كليلة ودمنة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ladmed
    عضو منتسب
    • Jun 2006
    • 275

    كليلة ودمنة

    كليلة ودمنة
    لابن المقفع
    أهم وأشهر كتب ابن المقفع على الإطلاق
    وهو مجموعة من الحكايات تدور على ألسنة الحيوانات يحكيها الفيلسوف بيدبا للملك دبشليم، ويبث من خلالها ابن المقفع آراءه السياسية في المنهج القويم للحُكْم، والمشهور أن ابن المقفع ترجم هذه الحكايات عن الفارسية، وأنها هندية الأصل، لكن أبحاثًا كثيرة حديثة تؤكد أن كليلة ودمنة من تأليف ابن المقفع وليست مجرد ترجمة، كما أن بعض هذه الأبحاث يعتقد أن الآراء التي أوردها ابن المقفع في كليلة ودمنة كانت أحد الأسباب المباشرة لنهايته الأليمة،
    بسم الله الرحمن الرحيم

    باب مقدمة الكتاب
    قدمها بهنود بن سحوان ويعرف بعلي بن الشاه الفارسي. ذكر فيها السبب الذي من أجله عمل بيدبا الفيلسوف الهندي رأس البراهمة لدبشليم ملك الهند كتابه الذي سماه كليلة ودمنة؛ وجعله على ألسن البهائم والطير صيانةً لغرضه فيه من العوام، وضنا بما ضمنه عن الطغام؛ وتنزيهاً للحكمة وفنونها، ومحاسنها وعيونها؛ إذ هي للفيلسوف مندوحة، ولخاطره مفتوحة؛ ولمحبيها تثقي، ولطالبيها تشريف. وذكر السبب الذي من أجله أنفذ كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز ملك الفرص بروزيه رأس الأطباء إلى بلاد الهند كتاب كليلة ودمنة؛ وما كان من تلطف بروزيه عند دخوله إلى الهند؛ حتى حضر إليه الرجل الذي استنسخه له سراً من خزانة الملك ليلاً، مع ما وجد من كتب علماء الهند. وقد ذكر الذي كان من بعثه بروزيه إلى مملكة الهند لأجل نقل هذا الكتاب؛ وذكر فيها ما يلزم مطالعه من إتقان قراءته والقيام بدراسته والنظر إلى باطن كلامه؛ وأنه إن لم يكن كذلك لك يحصل على الغاية منه. وذكر فيها حضور بروزيه قراءة الكتاب جهراً. وقد ذكر السبب الذي من اجله وضع بزرجمهر باباً مفرداً يسمى باب بروزيه التطبب، وذكر فيه شأن بروزيه من أول أمره وآن مولده إلى أن بلغ التأديب، وأحب الحكمة واعتبر في أقسامها. وجعله قبل باب الأسد والثور الذي هو أول الكتاب.
    قال علي بن الشاه الفارسي: كان السبب الذي من أجله وضع بيدبا الفيلسوف لدبشليم ملك الهند كتاب كليلة ودمنة، أن الإسكندر ذا القرنين الرومي لما فرغ من أمر الملوك الذين كانوا بناحية المغرب، سار يريد ملوك الشرق من الفرس وغيرهم؛ فلم يزل يحارب من نازعه ويواقع من واقعه، ويسالم من وادعه من ملوك الفرس، وهم الطبقة الأولى، حتى ظهر عليهم وقهر من ناوأه وتغلب على من حاربه؛ فتفرقوا طرائق وتمزقوا حزائق ، فتوجه بالجنود نحو بلاد الصين؛ فبدأ في طريقه بملك الهند ليدعوه إلى طاعته والدخول في ملته وولايته. وكان على الهند في ذلك الزمان ملك ذو سطوة وبأس وقوة ومراس، يقال له فورٌ. فلما بلغه إقبال ذي القرنين نحوه تأهب لمحاربته، واستعد لمجاذبته؛ وشم إليه أطرافه، وجد في التألب عليه؛ وجمع له العدة في أسرع مدة من الفيلة المعدة للحروب، والسباع المضراة بالوثوب؛ مع الخيول المسرجة والسيوف القواطع، والحراب اللوامع. فلما قرب ذو القرنين من فور الهندي وبلغه ما أعد له من الخيل التي كأنها قطع الليل مما لم يلقه بمثله أحد من الملوك الذين كانوا في الأقاليم، تخوف ذو القرنين من تقصير يقع به إن عجل المبارزة. وكان ذو القرنين رجلاً ذا حيل ومكايد، مع حسن تدبير وتجربة، فرأى إعمال الحيلة والتمهل، واحتفر خندقاً على عسكره؛ وأقام بمكانه لاستنباط الحيلة والتدبير لأمره؛ وكيف ينبغي له أي يقدم على الإيقاع به، فاستدعى بالمنجمين، وأمرهم بالاختيار ليوم موافق تكون له فيه سعادة لمحاربة ملك الهند والنصرة عليه. فاشتغلوا بذلك. وكان ذو القرنين لا يمر بمدينة إلا أخذ الصناع المشهورين من صناعها بالحذق من كل صنف. فأنتجت له همته ودلته فطنته أن يتقدم إلى الصناع الذين معه في أن يصنعوا خيلاً من نحاس مجوفة، عليها تماثيل من الرجال، على بكرٍ تجري، إذا دفعت مرت سراعاً. وأمر إذا فرغوا منها أن تحشى أجوافها بالنفط والكبريت؛ وتلبس وتقدم أمام الصف في القلب. ووقت ما يلتقي الجمعان تضرم فيها النيران. فإن الفيلة إذا لفت خراطيمها على الفرسان وهي حامية، ولت هاربة، وأوعز إلى الصناع بالتشمير والانكماش والفراغ منها. فجدوا في ذلك وعجلوا. وقرب أيضاً وقت اختيار المنجمين. فأعاد ذو القرنين رسله إلى فور يدعوه إليه من طاعته والإذعان لدولته. فأجاب جواب مصر على مصرٍ على مخالفته، مقيمٍ على محاربته. فلما رأى ذو القرنين عزيمته سار إليه بأهبته؛ وقدم فور الفيلة أمامه، ودفعت الرجال تلك الخيل وتماثيل الفرسان؛ فأقبلت الفيلة نحوها، ولفت خراطيمها عليها. فلما أحست بالحرارة ألقت من كان عليها، وداستهم تحت أرجلها، ومضت مهزومة هاربة، لا تلوي على شيءٍ ولا تمر بأحدٍ إلا وطئته. وتقطع فورٍ وجمعه، وتبعهم أصحاب الإسكندر؛ وأثخنوا فيهم الجراح.
    وصاح الإسكندر: يا ملك الهند أبرز إلينا، وأبق على عدتك وعيالك، ولا تحملهم على الفناء. فإنه ليس من المروءة أي يرمي الملك بعدته في المهالك المتلفة والمواضع المجحفة، بل يقيهم بماله ويدافع عنهم بنفسه. فأبرز إلى ودع الجند، فأينا قهر صاحبه فهو الأسعد. فلما سمع فور من ذي القرنين ذلك الكلام دعته نفسه لملاقاته طمعاً فيه؛ وظن ذلك فرصةً. فبرز إليه الإسكندر فتجاولا على ظهري فرسيهما ساعات من النهار ليس يلقى أحدهما من صاحبه فرصةً؛ ولم يزالا يتعاركان. فلما أعيا الإسكندر أمره ولم يجد له فرصةً ولا حيلة أوقع ذو القرنين في عسكره صيحة عظيمة ارتجت لها الأرض والعساكر؛ فالتفت فورٌ عندما سمع الزعقة، وظنها مكيدة في عسكره؛ فعاجله ذو القرنين بضربة أمالته عن سرجه، وتبعه بأخرى؛ فوقع على الأرض. فلما رأت الهند ما نزل بهم، وما صار إليه ملكهم؛ حملوا على الإسكندر فقاتلوه قتالاً أحبوا معه الموت. فوعدهم من نفسه الإحسان، ومنحه الله أكتافهم؛ فاستولى على بلادهم، وملك عليه رجلاً من ثقاته. وأقام بالهند حتى استوثق مما أراد من أمرهم واتفاق كلمتهم؛ ثم انصرف عن الهند وخلف ذلك الرجل عليهم. مضى متوجهاً نحو ما قصد له. فلما بعد ذو القرنين عن الهند بجيوشه، تغيرت الهند عما كانوا عليه من طاعة الرجل الذي خلفه عليهم؛ وقالوا ليس يصلح للسياسة ولا ترضى الخاصة والعامة أن يملكوا عليهم رجلاً ليس هو منهم ولا من أهل بيوتهم. فإنه لا يزال يستذلهم ويستقلهم. واجتمعوا يملكون عليهم رجلاً من أولاد ملوكهم؛ فملكوا عليهم ملكاً يقال له دبشليم؛ وخلعوا الرجل الذي كان خلفه عليهم الإسكندر. فلما استوسق له الأمر، واستقر له الملك. وكان مع ذلك مؤيداً مظفراً منصوراً. فهابته الرعية. فلما رأى ما هو عليه من الملك والسطوة، عبث بالرعية واستصغر أمرهم وأساء السيرة فيهم. وكان لا ترتقي حاله إلا ازداد عتواً. فمكث على ذلك برهة من دهره. وكان في زمانه رحل فيلسوف من البراهمة، فاضلٌ حكيمٌ، يعرف بفضله، ويرجع في الأمور إلى قوله، يقال له بيدبا. فلما رأى الملك وما هو عليه من الظلم للرعية، فكر في وجه الحيلة في صرفه عما هو عليه، ورده إلى العدل والإنصاف؛ فجمع لذلك تلاميذه، وقال: أتعلمون ما أريد أن أشاوركم فيه? اعلموا إني أطلت الفكرة في دبشليم وما هو عليه من الخروج عن العدل ولزوم الشر ورداءة السيرة وسوء العشرة مع الرعية؛ ونحن ما نروض أنفسنا لمثل هذه الأمور إذا ظهرت من الملوك، غلا لنردهم إلى فعل الخير ولزوم العدل.
    ومتى أغفلنا ذلك وأهملناه لزم وقوع المكروه بنا، وبلوغ المحذورات إلينا؛ غذ كنا في أنفس الجهال أجهل منهم؛ وفي العيون عندهم أقل منهم. وليس الرأي عندي الجلاء عن الوطن. ولا يسعنا في حكمتنا إبقاؤه على ما هو عليه من سوء السيرة وقبح الطريقة. ولا يمكننا مجاهدته بغير ألسنتنا. ولو ذهبنا إلى أن نستعين بغيرنا لم تتهيأ لنا معاندته. وإن أحس منا بمحالفته وإنكارنا سوء سيرته كان في ذلك بوارنا. وقد تعلمون أن مجاورة السبع والكلب والحية والثور على طيب الوطن ونضارة العيش لغدرٍ بالنفس. وإن الفيلسوف لحقيقٌ أن تكون همته مصروفة إلى ما يحصن به نفسه من نوازل المكروه ولواحق المحذور؛ ويدفع المخوف لاستجلاب المحبوب. ولقد كنت أسمع أن فيلسوفاً كتب لتلميذه يقول: إن مجاور رجال السوء ومصاحبهم كراكب البحر: إن سلم من الغرق لم يسلم من المخاوف. فإذا هو أورد نفسه موارد المهلكات ومصادر المخوفات، عد من الحمير التي لا نفس لها. لأن الحيوان البهيمية قد خصت في طبائعها بمعرفة ما تكتسب به النفع وتتوقى المكروه: وذلك أننا لم نرها تورد أنفسها مورداً فيه هلكتها. وأنها متى أشرفت على مورد مهلك لها، مالت بطبائعها التي ركبت فيها - شحاً بأنفسها وصيانةً لها - إلى النفور والتباعد عنه، وقد جمعتكم لهذا الأمر: لأنكم أسرتي ومكان سري وموضع معرفتي؛ وبكم أعتضد، وعليكم أعتمد. فإن الوحيد في نفسه والمنفرد برأيه حيث كان فهو ضائع ولا ناصر له. على أن العاقل قد يبلغ بحيلته ما لا يبلغ بالخيل والجنود. والمثل في ذلك أن قنبرةً اتخذت أدخيةً وباضت فيها على طريق الفيل؛ وكان للفيل مشرب يتردد إليه. فمر ذات يوم على عادته ليرد مورده فوطئ عش القنبرة؛ وهشم بيضها وقتل فراخها. فلما نظرت ما ساءها، علمت أن الذي نالها من الفيل لا من غيره. فطارت فوقعت على رأسه باكيةً؛ ثم قالت: أيها الملك لم هشمت بيضي وقتلت فراخي، وأنا في جوارك? أفعلت هذا استصغاراً منك لأمري واحتقاراً لشأني. قال: هو الذي حملني على ذلك. فتركته وانصرفت إلى جماعة الطير؛ فشكت إليها ما نالها من الفيل. فقلن لها وما عسى أن نبلغ منه ونحن الطيور? فقالت للعقاعق والغربان: أحب منكن أن تصرن معي إليه فتفقأن عينيه؛ فإني أحتال له بعد ذلك حيلةً أخرى. فأجبنها إلى ذلك، وذهبن إلى الفيل، ولم يزلن ينقرن عينيه حتى ذهبن بهما. وبقي لا يهتدي إلى طريق مطعمه ومشربه إلا ما يلقمه من موضعه. فلما علمت ذلك منه، جاءت إلى غدير فيه ضفادع كثير، فشكت إليها ما نالها من الفيل.
    قالت الضفادع: ما حيلتنا نحن في عظم الفيل? وأين نبلغ منه. قالت: احب منكن أن تصرن معي إلى وهدةٍ قريبةٍ منه، فتنققن فيها، وتضججن. فإنه إذا سمع أصواتكن لم يشك في الماء فيهوي فيها. فأجبنها إلى ذلك؛ واجتمعن في الهاوية، فسمع الفيل نقيق الضفادع، وقد اجهده العطش، فأقبل حتى وقع في الوهدة، فارتطم فيها. وجاءت القنبرة ترفرف على رأسه؛ وقالت: أيها الطاغي المغتر بقوته المحتقر لأمري، كيف رأيت عظم حيلتي مع صغر جثتي عند عظم جثتك وصغر همتك? فليشر كل واحد منكم بما يسنح له من الرأي. قالوا بأجمعهم: أيها الفيلسوف الفاضل، والحكيم العادل، أنت المقدم فينا، والفاضل علينا، وما عسى أن يكون مبلغ رأينا عند رأيك، وفهمنا عند فهمك? غير أننا نعلم أن السباحة في الماء مع التماسيح تغريرٌ؛ والذنب فيه لمن دخل عليه في موضعه. والذي يستخرج السم من ناب الحية فيبتلعه ليجربه جانٍ على نفسه، فليس الذنب للحية. ومن دخل على الأسد في غابته لم يأمن من وثبته. وهذا الملك لم تفزعه النوائب، ولم تؤدبه التجارب. ولسنا نأمن عليك ولا على أنفسنا سطوته وإنا نخاف عليك من سورته ومبادرته بسوءٍ إذا لقيته بغير ما يحب. فقال الحكيم بيدبا: لعمري لقد قلتم فأحسنتم، لكن ذا الرأي الحازم لا يدع أن يشاور من هو دونه أو فوقه في المنزلة. والرأي الفرد لا يكتفي به في الخاصة ولا ينتفع به في العامة. وقد صحت عزيمتي على لقاء دبشليم. وقد سمعت مقالتكم؛ وتبين لي نصيحتكم والإشفاق علي وعليكم. غير أني قد رأيت رأياً وعزمت عزماً؛ وستعرفون حديثي عند الملك ومجاوبتي إياه فإذا اتصل بكم خروجي من عنده فاجتمعوا إلي. وصرفهم يدعون له بالسلامة.
    ثم إن بيدبا اختار يوماً للدخول على الملك؛ حتى إذا كان ذلك الوقت ألقى عليه مسوحة وهي لباس البراهمة؛ وقصد باب الملك، وسأل عن صاحب إذنه وأرشد إليه وسلم عليه؛ وأعلمه قال لي: إني رجل قصدت الملك في نصيحةٍ. فدخل الآذن على الملك في وقته؛ وقال: بالباب رجلٌ من البراهمة يقال له بيدبا، ذكر أن معه للملك نصيحة. فأذن له؛ فدخل ووقف بين يديه وكفر وسجد له واستوى قائماً وسكت.
    وفكر دبشليم في سكوته؛ وقال: إن هذا لم يقصدنا إلا لأمرين: إما لالتماس شيءٍ منا يصلح به حاله، وإما لأمر لحقه فلم تكن له به طاقةٌ. ثم قال: إن كان للملوك فضلٌ في مملكتها فإن للحكماء فضلاً في حكمتها أعظم: لأن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم وليس الملوك أغنياء عن الحكماء بالمال. وقد وجدت العلم والحيا إلفين متآلفين لا يفترقان: متى فقد أحدهما لم يوجد الآخر؛ كالمتصافيين إن عدم منهما أحد لم يطب صاحبه نفساً بالبقاء تأسفاً عليه. ومن لم يستحي من الحكماء ويكرمهم، ويعرف فضلهم على غيرهم، ويصنهم عن المواقف الواهنة، وينزههم عن المواطن الرذلة كان ممن حرم عقله، وخسر دنياه، وظلم الحكماء حقوقهم، وعد من الجهال. ثم رفع رأسه إلى بيدبا؛ وقال له: نظرت إليك يا بيدبا ساكتاً لا تعرض حاجتك، ولا تذكر بغيتك، فقلت: إن الذي أسكته هيبةٌ ساورته أو حيرةٌ أدركته؛ وتأملك عند ذلك من طول وقوفك، وقلت: لك يكن لبيدبا أن يطرقنا على غير عادةٍ عن سبب دخوله؛ فإن لم يكن من ضيمٍ ناله، كنت أولى من أخذ بيده وسارع في تشريفه، وتقدم في البلوغ إلى مراده وإعزازه؛ وإن كانت بغيته غرضاً من أغراض الدنيا أمرت بإرضائه من ذلك فيما أحب؛ وإن يكن من أمر الملك، ومما لا ينبغي أن يبذلوه من أنفسهم ولا ينقادوا إليه نظرت في قدر عقوبته؛ على أن مثله لم يكن ليجترئ على إدخال نفسه في باب مسألة الملوك؛ وإن كان شيئاً من أمور الرعية يقصد فيه أني أصرف عنايتي إليهم، نظرت ما هو؛ فإن الحكماء لا يشيرون إلا بالخير، والجهال يشيرون بضده. وأنا قد فسحت لك في الكلام. فلما سمع بيدبا ذلك من الملك أفرخ روعه ؛ وسرى عنه ما كان وقع في نفسه من خوفه وكفر له وسجد؛ ثم قام بين يديه وقال: أول ما أقول لك أسأل الله تعالى بقاء الملك على الأبد، ودوام ملكه على الأمد: لأن الملك قد منحني في مقامي هذا محلاً جعله شرفاً لي على جميع من بعدي من العلماء؛ وذكراً باقياً على الدهر عند الحكماء. ثم أقبل على الملك بوجهه، مستبشراً به فرحاً بما بدا له منه، وقال: قد عطف الملك علي بكرمه وإحسانه. والأمر الذي دعاني إلى الدخول على الملك، وحملني على المخاطرة لكلامه، والإقدام عليه، نصيحةٌ اختصصته بها دون غيره. وسيعلم من يتصل به ذلك أني لم أقصر عن غايةٍ فيما يجب للمولى على الحكماء. فإن فسح في كلامي ووعاه عني، فهو حقيق بذلك وما يراه؛ وإن هو ألقاه، فقد بلغت ما يلزمني وخرجت من لوم يلحقني.



    قال الملك بيدبا تكلم كيف شئت: فإنني مصغٍ إليك، ومقبل عليك، وسامع منك، حتى أستفرغ ما عندك إلى آخره، وأجازيك على ذلك بما أنت أهله. قال بيدبا: إني وجدت الأمور التي اختص بها الإنسان من بين سائر الحيوانات أربعة أشياء، وهي جماع ما في العالم، وهي الحكمة والعفة والعقل والعدل. والعلم والأدب والروية داخلةٌ في باب الحكمة. والحلم والصبر والوقار داخلةٌ في باب العقل. والحياء والكرم والصيانة والأنفة داخلةٌ في باب العفة. والصدق والإحسان والمراقبة وحسن الخلق داخلةٌ في باب العدل. وهذه هي المحاسن، وأضدادها هي المساوئ. فمتى كملت هذه في واحدٍ لم تخرجه الزيادة في نعمةٍ إلى سوء الحظ من دنياه ولا إلى نقصٍ في عقباه، ولم يتأسف على ما لم يعن التوفيق ببقائه، ولم يحزنه ما تجري به المقادير في ملكه، ولك يدهش عند مكروهٍ. فالحكمة كنزٌ لا يفنى على إنفاقٍ، وذخيرةٌ لا يضرب لها بالإملاق ، وحلة لا تخلق جدها، ولذةٌ لا تنصرم مدتها. ولئن كنت عند مقامي بين يدي الملك أمسكت عن ابتدائه بالكلام، وإن ذلك لم يكن مني إلا لهيبته والإجلال له. ولعمري إن الملوك لأهلٌ أن يهابوا؛ لا سيما من هو في المنزلة التي جل فيها الملك عن منازل الملوك قبله. وقد قالت العلماء: الزم السكوت؛ فإن فيه سلامةً؛ وتجنب الكلام الفارغ؛ فإن عاقبته الندامة. وحكي أن أربعةً من العلماء ضمهم مجلس الملك، فقال لهم: ليتكلم كلٌ بكلام يكون أصلاً للأدب. فقال أحدهم: أفضل خلة العلم السكوت. وقال الثاني: إن من انفع الأشياء للإنسان أن يعرف قدر منزلته من عقله. وقال الثالث: أنفع الأشياء للإنسان ألا يتكلم بما لا يعنيه. وقال الرابع: أروح الأمور على الإنسان التسليم للمقادير. واجتمع في بعض الزمان ملوك الأقاليم من الصين والهند وفارس والروم؛ وقالوا ينبغي أن يتكلم كل واحدٍ منا بكلمة تدون عنه على غابر الدهر. فقال ملك الصين: أنا على ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت. وقال ملك الهند: عجبت لمن يتكلم بالكلمة فإن كانت له لم تنفعه، وإن كانت عليه أوبقته . وقال ملك فارس: أنا إذا تكلمت بالكلمة ملكتني، وإذا لم أتكلم بها ملكتها. وقال ملك الروم: ما ندمت على ما لم أتكلم به قط، ولقد ندمت على ما تكلمت به كثيراً. والسكوت عند الملوك أحسن من الهذر الذي لا يرجع منه إلى نفع. وأفضل ما استظل به الإنسان لسانه. غير أن الملك، أطال الله مدته، لما فسح لي في الكلام وأوسع لي فيه؛ كان أولى ما أبدأ به من الأمور التي هي غرضي أن يكون ثمرة ذلك له دوني؛ وأن اختصه بالفائدة قبلي. على أن العقبى هي ما أقصد في كلامي له؛ وإنما نفعه وشرفه راجعٌ إليه؛ وأكون أنا قد قضيت فرضاً وجب علي فأقول: أيها الملك إنك في منازل آبائك وأجدادك من الجبابرة الذين أسسوا الملك قبلك، وشيدوه دونك، وبنوا القلاع والحصون، ومهدوا البلاد، وقادوا الجيوش؛ واستجاشوا العدة ، وطالت لم المدة؛ واستكثروا من السلاح والكراع؛ وعاشوا الدهور، في الغبطة والسرور؛ فلم يمنعهم ذلك من اكتساب جميل الذكر، ولا قطعهم عن اغتنام الشكر؛ ولا استعمال الإحسان إلى من خولوه، والإرفاق بمن ولوه، وحسن السيرة فيما تقلدوه؛ مع عظم ما كانوا فيه من غرة الملك، وسكرة الاقتدار. وإنك أيها الملك السعيد جدة، الطالع كوكب سعده، قد ورثت أرضهم وديارهم وأموالهم ومنازلهم التي كانت عدتهم؛ فأقمت فيما خولت من الملك وورثت من الأموال والجنود؛ فلم تقم في ذلك بحق ما يجب عليك؛ بل طغيت وبغيت وعتوت وعلوت على الرعية، وأسأت السيرة، وعظمت منك البلية. وكان الأولى والاشبه بك أن تسلك سبيل أسلافك، وتتبع آثار الملوك قبلك، وتقفو محاسن ما أبقوه لك، وتقلع عما عاره لازم لك، وشينه واقع بك؛ تحسن النظر برعيتك، وتسن لهم سنن الخير الذي يبقى بعدك ضره، ويعقبك الجميل فخره؛ ويكون ذلك أبقى على السلامة وأدوم على الاستقامة. فإن الجاهل المغتر من استعمل في أموره البطر والأمنية، والحازم اللبيب من ساس الملك بالمداراة والرفق؛ فانظر أيها الملك ما ألقيت إليك، ولا يثقلن ذلك عليك: فلم أتكلم بهذا ابتغاء عرضٍ تجازيني به، ولا التماس معروفٍ تكافئني به؛ ولكني أتيتك ناصحاً مشفقاً عليك.
    فلما فرغ منه بيدبا من مقالته، وقضى مناصحته، أوغر صدر الملك فأغلظ له في الجواب استصغاراً لأمره؛ وقال: لقد تكلمت بكلامٍ ما كنت أظن أحداً من أهل مملكتي يستقبلني بمثله، ولا يقدم على ما أقدمت عليه. فكيف أنت مع صغر شأنك، وضعف منتك وعجز قوتك? ولقد أكثرت إعجابي من إقدامك علي، وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدك. وما أجد شيئاً في تأديب غيرك أبلغ من التنكيل بك. فذلك عبرةٌ وموعظةٌ لكن عساه أن يبلغ ويروم ما رمت أنت من الملوك إذا أوسعوا لهم في مجالسهم. ثم أمر به أن يقتل ويصلب. فلما مضوا به فيما أمر، فكر فيما أمر به فأحجم عنه، ثم أمر بحبسه وتقييده. فلما حبس أنفذ في طلب تلاميذه ومن كان يجتمع إليه فهربوا في البلاد واعتصموا بجزائر البحار؛ فمكث بيدبا في محبسه أياماً لا يسأل الملك عنه، ولا يلتفت إليه؛ ولا يجسر أحدٌ أن يذكره عنده؛ حتى إذا كان ليلةٌ من الليالي سهد الملك سهداً شديداً ؛ فطال سهده، ومد إلى الفلك بصره؛ وتفكر في تفلك الفلك وحركات الكواكب، فأغرق الفكر فيه؛ فسلك به إلى استنباط شيءٍ عرض له من أمور الفلك، والمسألة عنه. فذكر عند ذلك بيدبا، وتفكر فيما كلمه به؛ فأرعوى لذلك. وقال في نفسه: لقد أسأت فيما صنعت بهذا الفيلسوف، وضيعت واجب حقه؛ وحملني على ذلك سرعة الغضب. وقد قالت العلماء: أربعةٌ لا ينبغي أن تكون في الملوك: الغضب فإنه أجد الأشياء مقتاً؛ والبخل فإن صاحبه ليس بمعذورٍ مع ذات يده؛ والكذب فإنه ليس لأحدٍ أن يجاوره؛ والعنف في المحاورة فإن السفه ليس من شأنها. وإني أتي إلى رجل نصح لي، ولم يكن مبلغاً؛ فعاملته بضد ما يستحق، وكافأته بخلاف ما يستوجب. وما كان هذا جزاءه مني؛ بل كان الواجب أن أسمع كلامه، وأنقاد لما يشير به. ثم أنفذ في ساعته من يأتيه به. فلما مثل بين يديه قال له: يا بيدبا ألست الذي قصدت إلى تقصير همتي، وعجزت رأيي في سيرتي بما تكلمت به آنفاً? قال له بيدبا: أيها الملك الناصح الشفيق، والصادق الرفيق، إنما نبأتك بما فيه صلاحٌ لك ولرعيتك، ودوام ملكك لك، قال له الملك: يا بيدبا أعد علي كلامك كله، ولا تدع منه حرفاً إلا جئت به. فجعل بيدبا ينثر كلامه، والملك مصغٍ إليه. وجعل دبشليم كلما سمع منه شيئاً ينكت على الأرض بشيءٍ كان في يده. ثم رفع طرفه إلى بيدبا، وأمره بالجلوس. وقال له: يا بيدبا، إني قد استعذبت كلامك وحسن موقعه من قلبي. وأنا ناظر في الذي أشرت به، وعامل بما أمرت. ثم أمر بقيوده فحلت. وألقى عليه من لباسه، وتلقاه بالقبول. فقال بيدبا: يا أيها الملك، إن في دون ما كلمتك به نهيةً لمثلك. قال: صدقت أيها الحكيم الفاضل. وقد وليتك من مجلسي هذا إلى جميع أقاصي مملكتي. فقال له: أيها الملك أعفني من هذا الأمر: فإني غير مضطلعٍ بتقويمه إلا بك. فأعفاه من ذلك. فلما انصرف، علم أن الذي فعله ليس برأي، فبث فرده. وقال: إني فكرت في إعفائك مما عرضته عليك فوجدته لا يقوم إلا بك، ولا ينهض به غيرك، ولا يضطلع به سواك. فلا تخالفني فيه. فأجابه بيدبا إلى ذلك.
    وكان عادة ملوك ذلك الزمان إذا استوزروا وزيراً أن يعقدوا على رأسه تاجاً، ويركب في أهل المملكة، ويطاف به في المدينة. فأمر الملك أن يفعل ببيدبا ذلك. فوضع التاج على رأسه، وركب المدينة ورجع فجلس بمجلس العدل والإنصاف: يأخذ للدني من الشريف، ويساوي بين القوي والضعيف؛ ورد المظالم، ووضع سنن العدل، وأكثر من العطاء والبذل. واتصل الخبر بتلاميذه فجاءوه من كل مكان، فرحين بما جدد الله له من جديد رأي الملك في بيدبا؛ وشكروا الله تعالى على توفيق بيدبا في إزالة دبشليم عما كان عليه من سوء السيرة، واتخذوا ذلك اليوم عيداً يعيدون فيه فهو إلى اليوم عيدٌ عندهم في بلاد الهند.
    فلما فرغ منه بيدبا من مقالته، وقضى مناصحته، أوغر صدر الملك فأغلظ له في الجواب استصغاراً لأمره؛ وقال: لقد تكلمت بكلامٍ ما كنت أظن أحداً من أهل مملكتي يستقبلني بمثله، ولا يقدم على ما أقدمت عليه. فكيف أنت مع صغر شأنك، وضعف منتك وعجز قوتك? ولقد أكثرت إعجابي من إقدامك علي، وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدك. وما أجد شيئاً في تأديب غيرك أبلغ من التنكيل بك. فذلك عبرةٌ وموعظةٌ لكن عساه أن يبلغ ويروم ما رمت أنت من الملوك إذا أوسعوا لهم في مجالسهم. ثم أمر به أن يقتل ويصلب. فلما مضوا به فيما أمر، فكر فيما أمر به فأحجم عنه، ثم أمر بحبسه وتقييده. فلما حبس أنفذ في طلب تلاميذه ومن كان يجتمع إليه فهربوا في البلاد واعتصموا بجزائر البحار؛ فمكث بيدبا في محبسه أياماً لا يسأل الملك عنه، ولا يلتفت إليه؛ ولا يجسر أحدٌ أن يذكره عنده؛ حتى إذا كان ليلةٌ من الليالي سهد الملك سهداً شديداً ؛ فطال سهده، ومد إلى الفلك بصره؛ وتفكر في تفلك الفلك وحركات الكواكب، فأغرق الفكر فيه؛ فسلك به إلى استنباط شيءٍ عرض له من أمور الفلك، والمسألة عنه. فذكر عند ذلك بيدبا، وتفكر فيما كلمه به؛ فأرعوى لذلك. وقال في نفسه: لقد أسأت فيما صنعت بهذا الفيلسوف، وضيعت واجب حقه؛ وحملني على ذلك سرعة الغضب. وقد قالت العلماء: أربعةٌ لا ينبغي أن تكون في الملوك: الغضب فإنه أجد الأشياء مقتاً؛ والبخل فإن صاحبه ليس بمعذورٍ مع ذات يده؛ والكذب فإنه ليس لأحدٍ أن يجاوره؛ والعنف في المحاورة فإن السفه ليس من شأنها. وإني أتي إلى رجل نصح لي، ولم يكن مبلغاً؛ فعاملته بضد ما يستحق، وكافأته بخلاف ما يستوجب. وما كان هذا جزاءه مني؛ بل كان الواجب أن أسمع كلامه، وأنقاد لما يشير به. ثم أنفذ في ساعته من يأتيه به. فلما مثل بين يديه قال له: يا بيدبا ألست الذي قصدت إلى تقصير همتي، وعجزت رأيي في سيرتي بما تكلمت به آنفاً? قال له بيدبا: أيها الملك الناصح الشفيق، والصادق الرفيق، إنما نبأتك بما فيه صلاحٌ لك ولرعيتك، ودوام ملكك لك، قال له الملك: يا بيدبا أعد علي كلامك كله، ولا تدع منه حرفاً إلا جئت به. فجعل بيدبا ينثر كلامه، والملك مصغٍ إليه. وجعل دبشليم كلما سمع منه شيئاً ينكت على الأرض بشيءٍ كان في يده. ثم رفع طرفه إلى بيدبا، وأمره بالجلوس. وقال له: يا بيدبا، إني قد استعذبت كلامك وحسن موقعه من قلبي. وأنا ناظر في الذي أشرت به، وعامل بما أمرت. ثم أمر بقيوده فحلت. وألقى عليه من لباسه، وتلقاه بالقبول. فقال بيدبا: يا أيها الملك، إن في دون ما كلمتك به نهيةً لمثلك. قال: صدقت أيها الحكيم الفاضل. وقد وليتك من مجلسي هذا إلى جميع أقاصي مملكتي. فقال له: أيها الملك أعفني من هذا الأمر: فإني غير مضطلعٍ بتقويمه إلا بك. فأعفاه من ذلك. فلما انصرف، علم أن الذي فعله ليس برأي، فبث فرده. وقال: إني فكرت في إعفائك مما عرضته عليك فوجدته لا يقوم إلا بك، ولا ينهض به غيرك، ولا يضطلع به سواك. فلا تخالفني فيه. فأجابه بيدبا إلى ذلك.
    وكان عادة ملوك ذلك الزمان إذا استوزروا وزيراً أن يعقدوا على رأسه تاجاً، ويركب في أهل المملكة، ويطاف به في المدينة. فأمر الملك أن يفعل ببيدبا ذلك. فوضع التاج على رأسه، وركب المدينة ورجع فجلس بمجلس العدل والإنصاف: يأخذ للدني من الشريف، ويساوي بين القوي والضعيف؛ ورد المظالم، ووضع سنن العدل، وأكثر من العطاء والبذل. واتصل الخبر بتلاميذه فجاءوه من كل مكان، فرحين بما جدد الله له من جديد رأي الملك في بيدبا؛ وشكروا الله تعالى على توفيق بيدبا في إزالة دبشليم عما كان عليه من سوء السيرة، واتخذوا ذلك اليوم عيداً يعيدون فيه فهو إلى اليوم عيدٌ عندهم في بلاد الهند.
    ثم أن بيدبا لما أخلى فكره من اشتغاله بدبشليم، تفرغ لوضع كتب السياسة ونشط لها، فعمل كتباً كثيرةً، فيها دقائق الحيل. ومضى الملك على ما رسم له بيدبا من حسن السيرة والعدل في الرعية. فرغبت إليه الملوك الذين كانوا في نواحيه، وانقادت له الأمور على استوائها. وفرحت به رعيته وأهل مملكته. ثم أن بيدبا جمع تلاميذه فأحسن صلتهم، ووعدهم وعداً جميلاً. وقال لهم: لست أشك أنه وقع في نفوسكم وقت دخولي على الملك أن قلتم: إن بيدبا قد ضاعت حكمته، وبطلت فكرته: إذ عزم على الدخول على هذا الجبار الطاغي. فقد علمتم نتيجة رأيي وصحة فكري. وإني لم آته جهلاً به: لأني كنت أسمع من الحكماء قبلي تقول: إن الملوك لها سورةٌ كسورة الشراب: فالملوك لا تفيق من السورة إلا بمواعظ العلماء وأدب الحكماء. والواجب على الملوك أن يتعظوا بمواعظ العلماء. والواجب على العلماء تقويم الملوك بألسنتها، وتأديبها بحكمتها، وإظهار الحجة البينة اللازمة لهم: ليرتدعوا عما هم عليه من الاعوجاج والخروج عن العدل. فوجدت ما قالت العلماء فرضاً واجباً على الحكماء لملوكهم ليوقظوهم من رقدتهم؛ كالطبيب الذي يجب عليه في صناعته حفظ الأجساد على صحتها أو ردها إلى الصحة. فكرهت أن يموت أو أموت وما يبقى على الأرض غلا من يقول: إنه كان بيدبا الفيلسوف في زمان دبشليم الطاغي فلم يرده عما كان عليه. فإن قال قائل: إنه لم يمكنه كلامه خوفاً على نفسه، قالوا: كان الهرب منه ومن جواره أولى به؛ والانزعاج عن الوطن شديدٌ؛ فرأيت أن أجود بحياتي؛ فأكون قد أتيت فيما بيني وبين الحكماء بعدي عذراً. فحملتها على التغرير أو الظفر بما أريده. وكان من ذلك ما أنتم معاينوه: فإنه يقال في بعض الأمثال: إن لم يبلغ أحد مرتبة إلا بإحدى ثلاثٍ: إما بمشقةٍ تناله في نفسه، وإما بوضعيةٍ في ماله أو وكسٍ في دينه . ومن لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب. وإن الملك دبشليم قد بسط لساني في أن أضع كتاباً فيه ضروب الحكمة. فليضع كل واحد منكم شيئاً في أي فن شاء؛ وليعرضه علي لأنظر مقدار عقله، وأين بلغ من الحكمة فهمه. قالوا: أيها الحكيم الفاضل، واللبيب العاقل، والذي وهب لك ما منحك من الحكمة والعقل والأدب والفضيلة، ما خطر هذا بقلوبنا ساعةً قط. وأنت رئيسنا وفاضلنا، وبك شرفنا، وعلى يدك انتعاشنا. ولكن سنجهد أنفسنا فيما أمرت. ومكث الملك على ذلك من حسن السيرة زماناً يتولى ذلك له بيدبا ويقوم به.
    ثم إن الملك دبشليم لما استقر له الملك، وسقط عنه النظر في أمور الأعداء بما قد كفاه ذلك بيدبا، صرف همته إلى النظر في الكتب التي وضعتها فلاسفة الهند لآبائه وأجداده؛ فوقع في نفسه أن يكون له أيضاً كتابٌ مشروحٌ ينسب إليه وتذكر فيه أيامه كما ذكر آباؤه وأجداده من قبله. فلما عزم على ذلك، علم أنه لا يقوم ذلك إلا ببيدبا: فدعاه وخلا به؛ وقال له: يا بيدبا، إنك حكيم الهند وفيلسوفها. وإني فكرت ونظرت في خزائن الحكمة التي كانت للملوك قبلي؛ فلم أر فيهم أحداً إلا وضع كتاباً يذكر فيه أيامه وسيرته، وينبئ عن أدبه وأهل مملكته؛ فمنه ما وضعته الملوك لأنفسها، وذلك لفضل حكمةٍ فيها؛ ومنها ما وضعته حكماؤها. وأخاف أن يلحقني ما لحق أولئك مما لا حيلة لي فيه، ولا يوجد في خزائني كتابٌ أذكر به من بعدي، وأنسب إليه كما ذكر من كان قبلي بكتبهم. وقد أحببت أن تضع لي كتاباً بليغاً تستفرغ فيه عقلك يكون ظاهره سياسة العامة وتأديبها، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية على طاعة الملك وخدمته؛ فيسقط بذلك عني وعنهم كثيرٌ مما نحتاج إليه في معاناة الملك. وأريد أن يبقى لي هذا الكتاب من بعدي ذكراً على غابر الدهور. فلما سمع بيدبا كلامه خر له ساجداً، ورفع رأسه وقال: أيها الملك السعيد جده، علا نجمك، وغاب نحسك، ودامت أيامك؛ إن الذي قد طبع عليه الملك من جودة القريحة ووفور العقل حركه لعالي الأمور؛ وسمت به نفسه وهمته إلى أشرف المراتب منزلةً، وأبعدها غايةً؛ وأدام الله سعادة الملك وأعانه على ما عزم من ذلك، وأعانني على بلوغ مراده. فليأمر الملك بما شاء من ذلك: فإن صائرٌ إلى غرضه، مجتهداٌ فيه برأيي. قال له الملك: يا بيدبا لم تزل موصوفاً بحسن الرأي وطاعة الملوك في أمورهم. وقد اختبرت منك ذلك، واخترت أن تضع هذا الكتاب، وتعمل فيه فكرك، وتجهد فيه نفسك، بغاية ما تجد إليه السبيل. وليكن مشتملاً على الجد والهزل واللهو والحكمة والفلسفة. فكفر له بيدبا وسجد، وقال: قد أجبت الملك أدام الله أيامه إلى ما أمرني به، وجعلت بيني وبينه أجلاً. قال: وكم هو الأجل? قال: سنةٌ. قال: قد أجلتك؛ وأمر له بجائزةٍ سنيةٍ تعينه على عمل الكتاب فبقى بيدبا مفكراً في الأخذ فيه، وفي أي صورةٍ يبتدي بها فيه وفي وضعه.
    ثم إن بيدبا جمع تلاميذه وقال لهم: إن الملك قد ندبني لأمر فيه فخري وفخركم وفخر بلادكم، وقد جمعتكم لهذا الأمر. ثم وصف لهم ما سأل الملك من أمر الكتاب، والغرض الذي قصد فيه، فلم يقع لهم الفكر فيه فلما لم يجد عندهم ما يريده فكر بفضل حكمته، وعلم أن ذلك أمرٌ إنما يتم باستفراغ العقل وإعمال الفكر؛ وقال: أرى السفينة لا تجري في البحر إلا بالملاحين: لأنهم يعدلونها؛ وإنما تسلك اللجة بمدبرها الذي تفرد بإمرتها ؛ ومتى شحنت بالركاب الكثيرين وكثر ملاحوها لم يؤمن عليه من الغرق. ولم يزل يفكر فيما يعمله في باب الكتاب حتى وضعه على الانفراد بنفسه، مع رجلٍ من تلاميذه كان يثق به؛ فخلا به منفرداً معه، بعد أن أعد الورق الذي كانت تكتب فيه الهند شيئاً، ومن القوت ما يقوم به وبتلميذه تلك المدة. وجلسا في مقصورةٍ، وردا عليهما الباب ثم بدأ في نظم الكتاب وتصنيفه؛ ولم يزل هو يملي وتلميذه يكتب، ويرجع هو فيه؛ حتى استقر الكتاب على غاية الإتقان والإحكام. ورتب فيه أربعة عشر باباً؛ كل بابٍ منها قائم بنفسه. وفي كل باب مسألةٌ والجواب عنها؛ ليكون لمن نظر فيه حظٌ من الهداية. وضمن تلك الأبواب كتاباً واحداً؛ وسماه كتاب كليلة ودمنة. ثم جعل كلامه على ألسن البهائم والسباع والطير: ليكون ظاهره لهواً للخواص والعوام، وباطنه رياضةً لعقول الخاصة. وضمنه أيضاً ما يحتاج إليه الإنسان من سياسة نفسه وأهله وخاصته، وجميع ما يحتاج إليه من أمير دينه ودنياه، وأخرته وأولاه؛ ويحضه على حسن طاعته للملوك ويجنبه ما تكون مجانبته خيراً له. ثم جعله باطناً وظاهراً كرسم سائر الكتب التي برسم الحكمة: فصار الحيوان لهواً، وما ينطق به حكمةً وأدباً. فلما ابتدأ بيدبا بذلك جعل أول الكتاب وصف الصديق، وكيف يكون الصديقان، وكيف تقطع المودة الثابتة بينهما بحيلة ذي النميمة. وأمر تلميذه أن يكتب على لسان بيدبا مثل ما كان الملك شرطه في أن جعله لهواً وحكمةً. فذكر بيدبا أن الحكمة متى دخلها كلام النقلة أفسدها وجهلت حكمتها. فلم يزل هو وتلميذه يعملان الفكر فيما سأله الملك، حتى فتق لهما العقل أن يكون كلامهما على لسان بهيمتين. فوقع لهما موضع اللهو والهزل بكلام البهائم. وكانت الحكمة ما نطقا به. فأصغت الحكماء إلى حكمه وتركوا البهائم واللهو، وعلموا أنها السبب في الذي وضع لهم. ومالت إليه الجهال عجباً من محاورة بهيمتين، ولم يشكوا في ذلك؛ واتخذوه لهواً، وتركوا معنى الكلام أن يفهموه، ولم يعلموا الغرض الذي وضع له؛ لأن الفيلسوف إنما كان غرضه في الباب الأول أن يخبر عن تواصل الإخوان كيف تتأكد المودة بينهم على التحفظ من أهل السعاية والتحرز ممن يوقع العداوة بين المتحابين: ليجر بذلك نفعاً إلى نفسه. فلم يزل بيدبا وتلميذه في المقصورة، حتى استتما عمل الكتاب في مدة سنةٍ. فلما تم الحول أنفذ إليه الملك أن قد جاء الوعد فماذا صنعت? فأنفذ إليه بيدبا: إني على ما وعدت الملك. فليأمرني بحمله، بعد أن يجمع أهل المملكة لتكون قراءتي هذا الكتاب بحضرتهم، فلما رجع الرسول إلى الملك سر بذلك، ووعده يوماً يجمع فيه أهل المملكة. ثم نادى في أقاصي بلاد الهند ليحضروا قراءة الكتاب. فلما كان ذلك اليوم، أمر الملك أن ينصب لبيدبا سريرٌ مثل سريره، كراسي لأبناء الملوك والعلماء. وأنفذ فأحضره. فلما جاءه الرسول قام فلبس الثياب التي كان يلبسا إذا دخل على الملوك وهي المسوح السود، وحمل الكتاب تلميذه. فلما دخل على الملك وثب الخلائق بأجمعهم، وقام الملك شاكراً. فلما قرب من الملك كفر له وسجد، ولم يرفع رأسه. فقال له الملك: يا بيدبا ارفع رأسك، فإن هذا يوم هناءةٍ وفرحٍ وسرورٍ، وأمره أن يجلس. فحين جلس لقراءة الكتاب، سأله عن معنى كل باب من أبوابه، وإلى أي شيءٍ قصد فيه. فأخبره بغرضه فيه، وفي كل باب. فازداد الملك منه تعجباً وسروراً. فقال له: يا بيدبا ما عدوت الذي في نفسي؛ وهذا الذي كنت أطلب؛ فالطلب ما شئت وتحكم. فدعا له بيدبا بالسعادة وطول الجد. وقال: أيها الملك أما المال فلا حاجة لي فيه، وأما الكسوة فلا أختار على لباسي ذا شيئاً؛ ولست أخلي الملك من حاجةٍ. قال الملك: يا بيدبا ما حاجتك? فكل حاجةٍ لك قبلنا مقضيةٌ. قال: يأمر الملك أن يدون كتابي هذا كما دون آباؤه وأجداده كتبهم، ويأمر بالمحافظة عليه: فإن أخاف أن يخرج من بلاد الهند، فيتناوله أهل فارس إذا علموا به؛ فالملك يأمر ألا يخرج من بيت الحكمة. ثم دعا الملك بتلاميذه وأحسن لهم الجوائز. ثم إنه لما ملك كسرى أنوشروان وكان مستأثراً بالكتب والعلم والأدب والنظر في أخبار الأوائل ويقع له خبر الكتاب؛ فلم يقر قراره حتى بعث بروزيه الطبيب وتلطف حتى أخرجه من بلاد الهند فأقره في خزائن فارس.اف أن يخرج من بلاد الهند، فيتناوله أهل فارس إذا علموا به؛ فالملك يأمر ألا يخرج من بيت الحكمة. ثم دعا الملك بتلاميذه وأحسن لهم الجوائز. ثم إنه لما ملك كسرى أنوشروان وكان مستأثراً بالكتب والعلم والأدب والنظر في أخبار الأوائل ويقع له خبر الكتاب؛ فلم يقر قراره حتى بعث بروزيه الطبيب وتلطف حتى أخرجه من بلاد الهند فأقره في خزائن فارس.

    باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند
    وكذلك طالب الآخرة مجتهد في العمل المنجي به روحه لا يقدر على إتمام عمله وإكماله إلا بالعقل الذي هو سبب كل خير ومفتاح كل سعادةٍ. فليس لأحد غني عن العقل. والعقل مكتسب بالتجارب والأدب. وله غريزةٌ مكنونةٌ في الإنسان كامنةٌ كالنار في الحجر لا تظهر ولا يرى ضوءها حتى يقدحها قادحٌ من الناس؛ فإذا قدحت ظهرت طبيعتها. وكذلك العقل كامن في الإنسان لا يظهر حتى يظهره الأدب وتقويه التجارب. ومن رزق العقل ومن به عليه وأعين على صدق قريحته بالأدب حرص على طلب سعد جده، وأدرك في الدنيا أمله، وحاز في الآخرة ثواب الصالحين. وقد رزق الله الملك السعيد أنوشروان من العقل أفضله، ومن العلم أجزله؛ ومن المعرفة بالأمور أصوبها، ومن الأفعال أسدها، ومن البحث عن الأصول والفرع أنفعه؛ وبلغه من فنون اختلاف العلم، وبلوغ منزلة الفلسفة، ما لم يبلغه ملكٌ قط من الملوك قبله؛ حتى كان فيما طلب وبحث عنه من العلم أن بلغه عن كتاب بالهند، علم أنه أصل كل أدب ورأس كل علمٍ، والدليل على منفعةٍ، ومفتاح عمل الآخرة وعلمها، ومرعبة النجاة من هولها؛ فأمر الملك وزيره بزرجمهر أن يبحث له عن رجل أديبٍ عاقل من أهل مملكته، بصير بلسان الفارسية، ماهر في كلام الهند؛ ويكون بليغاً باللسانين جميعاً، حريصاً على طلب العلم مجتهداً في استعمال الأدب، مبادراً في طلب العلم، والبحث عن كتب الفلسفة. فأتاه برجلٍ أديب كامل العقل والأدب، معرفٍ بصناعة الطب، ماهر في الفارسية والهندي يقال له بروزيه؛ فلما دخل عليه كفر وسجد بين يديه. فقال له الملك: يا بروزيه: إن قد اخترتك لما بلغني من فضلك وعلمك وعقلك، وحرصك على طلب العلم حيث كان. وقد بلغني عن كتاب بالهند مخزون في خزائنهم، وقص عليه ما بلغه عنه. وقال له: تجهز فإني مرحلك إلى أرض الهند؛ فتلطف بعقلك وحسن أدبك وناقد رأيك، لاستخراج هذا الكتاب من خزائنهم ومن قبل علمائهم؛ فتستفيد بذلك وتفيدنا. وما قدرت عليه من كتب الهند مما ليس في خزائننا منه شيءٌ فأحمله معك؛ وخذ معك من المال ما تحتاج إليه، وعجل ذلك، ولا تقصر في طلب العلوم وإن أكثرت فيه النفقة، فإن جميع ما في خزائني مبذول لك في طلب العلوم. وأمر بإحضار المنجمين؛ فاختاروا له يوماً يسير فيه، وساعة صالحةً يخرج فيها. وحمل معه من المال عشرين جراباً؛ كل جرابٍ فيه عشرة آلاف دينار. فلما قدم بروزيه بلاد الهند طاف بباب الملك ومجالس السوقة ، وسأل عن خواص الملك والأشراف والعلماء والفلاسفة؛ فجعل يغشاهم في منازلهم، ويتلقاهم بالتحية، ويخبرهم بأنه رجل غريب قدم بلادهم لطلب العلوم والأدب، وأنه محتاج إلى معاونتهم في ذلك. فلم يزل كذلك زماناً طويلاً يتأدب عن علماء الهند يما هو عالم بجميعه؛ وكأنه لا يعلم منه شيئاً؛ وهو فيما بين ذلك يستر بغيته وحاجته. واتخذ في تلك الحالة لطول مقامه أصدقاء كثيرةٌ من الأشراف والعلماء والفلاسفة والسوقة ومن أهل كل طبقة وصناعةٍ؛ وكان قد اتخذ من بين أصدقائه رجلاً واحداً قد اتخذه لسره وما يحب مشاورته فيه؛ للذي ظهر له من فضله وأدبه، واستبان له من صحة إخائه؛ وكان يشاوره في الأمور، ويرتاح إليه في جميع ما أهمه.
    إلا أنه كان يكتم منه الأمر الذي قدم من أجله لكي يبلوه ويخبره، وينظر هل هو أهل أن يطلعه على سره. فقال له يوماً وهما جالسان: يا أخي ما أريد أن أكتمك من أمري فوق الذي كتمتك. فاعلم أنني لأمرٍ قدمت، وهو غير الذي يظهر مني؛ والعاقل يكتفي من الرجل بالعلامات من نظره، حتى يعلم سر نفسه وما يضمره قلبه. قال له الهندي: إني وإن لم أكن بدأتك وأخبرتك بما جئت له، وإياه تريد؛ وأنك تكتم أمراً تطلبه، وتظهر غيره؛ ما خفي على ذلك منك. ولكني لرغبتي في إخائك، كرهت أن أواجهك به. وإنه قد استبان ما تخفيه مني. فأما إذ قد أظهرت ذلك، وأفصحت به وبالكلام فيه، فإني مخبرك عن نفسك، ومظهر لك سريرتك، ومعلمك بحالك التي قدمت لها؛ فإنك قدمت بلادنا لتسلبنا كنوزنا النفيسة، فتذهب بها إلى بلادك، وتسربها ملكك. وكان قدومك بالمكر والخديعة. ولكني لما رأيت صبرك، ومواظبتك على طلب حاجتك، والتحفظ من أن يسقط منك الكلام، مع طول مكثك عندنا، بشيءٍ يستدل به على سريرتك وأمورك، ازددت رغبةً في إخائك، وثقة بعقلك، فأحببت مودتك. فإني لم أر في الرجال رجلاً هو أرصن منك عقلاً، ولا أحسن أدباً، ولا أصبر على طلب العلم ولا أكتم لسره منك؛ ولا سيما في بلاد الغربة، ومملكة غير مملكتك، عند قومٍ لا تعرف سنتهم. وإن عقل الرجل ليبين في ثماني خصال: الأولى الرفق، والثانية أن يعرف الرجل نفسه فيحفظها، والثالثة طاعة الملوك، والتحري لما يرضيهم. والرابعة معرفة الرجل موضع سره، وكيف ينبغي أن يطلع عليه صديقه، والخامسة أن يكون على أبواب الملوك أديباً ملق اللسان . والسادسة أن يكون لسره وسر غيره حافظاً. والسابعة أن يكون على لسانه قادراً، فلا يتكلم إلا بما يأمن تبعته. والثامنة إن كان بالمحفل لا يتكلم إلا بما يسأل عنه. فمن اجتمعت فيه هذه الخصال كان هو الداعي الخير إلى نفسه. وهذه الخصال كلها قد اجتمعت فيك، وبانت لي منك. فالله تعالى يحفظك، ويعينك على ما قدمت له؛ فمصادقتك إياي، وإن كانت لتسلبني كنزي وفخري وعلمي، تجعلك أهلاً لأن تسعف بحاجتك، وتشفع بطلبتك ، وتعطي سؤلك.
    فقال له بروزيه: إني كنت هيأت كلاماً كثيراً، وشعبت له شعوباً؛ وأنشأت له أصولاً وطرقاً؛ فلما انتهيت إلى ما بدأتني به من إطلاعك على أمري والذي قدمت له، وألقيته على من ذات نفسك، ورغبتك فيما ألقيت من القول، اكتفيت باليسير من الخطاب معك، وعرفت الكبير من أموري بالصغير من الكلام، واقتصرت به معك على الإيجاز. ورأيت من إسعافك إياي بحاجتي ما دلني على كرمك وحسن وفائك: فإن الكلام إذا ألقي إلى الفيلسوف، والسر إذا استودع إلى اللبيب الحافظ، فقد حصن وبلغ به نهاية أمل صاحبه، كما يحصن الشيء النفيس في القلاع الحصينة. قال له الهندي: لا شيء أفضل من المودة. ومن خلصت مودته كان أهلاً أن يخلطه الرجل بنفسه، ولا يدخر عنه شيئاً، ولا يكتمه سراً: فإن حفظ السر رأس الأدب. فإذا كان السر عند الأمين الكتوم فقد احترز من التضييع؛ مع أنه خليق ألا يتكلم به؛ ولا يتم سرٌ ين اثنين قد علماه وتفاوضاه. فإذا تكلم بالسر اثنان فلا بد من ثالث من جهة أحدهما؛ فإذا صار إلى الثلاثة فقد شاع وذاع، حتى لا يستطيع صاحبه أن يجحده ويكابر عنه؛ كالغيم إذا كان متقطعاً في السماء فقال قائل: هذا غيمٌ متقطعٌ، لا يقدر أحدٌ على تكذيبه. وأنا قد يداخلني من مودتك وخلطتك سرورٌ لا يدله شيءٌ. وهذا الأمر الذي تطلبه مني أعلم أنه من الأسرار التي لا تكتم؛ فلا بد أن يفشو ويظهر، حتى يتحدث به الناس. فإذا فشا فقد سعيت في هلاكي هلاكاً لا أقدر على الفداء منه بالمال وإن كثر: لأن ملكنا فظٌ غليظُ، يعاقب على الذنب الصغير أشد العقاب؛ فكيف مثل هذا الذنب العظيم? وإذا حملتني المودة التي بين وبينك فأسعفتك بحاجتك لم يرد عقابه عني شيءٌ. قال بروزيه: إن العلماء قد مدحت الصديق إذا كتم سر صديقه وأعانه على الفوز. وهذا الأمر الذي قدمت له، لمثلك ذخرته، وبك أرجو بلوغه؛ وأنا واثقٌ بكرم طباعك ووفور عقلك، وأعلم أنك لا تخشى مني ولا تخاف أن أبديه؛ بل تخشى أهل بيتك الطائفين بك وبالملك أن يسعوا بك إليه. وأنا أرجو ألا يشيع شيءٌ من هذا الأمر: لأني أنا ظاعنٌ وأنت مقيمٌ، وما أقمت قلا ثالث بيننا. فتعاهدا على هذا جميعاً. وكان الهندي خازن الملك، وبيده مفاتيح خزائنه. فأجابه إلى ذلك الكتاب وغلى غيره من الكتب. فأكب على تفسيره ونقله من اللسان الهندي إلى اللسان الفارسي؛ وأتعب نفسه، وانسب بدنه ليلاً ونهاراً. وهو مع ذلك وجلٌ وفزعٌ من ملك الهند؛ خائفٌ على نفسه من أن يذكر الملك الكتاب في وقتٍ لا يصادفه في خزائنه.
    فلما فرغ من انتساخ الكتاب وغيره مما أراد من سائر الكتب. كتب إلى أنوشروان يعلمه بذلك. فلما وصل إليه الكتاب، سر بذلك سروراً شديداً، ثم تخوف معاجلة المقادير أن تنغص عليه الفرحة؛ فكتب إلى بروزيه يأمره بتعجيل القدوم. فسار بروزيه متوجهاً نحو كسرى. فلما رأى الملك ا قد مسه من الشحوب والتعب والنصب، قال له: أيها العبد الناصح الذي كان يأكل ثمرة ما قد غرس، أبشر وقر عيناً: فإني مشرفك وبالغٌ بك أفضل درجةٍ. وأمره أن يريح بدنه سبعة أيام. فلما كان اليوم الثامن، أمر الملك أن يجتمع إليه الأمراء والعلماء. فلما اجتمعوا، آمر بروزيه بالحضور. فحضر ومعه الكتب؛ ففتحها وقرأها على من حضر من أهل المملكة. فلما سمعوا ما فيها من العلم فرحواً فرحاً شديداً؛ وشكروا لله على ما رزقهم، ومدحوا بروزيه وأثنوا عليه؛ وأمر الملك أن تفتح لبروزيه خزائن اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؛ وأمره أن يأخذ من الخزائن ما شاء من مالٍ أو كسوةٍ؛ وقال: يا بروزيه إني قد أمرت أن تجلس على مثل سريري هذا، وتلبس تاجاً، وتترأس على جميع الأشراف. فسجد بروزيه للملك ودعا له وطلب من الله وقال: أكرم الله تعالى الملك كرامة الدنيا والآخرة، وأحسن عني ثوابه وجزاءه؛ فإني بحمد الله مستغنٍ عن المال بما رزقني الله على بد الملك السعيد الجد، العظم الملك؛ ولا حاجة لي بالمال؛ لكن لما كلفني الملك ذلك وعلمت أنه يسره، أنا أمضي إلى الخزائن فآخذ منها طلباً لمرضاته وامتثالاً لأمره. ثم قصد خزانة الثياب فأخذ منها تختاً من طرائف خراسان من ملابس الملوك. فلما قبض بروزيه ما اختاره ورضيه من الثياب فال: أكرم الله تعالى الملك ومد في عمره أبداً. لابد أن الإنسان إذا أكرم وجب عليه الشكر؛ وإن كان قد استوجبه تعباً ومشقةً فقد كان فيهما رضا الملك. وأما أنا فما لقيته من عناءٍ وتعبٍ ومشقةٍ، لما أعلم أن لكم فيه الشرف يأهل هذا البيت! فإن لم أزل إلى هذا اليوم تابعاً رضاكم، أرى العسير فيه يسيراً. والشاق هيناً، والنصب والأذى سروراً ولذةً: لما أعلم أن لكم فيه رضاً وقربة عندكم. ولكني أسألك أيها الملك حاجة تسعفني بها، وتعطيني فيها سؤلي: فإن حاجتي يسيرةٌ، وفي قضائها فائدةٌ كثيرةٌ. قال أنوشروان: قل فكل حاجةٍ لك من قبلنا مقضيةٌ، ولم نرد طلبتك؛ فكيف ما سوى ذلك? فقل وتحتشم؛ فإن الأمور كلها مبذولة لك. قال بروزيه: أيها الملك لا تنظر إلى عنائي في رضاك وانكماشي في طاعتك؛ فإنما أنا عبدك يلزمني بذل مهجتي في رضاك؛ ولو لم تجزني لم يكن ذلك عندي عظيماً ولا واجباً على الملك؛ ولكن لكرمه وشرف منصبه عمد إلى مجازاتي؛ وخصني وأهي بيتي بعلو المرتبة ورفع الدرجة؛ حتى لو قدر أن يجمع لنا بين شرف الدنيا والآخرة لفعل. فجزاه الله عنا أفضل الجزاء.
    قال أنوشروان: اذكر حاجتك، فعلى ما يسرك. فقال بروزيه: حاجتي أن يأمر الملك، أعلاه الله تعالى، وزيره بزرجمهر بن البختكان؛ ويقسم عليه أن يعمل فكره، ويجمع رأيه، ويجهد طاقته، ويفرغ قلبه في نظم تأليف كلامٍ متقنٍ محكمٍ؛ ويجعله باباً يذكر فيه أمري ويصف حالي؛ ولا يدع من المبالغة في ذلك أقصى ما يقدر عليه. ويأمره إذا استتمه أن يجعله أول الأبواب التي تقرأ قبل باب الأسد والثور: فإن الملك إذا فعل ذلك فقد بلغ بي وبأهلي غايةً الشرف وأعلى المراتب؛ وأبقى لنا ما لا يزال ذكره باقياً على الأبد حيثما قرئ هذا الكتاب.
    فلما سمع كسرى أنوشروان والعظماء مقالته وما سمت إليه نفسه من محبة إبقاء الذكر استحسنوا طلبته واختياره، وقال كسرى: حباً وكرامةً لك يا بروزيه، إنك لأهل أن تسعف بحاجتك؛ فما أقل ما قنعت به وأيسره عندنا! وإن كان خطره عندك عظيماً. ثم أقبل أنوشروان على وزيره بزرجمهر فقال له: قد عرفت مناصحة بروزيه لنا، وتجشمه المخاوف والمهالك فيما يقربه منا، وإتعابه بدنه فيما يسرنا، وما أتى به إلينا من المعروف، وما أفادنا الله على يده من الحكمة والأدب الباقي لنا فخره، وما عرضنا عليه من خزائننا لنجزيه بذلك على ما كان منه، فلم تمل نفسه إلى شيءٍ من ذلك؛ وكان بغيته وطلبته منا أمراً يسيراً رآه هو الثواب منا له والكرامة الجليلة عنده؛ فإني أحب أن تتكلم في ذلك وتسعفه بحاجته وطلبته. واعلم أن ذلك مما يسرني، ولا تدع شيئاً من الاجتهاد والمبالغة إلا بلغته، وإن نالتك فيه مشقة. وهو أن تكتب باباً مضارعاً لتلك الأبواب التي في الكتاب؛ وتذكر فيه فضل بروزيه، وكيف كان ابتداء أمره وشأنه، وتنسبه إليه وإلى حسبه وصناعته، وتذكر فيه بعثته إلى بلاد الهند في حاجتنا؛ وما أفدنا على يديه من هنالك؛ وشرفنا به وفضلنا على غيرنا؛ وكيف كان حال بروزيه وقدومه من بلاد الهند؛ فقل ما تقدر عليه من التقريظ والإطناب في مدحه، وبالغ في ذلك أفضل المبالغة واجتهد في ذلك اجتهاداً يسر بروزيه وأهل المملكة.
    وإن بروزيه أهل لذلك مني ومن جميع أهل المملكة ومنك أيضاً: لمحبتك للعلوم. واجهد أن يكون غرض هذا الكتاب الذي ينسب إلى بروزيه أفضل من أغراض تلك الأبواب عند الخاص والعام، وأشد مشاكلةً لحال هذا العلم: فإنك أسعد الناس كلهم بذلك: لانفرادك بهذا الكتاب، واجعله أول الأبواب. فإذا أنت عملته ووضعته في موضعه فأعلمني لأجمع أهل المملكة وتقرأه عليهم، فيظهر فضلك واجتهادك في محبتنا؛ فيكون لك بذلك فخر. فلما سمع بزرجمهر مقالة الملك خر له ساجداً، وقال: أدام الله لك أيها الملك البقاء، وبلغك أفضل منازل الصالحين في الآخرة والأولى؛ لقد شرفتني بذلك شرفاً باقياً إلى الأبد. ثم خرج بزرجمهر من عند الملك، فوصف بروزيه من أول يوم دفعه أبواه إلى المعلم، ومضيه إلى بلاد الهند في طلب العقاقير والأدوية؛ وكيف تعلم خطوطهم ولغتهم؛ إلى أن بعثه أنوشروان إلى الهند في طلب الكتاب. ولم يدع من فضائل بروزيه وحكمته وخلائقه ومذهبه أمراً إلا نسقه، وأتى به بأجود ما يكون من الشرح. ثم أعلم الملك بفراغه منه. فجمع أنوشروان أشراف قومه وأهل مملكته، وأدخلهم إليه؛ وأمر بزرجمهر بقراءة الكتاب، وبروزيه قائم إلى جانب بزرجمهر، وابتدأ بوصف بروزيه حتى انتهى إلى آخره. ففرح الملك بما أتى به بزرجمهر من الحكمة والعلم. ثم أثنى الملك وجميع من حضره على بزرجمهر، وشكروه ومدحوه؛ وأمر الملك بمال جزيل وكسوةٍ وحليٍ وأوانٍ؛ فلم يقبل من ذلك شيئاً غير كسوةٍ كانت من ثياب الملوك. ثم شكر له ذلك بروزيه وقبل رأسه ويده؛ وأقبل بروزيه على الملك وقال: أدام الله لك الملك والسعادة فقد بلغت بي وبأهلي غاية الشرف بما أمرت به بزرجمهر من صنعه الكتاب في أمري وإبقاء ذكري.
    باب عرض الكتاب ترجمة عبد الله بن المقفع
    هذا كتاب كليلة ودمنة، وهو مما وضعه علماء الهند من الأمثال والأحاديث التي ألهموا أن يدخلوا فيها أبلغ ما وجدوا من القول في النحو الذي أرادوا. ولم تزل العلماء من أهل كل ملة يلتمسون أن يعقل عنهم، ويحتالون في ذلك بصنوف الحيل؛ ويبتغون إخراج ما عندهم من العلل، حتى كان من تلك العلل وضع هذا الكتاب على أفواه البهائم والطير. فاجتمع لهم بذلك خلالٌ. أما هم فوجدوا متصرفاً في القول وشعاباً يأخذون منها. وأما الكتاب فجمع حكمةً ولهواً: فاختاره الحكماء لحكمته. والسفهاء للهوه، والمتعلم من الأحداث ناشطٌ في حفظ ما صار إليه من أمر يربط في صدره ولا يدري ما هو، بل عرف أنه قد ظفر من ذلك بمكتوي مرقومٍ. وكان كالرجل الذي لما استكمل الرجولية وجد أبويه قد كنزا له كنوزاً وعقدا له عقوداً استغنى بها عن الكدح فيما يعمله من أمر معيشته؛ فأغناه ما أشرف عليه من الحكمة عن الحاجة إلى غيرها من وجوه الأدب.

    وينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وضعت له؛ وإلى أي غايةٍ جرى مؤلفه فيه عندما نسبه إلى البهائم وأضافه إلى غير مفصحٍ؛ وغير ذلك من الأوضاع التي جعلها أمثالاً: فإن قارئه متى لم يفعل ذلك لم يدر ما أريد بتلك المعاني، ولا أي ثمرةً يجتني منها، ولا أي نتيجة تحصل له من مقدمات ما تضمنه هذا الكتاب. وإنه وإن كان غيته استتمام قراءته إلى آخره دون معرفة ما يقرأ منه لم يعد عليه شيءٌ يرجع إليه نفعه.
    ومن استكثر من جمع العلوم وقراءة الكتب؛ من غير إعمال الروية فيما يقرؤه، كان خليقاً ألا يصيبه إلا ما أصاب الرجل الذي زعمت العلماء أنه اجتاز ببعض المفاوز، فظهر لو موضع آثار كنز؛ فجعل يحفر ويطلب، فوقع على شيءٍ من عينٍ وورقٍ؛ فقال في نفسه: إن أنا أخذت في نقل هذا المال قليلاً قليلاً طال علي، وقطعني الاشتغال بنقله وإحرازه عن اللذة بما أصبت منه؛ ولكن سأستأجر أقواماً يحملونه إلى منزلي، وأكون أنا أخرهم، ولا يكون بقي ورائي شيءٌ يشغل فكري بنقله؛ وأكون قد استظهرت لنفسي في إراحة بدني عن الكد بيسير الأجرة أعطيهم إياها. ثم جاء بالحمالين، فجعل يحمل كل واحدٍ منهم ما يطيق، فينطلق به إلى منزله: فلم يجد فيه من المال شيئاً، لا قليلاً ولا كثيراً. وإذا كل واحدٍ من الحمالين قد فاز بما حمله لنفسه. ولك يكن له من ذلك إلا العناء والتعب: لأنه لم يفكر في آخر أمره. وكذلك من قرأ هذا الكتاب، ولم يفهم ما فيه، ولم يعلم غرضه ظاهراً وباطناً، لم ينتفع بما بدا له من خطه ونقشه؛ كما لو أن رجلاً قدم له جوزٌ صحيحٌ لم ينتفع به إلا أن يكسره؛ وكان أيضاً كالرجل الذي طلب علم الفصيح من كلام الناس؛ فأتى صديقاً له من العلماء، له علمٌ بالفصاحة، فأعلمه حاجته إلى علم الفصيح؛ فرسم له صديقه في صحيفة صفراء فصيح الكلام وتصاريفه ووجوهه؛ فانصرف المتعلم إلى منزله؛ فجعل يكثر قراءتها ولا يقف على معانيها. ثم إنه جلس ذات يومٍ في محفلٍ من أهل العلم والأدب، فأخذ في محاورتهم؛ فجرت له كلمةٌ أخطأ فيها؛ فقال له بعض الجماعة: إنك قد أخطأت؛ والوجه غير ما تكلمت به، فقال وكيف أخطئ وقد قرأت الصحيفة الصفراء؛ وهي في منزلي? فكانت مقالته لهم أوجب للحجة عليه وزاده ذلك قرباٌ من الجهل وبعداً من الأدب.
    ثم إن العاقل إذا فهم هذا الكتاب وبلغ نهاية علمه فيه، ينبغي له أن يعمل بنا علم منه لينتفع به؛ ويجعله مثالاً لا يحيد عنه. فإذا لم يفعل ذلك، كان مثله كالرجل الذي زعموا أن سارقاً تسور عليه وهو نائم في منزله، فعلم به فقال: والله لأسكتن حتى أنظر ماذا يصنع، ولا أذعره؛ ولا أعلمه أني قد علمت به. فإذا بلغ مراده قمت إليه، فنغصت ذلك عليه. ثم إنه أمسك عنه. وجعل السارق يتردد، وطال تردده في جمعه ما يجده؛ فغلب الرجل النعاس فنام، وفرغ اللص مما أراد، وأمكنه الذهاب. واستيقظ الرجل، فوجد اللص قد أخذ المتاع وفاز به. فأقبل على نفسه يلومها، وعرف أن لم ينتفع بعلمه باللص: إذ لم يستعمل في أمره ما يجب. فالعلم لا يتم إلا بالعمل، وهو كالشجرة والعمل به كالثمرة. وإنما صاحب العلم يقوم بالعمل لينتفع به؛ وإن لم يستعمل ما يعلم لا يسمى عالماً. ولو أن رجلاً كان عالماً بطريقٍ مخوفٍ، ثم سلكه على علمٍ به، سمي جاهلاً؛ ولعله إن حاسب نفسه وجدها قد ركبت أهواءً هجمت بها فيما هو أعرف بضررها فيه وأذاها من ذلك السالك في الطريق المخوف الذي قد جهله. ومن ركب هواه ورفض ما ينبغي أن يعمل بما جربه هو أو أعلمه به غيره، كان كالمريض العالم برديء الطعام والشراب وجيده وخفيفه وثقيله، ثم يحمله الشره على أكل رديئه وترك ما هو أقرب إلى النجاة والتخلص من علته. وأقل الناس عذراً في اجتناب محمود الأفعال وارتكاب مذمومها من أبصر ذلك وميزه وعرف فضل بعضه على بعض كما أنه لو أن رجلين أحدهما بصير والآخر أعمى ساقهما الأجل إلى حفرة فوقعا فيها، كانا إذا صارا في قاعها بمنزلةٍ واحدةٍ؛ غير أن البصير أقل عذراً عند الناس من الضرير: إذ كانت له عينان يبصر بهما، وذاك بما صار إليه جاهل غير عارف.
    وعلى العالم أن يبدأ بنفسه ويؤدبها بعلمه، ولا تكون غايته اقتناؤه العلم لمعاونة غيره، ويكون كالعين التي يشرب منها الناس ماءها وليس لها في ذلك شيءٌ من المنفعة، وكدودة القز التي تحكم صنعته ولا تنتفع به. فينبغي لمن يطلب العلم أن يبدأ بعظة نفسه، ثم عليه بعد ذلك أن يقبسه ؛ فإن خلالاً ينبغي لصاحب الدنيا أن يقتنيها ويقبسها: منها العلم والمال. ومنها اتخاذ المعروف. وليس للعالم أن يعيب أمراً بشيءٍ فيه مثله، ويكون كالأعمى الذي يعير الأعمى بعماه. وينبغي لم طلب أمراً أن يكون له فيه غايةٌ ونهايةُ، ويعمل بها، ويقف عندها؛ ولا يتمادى في الطلب؛ فإنه يقال: من سار إلى غير غاية يوشك أن تنقطع به مطيته؛ وأنه كان حقيقاً ألا يعني نفسه في طلب ما لا حد له، وما لم ينله أحد قبله، ولا يتأسف عليه؛ ولا يكون لدنياه مؤثراً على أخرته: فإن من لم يعلق قلبه بالغايات قلت حسرته عند مفارقتها. وقد يقال في أمرين إنهما يجملان بكل أحدٍ: أحدهما النسك والآخر المال الحلال ولا يليق بالعاقل أن يؤنب نفسه على ما فاته وليس في مقدوره؛ فربما أتاح الله ما يهنأ به ولم يكن في حسبانه. ومن أمثال هذا أن رجلاً كان به فاقةٌ وجوعٌ وعريٌ، فألجأه ذلك إلى أن سأل أقاربه أصدقاءه، فلم يكن عند أحد منهم فضل يعود به عليه. فبينما هو ذات ليلةٍ في منزله إذ أبصر بسارقٍ فيه؛ فقال: والله ما في منزلي شيءٌ أخاف عليه: فليجهد السارق جهده. فبينما السارق يجول إذ وقعت يده على خابية فيها حنطةٌ، فقال السارق: والله ما أحب أن يكون عنائي الليلة باطلاً. ولعلي لا أصل إلى موضع آخر، ولكن سأحمل هذه الحنطة. ثم بسط قميصه ليصب عليه الحنطة. فقال الرجل: أيذهب هذا بالحنطة وليس ورائي سواها? فيجتمع علي مع العري ذهاب ما كنت أقتات به. وما تجتمع والله هاتان الخلتان على أحدٍ إلا أهلكاه. ثم صاح بالسارق، وأخذ هراوةً كانت عند رأسه؛ فلم يكن للسارق حليةٌ إلا الهرب منه، وترك قميصه ونجا بنفسه؛ وغدا الرجل به كاسياً. وليس ينبغي أن يركن إلى مثل هذا ويدع ما يجب عليه من الحذر والعمل في مثل هذا لصلاح معاشه؛ ولا ينظر إلى من تواتيه المقادير وتساعده على غير التماس منه: لأن أولئك في الناس قليلٌ؛ والجمهور منهم من أتعب نفسه في الكد والسعي فيما يصلح أمره وينال به ما أراد. وينبغي أن يكون حرصه على ما طاب كسبه وحسن نفعه؛ ولا يتعرض لما يجلب عليه العناء والشقاء؛ فيكون كالحمامة التي تفرخ الفراخ وتذبح، ثم لا يمنعها ذلك أن تعود فتفرخ موضعها، وتقيم بمكانها فتؤخذ الثانية من فراخها فتذبح. وقد يقال: إن الله تعالى قد جعل لكل شيءٍ حداً يوقف عليه. ومن تجاوز في أشياء حدها أوشك أن يلحقه التقصير عن بلوغها. ويقال: من كان سعيه لأخرته ودنياه فحياته له وعليه. ويقال في ثلاثة أشياء يجب على صاحب الدنيا إصلاحها وبذل جهده فيها: منها أمر معيشته؛ ومنها ما بينه وبين الناس؛ ومنها ما يكسبه الذكر الجميل بعد. وقد قيل في أمورٍ من كن فيها لم يستقم له عملٌ. من التواني؛ ومنها تضييع الفرص؛ ومنها التصديق لكل مخبرٍ. فرب مخبرٍ بشيءٍ عقله ولا يعرف استقامته فيصدقه.
    وينبغي للعاقل أن يكون لهواه متهماً؛ ولا يقبل من كل أحدٍ حديثاً؛ ولا يتمادى في الخطأ إذا ظهر له خطؤه ولا يقدم على أمرٍ حتى يتبين له الصواب، وتتضح له الحقيقة؛ ولا يكون كالرجل الذي يحيد عن الطريق، فيستمر على الضلال، فلا يزداد في السير إلا جهداً، وعن القصد إلا بعداً؛ وكالرجل الذي تقذى عينه فلا يزال يحكها، وربما كان ذلك الحك سبباً لذهابها. ويجب على العاقل أن يصدق بالقضاء والقدر، ويأخذ بالحزم، ويحب الناس ما يحب لنفسه، ولا يلتمس صلاح نفسه بفساد غيره، فإنه من فعل ذلك كان خليقاً أن يصيبه ما أصاب التاجر من رفيقه.
    فإنه يقال إنه كان رجلٌ تاجرٌ، وكان له شريكٌ، فاستأجرا حانوتاً، وجعلا متاعهما فيه. وكان أحدهما قريب المنزل من الحانوت؛ فأضمر في نفسه أن يسرق عدلاً من أعدال رفيقه؛ ومكر الحيلة في ذلك، وقال: إن أتيت ليلاً لم آمن من أن أحمل عدلاً من أعدالي أو رزمة من رزمي ولا أعرفها؛ فيذهب عنائي وتعبي باطلاً. فأخذ رداءه، وألقاه على العدل الذي أضمر أخذه. ثم انصرف إلى منزله. وجاء رفيقه بعد ذلك ليصلح أعداله، فوجد رداء شريكه على بعض أعداله، فقال: والله هذا رداء صاحبي؛ ولا أحسبه إلا قد نسيه. وما الرأي أن أدعه هاهنا؛ ولكن اجعله على رزمه؛ فلعله يسبقني إلى الحانوت فيجده حيث يحب. ثم أخذ الرداء فألقاه على عدلٍ من أعدال رفيقه ومعه رجلٌ قد واطأه على ما عزم عليه، وضمن له جعلاً على حمله؛ فصار إلى الحانوت؛ فالتمس الإزار في الظلمة فوجده على العدل؛ فاحتمل ذلك العدل؛ وأخرجه هو والرجل، وجعلا يتراوحان على حمله؛ حتى أتى منزله، ورمى نفسه تعباً. فلما أصبح افتقده فإذا هو بعض أعداله؛ فندم أشد الندامة. ثم انطلق نحو الحانوت، فوجد شريكه قد سبقه إليه ففتح الحانوت ووجد العدل مفقوداً: فاغتم لذلك غماً شديداً؛ وقال: واسوءتاه من رفيق صالحٍ قد ائتمنني على ماله وخلفني فيه! ماذا يكون حالي عنده? ولست أشك في تهمته إياي. ولكن قد وطنت نفسي على غرامته. ثم أتى صاحبه فوجده مغتماً، فسأله عن حاله؛ فقال إني قد افتقدت الأعدال، وفقدت عدلاً من أعدالك، ولا أعلم بسببه؛ وإني لا أشك في تهمتك إياي؛ وإني قد وطنت نفسي على غرامته. فقال له: يا أخي لا تغتم: فإن الخيانة شر ما عمله الإنسان، والمكر والخديعة لا يؤديان إلى خيرٍ؛ وصاحبهما مغرور أبداً، وما عاد وبال البغي إلا على صاحبه: وكيف كان ذلك? فأخبره بخبره، وقص عليه قصته. فقال له رفيقه: ما مثلك إلا مثل اللص والتاجر. فقال له: وكيف كان ذلك? قال: زعموا أن تاجراً كان له في منزله خابيتان إحداهما مملوءة حنطة، والأخرى مملوءة ذهباً. فترقبه بعض اللصوص زماناً، حتى إذا كان بعض الأيام تشاغل التاجر عن المنزل؛ فتغفله اللص، ودخل المنزل، وكمن في بعض نواحيه. فلما هي بأخذ الخابية التي فيها الدنانير أخذ التي فيها الحنطة، وظنها التي فيها الذهب؛ ولم يزل في كدٍ وتعبٍ حتى أتى بها منزله فلما فتحها وعلم ما فيها ندم. قال له الخائن: ما أبعدت المثل، ولا تجاوزت القياس؛ وقد اعترفت بذنبي وخطئي عليك، وعزيز علي أن يكون هذا كهذا. غير أن النفس الرديئة تأمر بالفحشاء. فقبل الرجل معذرته، وأضرب عن توبيخه وعن الثقة به؛ وندم هو عندما عاين من سوء فعله وتقديم جهله.
    وقد ينبغي للناظر في كتابنا هذا ألا تكون غايته التصفح لتزاويقه. بل يشرف على ما يتضمن من الأمثال، حتى ينتهي منه؛ ويقف عند كل مثلٍ وكلمةٍ، ويعمل فيها رؤيته؛ ويكون مثل أصغر الاخوة الثلاثة الذين خلف لهم أبوهم المال الكثير، قتنازعوه بينهم؛ فأما الكبيران فإنهما أسرعا في إتلافه وإنفاقه في غير وجهه؛ وأما الصغير فإنه عندما نظر ما صار إليه أخواه من إسرافهما وتخليهما من المال، اقبل على نفسه يشاورها وقال: يا نفسي إنما المال يطلبه صاحبه، ويجمعه من كل وجهٍ: لبقاء حاله، وصلاح معاشه ودنياه، وشرف منزلته في أعين الناس، واستغنائه عما في أيديهم، وصرفه في وجهه: من صلة الرحم، والإنفاق على الولد، والإفضال على الإخوان. فمن كان له مالٌ ولا ينفقه في حقوقه، كان كالذي يعد فقيراً وإن كان موسراً. وإن هو أحسن إمساكه والقيام عليه، لم يعدم الأمرين جميعاً من دنيا تبقى عليه، وحمدٍ يضاف إليه؛ ومتى قصد إنفاقه على غير الوجوه التي علمت، لم يلبث أن يتلفه ويبقى على حسرةٍ وندامةٍ. ولكن الرأي أن أمسك هذا المال، فإني أرجو أن ينفعني الله به: ويغني أخوي على يدي: فإنما هو مال أبي ومال أبيهما. وإن أولى الإنفاق على صلة الرحم وإن بعدت، فكيف بأخوي? فأنفذ فأحضرهما وشاطرهما ماله، وكذلك يجب على قارئ هذا الكتاب أن يديم النظر فيه من غير ضجرٍ، ويلتمس جواهر معانية، ولا يظن أن نتيجة الإخبار عن حيلة بهيمتين أو محاورة سبعٍ لثورٍ: فينصرف بذلك عن الغرض المقصود. ويكون مثله مثل الصياد الذي كان في بعض الخلجان يصيد فيه السمك في زورق فرأى ذات يوم في أرض الماء صدفةً تتلألأ حسناً، فتوهمها جوهراً له قيمة وكان قد ألقى شبكته في البحر، فاشتملت على سمكةٍ كانت قوت يومه، فخلاها وقذف نفسه في الماء ليأخذ الصدفة، فلما أخرجها وجدها فارغة لا شيء فيها مم ظن. فندم على ترك ما في يده للطمع، وتأسف على ما فاته، فلما كان اليوم الثاني تنحى عن ذلك المكان، وألقى شبكته، فأصاب حوتاً صغيراً، ورأى أيضاً صدفة سنيةً، فلم يلتفت إليها، وساء ظنه بها، فتركها. فاجتاز بها بعض الصيادين فأخذها، فوجد فيها درةً تساوي أموالاً. وكذلك الجهال إذا أغفلوا أمر التفكير في هذا الكتاب، وتركوا الوقوف على أسرار معاني، وأخذوا بظاهره. ومن صرف همته إلى النظر في أبواب الهزل، كان كرجلٍ أصاب أرضاً طيبةًَ حرةً وحباً صحيحاً، فزرعها وسقاها، حتى إذا قرب خيرها وأينعت، تشاغل عنها بجمع ما فيها من الزهر وقطع الشوط؛ فأهلك بتشاغله ما كان أحسن فائدةً وأجمل عائدةً.
    وينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراضٍ: أحدها ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة ليسارع إلى قراءته أهل الهزل من الشبان، فتستمال به قلوبهم: لأنه الغرض بالنوادر من حيل الحيوان.
    والثاني إظهار خيالات الحيوان بصنوف الأصباغ والألوان: ليكون أنساً لقلوب الملوك، ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك الصور. والثالث أن يكون على هذه الصفة: فيتخذه الملوك والسوقة، فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام؛ ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبداً. والغرض الرابع، وهو الأقصى، وذلك مخصوص بالفيلسوف خاصةً.
    باب بروزيه ترجمة بزرجمهر بن البختكان
    قال بروزيه رأس أطباء فارس، وهو الذي تولى انتساخ هذا الكتاب، وترجمه من كتب الهند - وقد مضى ذكر ذلك من قبل - : أبي كان من المقاتلة، وكانت أمي من عظماء بيوت الزمازمة . وكان منشئي في نعمةٍ كاملةٍ، وكنت أكرم ولد أبوي عليهما؛ وكانا بي أشد احتفاظاً من دون إخوتي، حتى إذا بلغت السبع سنين، أسلماني إلى المؤدب؛ فلما حذقت الكتابة، شكرت أبوي؛ ونظرت في العلم، فكان أول ما ابتدأت به وحرصت عليه، علم الطب: لأني كنت عرفت فضله. وكلما ازددت منع علماً ازددت فيه حرصاً ، وله اتباعاً. فلما همت نفسي بمداواة المرضى، وعزمت على ذلك آمرتها ثم خيرتها بين الأمور الأربعة التي يطلبها الناس، وفيها يرغبون، ولها يسعون. فقلت: أي هذه الخلال أبتغي في علمي? وأيها أحرى بي فأدرك منه حاجتي? المال، أم الذكر، أم اللذات أم الآخرة? وكنت وجدت في كتب الطب أن أفضل الأطباء من واظب على طبه، لا يبتغي إلا الآخرة. فرأيت أن أطلب الاشتغال بالطب ابتغاء الآخرة: لئلا أكون كالتاجر الذي باع ياقوتةً ثمينةً بخرزةٍ لا تساوي شيئاً؛ مع أني قد وجدت في كتب الأولين أن الطبيب الذي يبتغي بطبه أجر الآخرة لا ينقصه ذلك حظه في الدنيا. وإن مثله مثل الزارع الذي يعمر أرضه ابتغاء الزرع لا ابتغاء العشب. ثم هي لا محالة نابت فيها ألوان العشب مع يانع الزرع. فأقبلت على مداواة المرضى ابتغاء أجر الآخرة، فلم أدع مريضاً أرجو له البرء، وآخر لا أرجو له ذلك، إلا أني أطمع أن يخف عنه بعض المرض، إلا بالغت في مداواته ما أمكنني القيام عليه بنفسي؛ ومن لم أقدر على القيام عليه وصفت له ما يصلح، وأعطيته من الدواء ما يعالج به. ولم أرد ممن فعلت معه ذلك جزاءً ولا مكافأةً؛ ولم أغبط أحداً من نظرائي الذين هم دوني في العلم وفوقي في الجاه والمال وغيرهما مما لا يعود بصلاح ولا حسن سيرةٍ قولاً ولا عملاً. لما تاقت نفسي إلى غشيانهم وتمنت منازلهم أثبت لها الخصومة ؛ فقلت لها: يا نفس، أما تعرفين نفعك من ضرك? ألا تنتهين عن تمني ما لا يناله أحد إلا قلّ انتفاعه به، وكثر عناؤه فيه، واشتدت المئونة عليه وعظمت المشقة لديه بعد فراقه? يا نفسي، أما تذكرين ما بعد هذه الدار: فينسيك ما تشرهين إليه منها? ألا تستحبين من مشاركة الفجار في حب هذه العاجلة الفانية التي من كان في يده شيءٌ منها فليس له، وليس بباقٍ عليه؛ فلا يألفها إلا المغترون الجاهلون? يا نفس انظري في أمرك، وانصرفي عن هذا السفه، وأقبلي بقوتك وسعيك على تقديم الخير، وإياك والشر، واذكري أن هذا الجسد موجودٌ لآفاتٍ، وأنه مملوءٌ أخلاطاً فاسدةً قذرةً، تعقدها الحياة، والحياة إلى نفادٍ؛ كالصنم المفصلة أعضاؤه إذا ركبت ووضعت، يجمعها مسمارٌ واحدٌ، ويضم يعضها إلى بعضٍ، فإذا أخذ ذلك المسمار تساقطت الأوصال. يا نفس، لا تغتري بصحبة أحبائك وأصحابك، ولا تحرصي على ذلك كل الحرص: فإن صحبتهم - على ما فيها من السرور - كثيرة المئونة، وعاقبة ذلك الفراق. ومثلها مثل المغرفة التي تستعمل في جدتها لسخونة المرق، فإذا انكسرت صارت وقوداً. يا نفس، لا يحملنك أهلك وأقاربك على جمع ما تهلكين فيه، إرادة صلتهم؛ فإذا أنت كالدخنة الأرجة التي تحترق ويذهب آخرون بريحها. يا نفس، لا يبعد الكثير باليسير؛ كالتاجر الذي كان له ملء بيتٍ من الصندل، فقال: إن بعته وزناً طال علي، فباعه جزافاً بأبخس الثمن. وقد وجدت آراء الناس مختلفة وأهواءهم متباينة؛ وكلٌ على كلٍ رادٌ، وله عدوٌ ومغتابٌ، ولقوله مخالفٌ. فلما رأيت ذلك لم أجد إلى متابعة أحدٍ منهم سبيلاً؛ وعرفت أني إن صدقت أحداً منهم لا علم لي بحاله، كنت في ذلك كالمصدق المخدوع الذي زعموا في شأنه أن سارقاً علا ظهر بيت رجلٍ من الأغنياء، وكان معه جماعةٌ من أصحابه، فاستيقظ صاحب المنزل من حركة أقدامهم، فعرف امرأته ذلك؛ فقال لها: رويداً إني لأحسب اللصوص علوا البيت، فأيقظيني بصوت يسمعه اللصوص وقولي ألا تخبرني أيها الرجل عن أموالك هذه الكثيرة وكنوزك العظيمة? فإذا نهيتك عن هذا السؤال فألحي علي بالسؤال. ففعلت المرأة ذلك وسألته كما أمرها؛ وأنصتت اللصوص إلى سماع قولهما. فقال لها الرجل: أيتها المرأة، قد ساقك القدر إلى رزقٍ واسعٍ كثيرٍ: فكلي واسكتي، ولا تسألي عن أمرٍ إن أخبرتك به لم آمن من أن يسمعه أحدٌ، فيكون في ذلك ما أكره وتكرهين. فقالت المرأة: أخبرني أيها الرجل، فلعمري ما بقربنا أحدٌ يسمع كلامنا. فقال لها: فإني أخبرك أني لم أجمع هذه الأموال إلا من السرقة. قال: وكيف كان ذلك? وما كنت تصنع? قال: ذلك لعلمٍ أصبته في السرقة، وكان الأمر علي يسيراً، وأنا آمن من أن يتهمني أحدٌ أو يرتاب في.ين. فقالت المرأة: أخبرني أيها الرجل، فلعمري ما بقربنا أحدٌ يسمع كلامنا. فقال لها: فإني أخبرك أني لم أجمع هذه الأموال إلا من السرقة. قال: وكيف كان ذلك? وما كنت تصنع? قال: ذلك لعلمٍ أصبته في السرقة، وكان الأمر علي يسيراً، وأنا آمن من أن يتهمني أحدٌ أو يرتاب في.
    قالت: فاذكر لي ذلك، قال: كنت أذهب في الليلة المقمرة، أنا وأصحابي، حتى أعلو داء بعض الأغنياء مثلنا؛ فأنتهي إلى الكوة التي يدخل منها الضوء فأرقي بهذه الرقية وهي شولم شولم سبع مرات، وأعتنق الضوء؛ فلا يحس بوقوعي أحدٌ، فلا أدع مالاً ولا متاعاً إلا أخذته. ثم أرقي بتلك الرقية سبع مراتٍ. وأعتنق الضوء فيجذبني؛ فأصعد إلى أصحابي، فنمضي سالمين آمنين. فلما سمع اللصوص ذلك قالوا: قد ظفرنا الليلة بما نريد من المال؛ ثم إنهم أطالوا المكث حتى ظنوا أن صاحب الداء وزوجته قد هجعا؛ فقام قائدهم إلى مدخل الضوء؛ وقال: شولم شولم سبع مراتٍ؛ ثم اعتنق الضوء لينزل إلى أرض المنزل، فوقع على أم رأسه منكساً. فوثب إليه الرجل بهراوته، وقال له: من أنت? قال: أنا المصدق المخدوع المغتر يما لا يكون أبداً؛ وهذه ثمرة رقيتك. فلما تحرزت من تصديق ما لا يكون، ولم آمن إن صدقته أن يوقعني في مهلكةٍ عدت إلى طلب الأديان والتماس العدل منها؛ فلم أجد عند أحدٍ ممن كلمته جواباً فيما سألته عنه فيها، ولم أر فيما كلموني به شيئاً يحق لي في عقلي أن أصدق به ولا أن أتبعه. فقلم لما لم أجد ثقةً آخذ منه، الرأي أن ألزم دين آبائي وأجدادي الذي وجدتهم عليه. فلما ذهبت التمس العذر لنفسي في لزوم دين الآباء والأجداد، لم أجد لها على الثبوت على دين الآباء طاقةً؛ بل وجدتها تريد أن تتفرغ للبحث عن الأديان والمسألة عنها، وللنظر فيها؛ فهجس في قلبي وخطر على بالي قرب الأجل وسرعة انقطاع الدنيا واعتباط أهلها وتحزم الدهر حياتهم. ففكرت في ذلك. فلما خفت من التردد والتحول، رأيت ألا أتعرض لما أتخوف منه المكروه؛ وأن أقتصر على عملٍ تشهد النفس أنه يوافق كل الأديان. فكففت يدي عن القتل والضرب، وطرحت نفسي عن المكروه والغضب والسرقة والخيانة والكذب والبهتان والغيبة، وأضمرت في نفسي ألا أبغي على أحدٍ، ولا أكذب بالبعث ولا القيامة ولا الثواب ولا العقاب؛ وزايلت الأشرار بقلبي، وحاولت الجلوس مع الأخيار بجهدي، ورأيت الصلاح ليس كمثله صاحب ولا قرينٌ، ووجدت مكسبه إذا وفق الله وأعان يسيراً؛ ووجدته لا ينقص على الإنفاق منه؛ بل يزداد جدةً وحسناً؛ ووجدته لا خوف عليه من السلطان أن يغصبه، ولا من الماء أن يغرقه، ولا من النار أن تحرقه، ولا من اللصوص أن تسرقه، ولا من السباع وجوارح الطير أن تمزقه؛ووجدت الرجل الساهي اللاهي المؤثر اليسير يناله في يومه ويعدمه في غده على الكثير الباقي نعيمه، يصيبه ما أصاب التاجر الذي زعموا أنه كان له جوهرٌ نفيسٌ، فاستأجر لثقبه رجلاً، اليوم بمائة دينار؛ وانطلق به إلى المنزل ليعمل؛ وإذا في ناحية البين صنجٌ موضوعٌ. فقال التاجر للصانع: هل تحسن أن تلعب بالصنج? قال نعم. وكان بلعبه ماهراً. فقال التاجر: دونك الصنج فأسمعنا ضربك به. فأخذ الرجل الصنج، ولم يزل يسمع التاجر الضرب الصحيح، والصوت الرفيع، والتاجر يشير بيده ورأسه طرباً، حتى أمسى. فلما حان وقت الغروب قال الرجل للتاجر: مر لي بالأجرة. فقال له التاجر: وهل عملت شيئاً تستحق به الأجرة? فقال له: عملت ما أمرتني به، وأنا أجيرك، وما استعملتني عملت؛ ولم يزل به حتى استوفى منه مائة دينار. وبقي جوهره غير مثقوب. فم أزدد في الدنيا وشهواتها نظراً، إلا ازددت فيها زهادةً ومنها هرباً. ووجدت النسك هو الذي يمهد للمعاد كما يمهد الوالد لولده؛ ووجدته هو الباب المفتوح إلى النعيم المقيم؛ووجدت الناسك قد تدبر فعلته بالسكينة فشكر؛ وتواضع وقنع فاستغنى، ورضي ولم يهتم، وخلع الدنيا فنجا من الشرور، ورفض الشهوات فصار طاهراً، واطرح الحسد فوجبت له المحبة، وسخت نفسه بك شيءٍ؛ واستعمل العقل وأبصر العاقبة فأمن الندامة، ولم يخف الناس ولم يدب إليهم فسلم منهم. فلم أزدد في أمر النسك نظراً، إلا ازددت فيه رغبةً، حتى هممت أن أكون من أهله. ثم تخوفت ألا أصبر على عيش الناسك، ولم آمن إن تركت الدنيا وأخذت في النسك، أن أضعف عن ذلك؛ ورفضت إعمالاً كنت أرجو عائدتها؛ وقد كنت أعملها فأنتفع بها في الدنيا، فيكون مثلي في ذلك مثل الكلب الذي مر بنهرٍ وفي فيه ضلعٌ، فرأى ظلها في الماء، فهوى ليأخذها، فأتلف ما كان معه؛ ولم يجد في الماء شيئاً. فهبت النسك مهابةً شديدةً، وخفت من الضجر وقلة الصبر، وأردت الثبوت على حالتي التي كنت عليها. ثم بدا لي أن أسبر ما أخاف ألا أصبر عليه من الأذى والضيق والخشونة في النسك؛ وما يصيب صاحب الدنيا من البلاء؛ وكان عندي أنه ليس شيءٌ من شهوات الدنيا ولذاتها إلا وهو متحول إلى الأذى ومولدٌ للحزن. فالدنيا كالماء الملح الذي يصيبه الكلب فيجد فيه ريح اللحم؛ فلا يزال يطلب ذلك حتى يدمي فاه. وكالحدأة التي تظفر بقطعة من اللحم، فيجتمع عليها الطير، فلا تزال تدور وتدأب حتى تعيا وتتعب؛ فإذا تعبت ألقت ما معها. وكالكوز من العسل الذي في أسفله السم الذي يذاق منه حلاوةٌ عاجلةٌ وآخره موتٌ ذعافٌ ، وكأحلام النائم التي يفرح بها الإنسان في نومه، فإذا استيقظ ذهب الفرح. فلما فكرت في هذه الأمور، رجعت إلى طلب النسك، وهزني الاشتياق إليه؛ ثم خاصمت نفسي إذ هي في شرورها سارحةٌ، وقد لا تثبت على أمرٍ تعزم عليه: كقاضٍ سمع من خصمٍ واحدٍ فحكم له، فلما خضر الخصم الثاني عاد إلى الأول وقضى عليه. ثم نظرت في الذي أكابده من احتمال النسك وضيقه؛ فقلت: ما أصغر هذه المشقة في جانب روح الأبد وراحته. ثم نظرت فيما تشره إليه النفس من لذة الدنيا، فقلت: ما أمر هذا وأوجعه، وهو يدفع إلى عذاب الأبد وأهواله! وكيف لا يستحلي الرجل مرارةً قليلةً تعقبها حلاوةٌ طويلةٌ? وكيف لا تمر عليه حلاوةٌ قليلةٌ تعقبها مرارةٌ دائمةٌ? وقلت: لو أن رجلاً عرض عليه أن يعيش مائة سنةٍ، لا يأتي عليه يومٌ واحدٌ إلا بضع منه بضعةٌ ؛ ثم أعيد عليه من الغد؛ غير أنه يشرط له، أنه إذا استوفى السنين المائة، نجا من كل ألم وأذى، وصار إلى الأمن والسرور، كان حقيقاً ألا يرى تلك السنين شيئاً. أسبر ما أخاف ألا أصبر عليه من الأذى والضيق والخشونة في النسك؛ وما يصيب صاحب الدنيا من البلاء؛ وكان عندي أنه ليس شيءٌ من شهوات الدنيا ولذاتها إلا وهو متحول إلى الأذى ومولدٌ للحزن. فالدنيا كالماء الملح الذي يصيبه الكلب فيجد فيه ريح اللحم؛ فلا يزال يطلب ذلك حتى يدمي فاه. وكالحدأة التي تظفر بقطعة من اللحم، فيجتمع عليها الطير، فلا تزال تدور وتدأب حتى تعيا وتتعب؛ فإذا تعبت ألقت ما معها. وكالكوز من العسل الذي في أسفله السم الذي يذاق منه حلاوةٌ عاجلةٌ وآخره موتٌ ذعافٌ ، وكأحلام النائم التي يفرح بها الإنسان في نومه، فإذا استيقظ ذهب الفرح. فلما فكرت في هذه الأمور، رجعت إلى طلب النسك، وهزني الاشتياق إليه؛ ثم خاصمت نفسي إذ هي في شرورها سارحةٌ، وقد لا تثبت على أمرٍ تعزم عليه: كقاضٍ سمع من خصمٍ واحدٍ فحكم له، فلما خضر الخصم الثاني عاد إلى الأول وقضى عليه. ثم نظرت في الذي أكابده من احتمال النسك وضيقه؛ فقلت: ما أصغر هذه المشقة في جانب روح الأبد وراحته. ثم نظرت فيما تشره إليه النفس من لذة الدنيا، فقلت: ما أمر هذا وأوجعه، وهو يدفع إلى عذاب الأبد وأهواله! وكيف لا يستحلي الرجل مرارةً قليلةً تعقبها حلاوةٌ طويلةٌ? وكيف لا تمر عليه حلاوةٌ قليلةٌ تعقبها مرارةٌ دائمةٌ? وقلت: لو أن رجلاً عرض عليه أن يعيش مائة سنةٍ، لا يأتي عليه يومٌ واحدٌ إلا بضع منه بضعةٌ ؛ ثم أعيد عليه من الغد؛ غير أنه يشرط له، أنه إذا استوفى السنين المائة، نجا من كل ألم وأذى، وصار إلى الأمن والسرور، كان حقيقاً ألا يرى تلك السنين شيئاً.
    وكيف يأبى الصبر على أيام قلائل يعيشها في النسك، وأذى تلك الأيام قليلٌ يعقب خيراً كثيراً? فلنعلم أن الدنيا كلها بلاءٌ وعذابٌ. أوليس الإنسان إنما يتقلب في عذاب الدنيا من حين يكون جنيناً إلى أن يستوفي أيام حياته? فإذا كان طفلاً ذاق من العذاب ألواناً: إن جاع فليس به استطعامٌ، أو عطش فليس به استسقاءٌ، أو وجع فليس به استغاثةٌ؛ مع ما يلقى من الوضع والحمل واللف والدهن والمسح؛ إن أنيم على ظهره لم يستطع تقلباً؛ ثم يلقى أصناف العذاب مادام رضيعاً، فإذا أفلت من هذا الرضاع، أخذ في عذاب الأدب، فأذيق من ألواناً: من عنف المعلم، وضجر الدرس، وسآمة الكتابة؛ ثم له من الدواء والحمية والأسقام والأوجاع أوفى حظٍ. فإذا أدرك كانت همته في جمع المال وتربية الولد ومخاطرة الطلب والسعي والكد والتعب. وهو مع ذلك يتقلب مع أعدائه الباطنية اللازمة له: وهي الصفراء والسوداء والريح والبلغم والدم والسم المميت والحية اللاذعة؛ مع الخوف من السباع والهوام؛ مع صرف الحر والبرد والمطر والرياح؛ ثم أنواع عذاب الهرم لمن يبلغه. فلو لم يخف من هذه الأمور شيئاً، وكان قد أمن ووثق بالسلامة منها فلم يفكر فيها، لوجب عليه أن يعتبر بالساعة التي يحضره فيها الموت، فيفارق الدنيا؛ ويتذكر ما هو نازل به في تلك الساعة: من فراق الأحبة والأهل والأقارب وكل منونٍ به من الدنيا، والإشراف على الهول العظيم بعد الموت. فلو لم يفعل ذلك، لكان حقيقاً أن يعد عاجزاً مفرطاً محباً للدناءة مستحقاً للوم؛ فمن ذا الذي يعلم ولا يحتال لغد جهده في الحيلة، ويرفض ما يشغله ويلهيه من شهوات الدنيا وغرورها? و لاسيما في هذا الزمان الشبيه بالصافي وهو كدرٌ فإنه وإن كان الملك حازماً عظيم المقدرة، رفيع الهمة بليغ الفحص، عدلاً مرجواً صدوقاً شكوراً، رحب الذراع مفتقداً مواظباً مستمراً عالماً بالناس والأمور، محباً للعلم والخير والأخيار، شديداً على الظلمة، غير جبانٍ و خفيف القياد، رفيقاً بالتوسع على الرعية فيما يحبون، والدفع لما يكرهون؛ فإنا قد نرى الزمان مدبراً بكل مكانٍ، فكأن أمور الصدق قد نزعت من الناس، فأصبح ما كان عزيزاً فقده مفقوداً، وموجوداً ما كان ضائراً وجوده. وكأن الخير أصبح ذابلاً والشر أصبح ناضراً. وكأن الفهم أصبح قد زالت سبله. وكأن الحق ولى كسيراً وأقبل الباطل تابعه. وكأن اتباع الهوى وإضاعة الحكم أصبح بالحكام موكلاً؛ وأصبح المظلوم بالحيف مقراً والظالم لنفسه مستطيلاً. وكأن الحرص أصبح فاغراً فاه من كل وجهةٍ يتلقف ما قرب منه وما بعد. وكأن الرضا أصبح مجهولاً. وكأن الأشرار يقصدون السماء صعوداً. وكأن الأخيار يريدون بطن الأرض؛ وأصبحت الدناءة مكرمةٌ ممكنةٌ؛ وأصبح السلطان منتقلاً عن أهل الفضل إلى أهل النقص. وكأن الدنيا جذلة مسرورةٌ تقول: قد غيبت الخيرات وأظهرت السيئات. فلما فكرت في الدنيا وأمورها؛ وأن الإنسان هو أشرف الخلق فيها وأفضله؛ ثم هو لا يتقلب إلا في الشرور والهموم، عرفت أنه ليس إنسانٌ ذو عقلٍ يعلم ذلك ثم لا يحتال لنفسه في النجاة؛ فعجبت من ذلك كل العجب. ثم نظرت فإذا الإنسان لا يمنعه عن الاحتيال لنفسه إلا لذةٌ صغيرةٌ حقيرةٌ غير كبيرةٍ من الشم والذوق والنظر والسمع واللمس: فعله يصيب منها الطفيف أو يقتني منها اليسير؛ فإذا ذلك يشغله ويذهب به عن الاهتمام لنفسه وطلب النجاة لها.
    فالتمست للإنسان مثلاً، فإذا مثله مثل رجلٍ نجا من خوف فيلٍ هائجٍ إلى بئرٍ، فتدلى فيها، وتعلق بغصنين كانا على س
    محمد لعضمات :lol:
يعمل...
X