيها بطريقة ذكية بعض المسائل الإسلامية، ومن هنا يأتي اتهامه بالزندقة.

    إن أغلب ما كتبه حنين قد ضاع أو اتلف أثناء تعرضه للاضطهاد في عهد المتوكل. حيث يشير ابن أبي اصيبعة بان الخليفة وجه فجيء بجميع ما كان له من رحل وأثاث وكتب وما شاكل ذلك. على أن هناك كتابين مهمين بقيا أولهما ( كتاب نوار الفلاسفة ) وثانيهما كتابه ( إدراك حقيقة الديانة ).

    و قد مرض المتوكل مرضا" شديدا"وكان الأطباء خلال ملازمتهم له يقولون: لو أراحنا مولانا أمير المؤمنين من ذلك الزنديق لأراح منه الدنيا، وانكشفت عن الدين محنة عظيمة. إلا أن الخليفة المتوكل عفا عنه وطلب منه علاجه فبريء، فأغدق عليه النعم والعطايا، وقدمه على سائر الأطباء. و ثمة رواية تاريخية تشير إلى أنه ألف كتابا" للخليفة المعتمد العباسي (256 هـ/ 870 م – 279 هـ/ 892 م ) وهو الخليفة الذي توفي حنين بن إسحاق في عهده سنة (260 هـ / 873 م).

    عاصر حنين تسعة من خلفاء بني العباس: المأمون و المعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد، وقد عاش سبعين عاما".

    تعلم الرازي وابن سينا، أعظم الأطباء العرب، من كتب حنين المؤلفة والمترجمة. كما كان دور حنين كبيرا" في حفظ أعمال جالينوس وإشهاره في العالم بما ترجمه ونقله عنه.


    مخطوط من القرن الحادي عشر لجالينوس ترجمة حنين بن

    اسحاق كتب عليه اسم ابن سينا بخطه ( المكتبة الوطنية – باريس )

    247 أ – ب من مخطوطات مكتبة المتحف البريطاني

    رقم 6690 لا يعرف تاريخها، جاء في الصفحة الأولى

    منها بخط حديث: شرح نصوص حنين بن إسحاق المتوفى

    سنة 294 هـ للفاضل المتطبب أبي بكر بن زكريا الرازي المتوفى سنة 320 هـ
    مكانة حنين في الترجمة من الإغريقية والسريانية إلى العربية

    إن كل محاولة لربط إنجازات الإغريق بما قبلها لدى الأمم الأخرى تصطدم بمعارضة شديدة. وليس هناك من يرضى بتعديل صورة الإغريق التي اعتاد عليها، بالرغم من كل التحولات التي طرأت عليها منذ زمن winkelmann، وأبسطها التعرف على ألفين و مائة عام من التاريخ قبلهم. وبذا فقد بات الإغريق في المنتصف وليس في البداية.

    يعرف حنين في تاريخ الفكر العربي كعالم غزير الإنتاج عديد الاهتمامات، هذا من جهة، ومن أخرى كناقل كبير لمؤلفات إغريقية وسريانية إلى العربية.

    ألف حنين كتبا" كثيرة في الطب منها مقالتين شرح فيهما ما قاله جالينوس في الشريان، وكتاب العشر مقالات في العين، وكتاب في العين، كما كان أيضا" ماهرا" في طب العين ( صناعة الكحل ). واختصار كتاب جالينوس في الأدوية المفردة بالسرياني نقل الجزء الأول منه فقط إلى العربي، وتفسير كتاب جالينوس في شرح فصول أبقراط وقد ألفه بالسرياني ونقل بعضا" منه إلى العربي . وتفسير كتاب جالينوس في تدبير الأمراض الحادة ، وتفسير جالينوس لكتاب أبقراط في جراحة الرأس ، وكتاب في النبض، وكتاب في الحميات، وكتاب في البول من كتاب أبقراط و جالينوس ، وكتاب في امتحان الأطباء، وكتب في الفلسفة والفلك والمنطق والنحو، وجوامع تفسير القدماء اليونانيين لكتاب ارسطوطاليس في السماء والعالم ، وشرح كتاب الفراسة لـ " ارسطوطاليس ". وكتاب في إدراك حقيقة الأديان، و كثير غيرها.

    و إن الأبحاث الحالية حول موضوع كتبه الخاصة تدل على أنه من العلماء العرب، الذين شكل اشتغالهم بالعلوم الإغريقية مرحلة الانتقال من التلقي إلى الإبداع. أما حنين فقد أدى نصيبه الأكبر في هذا عن طريق عمله القيم بالترجمة، وهو الذي بوأه منزلة خاصة في تاريخ الفكر واكسبه التقدير والاحترام . كما حظي حنين أثناء حياته باعتراف زملائه وتلاميذه المترجمين، و بتقدير الخلفاء ومشجعي العلوم، ولاحقيه من العلماء العرب أيضا".

    كان حنين أعظم المترجمين وأكثرهم إنتاجا". كما كان مترجما" حاذقا" ودقيقا" من حيث المعاني والمصطلحات والأسلوب، وقد شهد له بذلك معاصروه من فحول الأطباء والمترجمين. و ساعدت ترجماته من اليونانية والسريانية إلى العربية على ابتداع اصطلاحات علمية عربية جديدة في ميادين الطب والفلسفة والمنطق والفلك والرياضيات واللاهوت، لذلك يعد من رواد حركة التعريب في التاريخ الحضاري العربي Arabic Scientific Terminology.

    على أن من دواعي استغراب الباحث في سيرة حنين بن اسحق أن يلاحظ بان هذا الرجل قد اشتهر وعرف فقط في مجالي الطب والترجمة مع أن دراسته وترجماته في ميدان الفلسفة والمنطق لا تقل أهمية عن الميدانين السابقين. فقد ألف حنين في الدراسات الفلسفية والمنطقية والدراسات النحوية والتاريخية حيث ينسب إليه كتاب في تاريخ العالم من آدم إلى العصر الذي عاش فيه. لقد كان حنين فيلسوفا" و منطقيا"من الطراز الأول.

    إسحاق بن حنيــن

    ( ....- 298 هـ/ ...- 911 م )

    هو إسحاق بن حنين بن إسحاق العبادي، أبو يعقوب، طبيب مترجم، كان بارعا" بالعربية واليونانية، أفاد العربية بما نقله إليها من كتب الحكمة وشروحها. اختاره الخليفة المتوكل للترجمة ووضع له كتابا" عالمين بالترجمة فكان حنين يراجع ما يترجمون. خدم المتوكل وحظي عنده وانقطع إلى القاسم بن عبيد الله وزير المعتمد على الله واختص به.

    لاسحاق بن حنين مصنفات منها: كتاب في صناعة المنطق وكتاب اختصار اقليدس، وآداب الفلاسفة ونوادرهم، وتاريخ الأطباء، وكتاب أرسطوطاليس، وكتاب في الأغذية، وكتاب في الأدوية المفردة، وغير ذلك.

    ثابت بن قرّة الحراني

    (211 - 288 هـ /826 - 901 م )

    ولد أبو الحسن ثابت بن قرة في سنة إحدى عشرة ومائتين (221 هـ ) في حران. سرياني من الصابئة المقيمين فيها. ويقال أن الصابئين نسبتهم إلى صاب – وهو طاط ابن النبي إدريس عليه السلام. كان ثابت بن قرة صيرفيا" بحران، وقد نشأ فيها ثم انتقل إلى بغداد ودرس الفلسفة و الرياضيات وعاد إلى حران، فحدث بينه وبين الصابئة، أهل مذهبه، أشياء أنكروها عليه، وحرم عليه رئيسهم دخول الهيكل، فعاد إلى بغداد واتصل بمحمد بن موسى بن شاكر الخوارزمي ودرس على يديه، فأعجب بذكائه، ووصله بالمعتضد، وهو أول من كان مقربا" من الخلفاء العباسيين من الصابئة. من أعلام الطب والفلسفة والرياضيات، ولم يكن في زمنه من يماثله. عرف بالترجمة فقد كان يحسن السريانية واليونانية والعبرية، وكان جيد النقل إلى العربية ، ويعده ( سارتون ) من أعظم المترجمين وأعظم من عرف في مدرسة حران السريانية في العالم العربي . ترجم كتبا" كثيرة من علوم اليونانيين في الرياضيات والمنطق والفلك والطب، واشتهر بمؤلفاته القيمة في الطب. حظي عند المعتضد بمكانة عظيمة وأغدق عليه نعما" كثيرة .

    له مؤلفات كثيرة منها : كتاب في النبض، و كتاب وجع المفاصل والنقرس ، وجوامع كتاب الأدوية المفردة لجالينوس، و جوامع كتاب سوء المزاج المختلف لجالينوس، وجوامع الأمراض الحادة لجالينوس ، و جوامع كتاب الكثرة لجالينوس ، و جوامع كتاب تشريح الرحم لجالينوس وكتاب أصناف الأمراض ، وجوامع كتاب الفصد لجالينوس، و كتاب جوامع تفسير جالينوس لكتاب ابقراط في الأهوية والمياه والبلدان، و كتاب في الحصى المتولد في الكلى والمثانة ، و كتاب في تدبير الأمراض الحادة ، و رسالة في الجدري والحصبة ، ، وكتاب في حركة الأفلاك، ورسالة في خسف القمر وكسوف الشمس ، وكتاب في الأنواء، وكتاب في الموسيقى.

    توارث آل قرﱠة العلم عن ثابت. ونبغوا في الرياضيات والطب والفلك.

    سـنان بن ثـابت بن قـرة

    (...- 331 هـ / ...- 942 م )

    طبيب عالم أصله من حران ومنشؤه ببغداد. سرياني كان صابئا". وصل إلى مرتبة أبيه في العلم والطب. عالج المقتدر بالله و القاهر بالله والراضي بالله من الخلفاء، وقد أسلم على يد الخليفة القاهر بالله، و لم يسلم أحد من ولده ولا أهل بيته. كان رفيع المنزلة عند الخليفة المقتدر العباسي. و يرجع إلى سنان الفضل في إنشاء العيادات المتنقلة لعلاج سكان المناطق النائية وتقديم الأدوية لهم، و كذلك فقد خصص أطباء لعلاج السجناء وتقديم الأدوية لهم أيضا". أشار على الخليفة المقتدر أن يبني بيمارستانا" ينسب إليه فاتخذ بباب الشام بيمارستان المقتدر، كما أشار على السيدة أم الخليفة ببناء بيمارستانا" لها، فبني على دجلة و عرف باسم بيمارستان السيدة.

    وقد أمر المقتدر وزيره إبراهيم بن محمد بن بطحا بأن لا يؤذن لأحد منهم باحتراف الطب إلا بعد أن يمتحنه سنان، ما عدا الذين كانوا ذوي شهرة وتقدم في الطب، وكتب له سنان رقعة بخطه بما يطلق له من الصناعة ( يجيز له ممارسة الطب ) فصاروا إلى سنان، وكان رئيسا" للأطباء، فامتحنهم سوى من استغني عن امتحانه لشهرته، ومن كان في خدمة السلطان، وحدد لكل من يمتحنه ما يصلح أن يتعاطاه في التطبيب. و قد بلغ عددهم في جانبي بغداد ثمانمائة رجل ونيفا وستين رجلا". و سبب ذلك أنه بلغ الخليفة أن رجلا" من العامة توفي بخطأ طبيب و ذلك سنة ( 319 هـ / 931 م ).



    عيـسى الرقــي

    المعروف بالتفليسي، سرياني من أقدم من عرف من الأطباء في حلب. كان طبيبا مشهورا في أيامه عارفا بالصناعة الطبية حق معرفتها، وله أعمال فاضلة ومعالجات بديعة، وكان في خدمة سيف الدولة الحمداني ومن جملة أطبائه، وقد حكم سيف الدولة بين ( 333-356هـ / 944-967م ). وكان إذا أكل الطعام حضر على مائدته أربعة وعشرون طبيبا، وكان بينهم من يأخذ رزقين لأجل تعاطيه علمين، ومن يأخذ ثلاثة أرزاق لتعاطيه ثلاثة علوم، وكان من جملتهم عيسى الرقي الذي كان طبيبا" جيدا" وله كتب في المذهب وغيرها، وكان ينقل من السرياني إلى العربي ويأخذ أربعة أرزاق، رزقا بسبب الطب و رزقا بسبب الترجمة، و رزقين بسبب علمين آخرين.



    د/ محمد عمر أمطوش
يعمل...
X