الكاتب الفرنسة أ ندريه مالرو بقلم عمرو دسوقى هريدى

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عمرو دسوقى
    عضو منتسب
    • Jan 2011
    • 31

    الكاتب الفرنسة أ ندريه مالرو بقلم عمرو دسوقى هريدى

    من هو ندريه مالرو؟

    اندريه مالرو André Malraux (عاش 3 نوفمبر 1901 باريس - 23 نوفمبر 1976 كريتيل) هو فيلسوف وروائي و مفكر و ناقد أدبى وناشط سياسى فرنسي. نشأ عصامياً ومغامراً فغادر إلى الهند الصينية حيث شارك في تأسيس صحيفة ذات توجهات مضادة للاستعمار الفرنسي ثم قبض عليه بعد ذلك بقليل حيث وجهت له تهمة تهريب الآثار الخميرية وسجن في سنتي 1923 و 1924. عاد بعد ذلك إلى فرنسا و ألف أولى رواياته "الطريق الملكي" و التي نشرت سنة 1930 ، و لكن شهرته الحقيقية بدأت في 1933 حين نشر رواية "الشرط الإنساني" المتأثرة بالثقافة الصينية و فاز عنها بجائزة گونكور.

    مولدة ونشأتة

    وُلِد أندريه مالرو André Malraux في باريس لعائلة برجوازية مُفْلِسة. وبسبب انفصال والديه عاش في كنف والدته وجدته وخالته من دَخْلِ بقالية صغيرة، في ضاحية بوندي Bondy. لم يُعِرْ لدراسته كثيراً من الاهتمام، فوجد نفسه في مطلع شبابه من دون شهادة ولا مهنة، فقرر الخروج من هذه الحالة والانتصار على العَوَز متسلحاً بطموح مبرمج، ومعتمداً على هوايتيه: الفنون والأدب، وقد خدمه في ذلك خيال واسع وذكاء متوقد. اندفع في خِضَمِّ الحياة بنَهَم، تحدوه إرادة صلبة. تأنق بمظهره ولباسه، وتستر على طفولته وصباه وعدّها مرحلة مُذلة في حياته. ارتاد المكتبات يقرأ من دون هوادة ولا انتقائية، يبحث في الوقت عينه عن نصوص مَنْسيَّة لكُتَّاب من القرن التاسع عشر يُعيد نشرها، مُقدماً لها أو معلِّقاً عليها. أسهم منذ عام 1920 بمقالات أدبية شخصية في مجلتي «المعرفة» La Connaissance و«الفعل» L’Action، كما نشر أول أعماله «أقمار من ورق» Lunes en papier. تزوج في عام 1921 كلارا غولدشميت Clara Goldschmidt وبدأ معها حياة مُغامرة جامحة، وجاب الزوجان المتاحف ومُحترفات الفنانين يتذوقان الأعمال والتحف ويقيمان العلاقات والصداقات التي وسّعت آفاق الكاتب الفكرية والفنية والاجتماعية، وطافا المدن والبلدان لتعرّف معالمها الأثرية.


    في عام 1923 سافرا إلى الشرق الأقصى، بذريعة مُهمّة استكشافية في لاوس على تخوم كمبوديا، وحاولا تهريب نقوش وكتابات حجرية أثرية من معابد أنگكور، فحُكم على أندريه مالرو بالسجن ثلاث سنوات. لكن العريضة التي أطلقتها زوجته، والتي حملت تواقيع أشهر رجالات الفكر والفن الفرنسيين مثل أندريه جيد A.Gide وأندريه برتون A.Breton وفرانسوا مورياك F.Mauriac ولوي أراگون L.Aragon وإدمون جالو E.Jaloux، وعشرات آخرين، حالت دون تنفيذ الحكم. لكن المغامِرَين ما لبثا أن عادا إلى سايگون في مغامرة من نوع آخر، حيث أصدرا جريدة مناهضة للاستعمار الفرنسي. كذلك أسهم مالرو في تأسيس حركة المقاومة الثورية ڤييت منه Viet-Minh، قبل أن ينتقل إلى الصين إبان الإضراب العام في مدينة كانتون Canton والانتفاضة في شنغهاي التي ادعى أنه كان أحد قادتها الاثني عشر. وغادر المدينة بعد نجاح تشيانگ كاي-شك بقمع التمرد. وقد أغنت المغامرة في غابات كمبوديا والتجربة في معترك التحولات السياسية والاجتماعية في الشرق الأقصى خيال الكاتب ودفاتر جيبه بكثير من المشاهد والصور والمفاهيم، تبلورت فيما بعد في نتاج أدبي متنوع وانخراط عملي في الأحداث السياسية والعسكرية التي عصفت بأوربا على عتبة الحرب العالمية الثانية.

    بدأت حياة مالرو الأدبية الفعلية مع عودته إلى باريس في نهاية عام 1925، فنشر «إغراء الغرب» La Tentation de l’Occident (1926)، وهو مقاربة على شكل رسائل يتبادلها صيني يزور باريس مع فرنسي يزور الصين، يتعرّض الأول لصعود الفردية وغرور الأنا Le moi الأوربية التي تشارف عتبة الجنون، ويرصد الثاني ترنح العملاق الصيني، كصرح متهاوٍ ينتظر ساعة الانهيار. ونشر الكاتب في العام نفسه «المملكة الغريبة» Le Royaume farfelu، موضوعها ثورة وهمية ضمَّنها هواجس لم تبرحه طوال حياته: الغرائبية l’exotisme والحرب والتعذيب والموت.

    جاء بحثه «حول شباب اوروبي» D’une Jeunesse européenne رصداً لأزمة الغرب وجرداً لأنقاض مفاهيمه السائدة، حيث تحولت الـ«أنا» إلى قصر خاوٍ تجوبه أشباح بطولات وأوهام مآسٍ. وخَلُصَ إلى أن قيام ثورة فنية هو القادر فقط على إنتاج قِيم دائمة التحرك والتجدد، تحول دون أفول الغرب.

    في عام 1928 صدرت رواية مالرو الأولى «الفاتحون» Les Conquérants التي شهرته وأدخلته ميدان الأدب، استلهم فيها وقائع الإضراب العام في كانتون وضمّنها خلاصة تجربته، فحاز بها جائزة الانترالييه Prix interallié الأدبية. وفي «الطريق الملكي» La Voie royale (1930)، استوحى الكاتب مغامرته الكمبودية، بحثاً عن المعابد الأثرية، وأفرد صفحات للصراع مع عناصر طبيعية كالأمطار الموسمية والحشرات الزاحفة والغابة الأخطبوطية.

    توّجت «الوضع البشري» La Condition humaine (1933) أعمال مالرو الروائية، وعُدَّ أهم نتاج فكري له، ونال عنها جائزة غونكور Goncourt، إذ روى فيها الثورة الشيوعية في شنغهاي وقمع تشانغ - كاي - تشيك الوحشي لها، فأدهش جمهور القراء وأهل الأدب، وتردد اسمه على كل لسان من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مما جعل فرانسوا مورياك يتساءل: «أين ستتوقف عبقرية طموحٍ ثائرٍ من هذا الطراز، يَدّعي قلب النظام الفكري السائد». هكذا، بالمغامرة والقلم تخطى الأديب الشاب الدرجة الأخيرة من سلم الشهرة، وولج البرج العاجي للانتلجنسيا intelligentsia الأوربية المهيمنة، فحق له أن يعتلي منابرها ويدلي بدلوه في محافلها، ثائراً على الوضاعة، الظلم، العالَم والقَدَر من أجل كرامة إنسان من دون آلهةٍ ولا أساطير، طامحاً إلى التأثير في خريطة الفكر والمجتمع والسياسة، وإلى إلحاق اسمه وعمله ونتاجه بالتاريخ.

    انتسب مالرو إلى اللجنة العالمية ضد الفاشية وإلى العصبة الدولية المناهضة للا سامية، وهرع مع أندريه جيد إلى برلين يدافع عن شيوعيين متهمين بحرق مبنى البرلمان عام 1933. شارك خطيباً في المؤتمر الأول للكتَّاب السوڤييت في موسكو عام 1934، حيث تجرأ، ومن موقف استقلالي، على التنبيه بقصور ماركسيةٍ متحجرة. وفي «زمن الازدراء» Le Temps du mépris (1935) أشاد بالمقاومة الألمانية للنازية وأشار إلى وجود المعتقلات قبل أن يعي غيره ذلك بسنوات. انخرط إثر اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية (1936) في صفوف المقاومة الجمهورية، وجُرح في إحدى الغارات، وسافر بعدها إلى أمريكا الشمالية مُحاضِراً يجمع التبرعات للمقاومة. سرد في «الأمل» L’Espoir (1937) بعضاً من صفحات هذه الحرب، وحوّل الكتاب - بنفسه - إلى فيلم، صور أكثر مشاهده في ساحة القتال وأنجزه بعد الانسحاب (1938) في فرنسا.

    مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، استدعاه النفير العام إلى الخدمة في سلاح المدرعات، فجُرح (1940) وسُجن، لكنه فرّ ولجأ إلى المنطقة الحرة الجنوبية، حيث عاش متخفياً قبل أن يلتحق بالمقاومة بالاسم المستعار برجيه Berger، إثر فقدان أخويه المقاومَين. نشط خاصة في تنظيم الخلايا واستراتيجية تواصلها. أوقفه الألمان في عام 1944، وسُجن في مدينة تولوز قبل أن تحرره المقاومة. تولى فيما بعد قيادة لواء ألزاس - لورين Alsace-Lorraine من المتطوعين وأسهم معهم في تحرير هاتين المنطقتين.

    التقى مالرو الجنرال شارل ديغول [ر. دوغول] في عام 1945، فنشأت بينهما صداقة متينة أوصلته إلى حكومة فرنسا الحرة ملحقاً ثقافياً، وشغل منصب وزير إعلام في وزارة الاتحاد الوطني (1945- 1946). نشط سياسياً في المرحلة اللاحقة (1946- 1958) في حركة التجمع من أجل فرنسا (R.P.F) فكان ملهماً للديغولية Le Gaullisme. ومع عودة شارل ديغول إلى الحكم (1958- 1969) استدعى صديقه مالرو وزيراً مفوضاً لدى رئاسة مجلس الوزراء، وأصبح فما بعد ملحقاً للإعلام، وأخيراً وزير دولة لشؤون الثقافة.

    على الرغم من تعدد الأحداث وتسارعها، لم ينقطع مالرو يوماً عن الكتابة؛ ففي عام 1943 أصدر «أشجار الجوز في ألتنبورگ» Les Noyers de l’Altenburg وهو الجزء الأول المتبقي من عمل أكبر أتلفه الأمن الألماني، تبعه «مشاهد مختارة» Scènes choisies (1946) و«غويا» Goya (1947)، ثم تتالت الأعمال المخصَّصة للفنون: «سيكولوجيا الفن» Psychologie de l’art بأجزائها الثلاثة (1947- 1949)، «المتحف التصويري للنحت العالمي» Le Musée imaginaire de la sculpture mondiale بثلاثة أجزاء أيضاً (1952- 1954)، ثم الجزء الأول من «تحول الآلهة» La Métamorphose des dieux (1957).

    جاء الجزء الأول من «نقيض المذكرات» Antimémoires (التي ترجمت إلى العربية «لا مذكرات») في عام 1967، ابتداعاً جديداً في السيرة الذاتية، نحت فيه الكاتب الشخصية أو «التمثال» الذي أراده نموذجاً وقدوة: ترك في العتمة ذلّ الطفولة ووضاعة عائلة بوندي، تغاضى عن الحياة العاطفية المليئة بالتقلبات والنساء ونظَّم كما شاء الأحداث الأخرى من منظار شموخ الرؤية وكبرياء الانتصار على النفس والأقدار والآخرين.

    بعد انسحاب شارل ديغول من رئاسة الجمهورية في عام 1969، اعتزل مالرو العمل السياسي وانكبّ على نتاجه الفكري يُنقحه، يُغنيه ويعيد توزيعه كسمفونية موسيقية، فتشعبت الأعمال وانتقلت مقاطع ونصوص وفصول من مُؤَلف إلى آخر آخذة منحى مغايراً وبُعداً جديداً. كتب «أشجار السنديان التي تُقطع» Les Chênes qu’on abat (1971) وهو حوار مع شارل ديغول تضمن نصوصاً من عمل آخر هو «مرآة اليَمْبوس» Miroir des limbes عن سِيَر بعض مشاهير السياسة مثل ماوتسي تونغ Mao Tsï-Tong وديغول، ومقاربة بين الحضارات لاكتشاف خطوط تلاقيها وتواصلها. أكمل ونشر الجزأين المتبقيين من «تحوّل الآلهة» (1974 و1976) وأبحاثاً أخرى كانت تنتظر دورها إلى النور، مثل «الإنسان العَرَضي والأدب» L’homme précaire et la littérature (1977)، ومنها ما انتظر إلى غداة وفاته في كريتي Créteil.

    لاتكمن إنجازات مالرو في أعماله الأدبية فقط إنما في الشخصية التي اجترحها؛ فقد قرر أن «يكون ويصير» d’être et de devenir أندريه مالرو، ففي عداد الشخصيات الروائية التي جسّمها تبقى شخصيته هي الأكثر جاذبية وتألقاً. أدبه ليس لوناً، وفكره ليس فلسفة ولا منهجاً، إنه فكر مرن يعتمد المغامرة مرة والثورة أخرى، الأممية تارة والوطنية تارة أخرى، يجنح إلى المحافظة آناً وإلى العبثية أحياناً؛ نتاجه غلاف لسيرورة processus رحلة طويلة حول الذات ترمي إلى تكوين علم أخلاق على مستوى الإنسان، خطته صراع بين الواقع والطموح وقاعدته رفع الوعي الثقافي الفردي والجماعي إلى مستوى التأثير في مجرى الأحداث والأقدار.

    سبق أندريه مالرو صديقه ألبير كامو في الحديث عن عبثية الحياة وكذلك جان بول سارتر في القول إن الوعي بالوجود la conscience d’exister هو سلاح الإنسان في محاربة القدر، في حياة قصيرة أهميتها أنها لا تساوي شيئاً، ولكن لاشيء يساويها، فالملحمة l’épopée الإنسانية هي حلم واعين des conscients لابد من تحريرها من كل غاية إلهية.

    استبصر مالرو انحسار أوربا الاستعمارية وتهاوي مفاهيمها الاستعلائية العقيمة، فراح يبحث في المغامرة الآسيوية عن تجربة كوَّنت أسطورته الثورية؛ فإن كان العَدَم قدر الإنسان، فقد أثبت أبطال «الوضع البشري» أولوية حريتهم، في صراع من أجل إنسانية بلا قيود ولا سلاسل، مُفضِّلين الموت على التعاسة والعبودية في تضامن أخوي رجولي fraternité virile.

    كان المغامر الثائر حاضراً على مفارق تاريخ القرن العشرين، ناهض الاستعمار في الشرق الأقصى، ساند الثورة الشعبية في إسبانيا، قارع الفاشية والنازية في ألمانيا وفرنسا، فحق له بامتياز القول: «كنت هناك» في كل معارك عصره الكبيرة لرفض إملاءات الاستبداد وانعتاق كرامة الإنسان. تعمقت رؤية المقاتل وتطورت، فأدخل في عداد أبطال «الأمل» L’Espoir شريحة جديدة من المثقفين تتعاطى الشأن الفني وتعتمد النقاش الأيديولوجي، وهكذا رجحت لغة الفكر la pensée على دور الفعل l’action.

    تعاطى المناضل مالرو السياسة فيما بعد، كما يُتعاطى الفن، وأراد أن يطَوِّعها. رأى، لفترة، أن الشيوعية قد أعادت «الخصوبة» للفرد، لكنه ما لبث أن جابه حلفاء الأمس لارتيابه بموقفهم غداة الحلف الألماني-السوڤيتي، ودائماً من موقع الدفاع عن الحريات، فكانت إرادته رديفاً لصمود الشعوب، ونبرته على المنابر صدى لصراخها.

    عاصر الأديب مالرو مدارس الفن والأدب الناشئة من التكعيبية إلى الدادائية والسريالية والوجودية، وحسَبَ مؤسسيها في عداد أترابه ولم يعتنق أياً منها. اعتمد أسلوباً خاصاً ونمطاً فريداً في الكتابة، ريشة رشيقة «تثب وثباً» كما يصفها أندريه جيد، تبتُر كحد السيف في الجمل والعبارات، تأبى التمهل وترفض الاستطالة للِّحاق بأفكار متدفقة تفتح أبواب التاريخ والميثولوجيا، تُسائل الديانات بنصوصها وفنونها عن الموت والمصير والعدم، هواجس لم تبرحه يوماً، وقد خلص منها إلى حقيقة أنه على الإنسان أن يصنع مصيره بنفسه، انطلاقاً من مقولة نيتشه «الله قد مات»، والتي أضاف إليها صاحب «تحول الآلهة» «وما من شيء يعيده إلى الحياة في قلوب يائسة». أي جرأة لصبي بقالية بوندي الذي صادق كبار الأدباء والفنانين وحاور ماو، نهرو، تروتسكي، رافق ديگول واعتنق سياسته، والقائل يوماً: «سأثبت لهم أنني أكبر كاتب في هذا القرن»!.
يعمل...
X