مقاربة نقدية في المجموعة القصصية " شدو الكازورينا " للكاتب محمود الديداموني. بقلم / مجدي جعفر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مجدي جعفر
    عضو منتسب
    • Jun 2021
    • 32

    مقاربة نقدية في المجموعة القصصية " شدو الكازورينا " للكاتب محمود الديداموني. بقلم / مجدي جعفر

    مقاربة نقدية في المجموعة القصصية " شدو الكازورينا " للكاتب محمود الديداموني.
    بقلم / مجدي جعفر
    ........................................
    ( 1 )
    اختار الكاتب قصة " شدو شجرة الكازورينا " عنوانا لمجموعته القصصية، واعتمد فيها على الرمز المراوغ، ولم يكتف بالرموز الإيحائية البسيطة وحسب، بل انتظمتها الرموز المركبة، وتمرد الرمز الكلي في ثنايا القصة وفي ثنايا المجموعة كلها، لتُقرأ على أكثر من مستوى، وبذلك يكون قد استفاد من الرمز كاختراع شعري معاصر، وله حضوره في هذه المجموعة.
    وقدعرفت الحياة الثقافية والأدبية محمود الديداموني شاعرا مجيدا، فصدر له ديواني شعر : " كان في عيني حلم " و " حين يحط الموج "، وله أيضا مساهماته الطيبة في المسرح، فصدرت له مسرحيته الشعرية " مرايا الوهن " ونُفذت له على خشبة المسرح مسرحية نثرية بالعامية المصرية، وعُرف أيضا قاصا جميلا وروائيا مقتدرا من خلال مجموعتيه : " ليست كغيرها " و " فراشات تغازل قوس قزح " وروايتيه : " واسمه المستحيل " و " نزف ".
    وعُرف أيضا ناشطا ثقافيا، وباحثا وناقدا وله اسهاماته النقدية المهمة، فتناول بالدرس والنقد والتحليل إبداعات أبناء جيلة والأجيال السابقة، واحتضانه الحنون للأقلام الواعدة ودعمها وتشجيعها، وقد كرمه إقليم شرق الدلتا، وهو تكريم صادف أهله، وأقام له نادي أدب ديرب نجم مؤتمرا تناول تجربته الإبداعية.
    وهذه هي المجموعة القصصية الثالثة لكاتبنا، والتي صدرت عن الهيئة العامة للكتاب 2021م، وقد استفاد فيها محمود الديداموني القاص من محمود الديداموني الشاعر / القاص / الروائي / المسرحي / الباحث / الناقد / الناشط الثقافي، فبلغ فيها قمة النضج الفني، وهي واحدة من المجموعات القلائل التي قرأتها مؤخرا وكانت أكثرثراءا وجمالا واكتمالا.
    وقراءتي في هذه المجموعة هي قراءة المُحب، الممسوس بغواية هذا الفن المخاتل، والمراوغ الجميل.
    ( 2 )
    إذا كان الكاتب قد اختار " شجرة الكازورينا " عنوانا لمجموعته، فإنه في الصفحة التالية، يقدم الإهداء إلى " شجرة الصفصاف " :
    ( إلى شجرة الصفصاف الصامدة في وجه الريح هناك على بُعد أمتار قليلة من جنتي ).
    وما بين شجرة الكازورينا وشجرة الصفصاف فضاءات واسعة، هل يملأ الكاتب بقصصه هذه الفضاءات أم يترك للقارئ مساحة من هذه الفضاءات ويشركه معه في ملئها؟
    ورغم أن شجرة الصفصاف لم يرد ذكرها في أي قصة سواء في المتن أو حتى في الهامش، ولكنها رغم الغياب تظل حاضرة في ذهن المتلقي، ويستدعيها ليواجه بها غزو " الكازورينا " تلك الشجرة الوافدة، والتي تم غرسها في الجهة الشرقية للقرية، ويعشش على أغصانها البوم والغربان، وتسكنها الأفاعي والحيات والثعابين، فالخير لا يأتينا من الجهة الشرقية أبدا، والبوم في المعتقدات الشعبية نذير الشؤم ورمز الخراب.
    إن العدو المتربص بنا، والذي يأتينا دائما من الجهة الشرقية، لا يريد قيام هذه البلاد، وكاد أن يحقق ما أراد من خلال القضاء على ثوابت القرية / الوطن، وضرب الهوية في مقتل، بغزوه الفكري والثقافي، وماذا بعد أن أزاحت شجرة الكازورينا شجرة الصفصاف وحلت محلها؟.
    1 – تم إغراق القرية بالمخدرات.
    2 – بارت الأرض :
    ( حقول القمح أنهكها العطش، تتسع شقوقها كأخاديد تمرح بها الثعابين والسحالي والفئران )
    3 – الخراب والفقر والجوع :
    ( أصبحت سطوح البيوت عارية .. والحقول يابسة )
    ( العناكب سكنت البيوت )،
    بل صار لها مخالب تدمي أيدي كل من يقترب منها، وقد أدمت بمخالبها المدببة يد الجدة التي حاولت مقاومتها.
    4 – صرف الناس عن الصلاة ومحاولة التخلص من رجال الدين والقضاء على الدين ذاته :
    ( إمام الجامع فقد علاقته بمواقيت الصلاة ولا زال يستحث الناس على أدائها .. رغم أنه فقد القدرة على الاقناع )
    وثمة محاولات خبيثة للتخلص من إمام المسجد الذي أصبح صداعا في رؤوس الناس!.
    ( كانت أشجار الكازورينا تتزايد بشكل منتظم .. فعلى ناصية كل حقل بزغت شجرة )
    ( أشجار الكازورينا تكبر بشكل مخيف .. والأعشاش على فروعها لا حصر لها )
    من إذن يقاوم أسراب البوم التي صنعت تشكيلات مهيبة، وحجبت ضوء الشمس عن القرية؟
    إنها الجدة التي على وعي بصير بالصراع الوجودي مع العدو الذي استغل فترة الهدنة معه وفعل بالبلاد والعباد ما فعل، فذهبت مع أحفادها، لتجتز شجرة الكازورينا من جذورها، فهل تنجح؟.
    اختار الكاتب الجدة والأطفال الصغار من الأحفاد للمقاومة ولم يختر الأجيال التي بينهما، فهذه الأجيال صارت مسخا مشوها، بل نجح العدو في فترة الهدنة في تطويعها وتشكيلها وتحويلها إلى كائنات هشة وهلامية.
    ( كنا نحن أحفادها قد تحلقنا حولها .. ممسكين ببعض صحون وملاعق الطعام نضرب بها .. متجهين بها نحو شجرة الكازورينا .. وملوحين بما في أيدينا للبوم الذي يحجب بتشكيلاته ضوء النهار .. ويشوش بنعيقه فضاء القرية )
    هل تنجح الجدة وأحفادها الصغار في اجتزاز شجرة الكازورينا والقضاء على تشكيلات البوم؟.
    ( كلما ضربت جدتي الشجرة كلما اتسع محيط جذعها، ونمت فروع جديدة بأعشاش كثيرة أخرى )
    وهنا إشارة إلى تمكن العدو منا، وصعوبة محو أثاره، ولكن محوها ليس بالمستحيل، ولم تيأس الجدة، فأرادت أن تثير قضية الوعي لدي أهل القرية، وتوقظهم من سباتهم العميق:
    ( استدارت بوجهها ناحية المقهى، ....، كانت شمعة وحيدة لا تزال في يدها ... ألقت بها مشتعلة وسط كومة البوص والحطب بجوار المقهى )
    رغم أن أدوات المقاومة في يد الجدة والأطفال أدوات ضعيفة، لكن يظل فعل المقاومة ذاته فعلا ماجدا ومحمودا، وعلينا أن نعزز من هذا الفعل، ورغم توعل وتغلغل أفعال العدو في القرية، فلم يزل هناك من يقاوم.
    وبالتأكيد سيستعيد القارئ شجرة الصفصاف برمزيتها ودلالتها في مواجهة ومقابلة شجرة الكازورينا برمزيتها ودلالتها، فشجرة الصفصاف لم تزل هي الأخرى تقاوم، حتى لو كان حضورها ومقاومتها في وعي الكاتب، فانتقلت إلينا وصارت في وعينا أيضا، وهي الغائبة الحاضرة، وأضفى عليها الكاتب هالة من القداسة وجعلها على عتبات جنته.
    إن المتأمل في لوحة الغلاف، قد يتملكه بعض الضيق والغضب، وأعتقد اعتقادا جازما بأن أي من الفنان أوالمخرج الفني لم يقرأ المجموعة ولم يكلف نفسه حتى بقراءة القصة التي تحمل المجموعة عنوانها، فاكتفى فقط باسم القصة، وجاء بلوحة لشجرة كازورينا تحاكي الطبيعة، ووضعها على الغلاف، وهي – أي اللوحة – قد نجد أفضل منها في كراسات الرسم لتلاميذ المرحلة الإبتدائية الذين يتعلمون الرسم كمحاكاة للطبيعة، إن الرسوم المصاحبة للأعمال الإبداعية، يجب أن تكون بعيدة كل البُعد عن الوضوح والمباشرة، فالمباشرة عدوة الفن الأول، وكنت أتمنى أن تأتي لوحة الغلاف على مستوى قصة العنوان على الأقل، ولا تهب نفسها للمتلقي من أول نظرة!!.
    فمدارس الفن التشكيلي أفادت الأدب والأدباء، وبعض المدارس النقدية تولي اهتماما خاصا بلوحة الغلاف وبطريقة الكتابة وبالإخراج الفني، وقياس مدى تقارب اللوحة من العمل واندماجها فيه.
    ( 3 )
    تحت ثلاثة عناوين رئيسة، قسّم الكاتب مجموعته، العنوان الرئيس الأول باسم ( أصوات ) ويضم قصص : أصوات صاخبة، إعصار، شدو شجرة الكازورينا.
    والعنوان الرئيس الثاني ( متوالية للبحر ) ويضم قصص : رائحة البحر، وصل، محروس، جبانة الشهداء، حديقة فريال.
    أما العنوان الرئيس الثالث أخذ اسم ( ترنيمة البوح والألم ) ويضم قصص : النوم والبوح، ضاربة الودع، اتجاهات، مقاومة، تماثيل، زمن، هوس، مد .. و ....جزر، موائد صغيرة للبحر، رقصة، هو .. هي، سقوط، ثقب صغير باتجاه السماء.
    ( أ ) : أصوات :
    ينفتح محمود الديداموني في هذه القصص على الفنون الأخرى، وخاصة السمعية والبصرية، فإحسساته الصوتية عالية جدا، فأذنه رهيفة وعينه لاقطة، فيرينا ما لاتراه أعيننا، ويُسمعنا مالا تلتقطه آذاننا، فيسمعنا صرير الصمت، وطنين الأسئلة، وصوت البهجة الذي يختلط بصوت البكاء، وحشرجة الصوت، وهزيم الرعد، ينقل لنا الأصوات الخفية البعيدة، ويُسمعنا حتى أصداء قصيدة قديمة، كما ينقل لنا الصور الخفية التي لاتُرى بالعين المجردة، فينقلها بالبصيرة، إنها لحظة استثنائية ونادرة، يتماهى فيها الكاتب مع الكون، ويصبح مفردة من مفرداته، فيكون صوت المفردة الكونية عصفورا كان أو ريحا، رعدا أو برقا، طيرا او حيوانا أو جمادا، فبطل قصة ( اصوات صاخبة ) كاتب، يعاني من صوت الزوجة المرتفع، ومن صخب أطفاله وضجيجهم، ويتمنى لو يعود إلى أوراقه وقلمه ومكتبته، ولكن الأصوات الصاخبة والمرتفعة تخرجه من حاله، وتبدل من أطواره، فهل يمكن لقطعتي القطن التي لجأ إليهما وسد بهما أذنية أن يعيدا إليه هدوئه واتزانه؟
    إن غضبه يبلغ مداه في قصة ( إعصار )، فالنوافذ كما يقول تصطك كما تصطك الأسنان، هل ثمة علاقة بين الاعصار في الخارج والاعصار في الداخل؟
    إن ما يقلقه، هو الخوف على أطفاله من إعصار قادم، فيحاول أن يلهيهم بحواديته.
    إن القارئ لهذه المجموعة ولإبداعات الكاتب عموما، يجد أن الكاتب منح الطفل مساحة واسعة، وأولاه العناية والاهتمام.
    وقد توسل الكاتب في هذه القصص تحديدا، بأالفنتازيا، كاداة ووسيلة ولم يتخذها كغاية في حد ذاتها، لتنقذ قصصه من المباشرة، وليستطيع من خلالها أن يقول ما يمكن قوله بطريقة فنية، وقد استفاد أيضا من تجارب العبث ومن الواقعية السحرية، فساهم كل هذا في إثراء قصصه.
    إن صوت الزوجة المرتفع وصخب الأطفال، ترك في حلقه غصة، وفي نفسه ندوبا وفي قلبه جراحا، وهو الكاتب رقيق الحس، مرهف الشعور، فالشرخ الذي في النفس، ينعكس على الجدار، فيرى شروخا، وسرعان ما تتحول إلى صور باهتة، فيرسم لنا لوحة تشكيلية بديعة:
    ( الرسومات عبارة عن عصافير وفروع أشجار وفراشات باهتة الألوان )
    ويحلق بنا :
    ( كلما ابتعدنا كلما زقزقت العصافير محاولة إعادتي لفرع الشجرة، لأستريح قليلا، .... )
    ورغم هذا ينتصر الكاتب في النهاية للرؤية الواقعية، وتقبل الأطفال بصخبهم وضجيجهم.
    إن الكاتب قد يحاول أن يحلق قليلا فوق الواقع الردي، فأمام العاصفة العاتية التي قد تأتي على الأخضر واليابس، ولا يستطيع حماية أطفاله :
    ( السرير يرتفع رويدا رويدا .. أتعلق به .. )
    فالعجز يتملكه، وهو يرى أطفاله يحلقون في الفضاء تدفعهم الريح الصرصر، وتشتعل الحرائق.
    ( حلقت الأطفال مع الطيور فوق الحرائق، وراحت عيونهم تسح بالمياه، كل دمعة تنبت منها شجرة تنمو خلال لحظات )
    وهكذا تسير قصص الكاتب، كلما كبله الواقع، يحاول أن ينفك من قيده ويتحرر من اسره، ويعلو عليه، ويحلق فوقه، فهو يخرج من الواقع ليحلق فوقه، ثم يعود إليه.
    ( ب ) : متوالية للبحر.
    خمس قصص متجاورة، منفصلة ومتصلة تشكل عالما جديدا، فاختار الكاتب منطقة تكاد تكون مهملة وغير مطروقة كثيرا، واقتحمها بجسارة، وهذه المنطقة مساحتها الزمنية صغيرة جدا، فهي المنطفة الفاصلة بين مرحلتي الطفولة والمراهقة، استطاع كاتبنا أن يقبض على هذه الفترة الزمنية القصيرة، ويتحرك بوعي في تلك المساحة الصغيرة، مسلطا الضوء عليها، ومحاولا اكتشافها، واكتشاف العالم بعين عبدالصمد، بطل النصوص الخمس، وهو النموذج الذي اختاره الكاتب ليمثل تلك المرحلة، ومن خلاله نعيد اكتشاف العالم.
    يستهل الكاتب المتوالية بنص ( رائحة البحر ) وهو النص المؤسس، ويمثل الركيزة ونقطة الانطلاق، ومن خلال عبدالصمد نعيد اكتشاف :
    1 – القرية المصرية.
    2 – عمال التراحيل وبعض سلوكياتهم.
    3 – مدينة بور سعيد، رمز الصمود والمقاومة.
    4 – الموازنة والمقارنة بين القرية والمدينة.
    5 – صور ونماذج مشرقة لأهالي بور سعيد الذين قاوموا ثلاث دول هاجمتهم في 1956م.
    فعبدالصمد ابن القرية المصرية‘ رغم صغر سنه وهبته الطبيعة طولا فارعا وبسطة في الجسم، أهلته لأن يكون مساويا في الجسد والقوة لمن هم أكبر منه بسنوات إن لم يفقهم، وهذا ما شجع الريس عباس مقاول الأنفار لأن يأخذه معه، ليندس بين الأنفار، مجاملة لأبيه، وليساعدة في مصروفات الدار، وليأتي أيضا بمصاريف تعليمه، فهو لم يزل تلميذا، وأخوف ما يخافه الريس عباس أن يكتشف الريس محجوب أمر عبدالصمد، وصغر سنه، وعدم تمرسه في العمل، فيحدث مالا يُحمد عقباه، أقلها أن يعود الصبي إلى القرية بخفي حنين، وقد يعود في لحظة غضب من الريس محجوب الأنفار كلهم، وقد يعود الريس عباس ذاته، فتنقطع أرزاقهم، وهذا ما ظل يؤرقه، وقد مر الأمر بسلام، فالريس محجوب قد غض الطرف عن صغر سن الولد، فقد اكتشف أمره بحنكته، وتفهم الأسباب التي تجعل الأهالي يدفعون بصغارهم للعمل، إنها الحاجة والعوز والفقر.
    ويختار له الريس محجوب بنفسه العمل الذي يناسبه، ويحاول عبدالصمد أن يكتشف المدينة، ويقارب ويقارن بينها وبين قريته البائسة النائية، فالبيوت الشاهقة متعددة الطوابق في مقابلة مع البيوت الطينية الواطئة، والشوارع الواسعة النظيفة في مقابلة مع الشوارع الضيقة، والحواري والأزقة، حتى الملابس المعلقة على حبال الغسيل بالبالكونات تثير عجبه ودهشته من كثرتها ونظافتها وألوانها المبهجة، ويقارنها بنظيراتها في قريته :
    ( فأكبر حبل غسيل رآه في حياته لا يتعدى حبلا مفرودا بين مخزني حبوب فوق السطح ).
    إنه حال القروي الساذج الذي بهرته أضواء المدينة، ولكن عبدالصمد لم تطل فترة سذاجته، فسرعان ما راح الكاتب ينقل لنا مشاهداته ومكابداته ومعاناته، والابتعاد عن الأسئلة البريئة والساذجة، فتتوارد على ذهنه بعض الأسئلة القلقة والتي تبحث عن إجابات، وقد راعى الكاتب المخزون الثقافي والمعرفي لعبدالصمد، هذا المخزون الذي شكل وعيه، وأهم روافده :
    1 – المدرسة والدروس التي تلقاها على يد المعلمين وخاصة معلم التاريخ.
    2 – احتضان والده له، وحُسن تربيته، وترديد كلمات ابن عروس عليه حتى حفظها.
    3 – التلفاز وما يبثه من أفلام ومسلسلات، وخاصة الوطنية منها، ونشرات الأخبار.
    4 – عظات الشيوخ وكبار السن، ومحاولات غرسهم لقيم وعادات وتقاليد تربى عليها أهل الريف، وتوارثوها جيلا بعد جيل.
    وقد وضع الكاتب عبدالصمد في اختبار صعب، عندما بدأ يستعيد بعض المقولات الجاهزة سواء التي درسها نظريا في المدرسة أو التي تلقاها نظريا أيضا عن أبيه وعن شيوخ القرية، وبدأ يمارسها على أرض الواقع، وبختبرها، فهو بداية يبحث عن مبرر لعمله مع الأنفار وعمال التراحيل وهو التلميذ ابن المدارس، هل يشعر عبدالصمد بالدونية لأدائه هذا العمل؟.
    لم يشعر بالدونية، لأن العمل في رأيه عبادة، وبذلك تكون قيمة العمل التي تم غرسها فيه منذ صغره، قد انقذته من الإحساس بالدونية، حتى لو كان العمل لا يليق به كاابن مدارس، وتتوالى الاختبارات لكلمات مثل العفة والكرامة وغيرها، فهو يتكسب من عرق جبينه ليعف نفسه، ومقولات كثيرة يستعيدها عبدالصمد، ويعاود تأملها، وينظر لها من زوايا مختلفة، فيعود بعد اختبارها عمليا وعلى أرض الواقع أكثر اقتناعا بها، وبدا لي كأنه يحمل رؤى وقناعات ومقولات وحكمة الجماعة الشعبية والطبقة العاملة.
    والاختبار الأكبر هو استدعاء مدرس التاريخ، ومقولاته عن بورسعيد التاريخ والجغرافيا، وفرادة المكان وتميزه، وبطولات أهلها في حرب 1956، وفي حروب الاستنزاف وفي حرب أكتوبر، وهو يحفظ عن ظهر قلب ما قاله مدرس التاريخ عن بور سعيد ومابثه التلفاذ من مسلسلات وأفلام عن تلك المدينة الباسلة، وما كُتب فيها من أشعار، ويستعيد لنا رسالة نزار قباني الرائعة إلى رجال المقاومة في بور سعيد، هل يجد بورسعيد هي بور سعيد التي تشكلت في وعيه وفي ذاكرته؟
    وعبدالصمد ينبهر بالبحر، وتأسرة لحظة الغروب عندما تصير الشمس كرة حمراء، ويقدم لنا صور وصفية تأملية بديعة للحظة غروب الشمس وهي تسقط في البحر، ويستعيد مشهد الغروب في قريته أيضا، ويوازن بين مشهد غروب الشمس في بورسعيد وهي تسقط في البحر، ومشهد الغروب في القرية والشمس تسقط خلف الأشجار، ومشهدي الغروب في الحالين، آسرين وماتعين ويثيران دهشة عبدالصمد، عبدالصمد الذي في صغره حاول أن يقيم علاقة بين السماء والأرض، تلك العلاقة التي يجدها الناس في قريته من المستحيلات، فعندما يريدون أن يعبروا عن استحالة حدوث شيء، يقولون : إذا وقعت السماء على الأرض يحدث هذا الشيء، وهي إشارة إلى استحالة حدوثة، لأن قناعتهم الراسخة لايمكن أن تقع السماء على الأرض، إذن عبدالصمد منذ صغره وهو يتأمل ويفكر، ولا يدع شيئا يمر دون أن يعمل فيه عقله، وإذا كانت الطبيعة قد وهبته قدرات جسدية تبدو للناظر من الوهلة الأولى أنها تفوق سنه، فإنها قد وهبته أيضا قدرات نفسية وعقلية اٌقل ما توصف به أنها جبارة.
    في البيوت القديمة المهدمة والقريبة من الشاطئ، يشم فيها عبدالصمد رائحة المقاومة سنة 1956م، ويستنشق عبير البطولة، ويصدق كتاب التاريخ، ومدرس التاريخ، ولكنه يتفاجأ في إحدى غرف البيت المهدم الكالحة برجل منشغلا بتمزيق علب البيبسي الفارغة، وأصابعه تقطر دما، وعندما أحس الرجل بوجودة، انتابه الخوف والفزع، وراح في نوبة بكاء هستيرية، فاقترب منه، وربت على كتفه برفق، وهدهده بحنان، فاستكان الرجل وهدأت ثورته.
    وينهي الكاتب قصته بترديده لبيتين من شعر ابن عروس :
    ( كل عيشك بملحك وفجلك وعيش عيشة جدودك
    واتمد على قد رجلك بلاش تزيد عن حدودك )
    وربما يتساءل القارئ : كيف للكاتب أن يُحمل عبدالصمد وهو في هذا السن أشعار ابن عروس؟
    وتتبدد حيرة القارئ عندما يقرأ القصة التالية من المتوالية والتي جاءت تحت عنوان ( وصل ) وفيها يُبرز علاقة عبدالصمد بأبيه الذي يحفظ اشعار ابن عروس، ويلقيها على ولده، ومن كثرة ترديدها على سمعه حفظها الولد، وفي هذه القصة يوسع الكاتب الدائرة حول عبدالصمد، فنتعرف أكثر على والده وأمه وأخواله، وعبدالصمد يستعيد مناقشة ( صلة الرحم )، فامتنع عن زيارة خاله سالم، ولا تتوق نفسه لرؤيته، رغم أنه ليس بقاطع رحم، وتربى على صلة أرحامه، فقد سمع خاله سالم – دون قصد منه – ولا شبهة تنصت منه أبدا، يتهم لخاله وأمه والده مثله الأعلى بالجشع وقبول الحرام، وهو لم ير والده :
    ( ... إلا فاعلا للخير، مؤديا فرض ربه، مصلحا بين الناس، مجاملا ... ودودا .. صحبني معه كثيرا .. عيون الناس تلمع بإهابته رغم قلة حالنا )
    ورغم احتجاج أمه واعتراضها هي وخاله خليل على اتهام شقيقهما سالم لأبيه بالجشع وقبول الحرام، فلم يشفع له اعتراضهما، وظل اتهام خاله سالم لأبيه يكدر صفوه، ويعكر حاله، فلا تصفو له نفسه، ولا يروق له باله، ولا يتوق لرؤيته أبدا، وهذا ما جعله ينشد على أمه من شعر ابن عروس :
    ( من يبغضك لم يحبك ولو طعمتو الحلاوة
    السن للسن ضاحك والقلب كله عداوة )
    ويعود الكاتب إلى الرجل المعتوه الذي صادفه عبدالصمد في البيت المتهدم وهو يمزق عبوات البيبسي، فتدمي يديه، ليفصل قصته، ويسرد حكايته، فاسمه ( محروس )، وجعل اسمه عنوانا لقصته، فهو أحد أبطال المقاومة في سنة 1956م، وكل بور سعيد تعرفه، وتعرف بطولاته أثناء العدوان الثلاثي، ورغم أسره وتعذيبه لم تفتر عزيمته ولم تضعف همته، وظل مناضلا شرسا ومقاوما عنيدا، حتى جاءت هزيمة 1967م، فكانت قاسية عليه وعلى الوطن، أفقدته اتزانه وعقله، وانسحب من الحياة، وكان تمزيقه لعبوات البيبسي الفارغة أسلوب المقاومة الوحيد لديه للمنتجات الأمريكية ومقاطعتها، فهي من دعمت العدو وساندته وساعدته ومدته بالمال والسلاح ليجتاح الوطن ويحتله.
    وتأتي قصة ( جبانة الشهداء ) لتميط اللثام عن الوجه الحقيقي للريس محجوب، الذي يكشف لعبدالصمد عن دوره البطولي والفدائي، فهو من رجال المقاومة، وقاوم المحتل عبر كل الفترات، وكل الذين سقطوا شهداء ودفنوا في هذه الجبانة من أصدقائه، ويسرد لعبدالصمد أدوارهم في المقاومة، وبطولاتهم، فهم في رأيه أحياء، ويطابق عبدالصمد بين ما سمعه من أستاذه مدرس التاريخ وبين ما يسمعه من الريس محجوب، فيحس بالتاريخ الحي متجسدا أمامه في الريس محجوب، وفي محروس حتى ولو انسحب من الحياة بفعل النكسة، وبالشهداء الأحياء تحت هذه القبور
    وينهي الكاتب خماسيته بقصة ( حديقة فريال ) التي اختارها الريس محجوب لعبدالصمد ليقوم بري مزروعاتها، والعناية بأشجارها، ويبعده بذلك عن العمال وأعمالهم الشاقة، واعتمدت القصة على ثلاثة رواة أو ثلاثة أصوات : صوت مدرس التاريخ، وصوت الريس محجوب، وصوت الشاعر نزار قباني، وكلها تتبارى في الحديث عن أبطال المقاومة الذين كانوا يُسقطون المظليون الأجانب مثل الجراد، وكما أوراق الشجر الذي يتساقط في حديقة فريال.
    وعبدالصمد يوازن بين الأصوات الثلاثة، ولولا بعض التفاصيل الصغيرة لوصلت حد التطابق، ونكتفي هنا بالإشارة إلى صوت نزار الذي يتحدث بلسان أحد المقاومين الأبطال، ويبعث برسالة إلى أبيه، يقول فيها :
    ( هذي الرسالة، يا أبي، من بور سعيد
    أمر جديد ..
    لكتيبتي الأولى ببدء المعركة
    هبط المظليون خلف خطوطنا ..)
    ويواصل نزار متحدثا بلسان حال البطل المقاوم :
    ( أمر جديد ..
    هبطوا كأرتال الجراد .. كسرب غربان مُبيد
    النصف بعد الواحدة ..
    وعلىّ أن أنهي الرسالة
    أنا ذاهب لمهمّتي
    لأرد قُطّاع الطريق .. وسارقي حريتي
    لك، للجميع تحيتي )
    واكتشاف عبدالصمد في هذه القصة الذي تبينه من الأصوات الثلاثة هو معنى وأهمية الاحتشاد لمواجهة العدو، فبفضل هذا الاحتشاد من كل أبناء الوطن، تم القضاء على العدو الذي أسماه نزار بالجراد، فيقول :
    ( مات الجراد
    أبتاه، مات كلُّ أسراب الجراد
    لم تبق سيدة، ولا طفل، ولا شيخ قعيد
    في الريف، في المدن الكبيرة، في الصعيد
    إلا وشارك، يا أبي
    في حرق أسراب الجراد
    في سحقه .. في ذبحه حتى الوريد
    هذي الرسالة، يا أبي، من بورسعيد
    من حيثُ تمتزج البطولة بالجراح وبالحديد
    من مصنع الأبطال، أكتب يا أبي
    من بور سعيد )
    وقد آثرت أن أقدم صوت نزار كاملا، لأنه يوضح لنا المعنى الجلي للاحتشاد من كل أبناء الوطن لمواجهة العدو كما اكتشفه عبدالصمد، وأذكر القارئ الكريم بمقاومة الجدة وأحفادها لمواجهة أسراب البوم واجتزاز شجرة الكازورينا، ولما باءت محاولتها بالفشل، أرادت أن توقظ وعي أهل القرية / الوطن، ويحتشدوا جميعا لمواجهة آثار العدو، ويبدو أن العدو قد أدرك تماما بأن أي مواجهة عسكرية مباشرة، سيكون في نهاية المطاف هو الخاسر، فاحتال لعقد هدنة، وقام بما هو أبشع من الغزو العسكري، الغزو الفكري والثقافي والاقتصادي وضرب الهوية في مقتل، وإزالة هذه الآثار أصعب بكثير من الحرب.
    وقد يأخذ البعض على الكاتب أنه لم يقدم لنا بور سعيد الأخرى، بورسعيد التي مثلت الانفتاح الاستهلاكي، فهذا الانفتاح مع قرار الهدنة هو من أكبر الأسباب التي أوصلت البلاد إلى هذا الحال، إن عبدالصمد والأنفار قد ذهبوا للعمل في بورسعيد في زمن الانفتاح، فلماذا لا يعيد عبدالصمد اكتشاف أثر هذا الانفتاح على الشخصية المصرية عموما، والبورسعيدية خصوصا، ولكن يبدو أن الكاتب آثر أن يقدم لنا شخصيات مثالية، فعبدالصمد شخصية مثالية، ومدرس التاريج ماجد ومثالي، والريس محجوب من الشخصيات المثالية، وربما آثر ذلك لأنه أراد أن يقدم لنا نموذجا ( لعبدالصمد ) يمثل الفترة الزمنية القصيرة جدا الواقعة بين مرحلتي الطفولة والمراهقة، ويكون النموذج فيها أقرب إلى المثالية، فكان عبدالصمد كذلك.
    ( ج ) : ترنيمة البوح والألم.
    يواصل محمود الديداموني طرقه في منطقته المفضلة، ويعبر في قصتين بديعتين له، عن الفتاة الخارجة لتوها من مرحلة الطفولة، وخطت سنتيمترات قليلة في مرحلة المراهقة، تلك المرحلة الأخطر في حياة الفتى .. الفتاة.
    = في قصة ( النوم والبوح ) يترك الكاتب الحديث كاملا للفتاة، لتعبر بحرية تامة عن مشاعرها، وتنفل لنا ما يعتمل في قلبها، وما يدور بعقلها، همومها وأفراحها، أحزانها وتطلعاتها وانكسارتها، ومنحها الفرصة كاملة للتعبير والبوح، لننصت إليها بإهتمام، إن آفة مجتمعنا الريفي الذي نشأت فيه فتاتنا، لا ينصت أبدا للفتاه، فهي محاصرة منذ ميلادها حتى مماتها بالأسئلة، فعليها أن تطيع الأوامر دون نقاش، فالفتاة في الريف المصري محاطة بمجتمع ذكوري، لا يقبل منها غير الطاعة العمياء، ولا يتفهم حاجتها النفسية، وحاجتها البيولوجية، ولا التغيرات التي تطرا عليها في انتفالها من مرحلة نمو إلى مرحلة أعلى، وأثر التغيرات الفسيولوجية والنفسية لكل مرحلة عليها من الخارج ومن الداخل.
    فلا صديق للفتاة في طفولتها سوى الليل :
    ( كنت طفلة أصارعك بالسهر، وأغزل من أحلامي عقدا ألبسه صدر القمر، فيمنحني متعة النظر إليه والغناء معه، أفرد ذراعي كجناحين يحلقان بي، أوشوش العصافير في أعشاشها، وامنح العشاق دفاتر البوح، وأقرأ على صفحة الفجر التعاويذ .. فينتفض الصباح، ويخرج من عباءتك من غير سوء )
    وهذا البوح الجميل للفتاة بلغته الشاعرية، يناسب تماما مشاعرها البريئة، وتخاطب الليل، بعد أن أبتعدت عن الطفولة البريئة بخطوات قليلة، تعثرت فيها، ووقعت في الحب :
    ( كنت صديقي الذي أبثه همومي وأحكي له عن كل شيء .. كل شيء،عرفت كيف كنت أقابله على وسادتك وبين احضانك، كم كلمة قالها وكم دقيقة لاذ فيها بالصمت، كيف أفسحت له قلبي ليرتع فيه، وعرفت أيضا كيف وصفت لك أول قبلة تجرأ، وسرقها مني، منحته إياها متغافلة، وعرفت كيف كان خسيسا إلى تلك الدرجة التي جعلتني لم أستطع النوم فيك، ولا حتى عندما يتعاقب عليك الصباح، وانا منكسرة، هجرتني ذاتي إلى قمقم أو جب سحيق .. )
    ولعل أزمة الفتاة قد اتضحت، وقد عبرت عن أزماتها النفسية الخانفة التي ترتبت على هذا الفعل، ولا صديق لها في قريتها سوى الليل، فتبثه شجونها، ولا أصوات تسمعها سوى نباح الكلاب، ومواء القطط، ونقيق الضفادع، وزن الناموس، حتى هذه الأصوات هجرتها، وكأنها هي الأخرى تعاقبها على هذا الفعل، وهي الأصوات التي كانت تؤنسها، إن الكاتب بعد أن باحت الفتاة، جعلها تنام نوما أبديا!!.
    وحتى لو كان النوم بالمعنى المجازي، فإنة يمثل إدانة وصفعة قوية، للمجتمع الذكوري، وللأسرة والمدرسة والمسجد والكنيسة.
    = وتأتي قصة ( ثقب صغير باتجاه السماء ) لتكون بطلتها فتاة أيضا، وفي خطواتها الأولى في مرحلة المراهقة، هل تتعثر هي الأخرى، وتقع في المحظور مثل الفتاة السابقة؟
    الكاتب في القصة السابقة عزل الفتاة عن محيطها الأسري والاجتماعي، فلا ظهر الأب ولا الأم ولا الأخ ولا الجار ولا .. ولا ..، واعتمدت القصة على تقنية البوح فقط، ولكن هذه القصة تتحرك بطلتها الفتاة الصغيرة في محيط اجتماعي.
    وإذا كانت القصة السابقة اتسمت بالاستاتيكية ( السكون ) فإن هذه القصة اتسمت بالدينامية ( الحركة )، واعتمد فيها الكاتب على الجمل السريعة الخاطفة، واستخدم الأضواء والظلال والألوان ( ألوان الطيف )، فالبنت هل تسحبها النداهة، وتقع في الغواية؟ هذا ما تخشاه الأم، ويطالبها الأب بضرورة إحكام الغلق عليها، فالبنت خرطها خراط البنات :
    ( نهدان صغيران يراوغان عينيها يوما بعد يوم، تبتسم البنت على استحياء، كلما رأت عيون الصبية تختلس النظرات إليها ..)
    الأب يطلب حبسها في غرفتها، وإحكام غلق الباب عليها، والبنت مفتونة بالفضاء بالخارخ وبقوس قزح، وهذا القوس قزح يكاد يقفز إليها من النافذة :
    ( شعرت البنت بقشعريرة تلف جسدها، راحت تلملم ثوبها، تلفه بإحكام حول هذا الجسد الغض الرقيق، تضغط نهديها بقوة، يتقلص حجمهما، تندمج كفراشة صغيرة عبر الأعمدة الملونة الساقطة إليها، تندفع بقوة نحو الضوء .. يتلون جسدها بلون القوس .. تتماهى الألوان خيطا رفيعا يتراقص في السماء )
    وكأن الكاتب يرسم هنا لوحة للفتاة، أو يقيم لها تمثالا في قلب المتلقي، وهذا حال كاتبنا مع معظم شخصياته، روائية كانت أو قصصية، ولا يمكن ان تغادر تلك الشخصيات أبدا عقل القارئ، فستظل تراوده، وتشاغله، ويستدعيها في صحوه ومنامه، فهل يمكن لفتاة بهذه الصورة المبهرة وبتلك الأنوثة المتفجرة أن تستجيب للحبس؟.
    القصة مراوغة، ويترك الكاتب مساحات واسعة شاغرة، ليسدها القارئ بإعمال فكره وإشعال خياله.
    ..............................
    = قصة ( ضاربة الودع ) استخدم فيها الكاتب تقنية المفارقة التصويرية، واحتل فيها الحوار المساحة الأكبر، بين الرجل المثقف غير المقتنع بما تقوم به العرافة من عمل، ويحاول صرفها عنه ويحثها على البحث لها عن عمل آخر، فالناس من وجهة نظره لم تعد تقتنع بأقوال العرافين والدجالين، ولكنها تصر على أنها مهنتها، التي تأكل من ممارستها العيش، ولا يمكن أن تتخلى عنها أبدا، وتتحداه بأن الناس أكثر احتياجا إليها في هذا الزمن أكثر من أي زمن مضى.
    والمفارقة تأتي في نهاية القصة :
    ( صعدت بخطوات متباطئة درجات السلم، بينما أهز رأسي عجبا لحال النسوة كانت زوجتي تزاحمني بسرعة هابطة درجات السلم متجهة بعينيها نحو ضاربة الودع!. )
    مالذي يجعل مهن العرافين والدجالين والمشعوذين أكثر المهن رواجا وانتشارا، ويتحلق الناس حولهم، بل يسعون إليهم فرادى وجماعات، المتعلم منهم وغير المتعلم، الوزير والخفير، الفتاة والمرأة والرجل والشاب والشيخ العجوز، يجيب الكاتب على هذا السؤال في قصة ( زمن )
    = قصة ( زمن ) ترصد حال الناس الذين تخلوا عن الصلاة وهجروا المساجد :
    ( انتظرت طويلا مقدم الإمام والمصلين، ربما يتوجب علىّ أن أرفع الآذان، اعتليت سطح المسجد وفعلت، والنااس تمر .. لم يعرني أحدهم اهتماما ..
    انتظرت لعلي أصلي الفجر في جماعة .. طال انتظاري .. فصليت مفردا )
    وننقل أيضا :
    ( أمسكت بمصحف قديم تراكم التراب فوقه واصفرت أوراقه، حاولت نفض ما تراكم عليه، لم تفلح محاولاتي، ...)
    ولأن الناس هجرت الصلاة والمساجد والمصاحف، فنراها تحولت إلى كائنات هلامية، إلى مسخ مشوه، ولعلنا نعود إلى قصة " شدو شجرة الكازورينا ) والتي تعالج الآثار المترتبة على الغزو الثقافي والفكري وضرب ثوابت الأمة وهويتها والقضاء عليها وفي القلب منها الدين، فهل نجح العدو في ذلك، أعتقد أنه نجح في ذلك.
    = و " قصة موائد صغيرة للبحر " تنبه إلى خطورة الهجرة غير الشرعية، ووقوع الشباب فرائس سهلة للنصابين من سماسرة ومقاولي السفر، هؤلاء الشباب الذي ضاقت به سبل الحياة في بلادهم، وتقطعت بهم كل أسباب الرزق، ويحلمون بالعمل والحياة الكريمة في وطن حر يسوده العدل، ويحقق تكافئ الفرص للجميع، إن الحياة البائسة والفقر المدقع هو الذي دفع مجموعة من الشباب بالمغامرة في السفر، وركوب البحر، وكان الخوف كل الخوف أن يكونوا طعاما شهيا لأسماك وحيتان البحر، وما أكثر الذين ابتلعهم الموج من المصريين الذين ضاقت أمامهم فرص العمل في بلادهم، وأصبحت مثل ثقب الإبرة، هؤلاء الذين اسودت الحياة في وجوههم، يحدوهم الأمل في النجاة، والعبور إلى الشاطئ الآخر من أجل حياة ثانية، وباعوا كل ما يملكون، واستدانوا حتى من طوب الأرض، ليوفروا للسمسار المبالغ المالية المطلوبة، على أمل أن تنجح المغامرة، ولكن للأسف المركب المتهالك الذي تحرك بهم في البحر، لم يصل إلى إيطاليا :
    ( بينما ندقق النظر، رأينا قطعان من الإبل والأغنام، ورعاة بزي البدو، ووجوه عربية نالفها .. بينما يجري حسام ونجري خلفه، نقرأ لوحة بالعربية، تفيد بأننا على مشارف مدينة ( طبرق ) الليبية!! .. صارت أقدامنا غير قادرة على السير، ارتمينا على جانبي الطريق، طعاما سهلا لشمس النهار الحارقة. )
    = وقصة " مقاومة " يستهلها القاص بمشهد عبقري :
    ( لما أتى أمر الله
    وأنجبت زوجة العمدة ولدا، ذبح عجلا سمينا وجمع له أثرياء القرية، أجهزوا عليه ولم يتركوا شيئا للفقراء .. تقيأوا ما أكلوا جميعا .. قالوا : أعين الفقراء )
    وذكر الكاتب في الهامش ملحوظة يقول فيها : العجل اغتصبه العمدة من زريبة أحد الفقراء الناظرين.
    الفلاح الذي ثار وتمرد على العمدة ورفض أن يرسل غذاء الدوّار، لم يطلع عليه نهار واختفى، ولا أحد يعرف مصيره، وكان عبرة لمن تسول له نفسه التمرد أو التبرم أو رفع راية العصيان في وجه العمدة.
    ابن العمدة الذي كبر، والتحق بالمدرسة، مارس مع التلاميذ ما يمارسه والده مع أهل القرية، بل أقام في المدرسة دوّارا مثل دوار أبيه، غير آبه بقوانين وأدبيات المدرسة، فلا مدير يردعه ولا معلم يعنفه، فالكل يهابه ويخشاه.
    أضمر بعض تلاميذ المدرسة شيئا لابن العمدة الذي يفرض عليهم الاتاوات ويستلب أموالهم ومكتسباتهم عنوة وإكراها.
    سرب أحد التلاميذ لابن العمدة تبرم وامتعاض بعض التلاميذ من سلوكه، فجاء العمدة في صباح اليوم التالي، يحوطه خفره وشلته من وجهاء وأثرياء القرية، ونادى المدير على أسماء التلاميذ الذين يضمرون لابنه الحقد، ويخططون للقيام عليه والايقاع به، وتم جلدهم بقسوةعلى أقدامهم في أرض الطابور!!.
    إذن العمدة يقضي على أي مقاومة في مهدها، فالفلاح الذي اعترض وتمرد اختفى، حتى التلاميذ الذين أضمروا التمرد على ابنه تم سحلهم.
    التلاميذ الذين تم سحلهم في أرض الطابور، قرروا أمرا، وفي سرية تامة، قد أحاطوا العمدة بأعداد غفيرة، وفعلوا به ما فعلوا.
    ( نجح التلاميذ، بينما ظل ابن العمدة يلملم أشلاء أبيه )
    ( خرج التلاميذ يرفعون لافتات النصر، ...)
    هي ثورة إذن، خطط لها ونفذها التلاميذ، و ..
    ( تحرر الفلاحون من الخوف )
    فأزمة أهل القرية هي الخوف.
    ولعل هذه القصة تجيب عن الأسئلة التي تتكرر دائما :
    لماذا تقوم الثورات في بلادنا وفي دول العالم الثالث عموما، وهل تنجح هذه الثورات أم يتم اجهاضها؟
    فالعمدة الجديد لجأ إلى إطلاق ثعالبه من الجحور، ليثير القلق والخوف.
    = ولأن تلاميذ المدرسة بالقرية هم من قاموا بثورة على ظلم العمدة واستبداده، وهنا يأتي أهمية العلم والتعليم وضرورته، فيحث عليه الكاتب في قصة ( تماثيل )، ويقدم قصته بعيدا عن الإنشاء الأجوف والخطب المنبرية، من خلال نموذجين حيين، من لحم ودم، أحدهما امتهن الفلاحة مبكرا والآخر واصل دراسته حتى النهاية، وتتضح الفروق بينهما، والذي امتهن الفلاحة كان موهوبا في الرسم وصناعة التماثيل، وكان تلاميذ المدارس ينفثون ويحقدون عليه، ويطلبون منه أن يعلمهم الرسم وصناعة التماثيل في مقابل أن يعلموه القراءة والكتابة، ولكنه كان يهزأ بهم ويسخر منهم، فلا حاجة له إلى القراءة والكتابة؟
    ولكن للأسف، الموهبة إن لم يتم صقلها بالدراسة، تتبدد، فقد ذبلت موهبة الفلاح وانطفأ وهجها، فلو واصل التعليم فلربما أصبح من ذوي الشأن مثل الفنانيين العظام الذين يُشار إليهم بالبنان.
    ونهاية هذه القصة من النهايات الجميلة :
    ( جلس في مواجهتي يكتب بإصبعه حروفا على الأرض يتهجّاها لي وأنا أردد خلفه : أ. ب. ت . ث . بينما تعجن يدي الصلصال تمتد يديه تصنع فراشات وعرائس، تلونها أشعة الشمس الحمراء المتجهة نحو الغروب ).
    = قصة ( مد ..و ..جزر ) تتناول العلاقة بين الرجل والمرأة في مرحلة عمرية متأخرة من زواجهما، وهي الفترة التي تكون المرأة فيها في الأربعينات من عمرها أو شارفت على الخمسين، وهي الفترة التي تصل فيها إلى الاكتمال الأنثوي، والنضج الجسدي، والذي يحتاج إلى الارتواء أكثر من أي وقت مضى، على العكس من الرجل، تقل رعبته، وتتناقص شهوته بطول السنين، ولذا كان الكاتب موفقا جدا في اختيار عنوانه ( مد ... و ... جزر ) والمد والجزر من الظواهر الطبيعية، والمد في الطبيعة هو ارتفاع تدريجي في المياه، وعلى العكس منه الجزر، فهو انخفاض تدريجي في المياه، فالمقابلة كانت جميلة بين المرأة / المد، والرجل / الجزر، ارتفاع عند المرأة يقابله نقصان عند الرجل، وكأن الكاتب أراد أن يقول هذه هي سنة الله في كونه وفي خلقه، وكانت هذه النهاية الطريفة عندما فتحت بخبث نافذة غرفته، في ليلة شتوية باردة، لعل لسعات البرد توقظه ويروح يستجدي الدفء في سريرها الذي هجره :
    ( لسعه البرد، شعر بتيبس أطرافه.. هب متمطعا .. متثائبا ..جرجر قدميه جهة النافذة .. أغلقها .. عاد إلى حجرته خارجا من حجرة مكتبه .. دس جسده تحت الغطاء .. لامس جسده البارد حرارة جسدها .. التوت بجسدها نحوه .. مرسلة نظرة ماكرة .. لف جسده بغطاء منفصل ملتويا بوجهه في الجهة العكسية .. مخبئا خلف شفتيه ابتسامة عريضة. )
    = وتأتي قصة ( رقصة ) لقطة إنسانية رائعة، لطفل من أصحاب الاحتياجات الخاصة، مصاب بمتلازمة ( تيرنر )، يُسلط الكاتب الضوء على جهلنا وسوء تعاملنا مع هذه الفئة، فهذا الطفل وقع في قلب الرجل الجالس على المقهى، وأحبه، فالطفل معتزا بنفسه، ومن حين لآخر يعدل ياقة قمصه، وزاد إعجابه بالطفل عندما رآه :
    ( مع صوت الموسيقى الصاخب المنبعث من شريط الكاسيت تتدفق حركاته الراقصة بقوة ثم تهبط مع هبوط حدة الموسيقى )
    ( لاحظ اهتمام نظراتي به فراح يبدع في حركاته ورقصاته، يتراقص كفراشة رغم سمنته البادية )
    ولكن للأسف نباغت بسلوك الشارع مع الطفل :
    ( بينما هو كذلك، وفي قمة فرحته باللحظة، صفعه أحد المارة على وجهه .. وتبعه آخر، وثالث، وهم يتضاحكون )، بل بلغ الأمر أن يجري بعضهم خلفه بالعصي، وهذا السلوك المشين أجهض فرحة الطفل، وكان له الأثر السيء غلى نفسيته، لولا أن تدارك الأمر الرجل الفاضل الماجد المعجب بالطفل وبأدائه الحركي الراقص الجميل، فنهض، في محاولة منه ليزيل الأثار السيئة التي أصابته من جراء أفعال هؤلاء الهمج والغوغاء، فهدهده واحتضنه بحب، وانظر إلى النهاية البديعة :
    ( مازالت الموسيقى صاخبة .. هززت له كتفي معبرا عن رغبتي في الرقص، هز بقدمه، وعلى أنغام الموسيقى الصاخبة رقصنا رقصة رومانسية هادئة )
    القصة تدعونا إلى تغيير سلوكنا في التعامل مع هذه الفئة، وإلى تفهم احتياجتهم ومحاولة تلبيتها، وتفجير مواهبهم والطاقات التي بداخلهم، فيمكننا أن نعالج بالموسيقى وبالرقص وبالغناء وبالشعر وبالفن التشكيلي و .. و ..
    وكنت أتمنى من الكاتب ألا يحدد نوع الإصابة لهذا الطفل، فهو حدد إصابته بمتلازمة ( تيرنر ) وأعتقد أن متلازمة ( تيرنر ) تصيب الإناث غالبا لا الذكور، وأيضا نسبة الإصابة بمتلازمة ( تيرنر ) ضئيلة جدا، والكاتب صرح بأن هذا الطفل : ( نسخة مكررة من أطفال كثيرين أقابلهم هنا وهناك )، والأعراض الخارجية للطفل لا تنطبق على المصابين بهذه المتلازمة، فكان من الأوفق أن يكون من أصحاب الاحتياجات الخاصة، وهم كُثر، وكلهم بحاجة إلى احتضانهم الحنون من المجتمع كله، وقبوله لهم.
    بقت ملحوظة صغيرة، يقول الكاتب : ( وعلى أنغام الموسيقى الصاخبة رقصنا رقصة رومانسية هادئة )
    أعتقد أنه من الصعب أداء رقصة رومانسية حالمة على أنغام موسيقى صاخبة، وأعتقد أيضا أن الرقصة الرومانسية الحالمة تكون بين فتى وفتاه ألف الحب بين قلبيهما.
    = قصة ( هوس ) من القصص الماكرة والخادعة، ظاهريا تناقش الرياضة، وتاثير الميديا على الناس، وإذا أخذنا ( كرة القدم ) على سبيل المثال، باعتبارها اللعبة الشعبية الأولى، فنجد الهوس بها في كل أنحاء العالم، وإذا كانت في دول العالم الثالث تدخل فيها السياسة فإنها في دول العالم المتقدم يدخل فيها الاقتصاد وبقوة، ويجب ألا نغفل تأثير الميديا القوي أيضا، فظل على سبيل المثال ناديي الأهلي والزمالك في مصر بديلان عن الأحزاب السياسية!.
    ولكن لماذا اختار الكاتب ( مصارعة المحترفين )؟!
    فالتلفزيون المصري كان يقدم برنامجا شهيرا تحت هذا الاسم، وربما لم يزل يقدمه، وكان يحظى بمتابعة هائلة، وكان عدد المتابعين ربما يفوق عدد متابعي كرة القدم، يقدم لنا الكاتب أثر هذا البرنامج على أسرة مصرية، وتأثير الميديا في غسل الأدمغة ومسح الأمخاخ :
    ( ليس هناك من صوت يعلو فوق صوت المعلق : الرجل الوطواط يضرب الرجل العقرب، العقرب يرد ويلدغ بعنف، ... )
    ويقدم لنا الكاتب مواقف لهذه الأسرة تبدو ضاحكة، فالأسرة منقسمة، منهم المنحاز للرجل الوطواط، ومنهم المنحاز للرجل العقرب، فالولد منحاز للعقرب والبنت منحازة للوطواط، وبينما الضربات على أشدها بين الوطواط والعقرب :
    ( .. تطال يدي وجه أختي .. تصرخ ملتفتة لي، تصفعني على وجهي، ركلتها بقدمي، رمت كوب الشاي في وجهي، ...)
    والأب منعزلا بكيانه تماما مع شاشة التلفاذ، لا يشعر بمن حوله، وعندما تناهى إلى سمعه دعوات الأم للعقرب :
    ( ضربها على رأسها بقوة، صرخت، بينما لم يعرها اهتماما، وراح يتابع ما تبقى من الحلقة، غابت عن الوعي، ..)
    وأنظر إلى حال الأب وهو يتابع المتصارعين :
    ( أمسك بصينية الشاي ودفعها نحونا .. وهو يتمايل مع كل حركة من حركات المتصارعين )
    يقول الولد الذي فشل في إفاقة أمه:
    ( تملكتني الشجاعة وصحت فيه بقوة : أمي يا بابا .. ثم هززته بعنف من كتفيه .. كانت يده أسبق للاطاحة بي بعيدا عن شاشة التلفزيون وهو يقول : نور يا ابن الكلب )
    ( أمسكت بحذائي الثقيل وطوحت به ناحية الشاشة .. تناثرت قطعا صغيرة على الأرض .. التفت بجنون .. كنت قد اختفيت عن الأنظار )
    وقد انتبه الرجل أخيرا لزوجته التي فقدت الوعي بسبب ضربته القوية لها على رأسها، فماذا كان رد فعل الزوجة التي تجاهد في الاستفاقة :
    ( كانت تجاهد في الإمساك بفردة الحذاء الأخرى )
    مواقف تبدو ضاحكة، ولكنه للأسف ضجك كالبكا، وكأن الكاتب أراد أن يقول بأن الحضارة والتمدين قشرة رقيقة هشة تغطي جلد الإنسان، وتحت هذه القشرة مازال يرقد الإنسان البدائي الهمجي المتوحش، هل مصارعة الوطواط والعقرب أعادته إلى أصله البدائي، ام أنه القهر وضغوطات الحياة والإحساس بالقلة والضآلة والدونية جعلت كل منهم يتصور نفسه الوطواط أو العقرب، ويتمكن منه هذا الإحساس ويتضخم، ويتصرف بناء على هذا الإحساس؟.
    أم أنه التفسخ الأسري، وتشرذم الإنسان وتشظية في هذا العصر، فجاءت مصارعة المحترفين لتُظهر ما تكنه النفوس وما تخبئه القلوب من عداوة وبغضاء، فالولد يركل أخته، والأخت تصفع أخاها، والأب يلكم زوجته، والزوجة تلقي بحذائها في وجهه؟!.
    القصة تتجاوز المواقف الضاحكة، وتُقرأ على أكثر من مستوى، وتقبل كل الاحتمالات والقراءات.
    = وتأتي قصة ( اتجاهات ) من القصص الغائمة، ويكتنفها الغموض، ولا تفصح تماما عن كل خباياها وأسرارها، فنحن أمام صوتين حاضرين وصوت غائب، فالصوتين الحاضرين هما صوت الراوي وصوت المرأة العجوز، والصوت الغائب هو صوت ( وحيد ) وهو كما يبدو من النص الابن الوحيد لهذه المرأة، والراوي اصطحب وحيد ومضيا ولا ندري أين ذهبا، وما كانت أمه لتتركه يمضي لولا أنه سيمضي بصحبة الراوي الذي يحبه وحيد، وتثق فيه أمه، وتعهد لها الراوي بأنه لن يتركه أبدا، ولكن الراوي عاد بدون وحيد، فاين وحيد؟ هل سُجن؟ هل مات؟ هل؟ وهل؟ وعشرات الأسئلة تنخر في رأس المتلقي، إذن على القارئ أن ينسج من هذه القصة قصة، وبالتأكيد كل قارئ سوف يولد وينسج من هذه القصة القصة التي تتفق وهواه، ووفقا لخياله وثقافته، فهذه القصة تحتاج إلى قارئ يملك خيالا خصبا، وصاحب رؤية، وعنوان القصة ( اتجاهات ) وإذا أخذنا العنوان بالمعنى المباشر، فالاتجاهات الأصلية : شرق وغرب وشمال وجنوب، فهل اتجه وحيد مثلا باتجاه الشمال، وركب البحر وابتلعه الموج مثل كثيرين أم نجح في الوصول، ودانت له الدنيا هناك، واقسم ألا يعود، ويمكن لقارئ آخر أن يجعل وحيد يسير في اتجاه الشرق، وثالث يجعله يسير في اتجاه الغرب، ورابع يجعله يسير في اتجاه الجنوب، وخامس في اتجاه الشمال الشرقي، وسادس في اتجاه الجنوب الغربي، وهكذا ندخل في حالة عبثية ونُحاصر بفوضى التأويلات، وربما هذا ما يعيب القصص الغامضة حد الإلغاز، فنحن مع الغموض الفني الذي لا يستعصي على المتلقي.
    وأنا أميل في هذه القصة إلى أن السير في هذه الحياة الدنيا اتجاهات، وكل يسلك الطريق / الاتجاه الذي يناسبه، ووفقا لأفكاره ورؤاه، ولأن البشر مختلفين، فتختلف الطرق وتتنوع الاتجاهات، ولا يفرض أي منا على الآخر الاتجاه الذي يسلكه، وكل منا يجب أن يسير في الاتجاه / الطريق الذي يرى أنه سيصل من خلاله باسرع ما يمكن وفي أقل وقت، وشعوبنا العربية والإسلامية وكل الشعوب أصحاب الديانات السماوية يروا أن الغاية الاسمى في هذه الحياة الدنيا هي الوصول إلى الله، وكل الطرق تؤدي إلى الله ما دمنا نمتثل لأوامره ونتجنب نواهيه.
    = وأخيرا قصة ( هو .. هي ) ص ص : 82 – 83 وزعها الكاتب على أربعة فقرات، ولم يضع للفقرات عناوين فرعية، واكتفى بالإشارة للفقرة الأولى بالرقم ( 1 ) وبالفقرة الثانية بالرقم ( 2 ) حتى الفقرة الرابعة ( 4 )، ونتفاجأ في ص 83 بأن الفقرة الأولى مأخوذة كما هي ومنشورة تحت عنوان ( سقوط ) والخلاف الوحيد بين الفقرة رقم ( 1 ) وقصة ( سقوط ) هو أن الأولي كُتبت بالطريقة العمودية، واحتلت صفحة كاملة، والثانية كُتبت بالطريقة الأفقية فاحتلت نصف الصفحة.
    وربما يتحمل هذا الخطأ القائمين على إعداد الكتاب، ونشره، وهي من أكبر دور النشر الحكومية بالدولة المصرية، ولكن للأسف هؤلاء القائمين على النشر في دور النشر الحكومية يتعاملون مع الإبداع والمبدعين بعقلية وأسلوب الموظفين!!.
    وكنت أتمنى ألا يضع الكاتب عنوانا لها بزعم أنها قصة من فقرات أو مقاطع، وما قرأته من وجهة نظري قصص قصيرة جدا، وكل فقرة هي قصة قصيرة جدا قائمة بذاتها، فكان الأجدر بالكاتب الذي قسم مجموعته إلى ثلاثة أقسام، أن يضيف إليها قسما رابعا تحت عنوان : قصص قصيرة جدا، وينشر كل فقرة ( من وجهة نظره ) / قصة قصيرة جدا ( من وجهة نظري ) في صفحة مستقلة، وهذه القصص القصيرة جدا، شديدة الاختزال، شديدة التكثيف، سيكون لنا معها وقفة في مبحث خاص.
    ( 4 )
    دخلتني قصص محمود الديداموني، وأحببتها، فموضوعاتها مستقاة من الواقع، وعالجها معالجة فنية رائعة، وقد تناولنا كل القصص تقريبا، وما تثيره من قضايا ورؤى وأفكار، مبينين رسالة كل قصة، ولم نكتف بما تثيره القصة من دلالة الألفاظ المباشرة، وحاولنا أن نقرأ ما يستتر خلف رمز القصة، بالغين ما استطعنا الوصول إلى الأمثولة أو العظة التي يمكن أن تقولها، دون التقيد بنظرية أو منهج نقدي محدد، فحاولنا الفكاك من أسر المنهج، والهروب من عبودية النظرية، مرتدين رداء الحرية الفضفاض، وكما قلت آنفا، قراءتي هي قراءة المُحب، الممسوس بغواية هذا الفن المخاتل، المراوغ الجميل، وفي عرضنا لرسالة القصص، عرجنا على بعض الملامح الفنية، وسنثير في عجالة بعض الملامح الأخرى وربما لا نلجأ إلى الاستشهادات، مكتفين بما استشهدنا به ونحن نعرض القصص، ومطالبين القارئ الكريم بالعودة إلى المجموعة ومطابقة ما نقوله بما يراه من استشهادات.
    1 – العناوين :
    بعض العناوين جاءت في كلمة واحدة، مثل : إعصار، وصل، محروس، اتجاهات، مقاومة، تماثيل، زمن، هوس، رقصة.
    والبعض الاخر جاء في جملة من كلمتبن : أصوات صاخبة، رائحة البحر، جبانة الشهداء، حديقة فريال، النوم والبوح، ضاربة الودع، مد .. و .. جزر.
    والبعض الثالث جاء في جملة مكونة من ثلاث كلمات : شدو شجرة الكازورينا، موائد صغيرة للبحر.
    والبعض الرابع والأخير جاء في في جملة من أربع كلمات : ثقب صغير باتجاه السماء.
    والعناوين إجمالا، جيدة، وجاءت معظمها كعتبات أولى للولوج إلى النص.
    2 – البدايات والنهايات :
    القصة الجيدة كما يقول تيشكوف هي القصة المنزوعة المقدمة، والقاص يدخل في قصصه يدخل في الحدث مباشرة.
    3 – رسم الشخصيات :
    في كلمات قليلة، يصف الكاتب شخصياته من الخارج، ويستبطنها من الداخل ( نفسيا )، ويُعرف بأنماط وأساليب تفكيرها ( عقليا ) ويرصد حركتها في محيطها الخارجي ( اجتماعيا ).
    4 – الوصف :
    إذا كانت المسرحية تقوم على الحوار، والرواية على السرد، فإن القصة القصيرة عمادها الوصف، وقدم لنا مشاهد وصفية تنبض بالجمال، وتضج بالحركة والحياة.
    5 – الوصف باستخدام الضوء والظل واللون :
    في مشاهد وصفية بديعة، قدمها الكاتب كلوحات فنية، وهذه المشاهد تعج بها الرواية، وأذكر القارئ بمشهد الغروب في قصص ( متتالية للبحر )، مشهد غروب الشمس وهي تسقط في البحر في بورسعيد، ومشهد غروبها أيضا وهي تسقط خلف الأشجار بالقرية، وراصد المشهدين في الحالتين شخص واحد وهو عبدالصمد، والمشهد الحسي الماتع للفتاة في قصة ( ثقب صغير في اتجاه السماء ) والتي تبدو لنا وهي عارية، تعبث بجسدها البكر، الخارج لتوه من براءة الطفولة وسذاجتها إلى عنفوان المراهقة، معرضة جسدها الفتي الفاتن لأشعة الشمس، التي تسقط عليه عمودية من خصاص الشباك، فيتلون بألوان الطيف.
    وكأن الكاتب يعي أصول فن الرسم، كما يعي منجزات الفن المصري عموما على مدى تاريخه.
    6 – الحوار :
    على قلته في معظم القصص، ولكنه أدى دوره في نقل أفكار وتطلعات وهموم وأفراح الشخصية، وساهم في نمو الحدث والصعود به، والتخفيف من برودة السرد والوصف، وسكونهما أحيانا.
    7 – الحبكة :
    وفر الكاتب لقصصه، حبكات جيدة، وكلها تقريبا حبكات متماسكة، وابتعد عن الحبكة المفككة، فهو صاحب رؤية، ولديه قضية، وممسكا بكل خيوط القصة، ويحركها بمهارة ووعي، وهذا ما وفر لها أيضا خاصية التشويق التي نفتقدها في القصة الحديثة، بسبب الرؤية الغائمة، والغموض الملغز، وعدم وضوح الرؤية، وتفكك الحبكة.
    8 – التحليل النفسي :
    استفاد الكاتب من منهج ومدرسة التحليل النفسي لفرويد ولتلميذيه يونج وأدلر من بعده، في تشريح نفوس شخصياته، وتحليل نوازعها، واستبطانها استبطانا جميلا وعميقا، الشخصيات السوية وغير السوية من ذوي الاحتياجات الخاصة، كما استفاد من علم نفس النمو، وتوقف عند بعض مراحل النمو : الطفولة، المراهقة، المسافة الصغيرة الواقعة بين الطفولة والمراهقة، ومرحلة ما بعد منتصف العمر.
    9 – الحضور الطاغي للشعر :
    كان للشعر حضوره الطاغي في هذه المجموعة، ونجده يستدعي بعض الشعراء باشعارهم، ومنهم :
    أ – ابن عروس.
    ب – نزار قباني.
    ج – محمود الديداموني.
    وقد وظف أشعارهم توظيفا فنيا راقيا وجميلا، ولم تبتر هذه الأشعار تدفق السرد، ولم تعزل القارئ عن أجواء القصة، وكانت القصائد وكأنها لبنة من لبنات القصة، ومن نسيج السرد ذاته.
    10 – اللغة والأسلوب :
    ارتقى الكاتب بلغته وأسلوبه، واتسمت بالثراء ووصل إلى قمة النضج، ويذكرنا في إحساسه العالي باللغة، واختيار مفرداته بالرائد العظيم يحيي حقي، فتعالقت الموسيقى مع الفن التشكيلي مع الشعر مع الرقص والغناء، مع الفنون الأخرى، فجاءت لغته مشعة ووضاءة ورامزة، وموحية ومعبرة، ومختزلة ومكثفة، وأعتقد أن كل من يقرأ المجموعة سيتوقف كثيرا عند لغة الكاتب وأسلوبه، والذي أصبح لصيقا وخاصا به وحده.
    11 – الاستفادة من تجارب العبث والواقعية السحرية :
    وأشرنا اثناء العرض بأنه استخدم الفنتازيا كأداة ووسيلة وليست كغاية في حد ذاتها، ليقول من خلالها ما يستطيع قوله، بعيدا عن المباشرة، وقد استفاد أيضا من تجارب العبث، وأثرى فنه القصصي الواقعي برؤى من الواقعية السحرية.
    وبعد :
    أرجو أن أكون قد نثرت بعض قطرات الضوء على هذه المجموعة القصصية، التي تستحق الحفاوة النقدية، ويستحق كاتبها أن يكون في صدارة مبدعي القصة العربية، فقد أعادت هذه المجموعة للقصة العربية توهجها وتألقها، فشكرا له.
    ..........................................
    ( ورقة نقدية لمناقشة المجموعة القصصية بقصر ثقافة ديرب نجم مساء السبت الموافق 22 / 10 / 2022م )
يعمل...
X