اليهود تحت حكم المسلمين في الأندلس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبدالرحمن السليمان
    عضو مؤسس، أستاذ جامعي
    • May 2006
    • 5732

    اليهود تحت حكم المسلمين في الأندلس

    كتاب اليهود تحت حكم المسلمين في الأندلس
    تأليف الدكتور: خالد يونس الخالدي
    الجامعة الإسلامية غزة

    قام باختصاره: عبد الرؤوف جبر القططي
    [align=justify]

    الفصل الأول:
    اليهود في أسبانيا قبل الفتح الإسلامي

    المبحث الأول: الوجود اليهودي في أسبانيا

    اتفقت المصادر التاريخية على قدم الوجود اليهودي في أسبانيا، ولكنها اختلفت في تحديد زمان وطريقة وصولهم إليها، فتحدثت المصادر الإسلامية أن أول وصول يهود إلى تلك البلاد يعود إلى عهد الملك الأسباني أشبان الذي شارك مع نبوخذنصر في فتح القدس سنة 586ق.م، ثم عاد إلى بلاده يحمل معه مئة ألف أسير يهودي.
    كما تذكر المصادر اليهودية والأسبانية عن هذه الموضوع، فالمصادر اليهودية تذكر أن عدداً من العائلات اليهودية الشهيرة في الأندلس تقول: "إن أجدادهم جاءوا إليها أسرى مع إشبان في زمن التدمير الأول للهيكل، مثل عائلة اليهودي إبراهيم بن داود في أليسانة، والعائلات التي تنسب نفسها إلى النبي داود عليه السلام في إشبيلية مثل عائلة أبرابانيل، وتناقل اليهود الأندلسيون خلال الحكم الإسلامي للأندلس روايات كالتي سجلها إسحاق أبرابانيل في تفسيره لإصحاح الملوك، عن أن أوائل المستوطنين اليهود لمدينة طليطلة كانوا أسرى من قبائل يهوذا وبنيامين الذين جلبهم إشبان وبيروس، ويدعي يهود غرناطة أن وجودهم يعود لذلك العهد وأنهم سموا غرناطة باسمها ويعني بالإسبانية القديمة "رمانة".
    وتقدم بعض الدراسات اليهودية افتراضات بدون أدلة عن أن الوجود اليهودي في أسبانيا ربما يرجع إلى زمن القضاة (1125-1025ق.م) أو خلال الحروب بين مملكتي يهودا وإسرائيل (931-742ق.م) أو أنهم سلالة السفراء الذين بعث بهم النبيان داود وسليمان للإقامة في أسبانيا وأن حيرام مسؤول كنوز سليمان قد توفي هناك.
    وقد رجح د. الخالدي مؤلف الكتاب الرأي القائل بوجود اليهود في أسبانيا منذ زمن أشبان لأسباب ذكرها وهي:
    • وجود هذه الرواية في العديد من المصادر الإسلامية دون غيرها، دون أن يشكك فيها أحد من المؤرخين.
    • ووردها في المصادر الأسبانية القديمة القريبة من زمان الحدث، والتي نقل عنها المؤرخون المسلمون.
    • اقتناع المؤرخين الأسبان اللاحقين ومنهم ماريانا بصحة ما جاء في مصادرهم القديمة.
    • شهادات المؤرخين اليهود والعائلات اليهودية الأندلسية عن قصص أجدادهم.
    • يبين التاريخ القديم لطليطلة أنه قبل 500ق.م طرأت زيادة كبيرة على سكانها ربما بسبب الأسرى اليهود.
    • عثر أمير ماردة هشام بن عبد العزيز على حجر في سورها من أحجار سور القدس، وأشار الحميري إلى غرائب من القدس وجدت بعد فتح الأندلس مثل الرخام ومائدة طليطلة وحجر ماردة وقليلة الجوهر بماردة.
    ورغم ترجيح المؤلف لهذه الرواية إلا أنه يشكك في بعض أخبارها مثل أسطورة اللقاء بين إشبان وهو حراث فقير والخضر الذي بشره بالملك وأنه سيغزو بيت المقدس، ومثل تقدير عدد الأسرى اليهود الذين نقلوا إلى أسبانيا بمئة ألف، فلو كان هذا العدد صحيحاً لأصبح اليهود بالملايين عند فتح الأندلس بعد 14 قرناً.
    وقد حاول لندو أن يثبت أن اليهود استقروا في أسبانيا منذ عهد سليمان واستشهد بنصوص من التوراة، تتحدث عن رحلات تجارية مشتركة إلى مدينة "ترشيش" بين مملكة سليمان والفينيقيين في عهد ملكهم حيرام، "حاملة ذهباً وفضة وعاجاً وقردة وطواويس"، وأكد لندو أن "ترشيش" هي طليطلة.
    ويفند د. الخالدي مؤلف الكتاب مزاعم لندو مدللاً بأقوال الجغرافيين مثل البكري بأن ترشيش هي اسم تونس القديم، وما قاله أونكالوس في "الترجوما" وهي الترجمة الأرامية للتوراة بأن ترشيش تقع في أفريقيا. ويرى الخالدي أن العقل لا يتصور بأن يترك اليهود مملكتهم القوية ويهاجروا إلى الأندلس البعيدة، وحتى بعد ضعف المملكة فإنهم لا يملكون الخبرة لركوب البحر.
    وبينما تختلف المصادر حول وجود اليهود في الأندلس في القرون السابقة للميلاد، لعدم وجود أدلة أثرية فإنا تتفق على وجود اليهود في أسبانيا في القرون الميلادية الأولى لتوفر هذه الأدلة، إذ عُثر في أدرا على آثار يهودية ممثلة في شاهد قبر وعملات نقدية، كذلك وجدت قوانين كنسية صادرة عن مجلس الفيرا المنعقد في (303-304م)، تحرم على النصارى مؤاكلة وتزويج اليهود، ويذكر أبرابائيل في تفسيره لإصحاح زكريا أن عائلته سكنت إشبيلية في زمن تدمير الهيكل الثاني (70م).
    أما التهجير الثاني لليهود إلى أسبانيا فحدث في عهد القائد الروماني فيسبسيان (70م) الذي أسر نحو 30 ألفاً ونقلهم إلى المغرب، وكان لأسبانيا نصيب منهم، أما التهجير الثالث، فقد قام به الإمبراطور الروماني هدريان سنة 136م بعد قمعه ثورة باركوباب فقام بنقل نحو خمسين ألف عائلة يهودية لاستعبادهم في أسبانيا.


    المبحث الثاني: اليهود في أسبانيا إلى زمن تحول القوط إلى الكاثوليكية


    عاش اليهود في أسبانيا منذ دخولهم إليها بين سكان نتجوا من اختلاط شعوب مختلفة الأصول والثقافات منهم الأيبيريون والترتيسوس والفينيقيون والرومان، وجاء المسلمون الفاتحون للأندلس فوجدوا اليهود قد حافظوا على طقوسهم وعاداتهم ومعتقداتهم، أما عن علاقة اليهود بالرومان فقد كانت في البداية حسنة، خاصة في زمن الإمبراطور أغسطس (31ق.م-14م)، وتمتعوا بإدارة شئونهم الخاصة، وحرية ممارسة الشعائر الدينية، وعملوا بالزراعة والتجارة، كما تأثروا بعادات ولغة الرومان.
    لم تدم حالة الوفاق بين اليهود والسلطة الرومانية الحاكمة، فقد اكتشف الرومان سوء المعاملة التي يعاملها اليهود للشعب الروماني، فقد كان اليهود ينطلقون في معاملتهم للآخرين من تعاليم التلمود التي تُشبه غير اليهود بالحيوانات وتحل دماءهم وأموالهم، وقد قام اليهود بحركات تمرد واسعة قتلوا خلالها مئات الآلاف من الإغريق والشعوب في برقة وقبرص، وكذلك كان لموقف اليهود من النصرانية، وعداوتهم للمسيح عيسى بن مريم انعكاسات واضحة لكره الشعوب لهم ومنهم الأسبان، ولكن كانت الأندلس أفضل من غيرها في معاملة اليهود، لهذا حصلت هجرات من شمال أفريقيا إلى الأندلس خلال القرن 3م.
    وأقدم وثيقة تعبر عن موقف نصارى الأندلس من يهودها هي القوانين الأربعة التي صدرت عن مجلس ألبيرة (303-304م) أي قبل اعتناق الإمبراطور قسطنطين النصرانية، وتنص على منع تزويج اليهود ومنع السماح لليهود بمباركة المحاصيل. وحدث أن اكتشف النصارى في جزيرة منورقه الآثار المقدسة للقديس ستيفانوس الشهيد النصراني الأول الذي قتله اليهود بعد مدة قصيرة من محاولة قتل المسيح، فتدفقت حشود النصارى من مختلف أسبانيا، وأثيرت مشاعر النصارى ضد اليهود.
    وبعد غزو القبائل الجرمانية للأندلس سنة 409م، واقتسامهم لها، ومنهم الوندال الذين سميت الأندلس باسمهم، والقوط، كانت معاملتهم لليهود جيدة، حيث كانوا يعتنقون المذهب الأيروسي حتى سنة 587م حين حول ريكارد مذهبه إلى الكاثوليكية وفرضه على معظم القوط. وكان اليهود في عهد القوط يتمتعون بحرية دينية غير أنهم لم يكونوا يعدون مواطنين رومانيين كاملين حسب القانون القوطي الأريوس الأول الصادر سنة 506م. وناصر اليهود القوط الغربيين ضد البيزنطيين في شمال أفريقيا في عهد الإمبراطور جستنيان، كذلك استخدمهم القوط في حماية حدودهم الشمالية في نربونة ضد هجمات الكاثوليك الفرنج، وعندما سقطت نربونة في الفرنجة اضطهدوا اليهود.

    المبحث الثالث: اليهود تحت حكم القوط الكاثوليك

    كان تحول الملك القوطي ريكارد إلى الكاثوليكية سنة 587م حدث مؤثر في تاريخ اليهود في أسبانيا، فتبدلت معيشة اليهود من رخاء وسلام إلى معيشة ضنكى، حيث أصبحوا الشغل الشاغل لمجالس الكنسية لإصدار القوانين المضيقة على اليهود، فاعتبروا اليهود كفاراً، وأن ما يصيبهم من عذاب نتيجة ما اقترفوه من جرائم، فحرموا مصاهرتهم، ومنع اتخاذ اليهود عبيداً من النصارى، فأثر عليهم ذلك كثيراً بسبب كثرة أملاكهم وتجارتهم، ومنع اليهود من ترتيل المزامير في المناسبات والجنائز.
    وفي عهد سايزروت أصدر قانوناً سنة 613م بتهجير من رفض دخول الكاثوليكية من اليهود، وسجن وقتل عدداً من أثريائهم، فاضطر نحو تسعين ألف يهودي إلى التنصر، وغادر آخرون إلى أفريقيا وبلاد الغال، واستمر وضع اليهود المتبقين في أسبانيا في اضطهاد طوال عهود خنتيلا 636-640م، وريثيسفنتو 652-672م، وأرفيخو 680-687م، وكانت أكبر كارثة تعرضوا لها سنة 684م حينما صدر أمراً من الملك إجيكا باستعباد اليهود، وبقي الأمر على حاله حتى جاء لذريق، الذي دخل المسلمون في عهده الأندلس ليحرروا البشر من الذل والعبودية.


    الفصل الثاني
    الاستقرار اليهودي في الأندلس

    المبحث الأول: تنظيم الاستقرار اليهودي في الأندلس

    كان اليهود زمن الفتح الإسلامي للأندلس ينتشرون في معظم أرجاء شبه الجزيرة الأيبيرية، ويتركزون في المدن الرئيسة، ولكن بعيداً عن قصباتها، وعندما فتح المسلمون الأندلس أجروا تغييراً على التوزيع السابق لليهود فضموهم إلى قصبات المدن كما حدث عند فتح إلبيرة وغرناطة وقرطبة وغيرها، وكان هدف المسلمين هو الإفادة منهم في أعمالِ الحراسة، والظاهر أن إقامة يهود الأندلس قبل الفتح الإسلامي خارج أسوار المدن المهمة لم يكن باختيارهم، وإنما أجبرهم عليها القوط، فقد عرف أنهم يميلون إلى حماية أنفسهم بالحصون والأسوار. وتدل العديد من الإشارات التاريخية على وجود أحياءٍ يهودية في كثير من المدن الأندلسية، وأنها استمرت طوال مدة الحكم الإسلامي للأندلس.
    وهناك إشارات أخرى تدلُّ على وجود مبكّر للحيّ اليهودي في قرطبة في حدود سنة 95هـ=713م.
    ودلت الروايات وجود باب يحمل اسم "باب اليهود" في قرطبة، وفي مدن أندلسية أخرى كسرقسطة"، يدل على وجود حي لليهود في تلك المدن.
    ومن الواضح أنَّ المسلمين لم يمنعوا اليهودَ من السكن خارج الحي اليهودي، إذ توجد إشارات عدة ذكرها الونشريسي والجرسيقي إلى يهود جاوروا المسلمين في مساكنهم، وأنهم امتلكوا دورا ً وأراضي بين دور المسلمين وأراضيهم.
    والجدير بالذكر أن إسكان اليهود في أحياء خاصة بهم يختلف اختلافاً كلياً عن "الجيتو" الذي أجبر اليهود على السكن فيه في أوربا في العصور الوسطى. لأن تصرف المسلمين كان للتقسيم القبلي، ولم يكن من منطلق عنصري كما هو الحال في تنظيم الدول النصرانية للجيتو، بدليل أنه قد سمح لليهود بالإقامة خارج أحيائهم، وبين دور المسلمين. وقد تمكَّن اليهود بذلك من حماية مجتمعهم من الانصهار داخل المجتمع الإسلامي.
    كما تبيِّن المصادر اليهودية أن الحي اليهودي كان يطلق عليه في بعض المدن الأندلسية اسم "الجماعة"، وهو اختصار لـ"جماعة اليهود"، أو يُسمى "القاهال"، وهو المعنى العبري لكلمة "الجماعة".
    وعندما يكون عدد اليهود في المدينة كبيراً فإنَّ حيَّهم فيها على الأغلب يكون كبيراً، وهو يحتوي في هذه الحالة على حارات صغيرة تُسمّى "الدروب". أمَّا الأحياء الصغيرة فهي عبارة عن مجاميع من المنازل المحيطة بزقاق مسدود الطرف في العادة، وكانت نهايته المفتوحة تغلق بباب يقفل في المساء حفاظاً على أمن السكان.
    وبما أنَّ ما يفصل الأحياء عن بعضها من كل الجهات كان الأسوار الخارجية لمنازلهم، فإنَّ أمن السكان اعتمد كلياً على المراقبة المتيقظة للباب. وكان السكان في الواقع يستأجرون الحراس الذين تصحبهم الكلاب والمصابيح، وكانوا يمرون في دوريات طوال الليل، وقد أطلق على الحارس اسم "الدرَّاب". وقد أحبَّ اليهود والنصارى طريقة المسلمين في الحفاظ على أسرار بيوتهم، وقد تبنوا هذه الطريقة داخل أحيائهم.

    المبحث الثاني: مراكز الاستقرار اليهودي وسط الأندلس

    تركز اليهود وسط الأندلس في مدينتين كبيرتين، هما قرطبة، وطليطلة.

    أولاً: قرطبة:
    يقول الحميري في وصفها: "قاعدة الأندلس، وأمُّ مدائنها، ومستقر خلافة الأمويين بها". وقد افتتحها المسلمون سنة 92هـ-711م، وخسروها سنة 633هـ-1236م"، يقع الحي اليهودي في قرطبة في الجهة الجنوبية الغربية منها، قريباً من قصر الخلفاء والجامع الكبير، وما يزال الجزء الجنوبي الغربي من قرطبة يُعرف إلى الآن بالحي اليهودي، ويتميز بضيق شوارعه، ونتيجة للازدهار الحضاري والعمراني والعلمي في قرطبة، ولا سيما في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، تدفق إليها المهاجرون، ومنهم اليهود، ولأن الحي اليهودي كان مزدحماً باليهود، فقد سمح لهم بإقامة حيٍّ آخر في شمال المدينة. وقد أشارت المصادر الإسلامية إلى يهودٍ أقاموا في قرطبة طوال مدة الحكم الإسلامي لبني أمية في الأندلس، ومنها قيام الفقيه طالوت عند خوفه من الحكم الأول 180-206هـ=796–822م بالاختفاء في بيت يهودي في قرطبة لمدة سنة. وإرسال المغني منصور اليهودي رسولاً إلى زرياب يدعوه للقدوم إلى الأندلس. وما أورده الونشريسي عن إحدى قضايا القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، المتعلقة باختلاف يهودي ويهودية في قرطبة على التقاضي عند المسلمين أو اليهود.

    ثانياً: طليطلة:

    واستقرَّ معظم أفراد الجالية اليهودية في طليطلة في الحي اليهودي الذي يقع في الجزء الغربي من المدينة. وما تزال بعض الشوارعِ والساحات في هذا الحي تحمل إلى الآن أسماء يهودية، فهناك شارع صاموئيل هاليفي، وشارع دي لا جوديرا، أي شارع الحي اليهودي. ولم يكن الحي اليهودي في طليطلة حَّياً تجارياً، لذلك فقد استأجر عددٌ من التجار اليهود محال لهم في مركز المدينة شمال المسجد الكبير الذي كان المركز التجاري يقع بينه وبين السور الشمالي للمدينة.
    كما امتلكوا المحال التجارية في حي القناة، الواقع بين الجامع الكبير وسوق تجار العطور، وكانت لهم هناك بعض المساكن التي كانت محصَّنة إلى حدً ما. واشتهر في طليطلة العديد من العائلات اليهودية التي ينتمي بعضها حسب زعم أبنائها إلى ذريَّة داود عليه السلام. ومن هذه العائلات شوشان، والفخار وهاليفي، وأبو العافية، والزادوك، وفيروزل، وأفن نحمياس.
    وينتمي إلى طليطلة العديد من المفكرين والأدباء والمشاهير اليهود، أمثال بنيامين الطوطيلي المتوفى سنة 586هـ=1190م، وصاحب كتاب "همساعوث" أي الرحلات، وإبراهيم بن داود الطليطلي صاحب كتاب "سفر هقبالة" أي كتاب التصوف، وإبراهيم بن عزرا الذي كان أديبا ً وشاعرا ً، وهو والد إسحاق بن عزرا الذي رحل إلى مصر في زمن الموحدين، ومنها هاجر إلى العراق حيث اعتنق الإسلام مع العالم اليهودي الشهير نتانيئيل المعروف بأبي البركة هبة الله، وإسحاق بن قسطار الذي قال عنه صاعد الأندلسي: "كان بصيرا ً بأصول الطب مشاركا ً في علم المنطق مشرفاً على آراء الفلاسفة، وكان متقدما ً في علم العبـرانية بارعا ً في فقه اليهود، خبيرا ً في أخبارهم وتوفي بطليطلة سنة 448هـ، وهو ابن خمس وسبعين".

    المبحث الثالث: مراكز الاستقرار اليهودي جنوبي الأندلس

    استقر كثير من اليهود في المنطقة الجنوبية من الأندلس، وقد رغب اليهود بالإقامة فيها لخصوبة أرضها، واعتدال مناخها، ووقوع عدد من مدنها على الطرق التجارية والبحرية المهمة، وبسبب كثرة سكانها، وقربها من العاصمة قرطبة، ولقربها من الشمال الأفريقي التي يأتي منها وعبرها معظم المهاجرين اليهود إلى الأندلس. وقد تركز يهود جنوبي الأندلس في كل من غرناطة، وأليسانة، ومالقة، وبجانة، والمرية.
    أولا ً: غرناطة: وقد فتح المسلمون غرناطة سنة 92هـ =711م، "فألفـوا بها يهودا ً ضموهم إلى قصبة غرناطة"، وتعاملوا معهم على وفق الأحكام الشرعية الخاصة بأهل الذمة، فنعم اليهود في غرناطة، كما في غيرها من مدن الأندلس بالتسامح والعدل والرخاء. وانتشرت أخبار ذلك التسامح بين اليهودِ في كل مكان، فأخذوا يتدفقون إلى مدن الأندلس عبر مضيق جبل طارق، وكان لغرناطة نصيب وافر من هؤلاء المهاجرين باعتبارها من المدن الأندلسية الكبرى الواقعة في طريق اليهود العابرين إلى الأندلس من الشمال الأفريقي. ومما يدلُّ على كثرتهم قول الحميري: وتعرف بـ "أغرناطة اليهود لأنَّ نازلتها كانوا يهوداً". ويقدر الكاتب أن عددهم فيها في عهد باديس الذي يعد أزهى عهودهم هناك، لا يزيد كثيرا ً على بضعة آلاف، وذلك من خلال الروايات التي تحدثت عن عدد القتلى اليهود في ثورة مسلمي غرناطة عليهم إذ ذكر ابن عذاري بأنهم أكثر من 3000 يهودي وكانوا جملة عظيمة.
    وقد تزايدَ عدد اليهود في غرناطة بشكلٍ ملحوظ خلال حكم الوزيرين اليهوديين إسماعيل بن يوسف بن نغدلة وابنه يوسف، لكنَّه عاد وتناقص بشكلٍ كبير بعد ثورة المسلمين على ظلمهم وتجاوزاتهم، حيث قتل وشرد معظم يهود غرناطة.
    وفي عهد المرابطين عاد كثير من اليهود إلى غرناطة، وفي عهد بني الأحمر، كانت غرناطة ملجأ لليهود الهاربين من ردود فعل النصارى الأسبان ضدهم، وقد استمر ذلك إلى أن سقطت في أيديهم سنة 897هـ=1492 م.
    وعندما سقطت غرناطة في يدِ النصارى الأسبان سنة 897هـ=1492م، وقام الملك القشتالي فرديناند بطردِ اليهودِ منها، قام بهدم الحي اليهودي، وبنى مكانه كنيسة سَّماها على اسم مريم العذراء.
    ثانياً: أليسانة : تقع أليسانة جنوب مدينة قرطبة، على بعد نحو أربعين ميلا ً منها، وتعد الطائفة اليهودية في أليسانة من الطوائف المهمة في الأندلس، إذ كانت حتى مطلع القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، تقوم بدور المركز الروحي لليهود في الأندلس.
    يتبين من الروايات أن مدينة أليسانة المسوَّرة كانت تقتصر على السكان اليهود فقط. وأنَّ المسلمين يقيمون في ربضها.
    ثالثاً: مالقة: وكان الحي اليهودي في مالقة في العهد الإسلامي يقع في الجزء الشرقي من المدينة، وكانت المقبرة اليهودية على منحدرات جبل الفارو. وكانت مالقة ملاذا ً لإسماعيل بن نغدلة ويهودٍ آخرين، حيث وصلوا إليها من قرطبة سنة 404هـ=1013م، بعد الاضطرابات التي أعقبت سقوط الخلافة في الأندلس.
    ويتناول الكاتب ذكر وجود اليهود كذلك في بجانة والمرية.

    المبحث الرابع: مراكز الاستقرار اليهودي غربي الأندلس

    تركز يهود غربي الأندلس في مدينتين كبيرتين هما، إشبيلية، وماردة، وفي ما يأتي بيانٌ لاستقرار اليهود فيهما.

    أولا ً: إشبيلية:

    ومما يدلُّ على وجود اليهود في إشبيلية، ويشير إلى كثرتهم فيها في عهد الأمير عبد الرحمن الداخل 138 - 172هـ=788 - 796 م، أنهم جسروا على فتح أحد أبوابها ليتمكن جند الأمير من دخول المدينة وقمع الثائرين، "ودخلت الخيل على باب قرمونة، وفتحه لهم اليهود، فوضعوا أيديهم في قتل المولَّدين".
    وقد عاش اليهود في إشبيلية خلال مُدَّة الحكم الإسلامي لها في مواقع عديدة، فقد أقاموا في الجانب الغربي من المدينة، في موقع الحي الحالي الذي توجد فيه كنيسة سانتا مجدولينا، كما سكنوا أيضا ً في القسم الشمالي الغربي من المدينة في مكان الحي الحالي الذي توجد فيه كنيسة سان لورينزو.
    وقد عاشت في إشبيلية في ظل الحكم الإسلامي طائفة يهودية كبيرة تضمُّ عددا ً من العائلات المهمة، مثل عائلة تيبون وأبرابانيل وأبو درهم، وابن الباطوم وابن كامنيل وابن المهاجر. ويزعم اليهود بأن بعض عائلاتها تنتسب إلى النبي داود عليه السلام وأنهم جاءوا إليها بعد التدمير الأول للهيكل سنة 70م.

    ثانياً: ماردة:

    وفي القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي كان لماردة طائفة يهودية كبيرة، تعدُّ الطائفة اليهودية الرئيسة في غرب الأندلس، وكان لقادة طائفة ماردة، سلطة تشريعية عليا على يهود تلك المنطقة. وكانت أكثر العائلات اليهودية شهرة وأهمية في ماردة، هي عائلة ابن بالية.

    المبحث الخامس: مراكز الاستقرار اليهودي شمالي الأندلس

    أولا ً: سرقسطة:

    وقد عاشت في هذه المدينة طائفة يهودية كبيرة، وسكن معظم أفرادها في الحي اليهودي الذي يقع في الجزء الجنوبي الشرقي من المدينة، بين سور المدينة في الجنوب وشارع مايور في الشمال، وكانت حدوده في الغرب هي شارع جيمي الأول وذلك حسب المصادر الأسبانيـة التي نقل عنها آشتور. وحسب المصادر نفسها كان الحي اليهودي في سرقسطة كبيرا ً، بلغت مساحته نحو ربع مساحة المدينة، وقد أحيط بسورٍ داخلي مزوَّدٍ بعددٍ من الأبواب. كما بُني في الزاوية الجنوبية من هذا الحي حصن من أجل أن يلجأوا إليه إذا ما تعرَّض الحي للهجوم.
    وإلى الشمال الشرقي من الحصن كان الكنيس الكبير ليهود سرقسطة، وكان يهود سرقسطة يكسبون رزقهم من مهن مختلفة، إذ عملوا في دباغة الجلود، وصناعة الأحذية، ونسج الأقمشة وامتلكوا الحقول والكروم، وعملوا في التجارة الخارجية.
    ومن الإشارات الدالة على وجود مبكر لليهودِ في سرقسطة ما يرويه ابن الفرضي عن أحد قضاة سرقسطة محمد بن عجلان من أنه كان "يحلف اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، وقال إني رأيتهم يرهبون ذلك".
    وكان أبو الفضل حسداي بن يوسف بن حسداي من أشهر رجالات اليهود في سرقسطة، إذ عمل وزيرا ً وكاتبا ً في دولة المقتدر بن هود 438-447هـ=1046–1081م.
    وكانت سرقسطة مسرحا ً للجدل الديني بين اليهود والنصارى في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي.

    ثانيا: برشلونة:

    وكانت برشلونة مدينة صغيرة سداسية الشكل بصورة عامة "عليها سورٌ منيع"، بناه الرومان، وما تزال آثاره باقية إلى اليوم. ولكن من الممكن القول بأنَّ برشلونة القديمة هي فقط المنطقة المحيطة بساحة سان جيمي، وهي ما تزالُ ذات شوارع ضيّقة ومظلمة، وقصورٌ محصَّنة ذات ساحات صغيرة. ومن ساحة سان جيمي يجري في الاتجاه الجنوبي الشرقي للمدينة شارع الطائفة، وكان هذا الشارع في أواخر القرون الوسطى هو الشارع الرئيس للحي اليهودي، وكانت المقبرة اليهودية تقع في جنوب المدينة، على منحدرات الجبل الذي ما يزال إلى الآن يُدعى جبل اليهود. وهناك العديد من شواهد القبور التي تحملُ كتابات من أواخر القرون الوسطى.

    ثالثا ً: طركونة :

    أتم المسلمون فتحها سنة 95هـ=714م، وفي سنة 193هـ=808م، سقطت في يد لويس التقي، ولكن سرعان ما أجبره المسلمون على إخلائها، فعادت إلى حكم المسلمين. ظل المسلمون والنصارى يتبادلون السيطرة عليها، لأنها كانت مدينة حدودية، ففي سنة 340هـ=950م سقطت في يد النصارى، وبعد سنوات عدة استعادها المسلمون، وبعد بضع سنوات سقطت نهائيا ً في أيدي النصارى الأسبان. وتدل النقوش اليهودية التي وجدت في طركونة ومحيطها على وجود طائفة يهودية كبيرة تعيش في تلك المنطقة منذ العهد الروماني. ويذكر الإدريسي طركونة باسم طركونة اليهود، ويقول عزرا حدَّاد: "وكان يقال لطركونة أيام حكم العرب "مدينة اليهود "لكثرتهم فيها" ومما لاشك فيه أنَّ هذين التعبيرين يعبران عن كثرة اليهودِ في طركونة.

    رابعا ً: طرطوشة:

    وكان الحي اليهودي في العهد الإسلامي يقع في الجزء الشمالي من المدينة، شمال غرب حي ريمولينز . وما يزال أحد شوارع الحي اليهودي في طرطوشة يحمل اسم مدينة القدس، إذ يسمى ، وهناك أحد الممرات في هذا الحي يحمل هذا الاسم أيضاً. وكانت المقبرة اليهودية تقع شرقي سور المدينة، ولم يسلم منها إلاَّ القليل من شواهد القبور. وقد قدِّر عدد سكان المدينة من اليهود في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي بنحو ثلاثين عائلة. واشتغل يهود طرطوشة بالزراعة والتجارة البحرية المزدهرة، حيث أقاموا علاقاتٍ تجارية مع يهود برشلونة، وجنوب فرنسا.
    وكانت المدينة مركزاً للتعليم اليهودي، وكان الشاعر والنحوي واللغوي مناحيم بن يعقوب بن ساروق من يهود طرطوشة، وقد عاد إليها من قرطبة، بعد أن خسر حظوته لدى حسداي بن شبروط. وثمة يهودي آخر من طرطوشة هو الطبيب والجغرافي إبراهيم بن يعقوب الإسرائيلي الطرطوشي، وهو من معاصري مناحيم بن ساروق. وقد كلَّفه الخليفة الأندلسي الحكم الثاني المستنصر بالله برحلة جغرافية إلى أوربا الوسطى والشرقية لجمع المعلومات عن تلك البلاد. وقد أدَّى هذه المهمة بنجاح وعاد بمعلوماتٍ قيمة.


    خامسا ً: قلعة أيوب:

    "وقلعة أيوب محدثة" بناها المسلمون إلى الغرب من المدينة الأسبانية المهمة بلبلس، وإلى الجنوب الشرقي من سرقسطة، وقد استقرت طائفة يهودية في هذه المدينة في عصر الإمارة، وصارت بمرور الوقت من الطوائف اليهودية المهمة في الأندلس، وفي سنة 1300هـ=1882م تمَّ العثور بالقرب من هذه المدينة على نصب ليهودي يُدعى صاموئيل بن سولومون، مات في 9/10/سنة 991 م. وقد سقطت قلعة أيوب في يدِ النصارى سنة 504هـ=1110م لكنَّ اليهود ظلَّوا تحت الحكم الأسباني يقطنون في المنطقـةِ نفسها التي كانوا يقيمون فيها في عصر الخلافة.
    ويدلُّ العدد الكبير لليهود الذين غادروا المدينة، ويحملون اسم القلعي على كثرة أعداد اليهود الذين كانوا يقيمون فيها أثناء الحكم الإسلامي، وعلى وجود العديد من المثقفين والأثرياء بينهم.

    سادسا ً: روطة :

    تحدثت بعض المصادر الإسلامية ومنها العذري في "ترصيع الأخبار" عن حصن روطة القريب من سرقسطة، ودعته "روطة اليهود". ويصف استقرار اليهود في روطة منذ وقتٍ مبكر. ويستشف الخالدي مؤلف الكتاب أنه من الظاهر أنَّ حصون روطة المنيعة هي التي جلبت إليها اليهود بكثرة، والتي تؤكّد ميل اليهود إلى الاستقرارِ في المدن والمناطق المحصَّنة.
    ولم يقتصر الوجود اليهودي في الأندلس على المدن التي ذكرناها آنفاً، بل تواجدوا في مناطق أخرى. لكننا لا نملك عن استـقرارهم فيها إلاَّ القليل من المعلومات، وهي تشير بالرغم من قلَّتها إلى كثرة اليهود في بعض تلك المناطق.
    ويقدم ابن خلدون رواية تشير إلى وجود العديد من اليهود في قرمونة التي تقع إلى الشرقٍ من إشبيلية وغربٍ من قرطبة"، يذكر فيها أنَّه في الحرب بين المظفر بن الأفطس صاحب بطليوس ومحمد البرزالي الوالي على قرمونة، تغلَّب إسماعيل بن المظفر بن الأفطس على البرزالي، ودخل قرمونة وقتله، وقتل معه خلقاً من اليهود، وذلك سنة 459هـ.
    ويروي كلٌّ من السلفي، وابن أبي أصيبعة ما يدل على تواجد يـهودي في دانية، وعلى أنَّهم تقلَّدوا فيها بعض وظائف الدولة وذلك في عصر الطوائف.
    كما استقرَّ عدد كبيرٌ من اليهود في بيانة القريبة من قرطبة. يفهم ذلك من رواية لابن سعيد يذكر فيها أنها "مدينة اليهود"، وأنها كانت المدينة التي نُفي إليها ابن رشد. حيث يقول: إنَّ منصور بن عبد المؤمن "أمر بنفيه إلى بيانة مدينة اليهود"،
    وكان لليهود وجود في مرسية، حيث روي أن محمد بن أحمد بن أبي بكر القرموطي المرسي من أعرف أهل الأندلس بالعلوم القديمة بنى له مدرسة يقرئ فيها المسلمين والنصارى واليهود.
    وأورد الكاتب شواهد عن وجود اليهود في بلنسية وبياسة ورنده وشوذر ومرتش وبرغش وغيرها..

    الفصل الثالث
    اليهود والسلطة في الأندلس

    المبحث الأول: موقف اليهود من الفتح الإسلامي للأندلس

    أظهرت روايات فتح الأندلس أن يهود الأندلس قد قدموا العون للمسلمين في حراسة بعض المدن التي تم فتحها، وأنهم لم يتولوا وحدهم أعمال الحراسة، بل كان دائماً يقودهم عدد من المسلمين ولا توجد أية إشارة في المصادر الإسلامية إلى نوع آخر من المساعدة قدمها اليهود لمسلمي الأندلس. وأعزى الكاتب أسبـاباً عدة قد حملت اليهود في الأندلس على اتخاذ هذا الموقف من المسلمين الفاتحين، ومنها: رغبة اليهود في التخلص من حكم القوط الذين أرهقوهم بكثرة القوانين المضيقة عليهم والتي وصلت في عهد الملك إجيكا إلى حد استعبادهم جميعاً، ولكي ينتقم اليهود من القوط الذين اضطهدوهم منذ أن تحول الملك القوطي ريكارد إلى المذهب الكاثوليكي سنة 587م. وكذلك الأخبار التي وصلتهم عن أحوال اليهود الذين يعيشون تحت الحكم الإسلامي، فرغبوا في حكم المسلمين.
    كما كان للمسلمين أسباب دفعتهم لقبول العون من اليهود، ومنها: يبدو أن اليهود أظهروا رغبة قوية في تقديم العون للمسلمين، ولولا حدوث ذلك لما قام المسلمون بإشراكهم في حاميات الحراسة للمدن المفتوحة، ومن المؤكد أن المسلمين قد علموا بالعداء القائم بين اليهود والقوط، ففضلوا توظيف هذا الوضع لخدمة الفتح. كما وجد الفاتحون المسلمون أنه ليس في استخدام اليهود في حراسة المدن المفتوحة تحت إمرة المسلمين، أية مخالفة للإسلام.
    وقد زعم بعض مؤرخي اليهود المعاصرين أن اليهود كان لهم دوراً كبيراً في فتح الأندلس، فمثلاً يقول سيمون دوبنوف: "وتضمن الجيش الإسلامي الكتيبة البربرية اليهودية المنضمة إليهم، والتي يقودها المحارب الذي يحمل اسماً يهودياً وهو خولان اليهودي، الذي فتح الجزء الأكبر من قطلونيا".
    ويقول مؤلف الكتاب أنه لا يوجد لمزاعم سيمون أي أساس من الصحة، فليس هناك قائد يهودي يحمل اسم خولان، ولم يشارك اليهود مطلقاً في فتح قطلونيا أو غيرها، وهذه المعلومات لم يجدها في أي مصدر عربي أو أجنبي.
    ويدحض الكاتب قول اليهود بأنه لو كان يهود الأندلس شعباً مقاتلاً شجاعاً، لانتفض على القوط الكاثوليك الذين استعبدوهم، ولتمكنوا من تكوين حكم لهم، ولو في جزء صغير من هذه البلاد التي يتواجدون فيها قبل الرومان والوندال والقوط.

    المبحث الثاني: اليهود والسلطة من الفتح إلى نهاية عصر الخلافة
    92-399هـ=711-1008م

    استنتج المؤلف أن العلاقات بين المسلمين واليهود في تلك الفترة كانت حسنة وذلك لأسباب منها: أن اليهود لم يقوموا طوال هذه المدة التي تزيد على ثلاثة قرون بأي تمرد على السلطة الحاكمة في الأندلس، كما شهدت الأندلس منذ فتحها وحتى نهاية عصر الخلافة هجرة يهودية واسعة إليها، حتى أن الأحياء اليهودية في بعض مدن الأندلس لم تعد تتسع للمزيد منهم، وعجب الحكم الأول 180-206هـ=796-822م من تصرف اليهودي الذي أخفى في بيته لمدة سنة الفقيه طالوت، المطلوب للسلطة، بسبب مشاركته في ثورة الربض سنة 202هـ=817م، وتقدير الحكم الأول لموقف اليهودي وعفوه عنه دليل على الإنصاف والإحسان الذي تعامل به الحكام في ذلك الوقت مع اليهود. كما لم يطالب حكام الأندلس طوال هذه المدة اليهود بالالتزام بزي خاص، ولم يفرضوا عليهم قيوداً في مسكنهم أو مركبهم، وذلك لأنهم لم يجدوا منهم ما يحملهم على تطبيق أحكامٍ يُعَدُّ إلزامهم بها في حكم المستحب، ولم يطالب فقهاء ذلك العصر الحكام بإلزام اليهود بتلك الأحكام، إذ كان الوفاق بين المسلمين واليهود حينذاك هو الغالب على العلاقة بينهم، وقد طالب الفقهاء بتطبيق تلك الأحكام في العصور اللاحقة في الأندلس عندما تطاول اليهود على المسلمين، وتآمروا عليهم مع أعدائهم، ونقضوا عهد الذمة.
    وكذلك سماح الحكم ليهودي بالعمل في قصره مغنياً، وإرساله إلى زرياب رسولاً، يدل على ثقة الحكم بهذا اليهودي، كما أن حرص اليهودي على مجيء زرياب إلى قرطبة للعمل عند عبد الرحمن بن الحكم، بالرغم من علمه بقدرات زرياب في مجال الغناء، وأنه سيكون منافساً قوياً له، دليل على إخلاص ذلك المغني اليهودي لهذين الحاكمين، وحرصه على التقرب منهما.
    وشكا تاجر يهودي من مارده أميرها محمد بن عبد الرحمن إلى القاضي سليمـان بن أسود، لأنه أخذ جارية منه دون أن يسدد ثمنها أو يردها إليه فهدد القاضي الأمير بالسفر إلى قرطبة لإبلاغ والده الأمير عبد الرحمن الأوسط 206-238هـ=822-852م إذا لم يعطِ اليهودي حقه، فاستجاب الأمير ودفع ثمن الجارية. إن عدم تهيب اليهودي من رفع تظلمه إلى القضاء، مع أن خصمه هو الوالي نفسه وابن حاكم الأندلس، دليل على أن اليهود كانوا يعاملون فيها بالعدل، ولا يتوقعون من حكامها وقضاتها إلا الإنصاف.
    ويتحدث مؤرخ لاتيني عن حملة قام بها المسلمون سنة 247هـ=861م لفتح مدينة برشلونة، ويذكر أن اليهود ساعدوا المسلمين على دخول المدينة. فإذا صحت هذه الرواية فإنها تدل على أن اليهود الذين كانوا يعيشون تحت حكم النصارى في الشمال الأسباني، كانوا يفضلون حكم المسلمين على النصارى.
    وحصل اليهود في الأندلس على الحرية الدينية، ولم يجبروا على الدخول في الإسلام، كما تُرِكَ المُنصَّرون من اليهود في عهد الحكم القوطي يعودون إلى دينهم، إذ تذكر النصوص اللاتينية أن حركة تَهَوّد كبيرة قد حدثت بين المنصرين اليهود في بداية الحكم الإسلامي.
    كما كان لموقف الراهب بودو ولجوءه إلى الأندلس لإعلان يهوديته، وفي تجرئه على مطالبة الأمير عبد الرحمن الأوسط بتهويد النصارى، وفي المناظرات الفكرية والدينية بينهم وبين اليهود، مؤشراً على علاقة حسنة لليهود بالسلطة، وعلى حرية دينية وفكرية منحتها السلطة الإسلامية في العهد الأموي لليهود.
    وكذلك شارك اليهود في مؤتمر كنسي خاص بالنصارى لمعالجة موضوع المنتحرون من النصارى، وهذا يدل على ثقة هذه السلطة باليهود، ويؤكد على علاقتها الحسنة بهم.
    كما أوكل الأمويون لرجال من اليهود لجمع الجزية من بني قومهم، وتحمل هذه الإشارة أيضاً دلالة على الثقة التي أولاها الأمويون في الأندلس لليهود،
    كما اعتمد بعض الخلفاء الأمويين في الأندلس على اليهود في تأدية أعمال ومهمات لصالح الدولة، ومن ذلك قيام الخليفة عبد الرحمن الثالث الناصر لدين الله 300-350هـ=912-961م بتقريب يهودي اسمه حسداي بن شبروط. وقد بدأ ابن شبروط عمله في بلاط الخليفة طبيباً في حدود سنة 329هـ=940م. ثم وضعه الخليفة الناصر على رأس إدارة مالية، تشبه الجمارك، كمسؤول عن الدخل الصادر عن التجارة الأجنبية. وكان هذا المنصب مهماً لأن الأموال التي تجبى من السفن القادمة إلى الأندلس والمغادرة منها، كانت تشكل مصدراً رئيساً لخزينة الدولة.
    وعندما حدث التقارب بين القسطنطينية وقرطبة، أرسل الإمبراطور البيزنطي قسطنطين السابع 334-348هـ=945-959م إلى الخليفة الناصر رسائل مع هدايا ثمينة، واشتملت الهدايا على نسخة من الكتاب الإغريقي الخاص بدايو سكوريدس عن الأعشاب الطبية، وقد أثار الكتاب اهتمام الخليفة وطبيبه حسداي، ولأنه لم يكن في قرطبة عالم ضليع بالإغريقية، طلب الناصر من قسطنطين السابع عالماً يتقن الإغريقية ليقوم بترجمة الكتاب إلى اللغة اللاتينية، ومنها تمت ترجمته إلى العربية بمساهمة حسداي، وكان هذا الكتاب أساساً لتطور العلوم الطبية في الأندلس.
    وقد ازداد تقدير الخليفة الناصر لدين الله لحسداي، وصار يعتمد عليه في بعض سفاراته إلى الممالك الفرنجية، ثم بعثه الناصر في جمادى الآخرة من سنة 328هـ=941م، إلى جليقية، لعقد صلح مع رذمير الثاني 318-340هـ=930-951م، وإطلاق سراح محمد بن هاشم التجيبي المأسور هناك منذ سنتين. وقد نجح حسداي في مهمته التي شارك فيها عدد من الأساقفة النصارى، أرسلهم الناصر في ما بعد بناء على طلب التجيبي.
    وعن معاهدة الصلح هذه يقول ابن حيان: "وتولى إبرام ذلك وإقامة حدوده حسداي ابن إسحاق الإسرائيلي، المقيم بحضرة رذمير، فتمّ على أصلح الوجوه، وارتفعت به الحرب بين أهل الملتين.
    لقد اعتمد الخليفة الناصر على حسداي في مفاوضاته مع ملوك النصارى بسبب حنكته التي يعبر عنها ابن حيان بقوله: "فرمى العلج رذمير بحسداي هذا، وهو واحد العصر، الذي لا يعدل به خادم مَلِك، في الأدب وسعة الحيلة، ولطف المدخل وحسن الولوج". ولكن الصفة الأهم التي تميز بها حسداي، وجعلت الخليفة يعتمد عليه، ويكلفه بتلك المهمات الدبلوماسية، هي تمكنه من لغات عدة، إذ كان يجيد العبرية والعربية واللاتينية والأسبانية، إضافة إلى الإغريقية التي تعلمها على يد الراهب البيزنطي نيقولا. وتظهر طبيعة المهمات التي أسندها الخليفة لحسداي، صحة ذلك، إذ كان يرسله فقط إلى البلدان الأجنبية، وجعله مسؤولاً عن شؤون التجار الأجانب، وتلك مهمات يتطلب إتقانها إحاطة بلغات أجنبية عدة.
    وترك الخليفة عبد الرحمن الناصر حسداي بن شبروط يستفيد من كونه موظفاً كبيراً مقرباً من حاكم أعظم دولة في ذلك العصر، وذلك في خدمة اليهود خارج الأندلس، إذ كان على اتصال دائم باليهود في عدد من الأقطار، يراسلهم، ويتساءل عن أخبارهم، ويتلقى منهم الرسائل، ويحاول أن يتدخل عند رؤساء وملوك بلدانهم ليحل مشكلاتهم.
    وكان لحسداي دور في دعم ومناصرة يهود روما بعد مراسلتهم له باضطهادهم فأرسل بإذن من الناصر برسائل إلى الامبراطور قسطنطين السابع ليخفف الضغط عن اليهود، ويبدو أن رسائله قد لاقت تجاوباً، وكذلك ساهم حسداي بمساعدة يهود بغداد مادياً في بناء كنيس لهم كان قد تهدم. ويظهر من خلال سماح الناصر لحسداي بالاستفادة من منصبه في خدمة اليهود خارج الأندلس دليلاً على التسامح الذي لقيه يهود الأندلس من السلطة الإسلامية في العهد الأموي.
    كما أفاد حسداي بن شبروط من موقعه كمسؤول عن التجارة الأجنبية، ومن مكانته في بلاط الخليفة، في جمع معلومات عن اليهود في البلدان الأخرى، وفي التواصل معهم. ومثال ذلك يهود الخزر الذين علم حسداي من خلال التجار عن وجود مملكة لهم، فأخذ يبحث ويتقصى عن أخبار هذه المملكة، ويسأل مبعوثي الملوك إلى قرطبة، فتمكن من جمع معلومات مهمة عنها، وقام بمراسلة ملكها، وتلقى منه رسالةً تعرِّف بمملكة الخزر، وكيف تهود كثير من سكانها.
    كما أتاحت السلطة الإسلامية في الأندلس لليهود، أن يشاركوا في النهضة العلمية والفكرية التي شهدتها الأندلس، فبعد أن كان اهتمامهم مقتصراً على الجوانب الثقافية والدينية فقط، صارت لهم اهتمامات لغوية وأدبية وفكرية.
    وقام المستنصر باستخدام يهودي آخر، هو إبراهيم بن يعقوب الإسرائيلي الطرطوشي، وقد كلفه بسفارات عدة، أهمها تلك التي اتجه فيها نحو روما سنة 350هـ=961م لمقابلة البابا يوحنا الثاني عشر. وأرسله في سفارتين إلى الإمبراطور الألماني أوتو الأول. الأولى سنة 351هـ=965م، والثانية سنة 362هـ=972م.
    كما كلفه المستنصر برحلة جغرافية إلى أوربا الوسطى والشرقية، لجمع معلومات عن تلك البلاد وسكانها، وقد أدى هذه المهمة بنجاح، وعاد بمعلومات قيمة، اعتمد عليها البكري وغيره عندما كتبوا عن تلك البلاد.
    وفي أواخر عصر الخلافة، قام المنصور بن أبي عامر بتعيين صانع الحرير اليهودي يعقوب بن جاو رئيساً للطوائف اليهودية في الأندلس، ومنحه السلطات نفسها التي منحت لحسداي بن شبروط في عهد الناصر.
    وهناك إشارة إلى قيام يهودي بتأليف كتاب في تربيب العسل، وإهدائه للمنصور بن أبي عامر. وهي تدل على أن مثقفي اليهود في ذلك الوقت كانوا يحرصون على التقرب من السلطة.

    المبحث الثالث: اليهود والسلطة في عصر الطوائف

    شهدت الأندلس بعد سنة 399هـ=1008م صراعاً عنيفاً على السلطة، أدى إلى انحلال الخلافة، ونشوء عهد ملوك الطوائف، وقد أدت هذه الحروب إلى هجرة كثير من يهود قرطبة وغيرها من مناطق الأندلس التي امتد إليها الصراع. ويذكر كاتب يهودي عاش في القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي أن العديد من اليهود القرطبيين هاجروا إلى طليطلة وإلى سرقسطة، وأنه حتى في عصره كان نسل أولئك المهاجرين يشكلون في المدن التي هاجروا إليها طوائف منفصلة خاصة بهم.
    وكان للإمارات والممالك الأسبانية نصيب وافر من المهاجرين اليهود، الذين وجدوا فيها فرصاً كثيرة للكسب، حيث كانت تفتقر إلى الحرفيين الماهرين، والتجار القادرين على استيراد المنتجات المصنعة من الأندلس وغيرها من الدول الإسلامية.
    لقد دفع تيار الهجرة اليهودية الذي خرج من قرطبة، بشاب يهودي يدعى صاموئيل بن جوزيف هاليفي إسماعيل بن يوسف بن نغدله إلى مالقه، فوصلها سنة 404هـ=1013م، وكان لهذا الشاب أثر كبير في حياة يهود الأندلس في عصر الطوائف، وكذلك على الصراع بين دول الطوائف في عصره.
    وقد ولد إسماعيل بن نغدله في قرطبة في ربيع سنة 383هـ=993م، وكان أبوه قد هاجر إليها من ماردة. وتلقى ابن نغدله تعليمه التلمودي في قرطبة، وأصبح قادراً على نظم الشعر بالعبرية والعربية، كما تضلع من علم الفلك والهندسة والمنطق، وقرأ القرآن الكريم وعدداً من كتب الفقهاء المسلمين، وَأَلَمَّ ببعض دراسات النصارى عن الإنجيل.
    أعجب به الوزير أبو العباس إسماعيل، فأدخله في خدمة أمير غرناطة حبوس، وعينه جابياً لأموال الدولة.
    وقد حقق إسماعيل نجاحاً في جباية الأموال، وكسب ثقة الوزير، وصار بإمكانه تعيين موظفين يساعدونه في مهمته. وجنى ابن نغدله أموالاً كثيرة من هذه الوظيفة، لكنه كسب معها كره كثير من يهود غرناطة، الذين وشوا به لدى الأمير يتهمونه بالاختلاس، فتم اعتقاله بعد التثبت وأدخل السجن، سنة 411هـ=1020م. وفي الوقت نفسه قام يهود غرناطة باستئجار أشخاص قتلوا مساعده الحبر يهودا وابن أخيه، ثم أطلق سراح إسماعيل بعد مدة قصيرة، ولكن فرضت عليه غرامة كبيرة، وجرد من منصبه، وظل إسماعيل في غرناطة بعد خروجه من السجن يعيش على المال الكثير الذي جمعه، ويأمل ويحاول أن يعيده الوزير إلى وظيفته، وقد تحقق أمله، إذ أعاده الوزير ليصبح مسؤولاً عن جمع الجزية من كل اليهود في إمارة غرناطة، واستطاع بخبرته ودهائه أن يصبح وزيراً للمالية، فكان أول يهودي في الأندلس يتقلد منصب الوزارة.
    وتجمع المصادر الإسلامية على المكانة الرفيعة التي بلغهإ إسماعيل في عهد حبوس، وعلى أنه كان وزيراً مفوضاً متصرفاً في شؤون الدولة، وليس مجرد وزير تنفيذي، ولم يُقَدّر إسماعيل مشاعر المسلمين بل تكبر عليهم وتطاول على دينهم ومقدساتهم، والطعن في الإسلام، وأقسم أن ينظم جميع القرآن في أشعار وموشحات يغنى بها. ومن شعره الذي نظم فيه القرآن قوله:
    نقشت في الخد سطراَ
    من كتاب الله موزون
    لن تنالوا البر حتى
    تنفقوا مما تحبون"
    كما لاحق الفقهاء واضطهدهم، فاضطروا للهرب من غرناطة. ومن هؤلاء الفقهاء محمد بن سعيد بن عمر ذي النون الثعلبي الإلبيري الذي رحل إلى طليطلة فراراً بنفسه ودينه.
    كما أدى تعيين إسماعيل وزيراً في حكومة حبوس بغرناطة، ومجاهرته بالعداء للإسلام، وتكبره على المسلمين، إلى خسارة غرناطة لأكبر وأهم دولة محالفة لها، وهي دولة المرية القوية، التي تسيطر على كل الأقاليم الساحلية في جنوب شرق الأندلس، وإلى تورطها معها، ومع غيرها في حروب عدة أرهقتها حكومة، وجيشاً، وسكاناً.
    طالب زعماء صنهاجة حبوس أن يعين خليفة له يتولى إمارة غرناطة بعد موته، وقد أثار هذا الطلب قلق إسماعيل بن نغدله، مثلما أثار قلق أثرياء اليهود في غرناطة. لقد أحب إسماعيل أن يكون عرش غرناطة من نصيب باديس، وبذل كل ما في وسعه لتحقيق ذلك، وعندما مات حبوس سنة 437 هـ=1045م وتولى باديس فقام بتثبيته في منصبه الوزاري الكبير.
    حاول أمير المرية زهير ووزيره أحمد بن عباس إقناع باديـس بإبعاد الوزير اليهودي عن منصبه، ولكن باديس رفض إبعاد إسماعيل، وأرسل قاضي غرناطة أبا الحسن علي بن محمود بن ثوبة إلى زهير حاكم المرية، ليقنعه بتجديد معاهدة التحالف بين إمارتيهما، لكن زهيراً رفض طلب باديس.
    وأثناء زيارة مفاجئة لزهير إلى غرناطة، وبعد عودته من مقابلة باديس فوجئ بكمين أعده لهم الغرناطيون وقد تمكن جنود باديس من قتل حاكم المرية زهير، وأسر الوزير أحمد بن عباس، ونقله إلى السجن في غرناطة، حيث حاول أن يفدي نفسه بمبلغ كبير، وجاء مبعوث من ابن جهور ليتوسط في الإفراج عنه، لكن باديس رفض وقام بقتله، وكان من بين الأسرى الذين أسرهم الجيـش الغرناطي ابن حزم الأندلسي المعروف بمناظراته ومعاداته لإسماعيل بن نغدله. فأطلق ابن باديس سراحهم.
    سُرَّ إسماعيل بمقتل أحمد بن عباس، وَمَجّدَ هذه المعركة التي شارك فيها بنفسه، بقصيدة طويلة، شبه فيها سقوط ابن عباس بتحرر اليهود من قبضة هامان، وأرسل القصيدة مع رسالة إلى الطوائف اليهودية في الشمال الأفريقي ومصر وفلسطين، ليشاركوه الفرحة بهذا الانتصار.
    مرض الوزير اليهودي إسماعيل بن نغدله، ومات في ربيع سنة 448هـ=1056م، فأحزن موته يهود الأندلس والخارج، وأقاموا صلواتهم عليه، خلف إسماعيل في منصبه ولده يوسف، وكان والده قد هيـأه لذلك منذ صغره، وأصبح يوسف بن إسماعيل كبيراً للوزراء في غرناطة، ومسؤولاً عن جمع الجزية من اليهود، ورئيساً للطائفة اليهودية في غرناطة، قلد يوسف الملوك في ملبسهم ومركبهم ومسكنهم وفي كل مظاهر ترفهم، فقد اتخذ قصراً فخماً على التل العالي في غرناطة، كما أحاط نفسه بحاشية كبيرة من اليهود الذين سلَّمهم أرفع مناصب الدولة، وكانوا يتصرفون وكأنهم فوق كل القوانين. وأقام في قصره الحفلات الماجنة، دون مراعاة لمشاعر المسلمين من حوله، وكان يغدق بالأموال على الشعراء العرب واليهود الذين كانوا يكتبون القصائد في مدحه. ووسع المكتبة التي ورثها عن أبيه، فأصبحت تضم كتباً في مختلف العلوم الإسلامية، "وكان له وراقون ينسخون له الكتب بالنفقات والمرتبات". وكان يتهجم على القرآن الكريم. وقد شـاع بين يهود غرناطة أن يوسف لم يراع حتى تعاليم التوراة، وأنه يحتقر كل الأديان.
    لقد أثار استهتار يوسف بن نغدله وتجاوزاته كره مسلمي غرناطة، وشاركهم في هذا الشعور كثير من قادة صنهاجة، وكان يوسف يعلم بذلك، ولهذا قام ببث جواسيسه في كل مكان داخل قصر باديس، وصارت تصله أدق أخباره،
    وقد وصلت الأنباء ليوسف أن بلقين بن باديس ذكره عن والده بسوء، فقام بدس السم له وقتله، واتهم الخدم بقتله، فقام باديس بقتلهم، واستطاع يوسف أن يبعد الشبهة عن نفسه.
    وصار اليهودي يصولُ ويجولُ في دولة باديس الذي كان لا يكاد يفيقُ من سكره، وأصبح هو الحاكم الفعليُّ لغرناطة. ولما كبرت سن باديس وأخلد إلى الراحة، وزهد في طلب البلاد لكبر سنه، وموت ابنه، وألقى بمقاليده إلى اليهودي في الخدمة عنه، وخشي الوزير اليهودي يوسف بن إسماعيل من وصول ماكسن بن باديس إلى السلطة بعد موت أبيه، فأراد التخلص منه أيضاً، وقد لاحظ ماكسن ذلك فقال له: "أتريد أن تقتلني كما قتلت أخي؟".
    وخطط يوسف للتخلص من ماكسن مستفيداً من كونه سريع الغضب فأحدث شقاقاً بين باديس وابنه ماكسن، فأمر باديس بنفي ابنه، وقام يوسف بتنفيذ الأمر وأمر رجاله أن يقتلوه، ويخفوا أمره.
    وتؤكد الدراسات اليهوديةُ أن يوسف كان قد عزم فعلاً على إقامة دولةٍ لليهود في المرية، يكون هو مليكاً عليها.
    وذلك بحياكة مؤامرة مع ابن صمادح لتسليم قرطبة له، مقابل أن تكون المرية دولة لليهود، تسرب خبر المؤامرة عن طريق بعض قادة جيش ابن صمادح، الذين احتلوا المناطق الشرقية والوسطى من مملكة غرناطة، دون أن يجدوا مقاومة تذكر. وقد انتشر هذا الخبر بسرعة بين مسلمي غرناطة. ولأنهم لم يعودوا يرون باديس المحتجب في قصره، ظنوا أن وزيره اليهودي قد قام أيضاً بقتله، فامتلأت نفوسهم غضباً على يوسف وحاشيته.
    وصلت أخبار المؤامرة إلى أبي إسحاق الإلبيري، وكان قد أُبعد عن غرناطة بأمر من يوسف، فكتب قصيدة يحرض فيها باديس وقبيلة صنهاجة على الثورة على يوسف والمتسلطين اليهود. وقد انتشرت القصيدة بين المسلمين انتشاراً واسعاً، وزادت من غضبهم على اليهود.
    التقى يوسف بعدد من رجال حاشيته مساء الجمعة 10-صفر-459هـ=30-12-1066م في بيت مؤقتٍ اتخذه بالقرب من قصر باديس. وكان الخوف يسيطر على المجتمعين، ولكن أحد العبيد المسلمين خرج إلى الناس فأخبرهم عن مكانه فهاجم الناس القصر وقتلوه. وتقول المصادر اليهودية: إن المسلمين هاجموا القصر، وسحبوا جثة يوسف عبر الشوارع وعلقوه بالقرب من باب المدينة، ثم توجهوا إلى دور اليهود وفتكوا بهم ونهبوا دورهم وأموالهم.
    لم يكن إسماعيل وولده يوسف هما اليهوديان الوحيدان في الأندلس اللذان يحصلان في دويلاتها في عصر الطوائف على منصب كبير. فقد كان وزير صاحب المرية ابن صمادح يهودياً، ووزير المقتدر بن هود في سرقسطة يهودياً يُدعى أبو الفضل حسداي ابن يوسف، وليس يهود غرناطة وحدهم هم الذين حصلوا على وظائف مهمة في ذلك العصر، وتسلَّطوا على المسلمين . فقد حصل عليها يهود آخرون في دويلات أخرى، ومارسوا تسلَّطهم على المسلمين بدرجات متفاوتة. ومثلما استنكر مسلمو غرناطة هذا التسلط ورفضوه، استنكره أيضاً المسلمون في تلك الدويلات. وعبروا عن رفضهم له بطرق مختلفة. فهناك حادثة وقعت في المرية، أشرنا لها سابقاً، تبين أن أحد فقهائها المشهورين ويُدعى عبد الله بن سهل بن يوسف ت: 480هـ=1087م قد رأى وزيرها اليهودي، يستحم في حمام للمسلمين وبين يديه صبي يخدمه اسمه محمد، واليهودي يناديه يا محمدال، فغضب الفقيه، إذ لاحظ أن الوزير اليهودي يتعمد أن يصغر اسم محمد إهانة للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، وقام بضرب اليهودي بحجر على رأسه فقتله.
    تولى ملك غرناطة بعد باديس ابن ابنه عبد الله وهو ابن بلقين الذي قتله يوسف بالسم، وقد سمح لليهود بالعودة إلى غرناطة، ومنع أي اعتداء عليهم. وقد امتنع يهود أليسانة التابعة له عن دفع الجزية المفروضة عليهم، حوالي سنة 483هـ=1090م. وذلك بعد أن قام ابن ميمون الذي كان مسؤولاً عن جمع الجزية من يهود اليسانة بتحريض ابن أبي الربيع اليهودي لعدم تأدية المال الذي سرقه أبوه للدولة، وأحدث ابن ميمون بذلك فتنة عظيمة، لم يستطع الأمير من القضاء عليها إلا بالحيلة.
    وقد كانت معاملة الحكام لليهود متسامحة، فسُمح لليهود بالخدمة في قصور بني عباد ملوك إشبيلية ذوي النسب العربي، فقد عمل الحبر اليهودي إسحاق بن باروخ بن الباليه منجماً لدى المعتضد 415-462هـ= 1024-1069م. كما خدم لديه أيضاً جوزيف بن ميغاش، وعندما تولى المعتمد بن عباد حكم إشبيلية، قام باستدعاء إسحاق بن باروخ الباليه للعمل لديه منجماً، ثم قام بتعيينه رئيساً للطائفة اليهودية في مملكته. فتولى جمع وتسليم الجزية المفروضة على اليهود للدولة. فأصبح إسحاق من أثرياء اليهود في إشبيلية، وصار الطلاب والمثقفون اليهود الذين يفدون لطلب العلم في هذه المدينة المزدهرة المتحضرة، يحظون بدعمه ورعايته، كما استعمل إسحاق مركزه الذي منحه له المعتمد، في إنشاء مكتبة ضخمة، أنفق عليها أموالاً كثيرة، ووظف العديد من اليهود ليجمعوا له الكتب، فجمع مكتبة يوسف بن إسماعيل التي فقدت في أحداث غرناطة.
    وكانت بعض العائلات اليهودية الإشبيلية الثرية مقربة من حكام إشبيلية، وحصل بعض أبنائها على وظائف حكومية، مثل عائلة كامنيل التي ظلت قريبة من السلطة لمدة طويلة. وعائلة ابن مهاجر التي ينتمي إليها أبو إسحاق إبراهيم بن مير بن مهاجر، الذي شغل منصباً مهماً في حكومة إشبيلية، ومنح لقب الوزير إضافة إلى ألقاب رنانة أخرى. وقد مدحه الشعراء اليهود المعاصرون له، وعدُّوه مخلصاً لشعبه، وراعياً للطوائف اليهودية في مملكة إشبيلية والبلدان البعيدة أيضاً. وكان أبو إسحاق عالماً ومتمرساً بالتعاليم اليهودية وخبيراً بعلم الفلك. وسخر سلطاته لفرض الانضباط الديني على يهود إشبيلية وثمة عائلة أخرى احتلت موقع التقدير بين يهود إشبيلية في ختام القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، وهي عائلة ابن يانوم، لكنها لم تكن مقربة من حكام إشبيلية.
    لقد تدفق اليهود من معظم مناطق الأندلس والخارج إلى إمارة إشبيلية للاستقرار في ظل الحرية والازدهار الاقتصادي والثقافي الذي وفره الحكام من بني عباد، لجميع السكان على اختلاف عناصرهم وأديانهم، فزادت أعداد اليهود هناك زيادة كبيرة.
    وقد شغل اليهود مناصب مهمة ووظائف حكومية في دول أخرى داخل الأندلس أثناء عصر الطوائف. ففي سرقسطة صار أبو الفضل حسداي بن يوسف بن حسداي وزيراً في عهد حاكمها المقتدر بالله بن محمد بن هود الجذامي 438-474هـ=1016-1081م. وقد أعلن إسلامه، لكن الروايات عن دوافعه وفسقه، تشككنا في صدق إسلامه.
    وقد استطاع حسداي بن يوسف بما أوتي من ذكاء وبلاغة أن يحظى بمكانة مرموقة لدى حاكم سرقسطة المقتدر بالله. وقد مدحه في الشعر لدرجة النفاق وصل إلى عوَرِهِ، فجعله ميزة يحسده عليها المبصرون.
    وبعد أن سقطت بعض المدن بأيدي النصارى لم يحفظ اليهود الجميل للمسلمين فقاموا بمعاونة النصارى ذد المسلمين، والتنكيل بهم، وبالرغم من تنكيل يهود بلنسية بأهلها المسلمين، إلا أن المصادر التاريخية لم تقدم أية إشارة إلى قيام المسلمين بالانتقام من يهود بلنسية بعد أن استعادها المرابطون سنة 495هـ=1102م.

    المبحث الرابع: اليهود والسلطة في عهود المرابطين والموحدين وسلطنة غرناطة

    أولاً: المرابطون واليهود:

    وكان حكام المرابطين متسامحين بوجه عام في تعاملهم مع اليهود، يفهم ذلك من خلال الإشارات الآتية:-
    عين أمير المسلمين على بن يوسف بن تاشفين 500-537هـ= 1106-1142م اليهودي أبا أيوب سليمان بن المعلم طبيباً خاصاً له، وكان يحمل لقب الوزير الفخري، وكان هو والطبيب اليهودي إبراهيم بن كامينال وكيلين ماليين للدولة يعملان في مجال جمع الجزية المفروضة على اليهود.
    وكان لعمر بن علي بن يوسف كاتب يهودي، وأعاد المرابطون العائدون من معركة الزلاقة إلى اليهود أملاكهم التي سبق أن فقدوها أثناء الثورة على الوزير اليهودي يوسف بن إسماعيل، وقد أشار كل من دوبنوف والموسوعة العبرية إلى أ، يهود إشبيلية عاشوا في سلامٍ تحت حكم المرابطين.

    ثانياً: الموحدون واليهود:

    يقول المؤلف أن المعلومات القليلة التي تذكرها الروايات تكفي لنفي ما تردّدَ في الدراسات والمصادر اليهودية، من أنّ يهود الأندلس أُرغموا بالقوة على الدخول في الإسلام، وأن بِيَعهم حُوِّلت إلى مساجد، وأنهم جُرّدوا من التوراة، ومزِّقت كتبهم الدينية، وأنهم ظلوا يتظاهرون بالإسلام إلى نهاية عهد الموحدين في الأندلس، والذي استمر إلى سنة 620هـ=1223م، فتذكر الروايات أنه أجبر اليهود على لبس ملابس وعمائم مهينة لتمييزهم عن غيرهم، ثم بدلت بملابس وعمائم صفراء بعد إلحاحهم ورجائهم.

    ثالثاً: سلطنة غرناطة واليهود

    جُعل لليهود لباس خاص يميّزهم عن المسلمين، ويُعرفون به فكانوا يعتمرون "قلنسوة صفراء، إذ لا سبيل ليهودي أن يتعمم البتة"، واستخدم سلاطين غرناطة بعض تجار اليهود جواسيس لهم على النصارى في الممالك الأسبانية، لكنهم لم يعينوا يهودياً واحداً في منصب كبير طوال مدَّة حكمهم لغرناطة التي زادت على قرنين ونصف.
    وعندما شهدت الممالك النصرانية سنة 794هـ=1391م مذابح مروعة لليهود، وتدميراً لمعابدهم، وإجباراً على التنصر، تدفق المهاجرون اليهود إلى غرناطة التي يحكمها المسلمون، وأظهر المُنَصَّرُون يهوديتهم تحت حكم المسلمين.
    ومن مواقف وممارسات يهود أسبانيا النصرانية ضدَّ المسلمين، قيامهم بمساعدة جيمس الأول ملك أراغون للاستيلاء على مرسية سنة 641هـ=1243م بعد أن استعادها المسلمون الذين ثاروا على الحكم النصراني وسيطروا على المدينة، كما أسهم اليهود في الحرب ضد سلطنة غرناطة، ففي سنة 894هـ=1488م حصل صاموئيل أبو العافية على حماية الملكين الكاثوليكيين فرديناند وإيزابيلا تقديراً له على خدماته لجيشهما خلال الحرب ضد سلطنة غرناطة، وكان اليهود قد أظهروا ترحيبهم وتعاونهم مع ملوك النَّصارى حينما بدأت المدن الأندلسية تسقط في أيديهم، فلما احتلَّت جيوش فرديناند الثالث 614-650هـ=1217-1252م إشبيلية سنة 646هـ=1248م، خرج يهودها لاستقباله، وقد أعدوا له مفتاحاً نُقش عليه بالعـبرية عبارة تقول: "سيفتحها ملك الملوك، وسيأتي ملك الأرض".
    وقد قدَّم لهم فرديناند الثالث ثلاثة مساجد تقع بالقرب من حيهم، ليقيموا عليها معابد لهم، إضافة إلى العديد من المنازل والبساتين التي كانت تعود للمسلمين، وذلك مكافأةً لهم على موقفهم وخدماتهم في الحرب ضد المسلمين.
    ولما أصدر الملكان فردناند وإيزابيلا بخصوص اليهود قراراً يأمر بطردهم من أسبانيا وغرناطة بتـاريخ 31-2-1492م. وقد نُفذ قرار طرد اليهود من أسبانيا النصرانية تنفيذاً صارماً، وتدفق المهجَّرون اليهود يبحثون عن ملجأ آمن يأويهم، فوقع اختيار معظمهم على شمال أفريقيا، ودول المشرق، التي ما تزال شمس الإسلام تسطع في سمائها، وتفيض دفئاً وعدلاً وحريةً وتسامحاً على كل الذين يحيون بنورها، أو يستضيئون بضيائها، ذلك النور الذي طالما حاول اليهود وغيرهم من عشاق الظلام أن يطفئوه بأفواههم، بالرّغم من أنه بدَّدَ الظلم والظلمات عنهم، منذ أن أشرقت به أرض الأندلس سنة 92هـ=711م.

    الفصل الرابع:
    الحياة الاجتماعية لليهود في الأندلس

    المبحث الأول: الأوضاع الاجتماعية لليهود في الأندلس


    عاش اليهود داخل المجتمع الإسلامي في الأندلس أكثر من ثمانية قرون، فتأثروا بعادات المسلمين وتقاليدهم. لكنّ عيشهم في تجمعات أو أحياء خاصة بهم، والسماح لهم بممارسة عاداتهم وتقاليدهم وشعائرهم الدينية داخلها، مكنهم من المحافظة على كثير من العادات والتقاليد اليهودية. والنقاط التالية تقدم وصفا ً لأوضاع اليهود الاجتماعية في الأندلس، وتبين مدى تأثرهم بالمجتمع الإسلامي.

    اهتمام يهود الأندلس بأنسابهم:

    اهتمَّ يهود الأندلس بأنسابهم وتفاخروا بها، وكانت بعض عائلاتهم تنسب نفسها إلى موسى أو داود أو هارون -عليهم السلام- ومن هذه العائلات عائلة المؤرخ اليهودي أبراهام بن داود التي تزعم أنها تنتسب إلى النبي داود عليه السلام، وتقول: إنها جاءت إلى الأندلس من القدس في زمن نبوخذنصر، وكان الأفراد الذين ينسبون أنفسهم إلى أحد الأنبياء، يعلنون ذلك ويفاخرون به، ولذلك وجدنا جميع المصادر الإسلامية التي عرَّفت بأبي الفضل حسداي تذكر نسبه، وتبين أنه من بيت شرف اليهود.
    ومما يدلُّ أيضاً على اهتمامهم بالنسب أنَّ الشاعر الأندلسي ابن خيرة عندما أراد أن ينافق إسماعيل بن نغدله، ويتقرَّب إليه في زمن هيمنة اليهود على مقاليد الحكم في غرناطة، قال شعراً نسب فيه اليهود في الأندلس إلى موسى عليه السلام، حيث قال:
    فقل فيهم ما شئتَ لن تبلغَ العُشرا ومن يكُ موسى منهمُ ثم صِنوه
    كما مدحه بالثناء على خاله وعمه على طريقة العرب في المدح، فقال: فتىً كَرُمَ خالاً وعمَّاً.
    ومثلما فاخر يهود الأندلس بأنسابهم العائلية، فاخروا أيضا ً بكونهم أندلسيين، واعتقدوا أنَّهم يتفوَّقون على اليهود في جميع بلدان العالم، ويذكر آشتور أن مفكرا ً يهوديا ً ولد ونشأ في الأندلس، ينصح ولده، فيقول: ليكن رفاقك من إخواننا الأندلسيين فقط، لأنهم ذوي مهارات فكرية وتفهم ونقاء ذهني.
    وصارت اللغة العربية لغةً ليهود الأندلس، بها يتكلَّمون ويفكرون ويكتبون، وقد استخدموا العربية العامية نفسها التي يستخدمها مسلمو الأندلس، حتى داخل بيوتهم. واعتاد يهود الأندلس أن يتخذوا اسمين، واحد عبري والآخر عربي، كما تُرِكَ يهود الأندلس يتسمَّوْن بأسماء عربية، فتسمى كثير منهم بأسماء مشتركة وردت في كلٍّ من التوراة والقرآن، لكنهم تقيَّدوا بالنطق العربي للاسم، فتسموا بموسى، بدل موشي، وإبراهيم، بدل أبراهام، وهكذا، كما تسموا بأسماء عربية خالصة، حتى في معناها مثل سَهْل، وبسّام، ويعيش، وعبد الصمد، ونسيم، كما أطلق الكثير من يهود الأندلس على بناتهم أسماء عربية، مثل أميرة، وسموهنَّ أيضاً بأسماء أسبانية مثل يالومبا أو سيتبورا، وأخرى عبرية مثل قسمونة.

    ملابس اليهود في الأندلس:

    ألزم يهود الأندلس بلباسٍ محدَّد، ولكن ليس طوال مُدَّةِ وجودهم في الأندلس، وإنمَّا في بعض الأوقات فقط، ونتيجة لظروف وأسبابٍ معينة. ولم ترد روايات تاريخية تدلُّ على إلزام اليهودِ في الأندلس بزيٍّ خاص منذ فتحها وحتى عصر الموحدين.
    ويبدو أنَّ الفقهاء رغبوا في إلزام اليهود بهذا الأمر الذي يُعَدُّ في حكم المستحب، وليس الواجب، لوضع حدٍّ لتكبرهم وتجاوزاتهم على الإسلام والمسلمين وحتى تكون لهم علامة يُعرَفون بها على سبيل الخزي لهم، وليُمنع أهل الذمة من الإشرافِ على المسلمين في منازلهم، والتكشيف عليهم ومن إظهار الخمر والخنزير في أسواق المسلمين، ومن ركوب الخيل بالسروج، والزيّ بما هو من زيِّ المسلمين، أو بما هو من أبَّهةٍ، وينصب عليهم علما ً يمتازون به من المسلمين، كالشكلة* في حقِّ الرجال، والجلجل في حقِّ النساء.

    يهود الأندلس والطعام:

    يشترك يهود الأندلس مع غيرهم من اليهود في كثير من العادات الخاصة بالطعام، والتي يقولون إنها تستنِدُ إلى تعاليم دينية، فهم متفقون على عدم أكلِ ذبائح المسلمين، وفي ذلك يقول السموءل بن يحيى الأندلسي الذي كان يهوديا ً وأسلم: فما بالُ هؤلاء [اليهود] لا يأكلون من ذبائح المسلمين؟!، وصار أحدهم ينظر إلى من ليس على ملَّتهِ كما ينظر إلى سائر الحيوانات التي لا عقل لها، وينظر إلى المآكل التي تأكلها الأمم كما ينظر الرجل إلى العذرة، أو صديد الموتى، أما المسلمون فإنهم يستحلّون أكل ذبائح اليهود وأطعمتهم.لكنهم يعتقدون أنَّ ما ذبحوا لأعيادهم وضلالهم، فتركه أفضل لأنَّ أكله من تعظيم شركهم. ويفسر السموءل بن يحيى سبب عدم أكل طعامِ اليهود غيرهم في الوقت الذي يستبيح فيه المسلمون أكل طعامهم بأن أئمتهم حرموا عليهم مؤاكلة الأجانب.
    ويبدو أنَّ يهود الأندلس كانوا يولون الطعام اهتماماً كبيراً، إذ اشتهرت في الأندلس طبخات معينة نسبت إليهم. وقد ذكر صاحب كتاب الطبيخ في المغرب والأندلس بعض أسماء هذه الطبخات، وقدَّم وصفا ً لها، وأسماؤها هي: لون من فروج يهوديّ ، ولون يهودي محشو مدفون، وحجلة يهودية، ولون من حجلة يهودي.
    وقد تحدث ابن حزم عن إحدى عادات يهود الأندلس في الطعام بقوله: إنهم يلتزمون أكل الفطير في مرور الوقت المذكور في كل عام، وأنّ أفراد العائلة اليهودية كانوا يأكلون فرادى، بينما يجتمعون لتناول الطعام معا ً في أيام السبت والأعياد. وأنَّ من الأكلات المفضَّلة في أيام الأعياد، الفطائر المختلطة بالخل والنبيذ والتي تدعى بواريد، وكذلك الهريسة المصنوعة من الدقيق واللحم المقطع، إضافة إلى الفطير المحشو بقطع الدجاج والفطر.
    وكان من عادة اليهود أنهم يقيمون في الأعياد الولائم الخاصة بأفراد الطائفة اليهودية في كلِّ مدينة يقطنون فيها، يقدم فيها الفواكه للضيوف، والحمام المطبوخ بالخل، ثم الحلويات، ثم الفاكهة.

    أعياد يهود الأندلس:

    لليهود أعياد عديدة، منها ما يعتقدون أن التوراة جاءت بها، وأخرى محدثة، أما الأولى فخمسة أعياد، وهي: عيد رأس السنة العبرية، وعيد صوماريا، وعيد المظلة، وعيد الفطير، وعيد الأسابيع، ويسمى عيد العنصرة وعيد الخطاب، وأما المحدثة فأشهرها عيدان هما: عيد الفوز، وعيد الحنكة.
    وحول عجينة الفطير التي يصنعها اليهود في هذا العيد، خبز الفطير المفروض على اليهود في فصحهم قد جرت العادة أن يدخلوا في عجينته دماً بشرياً يأخذونه من ضحية يقتلونها من أمة أخرى غير اليهود، ويستحسن أن تكون الضحية من المسيحيين أو المسلمين. وهذه العادة جلبت عليهم مشاكل كثيرة في الشرق والغرب، فقد كان الحي اليهودي الذي يسكنون فيه يهاجم، وينتشر فيه القتل والتنكيل بمجرد اختفاء طفل أو شخص من مجتمع غير يهودي مجاور في عيد الفصح، ومن ذلك ما يروى من قتل اليهود للطفل المسيحي هيوج من مدينة لنكولن بانجلترا في موسم الفصح سنة 1255م، وسجلّ هذه التهم يطول تـتبعه، كالذي قيل إنه حدث في لندن سنة 1257م، وفي بفورتسهايم بألمانيا سنة 1261م، وفي فورثامبتون سنة 1279م، وفي ميونخ بألمانيا سنة 1258م….
    ويقول الكاتب أنه لم يجد نصا ً صريحا ً يدل على ممارسة يهود الأندلس لهذه العادة، ولكنه استنتج ذلك من خلال حادثة قتل المسلم الذي وجدت جثته في الحي اليهودي بقرطبة سنة 529هـ=1135م، والتي أدت إلى مهاجمة المسلمين لهذا الحي، والفتك باليهود، ويزيدنا تأكداً من صحة هذا الربط، أنّ شهر رجب في عام 529هـ يوافق شهر نيسان من عام 1135م، وهو الشهر الذي يحتفل فيه اليهود بهذا العيد.
    المرأة اليهودية في الأندلس:
    نظرت الشريعة اليهودية إلى المرأة نظرة احتقارٍ وصغار، فيقول الحبر اليهودي بابا بترة: ما أسعد من رزقه الله ذكورا ً، وما أسوأ حظ من لم يرزق بغير الإناث، ولا يسمح اليهود للمرأة بالالتحاق بالمدارس الدينية، وهي في شريعتهم خفيفة عقل، وقد جاء على لسان الحاخام أليعازر: كل من يُعلِّم ابنته التوراة، فكأنمَّا يعلمها السخافة، ومهمة المرأة تقتصر عندهم على الإنجاب وتأدية مهام البيت وتربية الأطفال.
    والظاهر أنَّ اختلاط يهود الأندلس بالمسلمين، ورؤيتهم لمكانة المرأة وحقوقها في الشريعة الإسلامية، وفي المجتمع الإسلامي، قد أثَّر في عقلية يهود الأندلس، ودفعهم للتحرر من بعض قيود شريعتهم المهينة للمرأة، والبحث عن مخرج لهم من تلك القيود. فالشريعة اليهودية وأحبارها يمنعون المرأة من التعلُّم في المدارس كما بينا سابقاً، لكنَّنا نجد أنّ أبا قسمونة قد اهتم بتعليم ابنته بنفسه حتى أصبحت شاعرة مقتدرة.
    والشريعة اليهودية تحرم المرأة نهائياً من الميراث، وتجعله من حق الولد الأكبر فقط. ولذلك وجدنا يهوديا ً أندلسيا ً يجدُ مخرجا ً له من هذا الظلم وذلك بحبس عقارٍ على ابنته وعلى عقبها. حيث يقول القاضي ابن سهل:
    الزواج عند يهود الأندلس:
    نصَّت الشريعة اليهودية على أنّ الزواج فرض من الفروض على كلِّ يهودي مهما كانت حالته الاجتماعية والصحية، ومع ذلك فقد وجد من اليهودِ من عزف عن الزواج، مثل اليهودي الأندلسي إسحاق بن قسطار ت:448هـ=1056م، وتحرِّم شريعة اليهود الزواج من غير اليهود الذين تسميهم كفاراً.
    ويجوز عند اليهـود الزواج من بنت الأخِ وبنت الأخت، بينما لا يجوز للمرأة أن تتزوج ابن أخيها أو ابن أختها وحرَّم كثيرٌ من فقهائهم زواج بنت الأخ. وهناك شاعرٌ يهوديٌ أندلسي اسمه موسى بن عزرا أحب ابنة أخيه، وطلب أن يتزوجها، لكن أباها رفض ذلك، وهذا يشير إلى أنَّ هذه المسألة كانت مسألة خلافية بين علمائهم في الأندلس، وقد سُمح ليهود الأندلس بالزواج على طريقتهم، ولم يعارضوا حتى في الزواج من المحارم.
    وقد أباحت الشريعة الإسلامية للمسلم أن يتزوج من يهودية. وقد صرَّح بذلك فقهاء المسلمين، ويقول الباحث: إلاَّ أننا لم نقرأ في ما اطلعنا عليه من مصادر،عن مسلمين تزوجوا من يهوديات في الأندلس، وسبب ذلك في تصوري يعودُ إلى تحريم شريعة اليهود لتزويج نسائهم من غير اليهود.
    ومن الإجراءات المتبعة عند اليهود تحرير عقود شرعية ليتمَّ الاعتراف بهذا الزواج، ويصحب هذا العقد بيان بكلِّ القطع التي تحضرها العروس معها، إضافة إلى ما يُتَّفق عليه من شروط.
    والزواج من أكثر من امرأة عند اليهود جائز، ولم يرد في تحريمه نصٌّ واحد، لا في الكتاب المقدس، ولا في التلمود، وقد مارسه يهود الأندلس، لكنه كثر بين أغنيائهم فقط.
    وكانت إحدى أهم المشكلات الاجتماعية المتعلِّقة بموضوع الزواج، هي غياب الأزواج عن زوجاتهم مدة طويلة، وعن ذلك يقول نؤمان: وعدد لا يحصى من النساء اللائي تركهنَّ أزواجهن، والذين لم يعودوا، أجبرن على البقاء مهجورات، لأنه لا يوجد هناك سبل شرعية لتحريرهن.

    الموسيقى والغناء:

    كانت الموسيقى والغناء من بين الفنون التي أخذها اليهود عن مسلمي الأندلس، وقد ترجمت مصادرنا لبعض الموسيقيين اليهود، أمثال إسحاق بن شمعون اليهودي القرطبي، الذي تصفه بأنه أحد عجائب الزمان في الاقتدار على الألحان، وكذلك منصور اليهودي المغني الذي بعثه الحكم إلى المغرب لدعوة زرياب إلى الأندلس، وتبين كيف تم إكرامه فيها. مما يدل على اهتمام أمراء الأندلس بالغناء، الأمر الذي انتقل أيضا ً إلى يهودها.
    المبحث الثاني: العلاقات الاجتماعية بين المسلمين واليهود في الأندلس
    كان المسلمون من أهل الأندلس لا يثقون باليهود، وتكونت لديهم نظرة عن اليهود بأنهم أهل كذب وخداع، ولهذا كانوا يتجنبونهم، وقد استشهد الكاتب بأمثلة كثيرة تدعم هذه الرؤية، ومما ساعد على تكوين هذه الصورة لليهودِ في أذهان المسلمين، أنَّ اليهود ينظرون إلى الناسِ بعينِ النقصِ والازدراء إلى أبعد غاية، فقد جاء في التلمود: الفرق بين درجة الإنسان والحيوان كالفرق بين اليهودِ وبقية الشعوب. وأظهر التلمود كرها ً شديدا ً، وحقدا ً خاصا ً للمغاربة،فجاء فيه: إنَّ سكان المغرب شعبٌ من المجرمين.
    والفرق بين الدافع في عداء اليهودي للمسلم، والدافع في عداء المسلم لليهودي هو أنَّ اليهودي يعادي على أساسٍ عنصريٍّ أمَمِيّ، فهو عدوٌّ لكلِّ من هو غير يهودي، وهذا النوع من العداء لا يمكن أن ينتهي، لأنَّ غير اليهودي لا يمكن أن يصبح يهوديا ً، إذ أنَّ اليهودي في نظر اليهود هو يهودي النسب والدين، ولا يُعَدُّ يهوديا ً من اعتنق اليهودية وأصوله ليست يهودية.
    أما دافع عداء المسلم لليهودي فسببه معاداة اليهودي للإسلام، وإذا ما توقَّف هذا العداء، ودخل اليهودي في الإسلام، فإنَّ عداء المسلم له يتوقف، ويصبح واحدا ً من المسلمين.
    وبالرغم من بشاعة الصورة التي يحملها المسلمون في الأندلس عن اليهود، ومعرفتهم بأخلاقهم وطبائعهم، إلاَّ أنَّهم تعاملوا معهم بالعدلِ والإنصاف الذي أمرَ به ربهم في قوله تعالى: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، ولوصية نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: ألا من ظـلم معاهدا ً، أو انتقصه، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا ً بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة. ولهذا صرح بعض فقهاء الأندلس بضرورة أن يجلس القاضي المسلم خارج المسجد، كي يتمكَّن اليهودُ وغيرهم من الوصول إليه، ورفع تظلماتهم.
    وقد لاحظ يهود الأندلس إنصاف المسلمين لهم، وحرصهم على العدل، فكانوا إذا اختلفوا مع مسلمين، ورفع الخلاف إلى القضاء الإسلامي، يتوجَّهون إليه، وهم واثقون مطمئنون بأنَّهم سينصفون، ويأخذون حقَّهم، حتى لو كان خصمهم أميراً أو ابن أمير.
    ودفع عدل المسلمين وإنصافهم أن يفضِّل كثيرٌ من اليهود الاحتكام إلى القضاة المسلمين على الاحتكام إلى القضاة اليهود، إذا اختلفوا في ما بينهم معتقدين أنَّ القضاة المسلمين أكثر عدلا ً وإنصافا ً من قضاتهم. وعن ذلك يقول الونشريسي: سئل ابن العطار عن جماعة من اليهود، يطالبون شخصا ً منهم بمظالم ودعاوى، ويزعمون أنَّ لهم براهين ببيِّنة يهود، ويذهبون إلى محاكمته ببينة اليهود، والمدّعى عليه يرغب بمحاكمته عند حكام المسلمين، إذ بيده وثيقة عربية بعدول المسلمين مما يطالبونه به.
    لقد كان المسلمون في الأندلس دعاةً إلى دينهم بخلقهم وسلوكهم والتزامهم بمبادئ دينهم وبترغيبهم غير المسلمين في الدخول فيه، وذكر ابن سهل في هذا المقام قضية طريفة فيمن قال لامرأة نصرانية أسلمي وأعطيكِ داري هذه، لدارٍ هو فيها ساكن، فأسلمت ثمَّ مات الزوج قبل أن تقبضها المرأة، قال القاضي، الدار لها والإشهاد يجزيها من الحيازة، لأنها ثمن إسلامها، وليس من بابِ العطيِّة.وقد أورد المؤلف روايات تدل على علاقات مختلفة نشأت بين مسلمي ويهود الأندلس منها الحسن ومنها دون ذلك.وذكر من أمثلة العلاقات الحسنة: اعتماد بعض المسلمين على أشخاص يهودٍ في حمل رسائلهم إلى أصدقائهم. يظهر ذلك من رواية الشنـتريني التي تبيِّن وصول رسالة إلى الكاتب أبي المغيرة عبد الوهاب بن حزم من أحد أصدقائه عن طريق يهوديٍّ أوصلها إليه، حيث ردَّ أبو المغيرة على الرسالة بقوله: وأبدأ بحديث اليهودي موصل كتابك.
    أما بالنسبة لتجاوزات بعض المسلمين عن منهج الإسلام في التعامل مع اليهود، فتصورها العديد من الأمثلة التاريخية، نذكر منها قول أبي الحسن بن الزقاق أحد كتاب مملكة بلنسية في غلامٍ يهودي كان يجلس معه وينادمه يوم سبت:
    ينادمني فيه الذي أنا أحببتُ
    وحبب يوم السبت عندي أنني
    حنيفٌ ولكن خير أيامي السبتُ
    ومن أعجب الأشياء أني مسلم
    والملاحظ أنّ المسلمين الذين ارتبطوا بهذا النوع من العلاقات مع اليهود كانوا أهل خمر ومجانةٍ وفسق، فابن الزقاق سالف الذكر يتحدث عن صحبة خمر ومجون مع غلامه اليهودي.
    كما وقعت خلافات ومنازعات بين مسلمين ويهود في المجتمع الأندلسي بعضها يتعلَّق بنواحي دينية، حيث كان بعض اليهود، يتعمدون في إيذاء مشاعر المسلمين الدينية، فيسبون شريعتهم، أو يستهزئون بقرآنهم، أو يذكرون نبيهم محمدا ً-صلى الله عليه وسلم- بسوء، فلا يحتمل المسلمون ذلك، ويردون على هذه الإساءات والتجاوزات ردودا ً عنيفة في بعض الأحيان.
    وبعض هذه الخلافات يرجع إلى منافسات شخصية، منها أنه عندما لمع اسم الطبيب اليهودي إبراهيم بن الثرثار الذي عمل لدى السلطان محمد الخامس في غرناطة، أثارت شهرته حسد الطبيب الغرناطي محمد اللحمي الشقوري، فوضع كتاباً بعنوان قمع اليهود عن تعدي الحدود.
    وهناك خلافات ومنازعات عادية على أملاكٍ وعقاراتٍ ناتجة عن علاقات ومعاملات كانت تحدث بين مسلمي ويهود الأندلس في مختلف العصور، وكانت هذه النزاعات تردّ إلى القضاء الإسلامي فيحكم فيها بالعدل والإنصاف.

    الفصل الخامس
    التنظيمات الإدارية والاقتصادية لليهود في الأندلس

    المبحث الأول

    أولاً: التنظيم الإداري لليهود في الأندلس

    1- رئيس الطائفة اليهودية (الناسي)

    قام الأمير عبد الرحمن الأول (138-172هـ=755-788م)، بتعيين الأمير القوطي أرطباس رئيساً لطائفة النصارى في الأندلس. ومنذ ذلك الحين مال الحكام الأمويون إلى تعيينِ النصارى من ذوي المكانة في هذا المنصب، بناءاً على اقتراحِ أعضاء طائفتهم، وكان رئيس النصارى هذا يحملُ اللقب الروماني قومس (COMES)، ويمثّلُ إخوانه في الدين أمام الحكومة، وكان مسؤولاً عن دفع النصارى للجزية المفروضة عليهم، ويشرف على كلِّ شؤون الطائفة.
    ومثلما قام الحكام الأمويون بتعيين القومس ليكون رئيساً للطائفة النصرانية، قاموا كذلك بإيجاد منصب لقائد الطائفة اليهودية. وكان لقب صاحب هذا المنصب هو"ناسي" (NASI)()، وكان أسلوب تعيينه مشابهاً لتعيين القومس. وفي القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي كان الناسيَّان اللذان تعاقبا على هذا المنصب، وكتب عنهما المؤرِّخ اليهودي إبراهيم بن داود، قد تمَّ تعيينهما من قبل الحكومة، وبناءاً على مبادرتها. وكانت وظيفة الناسي مشابهة لوظيفة القومس، حيث كان يمثِّلُ اليهود أمام الحكام المسلمين، ومسؤولاً عن الجزيةِ المفروضة عليهم، ويقوم بدور كبير القضاة في طائفته. ولم ينس الشعراء اليهود المعاصرون لحسداي بن شبروط، والذين تغنوا به، أن يذكروا سماته وخصاله كقاضي. وعندما عزم حسداي على محاسبة سكرتيره مناحيم بن ساروق، مارس وظيفته ككبير للقضاة، وأصدر حكماً ضده، على الرغم من أنَّ المتهم لم يكن حاضراً.
    وسار أمراء الطوائف على الطريقة نفسها في تنظيم شؤون اليهود، حيث عين كلُّ واحدٍ منهم رئيساً لليهود في إمارته، وظلَّ رؤساء الطوائف اليهودية في الأندلس يحملون أيضاً لقب "الناسي" الذي كان يطلق من قبل على رؤساء اليهود في المشرق. ومنح بعضهم لقباً جديداً هو "الناغيد" معناه المدَبِّر بالعربية، وصار هذا اللقب يطلق على إسماعيل بن نغدلة، وولده يوسف من بعده، اللذان تعاقبا على رئاسة الطائفة اليهودية في غرناطة..
    لكن لقب الناسي كان أكثر تأصلاً في الأندلس، فبعد مدة من الزمن عاد رؤساء الطائفة إلى استخدامه. وكان تعيين أولئك (الناسيم) قد صار ممارسة مقبولة، وظلَّت واجباتهم دونما تغيير. وكما في الأوقات السابقة فإنهم عملوا كممثلين لطوائفهم، وقاموا بمحاولاتٍ من أجل رفاهية الطوائف والأفراد، وكانوا مسؤولين عن دفع الجزية. وقاموا بدور كبار القضاة.
    والظاهر أنَّ منصب الناسي في عصر الطوائف لم يعد مقتصراً على شخصٍ واحدٍ في كلِّ الأندلس، بل صار لكلِّ إمارة أو مملكة ناسيَّاً أو رئيساً لطائفتها اليهودية.فقد شغل رئاسة الطائفة اليهودية في إشبيلية إسحاق بن باروخ البالية الذي عمل أيضاً منجماً لدى المعتمد (461-484هـ=1068-1091م)،. وكان رئيس طائفة بجانة في نهاية القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي هو صاموئيل هاكوهين بن جوزية ، ورئيسهم في أليسانة في أواخر القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي يُدعى ابن ميمون. وقد تولّى هذا المنصب في منتصف القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي في أليسانة أليعازر بن صاموئيل حركا، الذي كان معاصراً للجاؤون عمرام رئيس اليهود في العراق، وقد منح هذا الجاؤون في منتصف القرن التاسع الميلادي لقب (الألوف)، ولقب (روش كالا)، وأصبح من أشهر أساتذة مدرسة أليسانة اليهودية.

    2- كبير الأحبار (الحاخام الأكبر)

    كان المنصب الثاني الذي يلي منصب الناسي في الأهمية هو منصب كبير الأحبار أو الحاخام الأكبر كما سُمّي لاحقاً. وقد شغل هذا المنصب في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر (300-350هـ=912-961م) الحبر موسى بن حنوخ.
    وعند موت موسى بن حنوخ حوالي سنة (360هـ=970م) وانقسم يهود قرطبة إلى جماعتين، الأولى تريدُ أنْ يرث حنوخ بن موسى منصب أبيه والأخرى تُفضل أن يتولّى هذا المنصب الحبر يوسف بن أبي ثور. واجتمع الطرفان في قصر لدى المستنصر الذي حكم بين الطرفين ورشح حنوخ لخلافة أبيه بعد أن رأى أن الغالبية تؤيده.
    بعد وفاة المستنصر قام المنصور بتعيين صانع الحرير يعقوب بن جاو، رئيساً أو ناسياً لليهودِ في الأندلس، ومُنح الناسي الجديد الصلاحيات نفسها التي كان حسداي بن شبروط قد تمتَّع بها.
    أما ابن جاو فقد تبدَّلت أحواله، إذ سخط عليه المنصور، فجرَّده من مناصبه وأودعه السجن، ثم أطلق سراحه، وعاد إلى منصبه، لكنَّه لم يتمكن من استعادةِ نفوذه القديم، بسبب عداء المنصور له.
    ومن المحتمل أنَّ المنصور قام بسجنه لأنه اختلس من أموال الجزية التي كُلِّفّ بجمعها، مات ابن جاو بعد عودته إلى منصبه بمدةٍ قصيرة، وظلَّ حنوخ بن موسى في منصبه الحبري إلى أن توفي سنة (405هـ=1014م). عندما انهارت به منصة المعبد التي صعد عليها، ليشارك في أحد الاحتفالات الدينية.
    أمَّا بالنسبة لمنصب كبير الأحبار أو الحبر الأعظم. فقد عرف من الذين شغلوه غير من ذكروا سابقاً، أبو الفتح أليعازر بن ناحمان بن أزهر الذي كان كبير الأحبار في إشبيلية في مطلع القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، وسعديا بن ميمون بن دنان، كبير أحبار اليهود في أواخر القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، وكان يسمى "الحاخام الأكبر لغرناطة"، وكان ابن دنان شاعراً ومؤرخاً وعالماً تلمودياً.

    3- القاضي:

    وبعد منصب الحبر الأعظم، يأتي منصب القاضي، أو الديَّان كما يسمّيه اليهود، وكان الناسي هو الذي يعيِّن القضاة اليهود في المدن الأندلسية. ولكنَّ هذا النظام تغيَّر فيما بعد، حيث تُظهر فتاوى أحبار اليهود منذ منتصف القرن الحادي عشر الميلادي أنَّ القضاة صاروا ينتخبون انتخاباً. ففي كتاب القوانين ليهودا البرشلوني المؤلف في مطلع القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، هناك قانون يتعلَّق بتعيين القضاة، يتضمَّن توصية بوجوب طاعة القاضي، لأنَّ الطائفة برمتها قد شاركت في انتخابه. ولأنهم صاروا يُنتخبون فإنَّ القاضي اليهودي في الأندلس كان يشار إليه على مدى أجيال عِدَّة باسم "المختار". وكان القاضي اليهودي يتقاضى راتباً من قبل الطائفة.
    لقد منحت السلطات الإسلامية القضاة اليهود الكثير من الصلاحيات المتعلِّقة بإدارة شؤون طائفتهم الخاصة، فقد سمح لهم بالنظر في كافة القضايا المدنية والجنائية، وحتى في الجرائم الكبرى التي كان الحكم فيها يصل إلى الموت. وكان لليهود سجنهم الخاص الذي يودعُ فيه المتهمون الذين ينتظرون النظر في قضاياهم، أو أولئك الذين يرفضون الخضوع لسلطة المحكمة، أي أنَّ السجون الخاصة باليهود كانت تستخدم كوسيلة للإجبار على الطاعة، وقد استفاد القضاة اليهود، وقادتهم من السماح لهم بالنظر في الجرائم الكبرى المتعلِّقة بأبناء طائفتهم في إصدار أحكام شديدة ضدَّ أصحاب المذاهب الدينية الشاذة عنهم. وفي رسالةٍ كتبها إلى رئيس المدرسة التلمودية الفلسطينية يروي الحبر يوسف بن أبي ثور (ت: 403هـ=1012م) بأنَّ جدَّ جَدِّه قد نفَّذ في المحاكم الشرعية اليهودية في الأندلس أربع أنواع من العقوبات الكبرى، ويتحدَّث إسماعيل بن نغدلة عن عقوبات مشددَّة نفذت في الأزمان الخالية. فيقول: إنه في العصور القديمة (في أيام أسلافنا) كان الكفار الميَّالين إلى القرائية يخضعون للجلد، وأن أولئك الذين كانوا يستحقون مثل هذه العقوبة ماتوا أثناء جلدهم. ومثلما كانت عقوبة الموت تنفَّذ ضد المتهمين بالكفر، فقد نفِّذت أيضاً ضد اليهود المتهمين بالتجسس على طائفتهم.
    وكانت الخلافات التي تقع بين مسلم ويهودي في الأندلس تحال إلى المحاكم الإسلامية. أما قضايا اليهود فيما بينهم، فيترك الأمرُ فيها للمتخاصمين، فإمَّا أن يذهبوا إلى المحاكم اليهودية، أو يتوجهوا إلى المحاكم الإسلامية.
    ومن قضاة اليهود في الأندلس، القاضي ناتان الذي كان قاضياً لليهودِ في قرطبة في عهد عبد الرحمن الناصر. وتنازل عن منصبه لموسى بن حنوخ الذي صار كبير أحبار اليهود في الأندلس. والقاضي يوسف بن يعقوب بن سهل، تلميذ الحبر إسحاق بن غياث الذي كان قاضياً لليهودِ في قرطبة من سنة (507هـ=1113م) إلى سنة (517هـ=1123م) أي في عصر المرابطين. كما تولى هذا المنصب في قرطبة أيضاً الشاعر المرموق والعالم التلمودي الشهير أبو عمر يوسف بن صديق، وذلك من سنة (533هـ=1138م) إلى سنة (543هـ=1148م)، أي في أواخر عصر المرابطين، وبداية عصر الموحدين، وقد اعتنق أبو عمر الإسلام في أواخر أيامه، وكان ديفيد بن حجر قاضياً ليهود غرناطة أثناء تولّي إسماعيل بن يوسف لمنصب كبير وزرائها.

    4- الحَزَّان

    ومن المناصب الإدارية داخل الطائفة اليهودية، منصب الحزان، وهو فيهم بمثابة الخطيب يصعد المنبر، ويعظهم. وكان لكلِّ كنيس يهودي حزان خاص، ومن مهماته أيضاً الإنشاد وإمامة المصلين في المناسبات الدينية. واشترط أحبار اليهود أن يكون الحزان متعلِّماً، صاحب سمعةٍ جيِّدة، وصوتٍ جميل، ومجيداً للأناشيد العربية.
    ومن التنظيمات الإدارية المهمة للطوائف اليهودية في الأندلس، وجود مجلس في كلِّ مدينة توجد فيها طائفة يهودية، يشرف على إدارة شؤون الطائفة في المدينة، ويتكوَّن هذا المجلس من سبعة أشخاص، وكان اليهود يسمونهم "الشيوخ"، وهم يصلون إلى هذا المجلس بالانتخاب، ومدة بقاء هذا المجلس سنة واحدة، تحسب بالتقويم اليهودي، وقد أخذ يهود الأندلس هذا التنظيم الإداري عن الرومان الذين اعتمدوا في إدارة مدنهم على مجلسٍ منتخب من أبناء تلك المدن، وقد مارس اليهود هذا التنظيم منذ عهد الحكم الروماني لأسبانيا، وتمسكوا به في عهد القوط، ولم يتركوه إلاَّ بعد أن اشتدَّ عليهم اضطهاد القوط الكاثوليك، ثم عادوا إليه طوال مدة الحكم الإسلامي للأندلس. ومن بين مهمات مجلس الطائفة أو الشيوخ، أن يُشرِّع مجموعة من القوانين، ويطالب اليهود باحترامها والالتزام بها، وكان أحبار اليهود يوصون بطاعة هذه القوانين باعتبارها قائمة على الشريعة اليهودية، وقد سُمِّيت مجموعة القوانين التي يصدرها المجلس (TAKKANOT)، وهي كلمة عبرية، كما سميت أيضاً (الضوابط).

    ثانياً: التنظيم المالي لليهود في الأندلس

    كان ليهود الأندلس تنظيماتهم المالية الخاصة، وإنّ إحدى المهمات الصعبة التي تولاها مجلس الطائفة هي الإشراف على جمع الجزية المقرَّرة على يهود المدينة، وتسليمها للدولة، إمَّا مباشرة أو عن طريق المكلَّفين بجمعها، إضافة إلى جمع الضرائب والتبرعات التي يَفرضها المجلس على يهود المدينة، لتنفق على قضايا عامَّة تتعلَّق بمصلحة يهود المدينة. ومن الضرائب التي تفرضها إدارة الطائفة على يهود المدينة الأندلسية ضريبة (ماؤنا)، وهي تجبى بشكلٍ رئيس من ذبح الماشية، وبيع الخمور، وكتابة محاضر المعاملات. وكانت هذه الضريبة هي المصدر الأكثر أهمية لدخل الطوائف اليهودية الأندلسية على مدى الأجيال. ولذلك خصِّصت لدفع رواتب الأحبار والمعلمين والحزان والقضاة الذين ولكتاب المحكمة، ولمبعوثيها. وكان لليهودِ في كل مدينة أندلسية "صندوق الصدقات"، وكانت أموال هذا الصندوق تدفع إلى الفقراء، والأيتام ولافتداء الأسرى.

    المبحث الثاني: النشاط الاقتصادي ليهود الأندلس

    شارك يهود الأندلس في معظم فروع النشاط الاقتصادي التي عرفته تلك البلاد. فقد اشتغلوا في التجارة الداخلية والخارجية، وفي الزراعة والصناعة، وفي العديد من المهن الأخرى، وقد أتاح لهم المسلمون منذ أن فتحوا الأندلس أن يشاركوا في النشاطات الاقتصادية كافة، ومنعوهم فقط من النشاطات المحرَّمة التي تقوم على الربا، ومن بيع الخمر والخنزير للمسلمين، وفيما يأتي بيان وتفصيل للنشاطات الاقتصادية المختلفة التي عمل فيها اليهود.
    1- التجارة
    أولى يهود الأندلس كغيرهم من يهود العالم، التجارة اهتماماً كبيراً، وعدُّوها الطريق الأفضل لتحقيق الربح الكبير. وقد حَضَّهم على ذلك أحبارهم، إذ وضع العالم التلمودي راب شعاراً لأبناء مِلَّته يقول: "تاجر بمائة فلورين (عملة أوروبية)، تحصل على لحمٍ وخمر، أما إذا استغلَلْتَ هذا القدر نفسه في الزراعة، فأكبر ما تحصلُ عليه هو الخبزُ والملح". وفي رسالة المجمع اليهودي العالمي إلى يهود أسبانيا النصرانية، توصية لليهود بالاهتمام بالتجارة، فقد جاء فيها: "بمقتضى قولكم إنهم يأمرونكم بالتجرُّد من أملاككم، فاجعلوا أولادكم تجاراً ليتمكنوا رويداً رويدً من تجريدِ المسيحيين من أملاكهم".
    وقد عمل يهود الأندلس في التجارة الداخلية، فشاركوا في نقل وتبادل السِّلَع بين مدن الأندلس، وكانت لهم محال تجارية في أسواق المدن التي يعيشون فيها. إضافة إلى متاجر داخل الأحياء اليهودية. وقد خصَّصَ الأندلسيون أسواق مغطاة بسقف خاصة للسِّلع القيِّمة كالذهب والحرير، وتقع غالباً بالقرب من مسجد المدينة الرئيس، وأطلق المسلمون على هذه الأسواق اسم"القيسارية". وعن تجارة اليهود الخارجية يروي الضبيَّ أنَّه كان مع جيش الأسبان في معركة الأرك (591هـ=1195م) "جماعات من تجار اليهود، قد وصلوا لاشتراءِ أسرى المسلمين وأسلابهم، وأعدُّوا لذلك أموالاً فهزمهم الله تعالى، واستوعب القتل أكثرهم، وحاز الموحدون جميع ما احتوت عليه محلتهم الذميمة".
    ويروي الشنتريني نقلاً عن ابن حيان كيف توجَّه تاجرٌ يهودي أندلسي في أعقاب سقوط مدينة بربشتر (456هـ=1064م) إلى هذه المدينة المحتلَّة لافتداء أسيراتٍ مسلماتٍ وردُّهن إلى ذويهنَّ في الأندلس للتربح.
    وكان للتجار اليهود الأندلسيين دور مهم في استمرار الحركة التجارية في البحر المتوسط بين الإمبراطورية الفرنجية في أوربا ودول المشرق، حيث قام هؤلاء التجار بأخذ السلع التي تصل إلى الأندلس من بلاد المشرق، ويحتاجها الأوربيون، وبيعها في بلاد الغال (فرنسا) التي كانت المركز الرئيس الذي تنتقل منه هذه السلع إلى دول أوربا.
    ونقلوا أيضاً المنتجات المصَّنعة في الأندلس، المشهورة بجودتها والتي كان نبلاء الفرنجة يحرصون على إقتنائها. ومن هذه السلع الملابس والمنسوجات الحريرية والقطنية والمنتجات الجلدية، والزئبق والزعفران، والحلي.
    وقد وصل تجار يهود من الأندلس إلى الهند، وجلبوا منها التوابل والجواهر والأحجار الكريمة والفيروز وأنواع مختلفة من الخرز والأصداف.
    وأهم تجارة مارسها يهود الأندلس واحتكروها هي تجارة الرقيق، إذ كانوا يجلبون إلى الأندلس أعداداً كبيرة من الفتيان والفتيات الصغار، يشترونهم من شمال أسبانيا، وبلاد الفرنجة، ومن الدول السلافية، ودول ساحل البحر الأسود، ثمَّ يعرضونهم للبيع في أسواق الأندلس، وكان اليهود يجرون عملية الخصي للعبيد في معظم الأحيان في مكانين رئيسين، الأول في مدينة فيردون من بلاد الغال، وهي مدينة مشهورة بسوق رقيقها. والثاني في مدينة أليسانة. وقد أشار المقدسي إلى هذه المدينة عندما قال: "وأمَّا الصقالبة فإنهم يحملون إلى مدينة خلف بجانة أهلها يهود فيخصونهم".
    النشاط الزراعي لليهود في الأندلس
    أورد الكاتب روايات تتحدث عن نشاط زراعي ليهود الأندلس، ومن ذلك أنهم مارسوا حراثة الأرض، وأنهم زرعوا الحبوب وأشجار الفاكهة وكروم العنب، وأنَّ الفقراء منهم كانوا يعملون عمالاً في مزارع وحقول الأغنياء.
    النشاط الصناعي والمهني لليهود في الأندلس
    اشتهرت الأندلس بتقدم الصناعة، وبين الصناع المسلمين المبدعين، عاش يهود الأندلس قروناً عِدَّة. وحاولوا تقليد المسلمين في الصناعات المتميزة لكنهم فشلوا. ويقدم المقري رواية تبين كيف أبدع عبد الرحمن الزرقال البيلتان اللتان عُدَّتا من غرائب الأندلس، وكيف حاول يهوديٌ أن يسرق سرَّهما. وهما حوضان في جوف النهر الأعظم بطليطلة، "يمتلئان وينحسران مع زيادة القمر ونقصانه. وقد تعطلت البيلتين بعد سقوط طليطلة في يد ألفونسو، وقيل إنَّ سبب فسادهما أن حنين بن ربوة اليهودي المنجم"أراد أن يكشف حركة البيلتين فقال له: أيها الملك، أنا أقلعهما وأردهما أحسن مما كانتا، فلما قلعت لم يقدر على ردِّها.
    ولم يفلح يهود الأندلس إلا في الصناعات التي زهد فيها المسلمون، وذلك كصياغة الذهب والفضة، حيث يشير أحد الأمثال الأندلسية إلى أنّ معظم الصاغة كانوا من اليهود، وإذا تعامل مسلم بهذه الحرفة احتقره الناس وازدروه.
    واهتموا كذلك بالدباغة والصباغة، وتدل أسماء شوارع الأحياء اليهودية القديمة في مدن الأندلس على ممارسة يهود الأندلس لهاتين المهنتين. ففي الحارة اليهودية في إشبيلية، هناك إلى الآن ساحتان تعرفان باسم: "موقع الدباغين".
    وعمل يهود الأندلس في الخياطة والنسيج والأقمشة والدلالة في الأسواق، وفي نسخ الكتب وتجليدها، وأساكفة، وحمالين وكيالين، وفي صناعة الخمور. وامتهنوا العمل في مجال تصنيع الأحذية وإصلاحها في العديد من المدن الأندلسية وخصوصاً في سرقسطة، ومن بين أسماء اليهود من مدينة ليون في بداية القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي يظهر اسم عائلة أشخافا (ASHKHAFA) التي تعني بالعربية "الإسكافي.

    الفصل السادس
    الحياة الثقافية لليهود في الأندلس

    المبحث الأول: التربية والتعليم عند يهود الأندلس

    تأثر يهود الأندلس بالمجتمع الإسلامي بالإقبال على العلم، واتخذ يهود الأندلس بيعهم مدارس لتدريس أبنائهم، وكان أبناء الأثرياء يتعلمون في مدارس خاصة، في بيوت المعلمين الذين يتقاضون أجوراً يدفعها لهم الآباء شهرياً، ويبدأ تعليم أطفال اليهود في الأندلس في سن السادسة، وذلك عملاً بتوجيهات قدماء الأحبار، وكان أبناء اليهود يتعلّمون أولاً القراءة والكتابة؛ بتمرينهم على كتابة كلمات كاملة على ألواح خشبيَّة.
    وكان أولاد يهود الأندلس ينتقلون إلى مرحلة تعليم أعلى عندما يبلغون سن العاشرة، حيث يدرسون الشريعة الشفوية، والنابهون من الأولاد يُعَلَّمونَ اللغة العبرية، بقراءة نصوص من أعمال أدبية وشعرية لكتاب وشعراء من يهود الأندلس، ورغم ذلك كانت اللّغة السائدة بين يهود الأندلس، هي اللغة العربية.
    وقد تذَمَر سليمان بن جابيرول وموسى بن جقطلة من الافتقار إلى المعرفة باللغة العبرية بين اليهود الأندلسيين، وكان سليمان بن يوسف بن يعقوب الطبيب السرقسطي قد أظهر غيظه من علماء يهود الأندلس الذين كانوا جميعاً يكتبون ملاحظاتهم وردودهم باللغة العربية، بحجة أنها اللغة التي يفهمها جميع اليهود.
    واهتم اليهود بتعليم أولادهم اللغة العربية وذلك لأنها لغة العلم والثقافة في الأندلس، ومن لا يتقنها، لا يستطيع أن يكمل الدراسة في المعاهد اليهودية التي كان باللغة العربية.
    ودراسة التلمود هي أعلى مرحلة في التَّعليم، وهي موجهة أساساً إلى المثقفين ثقافةً عاليةً. وكان الأولاد يصلون إلى دراسة التلمود عندما يبلغون الثالثة عشرة. وكان التعليم مقتصرُ على الأولاد فقط، أما الفتيات فقد كنَّ يتعلّمن الغزل وبقية صنوف العمل المنزلي في بيوتهنَّ على أيدي أمهاتهنَّ. وتعليم الفتيات كان سطحيّ وضئيل.
    كانت مدرسة التلمود في أليسانه هي المدرسة التلمودية الأفضل في الأندلس في القرن 3هـ=9م، ولكن في القرن 4هـ=10م وبعد وصول الحبر موسى بن حنوخ إلى الأندلس تفوقت عليها مدرسة قرطبة. وذلك بسبب جهود حسداي بن شبروط وموسى بن حنوخ في تطويرها.
    وفي النصف الأول من القرن 5هـ/منتصف القرن 11م، كانت هناك مدارس تلمودية في عدد من مدن الأندلس، وكان معلمو التلمود في الأندلس مشهورين بحسن طرقهم في التدريس، فتركوا المناقشات الخلافية بين العلماء، واعتمدوا على تدريس ردود أحبار العراق، التي تميزَّت بالوضوح. كما غادر بعض الطلاب لتتلمذ على أيدي أحبار مشهورين يقيمون في بلدان أخرى، ومنهم الحبر رابينو غيرشون الذي كان يقيم في ألمانيا.
    وكان الطُلاَّب اليهود ذوي الميول نحو العلوم والأدب، يدرسون على أيدي معلمين مسلمين. ومن هؤلاء اليهود إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الإشبيلي، الذي تلَّقى قواعد اللغة العربية على أيدي الأساتذة المسلمين أمثال أبي علي الشلوبين، وأبي الحسن الدباج، واصبح شاعراً وباللغة العربية بارعاً. وكان الطلاب اليهود يجلسون في حلقاتِ العلمِ جنباً إلى جنب مع الطلاَّبِ المسلمين. ويفاخرون بمعرفهم بالنحو العربي.
    وقد اهتم العلماء اليهود بالجانب النظري التربوي فناقشوا هذه المسألة في كتاباتهم ومؤلفاتهم، إذ تطرَّقَ موسى بن ميمون في كتابه "كتاب المعارف" للطرق التي يمكن بواسطتها دراسة الشريعة اليهودية.
    وكتب الحبر يهودا بن صاموئيل بن عباس المعروف لدى المسلمين بأبي البقاء بن يحيى بن عباس المغربي الأندلسي رسالة حولَ التعليم. وتظهر الآراء التربوية لأبي البقاء من خلالِ ما سجله ابنه السموءل بن يحيى بن عباس في كتابه: "بذل المجهود في إفحام اليهود" الذي ألَّفه بعد أن أسلم، وكتابه "الباهِرُ في الجبر".
    وفي التربية النظرية أيضاً، ألَّفَ الحبر اليهودي يوسف بن أكنين كتاب "طب النفوس" باللغةِ العربية، وكتبه بالحروف العبرية، وتحدث فيه عن المعلم المثالي، والتلميذ النجيب. وأَفردَ الفصل السابعِ عشر لفضائل المعلم والتلميذ.

    المبحث الثاني : النشَّاط اللغوي والأدبي لليهودِ في الأندلس.

    كانت اللغة العبرية زمن الفتح الإسلامي للأندلس لغة مهملة، وكان كثير منهم لا يفهمون الترانيم والطقوس التي يؤدونها بها، ولذلك كانوا يستمعون إلى التوراةِ في بِيَعهم مترجماً إلى الآرامية.
    وقد ظلَّت اللغة العبرية في جميع البلدان التي تَفرَّق فيها اليهود، على حالها من الترك والإهمال إلى أن اختلط اليهود بالمسلمين، وتعلَّموا اللغة العربية وقواعدها وآدابها، ورأوا كيف يخدم المسلمون لغتهم لأنها لغة القرآن الكريم. فقرَّروا خدمة لغة كتبهم المقَدَّسة، بوضع قواعد لها على طريقة المسلمين. وكان النحو العبري قد نشأ في العراق على يدي سعديا بن يوسف الفيومي ت:279هـ=892م، إلا أنَّ الدراسات النحوية واللغوية لم تنهض وتزدهر إلا على أيدي يهود الأندلس. وأوَّل عالمٍ لغوي نحوي ظهر في الأندلس هو "مناحيم بن ساروق الطرطوشي 298-349هـ=910-960م الذي اتَّصل بحسداي بن شبروط وزير الخليفة عبد الرحمن الناصر وصار سكرتيراً له. وأهم أعمال مناحيم اللغوية، المعجم العبري "محبريت" أي التفسيرات، ويُعدُّ أوّل عملٍ لغوي يغطّي جميع مفردات الكتاب المقدَّس. أفاد منه علماء اليهود في أوروبا، فقاموا بدراساتٍ لغويةٍ مستفيضة، لأنه أول كتاب نحوي باللغة العبرية.
    وهناك معاصر لمناحيم يدعى دُوناش بن لَبْراط هاليفي، تعلم على يدي سعديا الفيومي، ودرس اللغة العربية والأدب العربي دراسة مكَّنته من معرفة فنونه. وسافر إلى قرطبة، وسرعان ما لمع اسمه بين المثقفين اليهود فيها قرطبة، فكان يكتب الشعر باللَّغةِ العبرية على بحور الشعر العربي، ووقعت النسخة الأصلية من كتاب مناحيم "التفسيرات" في يدِ دوناش، فَقرأه، وكتب له نقداً سمَّاه "الردود" ويعدُّ أوّل كتاب شعرٍ تعليمي نحوي في الأدب العبري. وكان لكلٍّ من مناحيم ودوناش تلاميذ، وكلُّ فريق يناصر أستاذه، ويدافعُ عنه بأسلوبٍ جدليٍّ علمي كان له أثر كبير في تقدم دراسة النحو واللغة، وتكوَّنت لكل منهما مدرسة، وكانت المجادلات بين تلاميذ كلّ مدرسة مستمرة.
    استمرَّ النحو العبري بالتطوُّر على يدي أحد تلاميذ مناحيم بن ساروق، وهو أبو زكريا بن داود المشهور بيهودا بن حيوج، وقد نال الشهرة في نهاية القرن 4هـ/10م، وكان له تلاميذ كثر، من بينهم إسماعيل بن نغدلة ومروان بن جناح. ويقول آشتور: "كان أبو زكريا حيوج مشهوراً بذهنه التحليلي، أوضح بأن الأفعال العبرية ثلاثية الجذور أيضاً. وذلك اكتشاف غاية في الأهمية. وأهمّ مؤلفات حيوج: "كتاب حروف اللِّين، و"الأفعال ذوات المِثْلين".
    بعد موت حيوج برز في مجال النحو العبري أحد تلاميذه النُّجباء، وهو أبو الوليد مروان بن جناح، ويُسمّى بالعبرية "الحاخام يوحنا". ويسمّيه النصارى "يونا" أو مرينوس MERINOS. ومن أهمِّ مؤلفاته كتاب "المستلحق" و"التشوير" و "التنبيه" ورسالة "التقريب والتسهيل" و "التسوية" و "التنقيح" الذي يُعَدُّ أهمّ مؤلفاته على الإطلاق. وقد أَلَّفه وهو في سنَّ الشيخوخة. وتأتي أهمية مؤلفاته أنَّ معظمها أسهم في خدمةِ اللغة العبرية المعاصرة، فترجمت إلى العبرية ونشرت، وكان معظمها أُلف بالعربية، واستخدمت الحروف العبرية في كتابتها.
    لقد أحدثت مؤلفات حيوج وابن جناح من بعده نهضةً لغويةً في دراسة اللغة والنحو العبري. واستمرَّ عدد من العلماء الذين جاءوا من بعدهم في الدراسة والبحث، ومن أشهر هؤلاء العلماء: إسماعيل بن نغدله 383-447هـ=993-1055م، وسليمان بن جابيرول 414-463هـ=1023-1070م صاحب الكتاب النحوي الشعري المختصر، ويهودا هاليفي صاحب الكتاب المشهور كوزاري.
    ويُعَدُّ أبراهام بن عزرا أوّل من نقل المعارف النحوية التي نضجت في الأندلس إلى أوربا، بواسطة مؤلّفاتٍ لغويةٍ عِدَّة ألَّفها باللَّغةِ العبرية التي يفهمها المثقفون اليهود هناك، وقد حذا حذوه تلميذه سليمان بن برحون.
    أمَّا في المجال الشعري، فقد نهض يهود الأندلس بالشَّعر العبري، ونقلوه إلى مستوى لم يعرفه الأدب العبري من قبل، فبعد أنْ كان مقتصراً على المجال الديني، وخالياً من الوزن أو القافية صارَ موزوناً متعدّدَ الأغراض.
    وأوردت المصادر التاريخية والأدبية الإسلامية نماذج من الأشعار التي قرضها الشعراء اليهود في الأندلس، نذكرُ بعضاً منها، حتى يتبين أثَر الأدب العربي والثقافة الإسلامية في فكرِ وذوقِ وفنِّ هؤلاء الشعراء.
    يقول نسيم الإسرائيلي:
    يا ليتني كنتُ طـيراً أطيرُ حتى أراكـا
    بمن تَبدّلتَ غـيرى أولم تحلْ عن هواكا.

    ويقول إسحاق بن شمعون اليهودي القرطبي:
    والعودُ عن داعي المَسرَّةِ قد نُطَـقْ قُمْ هاتِ كأسَكَ فالنعيمُ قد اتَّسقْ
    في الخزِّ يْمرَحُ كالأراكةِ في الوَرَقْ ولديك مَنْ حثَّ الكؤوسَ أزاهراً
    ويقول إسماعيل بن نغدله:
    يا غائباً عن ناظري لـم يغب عن خاطري رفقاً على الصَّبَّ
    فماله في البـعد مـن سـلوهٍ ومالـه سؤل سـوى القـربِ

    وكان صاحب أروع شعرٍ هو أبو إسحاق إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الإشبيلي ت: 649هـ=1251م، الذي حار أهل زمانه في حقيقةِ ديانته. يخفيها صدر هذا الرجل. فقد كتب ابن سهل جُلَّ أشعاره في فتى يهودي اسمه موسى كان يحضر الدروس في حلقاتِ الأساتذةِ المسلمين، حيث رآه ابن سهلٍ فعشقه. ويعتقدُ أنَّ ابن سهل اتخذ اسم الفتى رمزاً لليهوديةِ التي يُخفيها في صدره وساعده على ذلك أنَّ اسم الفتى على اسم النبيّ موسى عليه السلام.
    ويستدلُّ أصحاب هذا الرأي على صِحَّةِ رأيهم بكثيرٍ من أشعاره في ذلك الفتى مثل قوله:

    أموسى ولم أهجرك والله إنـمّا هجرتُ المُنى واللُّبَّ والأنس والصَّبرا
    تركتك لا نقضاً لعهدي بل أرى حياتي ذنـباً بعـد بُعْـدِكَ أو غـدْرا

    أدير عليه الخـمر والأدمـع الحُـْمرا قنعتُ على رغمي بذكرِكَ وحـده
    وقوله:
    ويعذلني العـواذِلَ فيـه جـهلاً عزيـزٌ ما يـقـولُ العـاذلانِ
    فقالوا: عبد موسى، قلت: حقاً فقالوا: كيف ذا ؟ قلت اشتراني
    فقالوا: هل رضيتَ تكون عبداً لقد عرَّضـتَ نفسـك للهـوانِ
    فقلت: نعم أنـا عـبدٌ ذلـيـلٌ لمنْ أهوى فخلّـوني وشـأنـي.

    ويستشهدون على تظاهره بالإسلام من شعره الماجن، فاستخدم الآيات القرآنية للتعبير عن معانٍ إباحيَّةَ. كقوله:
    لقد كنتُ أرجو أن تكون مواصلي فأسقيتني بالبُعْدِ فاتحـة الرَّعْـدِ.
    فبالله برَّد ما بقلبـي من الجـوى بفاتحةِ الأعرافِ من ريقِكَ الشَّهْدِ.

    وهناك من يرى أنَّ ابن سهل قد أسَلَمَ بالفعِل، لكنَّه لم يكن متديناً ملتزماً، مستدلين على صحة رأيهم بأشعاره كقوله:

    تسلَّيتُ عن موسى بحُبّ مُحمَّدٍ هُديتُ ولولا الله ما كٌنتُ أهتدي
    وما عن قِلىً قد كان ذاك وإنَّما شريعةُ موسى عُطلَّت بمحمَّدِ.

    ولا يكفي أن نستدلَّ على إسلام ابن سهل بقصيدته الحجازية، لأنَّ يهود الأندلس كانوا يخالطون المسلمين في مجال العلم، ودراسة العربية، وحفظ القرآن، وإن لم ينتحلوا الإسلام ديناً.
    مات ابن سهل غريقاً في البحر في سنَّ الأربعين، فقيل: عادَ الدُّرُّ إلى وطنه. وعن موته يقول المقري: "وقد روينا أنه مات مسلماً غريقاً في البحر فإن كان حقَّاً فالله تعالى رزقه الإسلام في آخر عمره والشهادة".
    ويرى الكاتب أن الذي يُفهم من سيرةِ ابن سهل أنه كان أبعد ما يكون عن الالتزام بالإسلام. ولذلك لابدَّ من التريث والحذر والتدقيق قبل إصدار الحكم في قضيَّة تتعلق بإسلام يهودي.
    أما بخصوص الشعر العبري، فقد كان مناحيم بن ساروق من أوائل المبدعين فيه، وأفضل شعراء عصره، وقد كتب قصائد عِدَّة في مدح حسداي بن شبروط.
    أما دوناش بن لبرط، فهو صاحب الانقلاب الكبير في الشعر العبري، حيث دعا من مدينة قرطبة الشعراء اليهود أن يزنوا أشعارهم طبقاً للبحور العربية فتعرَّض لنقد عنيفٍ من بعض الشعراء اليهود أمثال إسحاق بن قبرون.
    وأحدث ابن لبرط تطويراً على الشعر العبري فأضاف أغراضاً جديدة كالإخوانيات والخمريات والوصف والهجاء.
    ولم يهمل يهود الأندلس الشعر الديني "بيوطيم"، ومن الذين كتبوا في هذا الشعر مستخدماً البحور العربية إسحاق بن مرشاءول وهو من علماء أليسانه، وتلميذ مروان بن جناح. ومن أشهر قصائده الدينية تلك التي يبدأها بقوله:
    إلهي لا تحاسبني حسب خطاياي ولا تَكِلْ لي حسب أعمالي
    اشملني بفضلك لأحيا يا رب لا تعاقبني على خطاياي
    لقد كان ابن مرشاءول ذو قابليةٍ فذَّة كشاعر، وقد كتب أيضاً شعراً دنيوياً، وتَعْرِضُ أشعاره إلى أفكارٍ جديدةٍ.
    كما ظهر في أواخر القرن 4هـ/10م لأوَّل مرَّة في تاريخ الأدب العبري أدبُ الكدية، احترفه الشاعر إسحاق بن خلفون، فكان يتنقلُ بين مُدن الأندلس مادحاً من يغدق عليه، وهاجياً من يمسك عنه.
    وكان لابن خلفون دوراً مهماً في تطوير الشعر العبري في الأندلس، فبعد أن أدخل دوناش الأوزان العربية إليه، تبنى الشعراء اليهود في ختام القرن 4هـ/10م أغراض الشعر العربي، فتواصل تطور الشعر العبري.
    وظهر تعدد الأغراض في الشعر العبري في عصر الطوائف فقد طعم إسماعيل بن نغدله الشعر العبري بفنونٍ جديدة من الأدب العربي، كالشِّعر القصصي والخمريات والإخوانيات والغزل ووصف المعارك ووصف الطبيعةِ والرثاء.
    ومن شعراء القرن 6هـ/12م أيضاً يهوذا بن صاموئيل اللاوي 468-536هـ=1075-1141م من أليسانة. ويعتقد كثير من اليهود أنه أحسن من نظم شعراً بالعبرية. وقد ترك ثروة أدبيةً في المجال الديني والأدبي والفلسفي.
    وقام يهودي اسمه عليزار بن يعقوب 566-630هـ=1170-1232م بترجمة كتاب "كليلة ودِمنة" إلى اللغة العبرية. فأقبل اليهود على قراءته، وأحبَّوا هذا النوع من القصص الخرافية، وألف اليهودي الأندلسي يوسف زبارا 535-597هـ=1140-1200م كتاباً باللغة العربية، يحتوي على العديد من القصص والأساطير الممتعة، وسّماه كتاب "البهجة والسرور". وقد قام يوسف قمحي بترجمته إلى العبرية بأسلوب شعري.
    كما ألَّف سليمان بن جابيرول كتاباً في الأمثال والحكم سمّاه "مختار اللآلئ"، وفيه عدداً كبيراً من الأمثال والحكم، نقل كثيراً منها عن أمثال العرب وحكمهم. ويُعدُّ بداية لظهور هذا الفنّ في الأدب العبري.
    وفي هذا القرن أيضاً، عرفت العبرية نوعاً جديداً من الأدب لأوَّلِ مرَّةٍ، على يدِ سليمان بن صقبل، وهو فنُّ المقامات. وبذلك صار اليهود يقرأون باللغة العبرية فَنَّاً طالما تمنَّوا أن يجدوه في أدبهم. وقلده أبو زكريا يحيى بن سليمان بن شاؤول الحريزي، أو يهوذا بن سليمان الحريزي. آخر شعراء النهضة الأدبية اليهودية في الأندلس.

    المبحث الثالث: النشاط الفكري والعلمي لليهود في الأندلس

    أولاً: العلوم الدينية: برز نشاط ابن شبروط في جلب الكتب، وأرسل إلى علماء اليهود المشهورين من يدعوهم ويَعِدُهم ويشجعهم على القدوم إلى الأندلس، وكان الحبر اليهودي الإيطالي موسى بن حنوخ قد نقل إلى الأندلس العلوم التلمودية، والسن اليهودية المعروفة في إيطاليا، وتخرج على يديه العديد من التلاميذ، وكان الحبر الأعظم لأليسانة هو إسحاق بن غيَّاث ت: 482هـ=1089م، وهو أستاذ متبحِّرٌ في التفسير والفقه اليهودي، وكان للعالم التلمودي المغربي إسحاق الفاسي 404-496هـ==1013-1102م أثرٌ كبيرٌ على تطور الدراسات التلمودية، وقد عَدّه اليهود خليفة الأحبار المشرقيين، ويُعدَّ كتاب "التلمود المختصر" أعظم أعمال إسحاق الفاسي، حيث اختصر فيه التلمود، وسجل في مختصره ما يعتقد أنه مهمٌّ ومفيد، فسَهَّل على الطلاب استيعاب العلوم التلمودية.
    وكانت إشبيلية هي المركز الآخر بعد أليسانة التي انطلقت منها دراسة التلمود، وكان الحبر إسحاق الباليا المعاصر للفاسي فاعلاً جداً هناك، وقد كتب بحوثاً عدة عن قانون التلمود، تحتوي على كثير من التحليل والنقد والتفسير.
    وكان أبو زكريا يحيى بن صاموئيل بن بلعام، أو "يهودا"، حسب اسمه العبري، أحد علماء اليهود التلموديين في الأندلس، وفي إشبيلية وضع أهم مؤلفاته الدينية، وهي تفسيراتٌ للتوراة باللغة العربية، وكان جريئاً في كتابته، إذ انتقد كثيراً من آراء المشاهير قبله أمثال سعديا وإسماعيل بن نغدله.
    ومن علماء اليهود التلمودين أبو الحسن اللاوي، أو يهودا اللاوي، وقد عاش في الأندلس خلال المدة من 468-536هـ=1075-1141م، وهو صاحب كتاب "الحجة والدليل في نصر الدين الذليل".
    وكان أشهر عالم على الإطلاق أنجبه يهود الأندلس هو موسى بن ميمون، الذي يسميه العرب موسى بن ميمون عبيد الله، ويسميه الأوربيون "ميمونيدس"، ويختصر اليهود اسمه إلى "رمبم"، يقول إسرائيل ولفنسون: "ولسنا نعلم رجلاً آخر من أبناء جلدتنا غير ابن ميمون، قد تأثرَّ بالحضارة الإسلامية تأثراً بالغ الحد، حتى بدت آثاره، وظهرت صبغته في مدوناته، من مصنفات كبيرة ورسائل صغيرة".
    مات موسى بن ميمون في مصر سنة 601هـ=1204م، ثمَّ نُقلت عظامه إلى طبرية حسب طلبه قبل موته، وقد كُتب على قبره هناك بالعبرية ما ترجمته: "دُفن في هذا القبر موسى بن ميمون الطريد المحروم الكافر".
    ويروي ابن العبري أنه رأى جماعة من يهود بلاد الفرنج بأنطاكية وطرابلس، يلعنونه ويسمونه كافراً؛ وقد دفع ذلك بالبعض للقول بأن موسى بن ميمون قد أسلم في أواخر أيامه، لكن اليهود في وقتنا الحالي يرفضون ذلك، إذ يقول ولفنسون عن العبارة السابقة التي على قبره أنها من وضع أعدائه، وأن هناك عبارة أخرى على القبر هي: "دفن في هذا القبر معلمنا موسى بن ميمون مختار الجنس البشري"، وأنّ هاتين العبارتين المتناقضتين تعبران عن الخلاف بين طائفتين يهوديتين متنازعتين حول شخصية موسى بن ميمون.
    ولا يعرف شيء عن الكتابات الدينية لليهود في سلطنة غرناطة المسلمة في عهد سلاطين بني نصر، غير أننا نعرف أنه كان هناك عدداً من العلماء والكُتَّاب أمثال يهودا بن طيبون، وسعديا بن ميمون بن دنان، وسليمان بن جوزيف بن أيوب، وإبراهيم سينيور، وسليمان بن فيرغا.
    وقد تأثر الفكر الديني اليهودي بالفكر الديني الإسلامي تأثراً كبيراً، يقول اليهودي نفثالي فيدر في كتابه "التأثيرات الإسلامية في العبادة اليهودية": "إن الديانة اليهودية تأثرت تأثراً عظيماً بالبيئة الإسلامية وكان الوضوء من بين العبادات التي قلدوا فيها المسلمين فاليهود الذين عاشوا في أرض الإسلام صاروا يغسلون أقدامهم تقليداً للمسلمين.
    ثانياً: الجدل الفكري بين المسلمين واليهود في الأندلس: وقعت في الأندلس العديد من المجادلات الفكرية بين المسلمين واليهود، وقد ساعد على حدوث هذه المجادلات، الحرية الفكرية التي توفرت لهم، وإتقانهم للغة العربية، وحصول بعضهم على مناصب حكومية مهمة، ورغبتهم في الحفاظ على معتقداتهم التي يمكن أن يؤثر عليها فكر المسلمين وعقيدتهم. ومن أهم المجادلات ، هي المجادلة بين ابن حزم الأندلسي 384-456هـ=994-1063م وإسماعيل بن نغدله، فكتب ابن حزم "فصل في مناقضات ظاهرة وأكاذيب واضحة في الكتاب الذي تُسَمِّيه اليهود التوراة"؛ وقد رد ابن حزم على ابن نغدله في رسالة خاصة نشرت تحت عنوان: "الرد على ابن النغريلة اليهودي".
    ويروي المقري: "سمع يهودي بالحديث المأثور "نِعْمَ الإدام الخل"، فأنكر ذلك حتى كاد يُصرِّح بالقدح، فبلغ ذلك بعض العلماء، فأشار على الملك أن يقطع عن اليهود الخل وأسبابه سنة، قال: فما تمَّت حتى ظهر فيهم الجذام".
    وكان للسموءل المغربي الأندلسي، بعد إسلامه دورٌ في مناظرة اليهود، وله كتاب "بذل المجهود في إفحام اليهود".
    ثالثاً: الفلسفة: الفلسفة اليهودية ظهرت للوجود بصورة واضحة أثناء العصر الوسيط، أي في ظل الحكم الإسلامي، حيث شعر اليهود لأول مرة في تاريخهم بالأمن والطمأنينة. وأول شخصية بارزة مشهورة تمثل الفلسفة بين اليهود الأندلسيين هو سليمان بن جابيرول، ومن الفلاسفة المشهورين في القرن 5هـ/11م يحيى بن يوسف بن باقودا، الذي عاش في سرقسطة، وكتابه الرئيس في الفلسفة كان بعنوان "الهداية إلى فرائض القلوب"، وكان يهودا هاليفي أو اللاوي 478-543هـ=1085-1148م له "كتاب الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل" قلد فيه الغزالي في تصديه للفلاسفة، وكتبه بالعربية، وترجمه يهودا بن تبون أخيراً إلى اللغة العبرية؛ وكان موسى بن ميمون 530-601هـ=1135-1204م أشهر فيلسوف يهودي عرفته الأندلس، ويمثل كتابه "دلالة الحائرين" ذروة التفكير اليهودي الفلسفي الذي تأثر بالفكر الإسلامي في القرون الوسطى. وقد كُتب الكتاب باللغة العربية، ثم تُرجم إلى العبرية واللاتينية.
    رابعاً: التاريخ والجغرافيا: من الملاحظ أن يهود الأندلس لم يهتموا بكتابة التاريخ، فعلى مدى القرون الثمانية التي عاشوها تحت حكم المسلمين في الأندلس لم يبرز منهم في هذا المجال إلا مؤرخ واحد هو إبراهيم بن داود 504-576هـ=1110-1180م؛ وفي الكتاب التاريخي الوحيد الذي كتبه بعنوان "هكبالاّ" بمعنى "التصوف"، لم يتناول ابن داود التاريخ الأندلسي، بل ركز على تاريخ كتابة التلمود، وكيف انتقلت السلطة الروحية ليهود من المشرق إلى المغرب، وقد عرض في كتابه روايات تتعلق بالحياة الاجتماعية ليهود الأندلس.
    كما أشتهر دوناش ابن لبراط بين اليهود باطلاعه الواسع على التاريخ اليهودي، ويظهر كتاب "المحاضرة والمذاكرة" لموسى بن يعقوب بن عزرا اهتماماً كبيراً منه بالتاريخ إذ يحتوي على معلومات تاريخية كثيرة.
    وعلى طريقة الرحالة والجغرافيين المسلمين قام أفراد من يهود الأندلس برحلات إلى دول عديدة، وألفوا كتباً عن رحلاتهم، دونوا فيها كثيراً من المعلومات التاريخية والجغرافية المهمة.
    ومن أوائل الرحالة اليهود إبراهيم بن يعقوب الإسرائيلي الطرطوشي الذي عاش في القرن 4هـ/10م، وكان تاجراً للعبيد تجول في جنوب ألمانيا سنة 335هـ=965م، وقابل الإمبراطور أوتو. وترك إبراهيم رحلة مدونة تُعدُّ اليوم في حكم المفقود، وقد أمكن التعرف عليها من خلال النقول الكثيرة منها عند كلٍّ من البكري والقزويني. ورحلته تحتوي على معلومات شيقة ومفصلة عن إمارات الصقالبة في أوروبا الوسطى، كبلغاريا وبولندا والتشيك، وأورد تفاصيل واسعة عن بعض المدن الساحلية أو القريبة من الساحل بفرنسا وهولندا وألمانيا.
    ومن الذين كتبوا في هذا المجال أيضاً بنيامين التطيلي المتوفى سنة 586هـ=1190م، الذي ألف كتاباً بعنوان "همساعوث" أي "الرحلات".
    خامساً: الطب: اهتمَّ يهود الأندلس بتعلم الطب، وعدُّوه وسيلةً للكسبِ وللحصول على مناصب رفيعة لدى حكام الأندلس وأمرائها؛ وقد تعلم معظم الأطباء اليهود الأندلسيين في المعاهد الإسلامية، على أيدي الأطباء المسلمين الذين تفَوقوا في هذا المجال، وأكثروا فيه التأليف. يظهر ذلك من خلال قائمة تراجم الأطباء الأندلسيين التي أوردها ابن أبي أصيبعة في "عيون الأنباء".
    ومن أطباء اليهودِ في الأندلس يحيى بن إسحاق الذي استوزره عبد الرحمن الناصر، وذكر له ابن أبي أصيبعة كتاباً في الطب دون إشارةٍ إلى اسمه أو محتواه. وإسحاق بن قسطار الذي خدم مجاهد العامري مؤسس إمارة دانية؛ وابن بكلارش الذي خدم بطبِّه أمراء بني هود في الأندلس، فقد أَلف كتاب "المجدولة" في الأدوية المفردة، وأهداه إلى المستعين بالله أبي جعفر بن أحمد بن المؤتمن بالله بن هود؛ وأبو الفضل بن حسداي، والطبيب اليهودي إسماعيل بن يونس الذي كان بصيراً بالفراسة محسناً لها، وهو من أهل المرية؛ وأبو أيوب سليمان بن المعلم الإشبيلي، وأبو الحسن ماير بن قمنال، اللذان كانا طبيبين لبعض حكام المرابطين؛ وإلياس بن المدور الرُّندي الذي عاش في القرن 6هـ/12م؛ ومروان بن جناح صاحب كتاب "التلخيص"، الذي تكلَّم فيه عن الأدوية، وحدَّد مقادير الأوزان والمكاييل المستخدمة في صناعتها؛ ومنجم بن الفوال الذي قال عنه ابن أبي أصيبعة: "من سكان سرقسطة، وكان متقدماً في صناعة الطب"؛ ويحيى بن الصائغ الذي كان طبيباً خاصَّاً لبني الأحمر في أواخر القرن 8هـ/14م؛ وأبراهام بن الثرثار الذي كان طبيباً في بلاطٍ محمد الخامس النصري، والذي أثارت شهرته حسد الطبيب الغرناطي محمد اللحمي الشقوري، فوضع كتاباً بعنوان "قمع اليهود عن تعدّي الحدود"، وعندما خُلع محمد الخامس، وانتقل إلى المغرب عام 760هـ=1359م، لجأ ابن الثرثار إلى قشتالة، ومن هناك انتقل إلى المغرب، واتصل بسلطانه المخلوع، ثم عادَ معه إلى غرناطة.
    وأشهرُ عالمٍ يهوديّ كتب في الطب، واشتهر به، وتأثر بأطباء المسلمين هو موسى بن ميمون الذي تعلَّم الطب على أيدي المسلمين في الأندلس والمغرب، ومارسه في مصر، ووضع فيها مؤلفاته الطبيعة التي بلغت عشراً، بين مقالةٍ ورسالةٍ دُوِّنت جميعها بالعربية، منها اختصار الكتب الستة عشر لجالينوس، والذي يسمى كتاب "المختصر"، ومقالة في البواسير وعلاجها، ومقالة في السموم والتحرز من الأدوية القَتاَّلة، ومقالة في تدبير الصحة ألفها للملك الأفضل بن صلاح الدين الأيوبي، وكتاب "شرح أسماء العقار".
    أمَّا أكبر رسائله الطِّبية شهرةً فهي "فصول موسى" وتشمل على 1500 قانون طبي، استخلصت من مُصَنَّفاتِ جالينوس وقد تُرجمت إلى العبرية واللاتينية.
    والجديرُ بالذَّكر أن بعضاً من أَطبَّاء اليهود في الأندلس لم يلتزموا بأخلاق مهنتهم، وتعمّدوا في تسميمِ وقتل بعض مرضاهم من المسلمين.
    وقد أثَّرت مثل هذه التجاوزات على سمعة الأطباء اليهود لدى مسلمي الأندلس، وقام الفقهاء بتحذير المسلمين منهم.
    سادساً:الفلك والرياضيات: وفي الأندلس نبغَ عدد من اليهود في الفلك والرياضيات، وذلك بسبب وجود الأساتذة المسلمين الكبار الذين تتلمذ اليهود وغيرهم على أيديهم، أمثال مسلمة بن أحمد المجريطي وأصبغ به السمح وأبو القاسم الصفَّار وابن زيدٍ القرطبي وإبراهيم بن يحيى النقَّاش المعروف بالزرقبال المتوفى عام 480هـ=1087م. ومن مشاهير وأوائل اليهود في الأندلس في علم الفلك "حنان"، صاحب كتابٍ مطوّل في الفلك. وأبو الفضل حسداي بن يوسف بن حسداي، وأبراهام بن يحيى ت: 531هـ=1136م، وأبراهام بن عزرا 486-563هـ=1093-1167م، فقد أَلَّف في الفلك والتنجيم كتباً عدة، وإسحاق بن باروخ البالية الذي عمل فلكياً لدى المعتضد 415-462هـ=1024-1069م، ويتحدَّث آشتور عن علم الفلك عند يهود الأندلس فيقول: "وكان حساب "الدورات" في التقويم اليهودي قد حدَّده حسن بن مارحسن، وهو فلكي يهودي من قرطبة، وقد قام به بالتوافق مع نظام الفلكي العربي الشهير البتاني. وفي منتصف القرن 11م كان ثَّمة عدد لا يستهان به من مفكري اليهود في الأندلس فلكيين، وقد اعتمدوا جميعاً على جداول ودراسات المسلمين".
    أمَّا في مجال الرياضيات فقد اقتصرت معارفهم ببعض المحاولات التي تخدم قضاياهم الدينية، وبرز فيها عدد منهم أمثال إبراهيم بن يحيى الذي ألَّف كتاباً في المساحات والمقاييس، وأبراهام بن عزرا الذي ألَّف كتاب في خواص الأعداد العشرة الأولى وكتاب في المقاييس الهندسية. والسموءل المغربي الأندلسي الذي ألَّف "كتاب القوافي في الحساب الهندي"، وكتاب "إعجاز المهندسين"، وكتاب "المثلث القائم الزاوية"، وكتاب "الباهر في الجبر".

    المصدر: http://www.paldf.net/forum/showthread.php?t=257647
    [/align]
  • Aratype
    مشرف
    • Jul 2007
    • 1629

    #2
    ابن ميمون كان عربيًا... صورة أخذتها لتمثال ابن ميمون في الحي اليهودي في قرطبة !

    تعليق

    يعمل...
    X