مَرْمَرْ زَمانِي .. يا زَمانِي مَرْمَرْ!

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبدالرحمن السليمان
    عضو مؤسس، أستاذ جامعي
    • May 2006
    • 5732

    مَرْمَرْ زَمانِي .. يا زَمانِي مَرْمَرْ!

    مَرْمَرْ زَمانِي .. يا زَمانِي مَرْمَرْ!

    [align=justify]بينما كنت أسوح سنة 2000 مع صاحبي في جبال أميرداغ (1) في تركيا، مررنا بسوق شعبية فيها من خضروات الأرض ما لم يطعمه صديقي منذ عقد ونصف، وما لم أطعمه أنا منذ عقدين تقريبا .. فسارعنا وملأنا سلة كبيرة من القِثّاء والجارِينِك (2) والعُوجَة (3)، وغسلنا ذلك كله بالماء، وأخذنا نأكل هذه الخضروات والثمار اللذيذة ونحن نمشي في الشارع ونقضمها بنهم ومتعة غير آبهين بنظرات المارة الغريبة إلينا، ولا بسهسكة بعضهم وهم يرمقوننا بنظرات ماكرة .. فلفتُّ نظر صاحبي إلى ذلك، فلم يَعِرْ تلك النظرات أي اهتمام لانشغاله بالقثاء والجارِينِك والعُوجَة أكلا وقضما، وتمثل لي بمثل بلدي متخلف لا يقل مكرا عن نظرات المارة إلينا: "البَلَد اللِّي ما لَكْ فيها، شَمِّر و[رقابة ذاتية] فيها"!

    وبينما نحن نلف وندور في أنحاء السوق، شاهدنا كُوسا وباذنجانا ليس في الدنيا أصلحُ منه لتحضير أكلة المحشي، وهي أكلتنا المفضلة، وعهدنا بها بعيد جدا .. فقررنا صنع المحشي بأنفسنا لأننا كنا نَسُوح في أرض الترك بلا نسوان .. فضلا عن أن حريمنا لم يسمعن بأكلة المحاشي ولا الجارِينِك ولا العُوجة لاختلاف الأمصار والأصقاع والتقاليد المطبخية والزراعية .. فبحثنا عن سكين لحفر الكوسا والباذنجان، ووجدناها وعدنا إلى الدار التي نزلنا فيها، وهي دار لصديق تركي يقيم في بلجيكا، كان وضعها تحت تصرفنا لننزل فيها في أثناء سياحتنا في أميرداغ، ـــ أنزله الله منزلا في الجنة خيرا منها.

    وبما أن الكوسا الصغير والباذنجان الصغير المستعمل في أكلة المحشي غير متوفر في بلجيكا، ذلك أن باذنجان بلجيكا كله من صنف "بيض العجل" الكبير الذي وزن الحبة منه حوالي نصف كيلو، وأن طول الكوساية (4) البلجيكية من عشرين سنتم فما فوق، فلا يصلح شيء من هذا الباذنجان وهذا الكوسا للمحشي، ــ فلقد تعاملنا مع الموضوع بجدية عالية، فكأننا وجدنا كنزا! فبدأنا بجرد متطلبات أكلة المحشي، من الكوسا والباذنجان، مرورا بالأرز واللحم المفروم، وانتهاء بالطماطم والعُصْفُر، وقيّدنا ذلك كله في ورقة، ووضعنا خطة مفصلة لتحضير المحشي .. ثم بدأنا بحفر الباذنجان والكوسا؛ فتذكرنا في أثناء الحفر العِظام والعَصاعِيص (5) التي توضع في أسفل القدر كي لا يحترق الباذنجان والكوسا .. فانطلقت إلى الجزار واشتريت بدلا منها كتف خروف صغير مع رقبته وعدت .. وبعد ثلاث ساعات نضج المحشي فوضعناه في قصعة كبيرة زيناها بالفليفلة الخضراء الحارة التي لا بد منها في مثل هذه النوازل، فكانت النتيجة أكثر من خمسين محشية مع كتف ورقبة فوقها مطهيان بمرق المحشي المعتبر .. أثار هذا المنظر البديع فينا حالة اصطهاج (6) إشراقية، فانعقدت النية على إحالة القصعة إلى طَلَلٍ بالٍ خالٍ إلا من العِظام وذلك لبعد عهدنا بالمحشي والعَصاعِيص وما أشبه العَصاعِيص ..

    "بسم الله"، قلناها ونحن نمد أيدينا ونتناول أول محشية .. وبعد أول لقمة بدأنا نلوي ألسنتنا يمنة ويسرة، والواحد منا يحملق في وجه صاحبه ..

    هل تشعر بـ .."،
    "المرارة"؟
    "أي نعم"،
    "جرّب هذه الباذنجانة"،
    "يا لطيف على هذه المرارة"!
    "لنذق اللحم"،
    "شيء لا يُطاق" ..
    "وا حسرتاه على الطبخة"!

    لقد كان بين الكوسا كوساية مُرَّة شديدة المرارة، أفرزت مرارة لم أعهد مثلها في حياتي، فجعلت الطبخة مرة غاية في المرارة، فاستحال أكلُ أي شيء من الطبخة لشدة المرارة فيها، فقلنا: لنفتح المحشية ونخرج الأرز واللحم من داخلها ونحن نأمل ألا يكون المرق الملوث بالمرارة قد وصل إلى داخلها، لكنه وصل وجعل الأرز مُرا فمَرْمَرَ قلبنا معه وعليه .. فتمثلت لصاحبي بالمثل: "الذي ما له حظ، لا يتعب ولا يشقى"! وكان الجوع قد بلغ منا مبلغا فعدنا إلى القثاء والجارينك والعُوجَة واستأنفنا القضم والقرط ونحن نندب حظنا التعيس ونُفَلْسِفُ ما جرى لنا .. إلا أن بعض الخالات ــ وقد حدثتها بالنازلة ــ قالت لي فيما بعد: "يا غَشِيم (7) .. بعض الكوسا والقرع مر لذلك يُذاق برأس اللسان قبل حفره كي لا تُـمَرْمِرَ الطبخة". فاعترفت لها بأن لحس الكوسا والقرع بطرف اللسان بحثا عن المر منها، أمر غاب عن بالي وقت طبخ المحشي في أميرداغ!

    واليوم، بعد حوالي عشر سنوات من نازلة المحشي التركي، اشتريت قثاء مغربيا من سوق "كاسا باراطا" (8) في طنجة، بعضه أخضر غامق، بل شديد الخضرة، وبعضه الآخر يشبه العَجُّور (9)، وطلبت من أم العيال أن تصنع لي سلطة بلدية، وأن تكثر لي من القثاء فيها على أن تفرم القثاء قطعا بحجم رأس العصفور كي يحافظ على رونقه ومذاقه فلا يذوب في السلطة أو يستحيل مخللا فيفسد طعمه .. وطعمت لقمة منه، فإذا هو أمرُّ من كوسا أميرداغ التركي، وأدهى على اللسان، وأفتك بالفم، وأشد بلاء على المزاج .. فَتَنَكْرَزْتُ (10) بهذه المرارة التي أتذوقها دائما في أسفاري .. وأفضت بي النَّكْرَزَةُ إلى التأمل فاليقين بأن المرارة ليست في الخضروات التي نتذوقها في أثناء الزيارات المتكررة إلى البلاد العربية، بل في الزمان الذي نعيشه، وفي أُهَيْلِهِ .. ففي كل مرة أكتشف أن الزمان هو الذي مَرْمَرَ ويُـمَرْمِرُنا معه، وليس الكوسا أو العَجُّور أو القرنبيط .. وأهيله هم الذين تعطلت حواسهم فباتوا لا يشعرون إلا بالمرارة .. وليت المرارة اقتصرت على الكوسا والقثاء، فما أغنانا عن الكوسا والقثاء، ولكن حتى العسل الذي تلحسه في دنيا العرب .. أصبح طعمُه مُرّا والعياذ بالله ..

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    شرح اللغة والمفردات العامية حسب ما يفهم منها في بلاد الشام:

    (1) أميرداغ: اسم بلدة تركية هاجر معظم سكانها إلى بلجيكا وألمانيا وهولندة. ويعني الاسم بالتركية: "جبل الأمير".
    (2) الجاريِنِك: هو الخوخ الحامض قبل أن يصبح حلوا. تركي مُسَوْرَن! وفيه لغات كثيرة منها: الجانِيرِك، الجارِنْك وربما غيرها.
    (3) العُوجَة: اللوز الأخضر. وتسمى أيضا: "العَقّابِيَّة".
    (4) الكوُساية: واحدة الكوسا.
    (5) العَصاعِيص: جمع عَصْعُوص: هي آخر عظيمات في العمود الفقري، طولها حوالي عشرة سنتم.
    (6) الاصطهاج: حالة بسط وانشراح ووجد وسعادة روحانية مثل حالة "الحال" عند الصوفي أو حالة "النيرفانا" عند الهندوس ــ "بلا تشابيه"!
    (7) الغَشِيم: قليل الحيلة!
    (8) سوق "كاسا باراطا" سوق شعبية مشهورة في مدينة في طنجة المغربية، يباع فيها كل شيء تقريبا.
    (9) العَجُّور: هو في سورية القثاء المشوه الشكل، يصلح الطري منه للأكل، ويقدم القاسي منه طعاما للدواب. قد يطلق اسم العجور أيضا على القثاء مع فارق أن القثاء أصفر اللون بينما العجور أخضره. وثمة أنواع من العجور تبدو مثل البطيخ الصغير غير الناضج.
    (10) تَنَكْرَزَ: عَصَّبَ وتشاءم!
    [/align]

  • #2
    رهيبة يا موسوعتنا الجميلة ما رنته لنا من خطبة، مَرْمَرْ زَمانِي .. يا زَمانِي مَرْمَرْ!

    تعليق


    • #3
      بالمناسبة حال الكوسة والباذنجان بالإضافة إلى أنواع أخرى من المحاشي هنا مثل حالكم في بلجيكا،
      فلذلك كان مذاق طبختكم ونكهتها بالنسبة لي على الأقل لها طعم آخر

      تعليق

      • عبدالرحمن السليمان
        عضو مؤسس، أستاذ جامعي
        • May 2006
        • 5732

        #4
        [align=justify]
        المشاركة الأصلية بواسطة s___s مشاهدة المشاركة
        رهيبة يا موسوعتنا الجميلة ما رنته لنا من خطبة، مَرْمَرْ زَمانِي .. يا زَمانِي مَرْمَرْ!
        أبعد الله الإرهاب عنك يا صوغة .. إنما هي خواطر الأسفار نحاول أن نشرككم في ذكرياتها الحلوة والمرة!

        المشاركة الأصلية بواسطة s___s مشاهدة المشاركة
        بالمناسبة حال الكوسة والباذنجان بالإضافة إلى أنواع أخرى من المحاشي هنا مثل حالكم في بلجيكا،
        فلذلك كان مذاق طبختكم ونكهتها بالنسبة لي على الأقل لها طعم آخر
        الكوسا والباذنجان والقرع كله كبير الحجم لدى الأمم التي لا تعرف المحشي، بما في ذلك الأمة التايوانية .. لكن الأتراك والمغاربة بدؤوا يزرعون الكوسا الصغير في الغرب، دون الباذنجان الطويل فهذا لا يزال نادرا فيه. إن شدة مرارة القثاءة المغربية هي التي ذكرتني بشدة مرارة الكوساية التركية، مما جعل حديث المثل: "إن المرارة بالمرارة تذكر" ينطبق علينا!

        وهلا وغلا.[/align]

        تعليق

        • Demerdasch
          مترجم
          • Nov 2006
          • 2017

          #5
          إبداعٌ مضاعف! تقبلوا تحياتي بعد غيابٍ طال..
          رامي
          النمط يقتل الحضارة، والثقافة تتنفس من جدلية الاختلاف.

          تعليق

          • عبدالرحمن السليمان
            عضو مؤسس، أستاذ جامعي
            • May 2006
            • 5732

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة demerdasch مشاهدة المشاركة
            تقبلوا تحياتي بعد غيابٍ طال..
            رامي
            [align=justify]أهلا وسهلا بالأخ الحبيب النجيب الأستاذ رامي.

            أرجو أن تكون في أحسن حال، وأن يكون النجاح حليفك في دراساتك.

            وهلا وغلا.[/align]

            تعليق

            • سيد منازع
              عضو منتسب
              • Dec 2010
              • 153

              #7
              دكتور عبد الرحمن : لن تأكل ( المحشي ) إلا في مصر .. حتى يكتب الله لنا رؤياك

              تعليق

              • عبدالرحمن السليمان
                عضو مؤسس، أستاذ جامعي
                • May 2006
                • 5732

                #8
                المشاركة الأصلية بواسطة سيد منازع مشاهدة المشاركة
                دكتور عبد الرحمن : لن تأكل ( المحشي ) إلا في مصر .. حتى يكتب الله لنا رؤياك
                [align=justify]حياك الله أخي الكريم الأستاذ سيد،

                وأرجو أن يجود الزمان علينا بمكرمة اللقاء بك في أم الدنيا على قصعة "محاشي" معتبرة!

                بارك الله فيك.[/align]

                تعليق

                • سيد منازع
                  عضو منتسب
                  • Dec 2010
                  • 153

                  #9
                  وإنه لشرف لي ألتقي بحضرتك .... آه بالمناسبة سؤال يحيرني وليس هذا مكانه .. ولكن تذكرته الآن : ألتقي بحضرتك ... أم ألتقي حضرتك ؟

                  تعليق

                  يعمل...
                  X