حول التعليم في أوغاريت ـــ جبرائيل سعَادة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبدالرحمن السليمان
    عضو مؤسس، أستاذ جامعي
    • May 2006
    • 5732

    حول التعليم في أوغاريت ـــ جبرائيل سعَادة

    حول التعليم في أوغاريت ـــ جبرائيل سعَادة
    [align=justify]
    إن المكتشفات والدراسات الأثرية تجود علينا بين حين وآخر بمعلومات تبين دور سورية في إحدى نواحي تطوير الحضارة. وها ان قطرنا يبرز في مجال التعليم والتدريس، وذلك بفضل ثلاثة مواقع أثرية أسفرت عن عدد كبير من الرقم الفخارية المكتوبة، ألا وهي موقع تل مرديخ في سورية الوسطى الذي يضم أنقاض مدينة إيبلا وموقع تل الحريري على الفرات، في الطرف الشرقي من باديتنا وقد أظهر فيه التنقيب بقايا مدينة ماري وموقع رأس الشمرة على الساحل حيث ترقد مدينة أوغاريت.‏

    عثر في إيبلا على ما يقارب ستة عشر ألف رقيم مكتوب(1)، تعود إلى الفترة الواقعة بين 2350 و2250 قبل الميلاد، ومن بين هذه المجموعة الضخمة عدد من الوثائق هي عبارة عن تمارين ووظائف مدرسية يحمل كل منها توقيع الطالب الذي كتبها وتوقيع أستاذه وهذه الوثائق هي أقدم نصوص عن التعليم والتدريس ظهرت في العالم، وإلى الفترة نفسها أيضاً وثائق معجمية ولغوية تدل على الاهتمام ذاته منها قواميس تتقابل فيها مفردات من اللغة السومرية القديمة ومفردات من اللغة الإيبلائية المحلية وهي أقدم قواميس ظهرت في العالم حتى الآن.‏

    وفي ماري تم اكتشاف حوالي عشرين ألف رقيم فخاري مكتوب(2) وفي القصر العائد إلى الفترة الأخيرة من تاريخ المدينة، أي إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد وجد المنقبون قاعتين كانتا مخصصتين للتدريس تحوي كل منهما صفوفاً من المقاعد المصنوعة من القرميد المشوي ويتسع كل مقعد لطالب واحد أو لطالبين أو لأربعة طلاب، وعثر بالقرب من المقاعد على بعض أدوات الكتابة وعلى أوعية فيها عدد كبير من الصدف كان الطلاب يتعلمون بواسطتها الحساب.‏

    أما موقع رأس الشمرة(3)، حيث تجري حفريات منذ عام 1929، فهو عبارة عن تل يتألف بكامله من أنقاض المدن التي تعاقبت في المكان. إن أعمال السبر التي نمت في أعماق التل دلت على أن أقدم تجمع سكني تواجد هنا يعود إلى الألف السابع. أما الحفريات المنظمة فهي تجري في الطبقة العليا حيث كشفت عن مدينة تعود إلى عصر البرونز الحديث، أي إلى الفترة التي تمتد من 1600 حتى خراب المدينة النهائي حوالي سنة 1185 قبل الميلاد(4) لا ندري بالضبط إلى أي عهد حملت المدينة اسم أوغاريت، إنما نستطيع أن نؤكد بسبب وثيقة اكتشفت في كل من موقع "أبو صلابيخ" في العراق وموقع إيبلا أنها كانت تحمل حتماً هذا الاسم في القرن السادس والعشرين قبل الميلاد. وقد عثر في الطبقة العليا من رأس الشمرة على حوالي أربعة آلاف رقيم فخاري مكتوب (5) تعود إلى القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد، وفَّرت لنا العديد من المعلومات في مختلف المجالات فهناك نصوص ميثولوجية ودينية وأدبية ودبلوماسية واقتصادية وحقوقية وإدارية وهناك نصوص لغوية ومدرسية تساعدنا على التعرف إلى التعليم في أوغاريت، موضوع بحثنا هذا(6).‏

    كانت أوغاريت، في زمن الرقم المكتوبة أي في القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد، عاصمة مملكة تمتد من الجبل الأقرع شمالاً حتى نهر السن جنوباً وتحدها شُرقاً سلسلة الجبال الساحلية، محتلة هكذا البقعة التي تشكل اليوم محافظة اللاذقية. كان الكنعانيون يؤلفون معظم سكانها؛ والشعب الكنعاني من أهم الشعوب الذين قطنوا سورية في الماضي وبنوع خاص المنطقة الساحلية وقد أطلق عليه الإغريق في عهد لاحق اسم الشعب الفينيقي غير أننا لا نرى أي سبب لأن يلقب هذا الشعب بغير الاسم الذي كان يطلقه هو على نفسه. وسنرى أنه كان في أوغاريت إلى جانب الأغلبية الكنعانية أُناس ينتمون إلى شعوب أخرى.‏

    إن الحفريات التي أجريت ولا تزال تجري في أوغاريت لم تسفر حتى الآن عن اكتشاف مدارس أو أي بناء أو قاعة خاصة للتعليم كما كان الحال في ماري. غير أن هناك شواهد عديدة تدل على نشاط مدرسي مكثف ولدينا أكثر من قرينة على أن هذا النشاط كان يتم في القاعات المعدة لحفظ الأضابير وفي المكتبات. إن معظم الرقم المكتوبة قد اكتشفت على شكل مجموعات وكل مجموعة تؤلف إما مكتبة أو ديواناً للأرشيف أي الأضابير. والمكتبة إما أن تكون تابعة لمؤسسة دينية أو لأحد الأفراد وقد تم حتى الآن اكتشاف عدة مجموعات هي: مكتبة الكاهن الأكبر حيث وجدت الملاحم والأساطير، مكتبتان لكاهن آخر في الحي الممتد جنوب الأكروبول، مكتبة النصوص الأدبية في الخندق الجنوبي، ستة دواوين للأضابير في القصر الملكي، ديوان للأضابير في القصر الجنوبي. وفي الحي الفخم الممتد شرقي القصر الملكي عثر على مكتبتين خاصتين وعلى ديوان أضابير خاص. إن كل الوثائق ذات الطابع المدرسي ظهرت في القاعات المخصصة لهذه المجموعات وكذلك بعض الأدوات الكتابية كالمخرز أو المنقاش وهو القلم الذي كان يستخدم لحفر الإشارات المسمارية في الرقم الفخارية. إن أهمية التعليم غير مرتبطة بالبناء الذي يجري فيه، ونحن نعلم مثلاً أن سقراط كان يلقي تعاليمه على تلاميذه في الطرقات والحوانيت كما أن أفلاطون كثيراً ما كان يحاور تلاميذه وهو يتنزه معهم في الحدائق. ففي قاعات المحفوظات كان الكاتب (SCRIBE) الأوغاريتي يقضي معظم وقته ويقوم بكتابة الرقم الفخارية ثم يصنفها ويرتبها على رفوف وفيها أيضاً كان يزاول دوره كمدرس(7).‏

    إن الكاتب هو العنصر الأساسي في موضوعنا وحوله يدور كل ما يتعلق بالتعليم في أوغاريت. كثيراً ما تعتبر بعض الحضارات الأخرى أن الكاتب هو مجرد ناسخ، يحفر على الرقيم نصوصاً تعطى له أو تملى عليه. أما في أوغاريت فدوره يبدو أكثر أهمية ونراه يحتل مركزاً مرموقاً في المدينة وأحياناً في البلاط الملكي وقد عرفتنا النصوص أسماء بعض الكتبة ويمكننا أن نستنتج من المكتشفات الكتابية في رأس الشمرة الأمور التالية:‏

    -إن الكاتب الأوغاريتي يقوم فعلاً بدور المعلم ويهتم بتعليم الكتابة.‏

    -إن الكاتب الأوغاريتي ذو ثقافة عالية، ينظم وثائق موسوعية ومعجمية تتضمن معلومات هامة في ميادين مختلفة ونذكر بالمناسبة أننا نراه في بعض الرقم يضيف إلى جانب توقيعه عبارة "خادم نابو ونيسابا" وكانا في ميثولوجيا بلاد الرافدين إلهي البحث والمعرفة.‏

    -إن الكاتب الأوغاريتي يبذل جهداً ليتعلم اللغات الأجنبية ولكي يعلمها إلى طلابه فسترى كيف أن الضرورة كانت تفرض عليه وعلى طلابه أن يكونوا ضالعين في بعض هذه اللغات.‏

    -إن الكاتب الأوغاريتي كان متضلعاً فيما نسميه في عصرنا "علم الكتابات" EPIGRAPHIE ويعود لأحد الكتبة أو لمجموعة منهم الفضل في ابتكار طريقة جديدة في الكتابة حوالي سنة 1380 قبل الميلاد وهي الطريقة الأبجدية.‏

    لا شك في أن الكاتب الأوغاريتي قد اهتم قبل كل شيء بلغته أي باللغة المحلية التي كانت تتكلمها الأغلبية الكنعانية القاطنة في المدينة وهي من اللغات الثلاثية(8). وفي رأينا يمكن أن نطلق عليها اسم "اللغة الكنعانية" ما دامت هي التي كان يتكلمها الكنعانيون، غير أن الأوساط العلمية تطلق عليها بصورة عامة اسم "اللغة الأوغاريتية".‏

    هي قريبة كل القرب من اللغة العربية من حيث التراكيب وقواعد الصرف وخاصة من حيث المفردات، إذ يوجد فيها حوالي ألف كلمة هي نفسها في اللغة العربية، فإذا علمنا أن الأسماء المعروفة حتى الآن في الأوغاريتية، باستثناء الإعلام، يبلغ عددها 1276 كلمة(10)، فتكون المفردات المطابقة للعربية تشكل أكثر من ثلثي مفردات الأوغاريتية.‏

    كما أنه تبين أن بعض الكلمات الأوغاريتية توجد لا في اللغة العربية الفصحى، بل في اللهجة العامية الدارجة في الساحل السوري عامة وفي مدينة اللاذقية خاصة(11).‏

    غير أن اللغة الأوغاريتية لم تدون قبل المرحلة التي نحن بصددها، أي قبل مطلع القرن الرابع عشر قبل الميلاد. في مطلع هذا القرن كان الملك نقماد الثاني قد أمر بتدوين القصائد الدينية التي كان بعضها ينشد في المعابد باللغة المحلية وتتوارث شفوياً من جيل إلى جيل ومن ثم أخذت أهمية أوغاريت السياسية تزداد فكثر تبادل الرسائل الدبلوماسية والتجارية بينها وبين البلاد المحيطة بها. فأخذت الدواوين الرسمية تنظم وبات من الضروري إيجاد طريقة لتدوين اللغة المحلية وتدريب الطلاب على كتابتها وترجمتها إلى الآكادية التي كانت اللغة المستعملة في العلاقات الدولية وكذلك في ترجمة النصوص الآكادية إلى اللغة المحلية.‏

    إن الكاتب أو الكتبة الذين أرادوا عندئذٍ إيجاد طريقة لتدوين الأوغاريتية وجدوا أنفسهم في حيرة. فإلى أية طريقة يا ترى يلجؤون؟.. كان العالم المتمدن يستعمل آنذاك طريقتين في الكتابة: الطريقة الصورية أي الهيروغليفية السائدة في مصر حيث كانت الإشارة تمثل كلمة كاملة والطريقة المسمارية الصوتية السائدة في بلاد الرافدين حيث تمثل كل إشارة مقطعاً صوتياً. إنما تحتاج الطريقتان إلى مئات الإشارات مما يجعل استخدامها أمراً عسيراً وشاقاً، فإذا وجب اختراع طريقة جديدة فلتكن سهلة ومبسطة.‏

    ومن جهة أخرى رأى المخترع أو المخترعون أن الإشارات المسمارية أكثر صلاحية من الإشارات الهيروغليفية لأن حفرها على الرقم الفخارية سهل. أما المصريون فكانوا يرسمون الإشارات الهيروغليفية على ورق البردي الذي يمكن حفظه في أرض جافة كأرض وادي النيل ولا يمكن حفظه في أرض رطبة كأرض سورية. فوقع الاختيار على الإشارات المسمارية على أن تجرد من قيمها الصوتية.‏

    هنا يجب أن نتوقف عند تلك اللحظة التاريخية من مطلع القرن الرابع عشر قبل الميلاد والتي تفتقت فيها عبقرية كاتب أو مجموعة كتبة من أوغاريت. لقد بدأ استعمال الطريقة المسمارية الصوتية في بلاد ما بين النهرين في الألف الثالث قبل الميلاد وخلال أكثر من ألف سنة لم يُدر في خلد أحد أنه بالإمكان إيجاد كتابة تمثل كل إشارة فيها لا مقطعاً صوتياً بل حرفاً واحداً كما هو الحال في أبجدياتنا الحديثة. حتى هذه اللحظة، كان المقطع الصوتي يؤلف بنظر الكتبة عنصراً ثابتاً غير قابل للتجزئة شأنه شأن الذرة. ونعلم مقدار ما بذل من جهود وعلم ووقت وأموال قبل التوصل إلى تفتيت الذرة وعلى المنوال نفسه أمضت البشرية زمناً مديداً جداً قبل أن تكتشف إمكانية تفكيك المقطع الصوتي.‏

    كانت في أعماق لا شعورها تتطلع إلى كتابة جديدة تخلُصها من القيم المقطعية المعقدة.‏

    وهذه الرغبة الكامنة كمون الجمر تحت الرماد خرجت إلى حيّز الواقع وأصبحت حقيقة ملموسة عن طريق كاتب أو كتبة عباقرة قدر لهم أن يعيشوا على الشاطئ السوري في مطلع القرن الرابع عشر. وقد أتاح هذا الإبداع ولادة أبجدية في غاية التبسيط لا تشتمل إلا على ثلاثين حرفاً.‏

    رقم الألفباء:‏

    أدت حفريات رأس الشمرة إلى اكتشاف وثائق تبين بوضوح محاولات الكاتب الأوغاريتي لتعليم حروف الأبجدية إلى طلابه. لقد عثر على عدد من رقم الألفباء ونحن نطلق هذه التسمية على رقم فخارية صغيرة نقشت عليها أحرف الأبجدية الأوغاريتية الثلاثين وهي مرتبة بحسب التسلسل الذي كان معتمداً آنذاك. وقد تبين أنه، باستثناء فروق طفيفة، هو ترتيب الأبجدية العربية وترتيب الأبجدية اليونانية التي هي مصدر معظم أبجديات العالم. ولما كان هذا التسلسل يظهر في كل رقم الألفباء المكتشفة في الموقع فهذا يدل على أن هذه الوثائق وضعت حتماً لغاية التعليم، فباستطاعة الطالب أن يحفظ عن ظهر قلب وبسهولة أكبر الأحرف الثلاثين إذ تعرض أمامه حسب تسلسل لا يتغير. ومما يبعث حقاً على التأثر أن نرى بأن الأطفال اليوم في عدد كبير من بلدان المعمورة يتعلمون استظهار الأبجدية بالترتيب الذي كان طلاب أوغاريت يتعلمونه منذ أربعة وثلاثين قرناً.‏

    إن دراسة رقم الألفباء بدقة هامة جداً وممتعة. لأنها تدخلنا إلى صميم العلاقة بين الكتبة والطلاب آخذين بعين الاعتبار أن علماء اللغات القديمة اليوم يعرفون بسهولة ما إذا كانت الأحرف المسمارية من نقش يد ماهرة مدربة أو أنها من صنع يد قليلة الخبرة ويمكننا بالتالي أن نتتبع بطريقة حية انتقال الكتابة من كاتب متمرس إلى آخر ما يزال مستجداً ومن جهة أخرى تبين هذه الوثائق ما كان يبدي الأستاذ تجاه طلابه من صبر وعناية. إن عدد رقم الألفباء المكتشفة في رأس الشمرة يبلغ اثني عشر رقيماً وحسب معلوماتنا لم تكن حتى الآن موضع دراسة إجمالية(12).‏

    يوجد بينها خمسة رقم نقشت عليها، دون وجود أي نص آخر، الأبجدية بكاملها ولمرة واحدة. فتلك التي نراها بخط جميل كانت دون شك بمثابة نموذج أعده الكاتب للتداول بين الطلاب، أما تلك التي تبدو كتابتها غير جيدة فهي تشير إلى أنها من صنع طلاب يبذلون جهدهم في نسخ الإشارات. وهناك أيضاً رقيم سادس لا يحمل إلا الأحرف الستة الأولى من الأبجدية فهو على ما يبدو عبارة عن وظيفة طالب لم تكمل لسبب أو لآخر.‏

    لدينا من جهة أخرى رقيم يشهد بوضوح تام أنه لطالب منهمك في التدريب على الكتابة، فنراه في بادئ الأمر يعيد، على الوجه الأول من الرقيم، خمس مرات نسخ الأحرف العشرة الأولى من الأبجدية، ثم ينتقل إلى الوجه الثاني فيكتب على مرتين هذه الأحرف العشرة، وعندما ازدادت ثقته بنفسه أخذ ينسخ الثلاثين حرفاً دفعة واحدة. وهناك رقيم يجعلنا ندخل تماماً إلى صف يجري فيه تعلم الكتابة. إننا نرى في قسمه العلوي أحرف الأبجدية الثلاثين، مكتوبة بيد المعلم وموزعة على سطرين، اثنان وعشرون في السطر الأول وثمانية في السطر الثاني، بينما نجد في القسم السفلي الأحرف الثلاثي مكتوبة بيد مبتدئ والطريف أن التلميذ، بسبب شروده قد راح ينسخ النموذج المعطى له مبتدئاً بالأحرف الثمانية من السطر الثاني ثم الاثنين والعشرين من السطر الأول.‏

    نشير بعد ذلك إلى رقيم هو إما عبارة عن مسودة، أو نموذج وضع من أجل الطلاب الذين لا يزالون يتدربون على كتابة الأحرف وهم يحاولون أن يتعلموا أسلوب المراسلة.‏

    فنجد في الرقيم، على مرتين، الأحد عشر حرفاً الأولى من الأبجدية كما نجد بعض عبارات التمني أو المجاملة التي كثيراً ما نقرؤُها في الرسائل المكتشفة في رأس الشمرة: فلتحفظك الآلهة وتنقذك!.."، فلتتحقق أغلى أماني أخي وصديقي، ونجد أيضاً في الرقيم ذاته فعل "أعطى" مكرراً ست مرات بصيغ مختلفة. وهناك رقيمان نجد في كل منهما نصاً باللغة الآكادية وعلى هامشه عدة محاولات لكتابة أحرف الأبجدية الأوغاريتية.‏

    ونذكر أخيراً رقيماً رتبت فيه أحرف أبجدية أوغاريت في أعمدة ويوجد مقابل كل حرف المقطع الصوتي الآكادي المطابق له باللفظ. إنه ولا شك جدول وضع لخدمة الكتبة المكلفين بالترجمة من الأوغاريتي إلى الآكادي وبالعكس ولخدمة الطلاب الذين يتعلمون أصول الترجمة.‏

    إن الكاتب الأوغاريتي بعد أن يكون قد علم تلاميذه أحرف الأبجدية يبدأ بتعليمهم استخدامها في كتابة الكلمات وبالتالي يعلمهم كتابة الجمل المختلفة فقد عثر في رأس الشمرة على عدد من التمارين المدرسية، نذكر منها رقيماً يتضمن أربعة حروف أوغاريتية تفصل بينها خطوط صغيرة عمودية ثم نرى كلمة مركبة من تلك الحروف فيبدو أن المعلم كان قد أملى على طلابه تلك الأحرف وكلفهم بأن يؤلفوا منها كلمة أو كلمات.‏

    اللغات الأجنبية:‏

    صحيح أن الكتبة أول ما بدأ اهتمامهم باللغة الأوغاريتية وتأمين طريقة سهلة لتدوينها وتدريب طلابهم على كتابتها. إنما هناك ناحية أخرى شغلتهم أيضاً وهي موضوع اللغات الأجنبية. إن أعمال التنقيب في رأس الشمرة قد أسفرت عن وثائق موضوعة بعدة لغات، فعلاوة على اللغة الأوغاريتية المحلية ظهرت بين أنقاض المدينة وثائق بالآكادية والسومرية والحورية والقبرصية والمصرية والحثية، وسنتناول على التوالي هذه اللغات وذلك من زاوية موضوع هذا البحث، أي أننا سنحاول معرفة وضع كتبة أوغاريت تجاه كل لغة وبتعبير آخر أن ندرك مدى اطلاعهم عليها وكفاءتهم في ميدان الترجمة. ومن الدلائل على أنهم كانوا يعيرون الموضوع اهتماماً كبيراً أنهم وفروا لأنفسهم ولطلابهم الوثائق التي يحتاجونها في أعمال الترجمة. نذكر منها القواميس التي كانت في متناول الذين يشمل نشاطهم أربع لغات. في تلك القواميس ذات اللغتين أو اللغات الثلاث أو الأربع نرى المفردات السومرية أو الآكادية أو كلتيهما وإلى جانبيهما الترجمة المقابلة بالحورية وبالأوغاريتية أو إحدى هاتين اللغتين، كما أننا نذكر الجدول المقارن الذي تحدثنا عنه.‏

    اللغة الآكادية:‏

    نبدأ باللغة الآكادية ويطلق عليها أحياناً اسم اللغة البابلية مع العلم أن النصوص الآكادية تشكل مع النصوص الأوغاريتية أوفر اكتشافات رأس الشمرة الكتابية عدداً. إنها مدونة حسب الطريقة المسمارية الصوتية. ولدت في بلاد الرافدين ثم انتشرت، اعتباراً من أواخر الألف الثالث في سائر بلدان الشرق الأوسط واعتمدت في المراسلات السياسية والتجارية بين مختلف الممالك كما كانت في الوقت نفسه لغة الأدب والمعرفة فهي أشبه ما تكون بالإنكليزية واللاتينية في آن واحد. يتبين من المعلومات التي أسفرت عنها الحفريات أن أوغاريت لم تكن لها مع بلاد ما بين النهرين علاقات تذكر كما أنه لم يكن في أوغاريت تواجد لجالية من تلك البلاد ولذلك لم يحتج الكتبة إلى اللغة الآكادية للتحدث مع أي شخص. إنما كانت معرفتها ضرورية لأن مراسلات العاصمة الكنعانية مع بقية الدول، وبنوع خاص مع مصر وقبرص وبلاد الحثيين، كانت بهذه اللغة، كما أن الثقافة البابلية كانت تخيم على الكتبة والمثقفين في أوغاريت فكانت النصوص الآكادية الدينية والأدبية والعلمية، مشتهرة في سائر بلاد الشرق فكان لا بد لهم من الوقوف عليها. في يومنا الحاضر تستعمل مقتطفات من الأدب الكلاسيكي في وظائف وامتحانات الترجمة وهكذا كان شأن كتبة أوغاريت وطلابها فنراهم يحاولون ترجمة عيون الأدب الكلاسيكي لذلك الزمن، أي الأدب البابلي. ولا شك أن القواميس التي ذكرناها والنصوص اللغوية الآكادية التي ظهرت بكثرة في رأس الشمرة تبرهن على أن دراسة اللغة الآكادية كانت تدخل ضمن تعليم وتدريب الطلاب. ومن جهة أخرى تذكر أن بعض الوثائق الدبلوماسية الهامة من معاهدات واتفاقات دولية وجدت مكتوبة على نسختين إحداها بالآكادية والأخرى بالأوغاريتية كما أننا نجد في الأضابير الرسمية رسائل موجهة إلى الخارج ولكنها باللغة المحلية، إنها دون شك نسخ أو مسودات بالأوغاريتية لرسائل بعثت باللغة الآكادية جاءت من ممالك أخرى، ورأت الإدارة الملكية أن تحفظ عنها نسخاً باللغة المحلية، ومن مظاهر تمكن كتبة أوغاريت باللغة الآكادية ومهارتهم أنه تم اكتشاف بعض الرقم تحمل نصاً آكادياً ولكنه مكتوب حسب الطريقة الأبجدية.‏

    *اللغة السومرية:‏

    لقد بقيت اللغة السومرية على مدى ألف سنة، أي من 3500 حتى 2500، اللغة المكتوبة الوحيدة في بلاد الرافدين وبعد ذلك كانت مقصورة على العلماء والكهنة. في أوغاريت كانت السومرية عبارة عن لغة ميتة، على حد تعبير الغرب، أي أنها لم تكن تستعمل للمكالمة. بل نراها في نصوص ذات طابع علمي ونصوص أدبية ودينية وسحرية. إن وجودها في القواميس والنصوص اللغوية دليل على أنها كانت ضمن برامج التدريس.‏

    *اللغة الحورية:‏

    إلى جانب الكنعانيين كان يعيش في أوغاريت عدد لا بأس به من الحوريين وهو شعب انحدر من شمالي شرقي سورية وقطن الساحل في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد. إنه يكتب ويتكلم اللغة الحورية. وهذه اللغة كما كنا نعرفها قبل اكتشافات رأس الشمرة كانت مكتوبة بالإشارات المسمارية الصوتية كما هو الحال في الآكادية. غير أننا نرى في رأس الشمرة، علاوة على النصوص المكتوبة بهذه الطريقة، نصوصاً حورية مكتوبة بالإشارات المسمارية الأبجدية التي ابتكرتها أوغاريت(13). السؤال الذي يطرح: هل أراد كتبة كنعانيون أن يطبقوا على اللغة الحورية هذه الطريقة الأكثر سهولة أم أن كتبة من أصل حوري تعلموها من زملائهم الكتبة الكنعانيين؟ نلاحظ أن الرقم الحورية الأبجدية هي بصورة عامة نصوص طقسية كانت تتلى أو تنشد في المعابد ونصوص هي عبارة عن لوائح بأسماء الآلهة الحوريين. كما نرى رقماً تتضمن في آن واحد نصاً حورياً أبجدياً ومقطعاً بالأوغاريتية الأبجدية. لذلك نميل إلى الاعتقاد بأن هذه النصوص وضعت من قبل كتبة حوريين. غير أن القواميس التي ذكرناها تدل على أن دراسة اللغة والكتابة الحورية كانت هي أيضاً بين الأمور التي يتناولها التعليم في أوغاريت فكان المكتبة المحليون وطلابهم يتدربون على كتابة اللغة الحورية وكانوا حتماً يتكلمونها بسبب الجالية التي تعيش بينهم.‏

    *اللغة القبرصية:‏

    هناك دلائل أثرية عديدة أسفر عنها التنقيب وكذلك عدد من الوثائق المكتوبة تشير إلى وجود جالية قبرصية، لا يعرف حجمها بالضبط. كانت تقطن أوغاريت وفي الحي الكائن قرب المرفأ المطابق للخليج المعروف اليوم باسم "مينة البيضا" وكذلك توجد دلائل عديدة عن علاقات وثيقة ومستمرة بين الجزيرة والعاصمة الكنعانية فقد عثر في رأس الشمرة على رسائل ووثائق مختلفة واردة من قبرص وهي مكتوبة طبعاً باللغة الآكادية المستعملة في المراسلة بين الدول.‏

    لم تسفر الحفريات عن وثائق مدرسية أو لغوية تبين أن الكتبة الكنعانيين المحليين أرادوا أن يتعلموا اللغة القبرصية غير أننا نلاحظ أن بعض الوثائق المكتوبة بالقبرصية(14) قد اكتشفت في دواوين الأضابير أو في مكتبات، أي في الأماكن التي كان الكتبة الأوغاريتيون يتمركزون فيها، ومن جهة أخرى يوجد رقيم موضوع بالقبرصية يدل على يد غير معتادة على إشارات هذه اللغة مما جعل بعض العلماء يعتقدون أنها من صنع كاتب كنعاني، زد على ذلك أن أخد الرقم القبرصية المكتشفة. هو عبارة عن قائمة أسماء من النوع الدارج في أوغاريت بعضها أسماء أعلام محلية على الأغلب. كل هذا يدل على أن كتبة أوغاريت كانوا يلمون بعض الشيء بالكتابة القبرصية. ونذكر هنا أنه في موقع هالة سلطان تيكه، قرب لارنكا، في قبرص عثر مؤخراً على كأس من الفضة تحمل كتابة بالأوغاريتية. فهل يمكن أن نتصور أن كتبة قبرص تأثروا بالطريقة الأبجدية المستعملة في الساحل السوري المقابل. هذا ما يمكن أن توضحه يوماً الحفريات التي تجري في أوغاريت أو في قبرص.‏

    *اللغة المصرية:‏

    ليس لدينا أي برهان على وجود جالية مصرية في أوغاريت(15). إن الحفريات أسفرت عن عدد كبير من القطع الفنية تحمل طابعاً مصرياً إنما نرى العلماء متفقين على أنها إما قطع مستوردة أو قطع من صنع فنانين محليين تأثروا بالفن المصري. ومن جهة أخرى عثر في رأس الشمرة على عدد كبير من الكتابات الهيروغليفية المصرية. ومعظمها منقوش إما على هدايا مرسلة من قبل البلاط الفرعوني إلى البلاط الأوغاريتي أو على هبات إلى معابد أوغاريت. ولدينا بعض الوثائق والأدلة التي تشهد على تواجد مصري ولو على نطاق محدود. نذكر منها الأمور التالية: نعلم أن ممثلاً للبلاط الفرعوني كان يسكن منزلاً فخماً قريباً من قصر أوغاريت الملكي وأنه كان يتعاطى بعض الأعمال التجارية. النصوص تتحدث عن طبيب مصري استدعاه أحد ملوك أوغاريت وعن مواطن مصري ابتاع منزلاً من الملك وعن مصريين كانوا يتعاطون تجارة منتوجات أوغاريتية من زيت وخمر، كما أننا نعلم أن إحدى أميرات وادي النيل تزوجت من ملك أوغاريتي.‏

    بقي أن نتساءل إذا نتج عن هذه التأثيرات وهذه الاتصالات المحدودة انعكاس على نشاط الكتبة الأوغاريتيين. كان هؤلاء يشاهدون النصوص المصرية المحفورة على الهبات المقدمة إلى المعابد، ولا شك أنهم أخذوا بجمال الإشارات الهيروغليفية التي تمتاز بطابع فني. فهل خطر ببالهم أن يحاولوا تقليدها؟.. إن معطيات التنقيب الأثري في هذا المجال قليلة جداً لابد أن نأتي على ذكرها. فهناك ثلاث كتابات يعتقد العلماء اليوم أنها من صنع كاتب أوغاريتي، الأولى منقوشة على قاعدة صغيرة اكتشفت في القصر الجنوبي والثانية منقوشة على نصب وجد في معبد الإله بعل، والثالثة حفرت على سيف ظهر في الحي الممتد شرقي القصر الملكي.‏

    *اللغة الحثية:‏

    في الفترة التي نحن بصددها، أي في القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد، كانت أوغاريت تحت سيطرة الإمبراطورية الحثية ورغم مقاومة بعض ملوكها لهذا النفوذ كان الحثيون يلعبون دوراً هاماً في حياة العاصمة الكنعانية. الغريب والحالة هذه أن يكون التأثير الحضاري قليلاً جداً. لم تسفر الحفريات عن قطع فنية تدل على تأثير حثي يذكر. والعلاقات التجارية كانت مقصورة على بعض القوافل وأحياناً على نقل بعض المواد الغذائية في مراكب من ساحلنا إلى سواحل الأناضول. في أوغاريت تمَّ اكتشاف منزل شخص حثي اسمه "باتيلوا" يعتقد أنه كان سفير البلاط الحثي أو أحد ممثليه. الوثائق الرسمية المتبادلة بين العالم الحثي وأوغاريت موضوعة كلها باللغة الأكادية الدولية مع العلم أن الرسائل الواردة تحمل خاتم السلطة الحثية وهو موضوع بالكتابة الهيروغليفية الحثية.‏

    يجب الإشارة إلى أنه لم يعثر في دواوين الأضابير وفي المكتبات على قواميس أو أية وثائق مدرسية تدل على أن كتبة أوغاريت كانوا يتعلمون اللغة الحثية. نذكر فقط رقيماً يحمل نصاً أدبياً موضوعاً بالكتابة الحثية المسمارية غير أن العلماء يعتقدون أنه رقيم مستورد. على كل حال فليس من المستحيل أن يكون كتبة أوغاريت قد اهتموا بعض الشيء بلغة دولة كانت سلطتها تهيمن على مقدرات العاصمة الكنعانية(16).‏

    *الكتابة والثقافة:‏

    لا تشكل الكتابة هدفاً في حد ذاتها، إنها في النهاية ليست غير أداة لنقل الأفكار والمعارف. غير أن الوثائق المكتوبة المكتشفة في أطلال رأس الشمرة لا تقدم لنا بصورة مباشرة وجلية المعلومات التي نريدها عن الثقافة العامة في أوغاريت ونعني بذلك مجمل معارفها في مختلف الميادين وبالتالي لا ندري الدور الفعلي الذي كانت تلعبه الثقافة العامة في مجال التعليم والتدريس. ومن المؤسف أن هذا الموضوع لم يعالج حتى الآن بطريقة منهجية رغم أن هنالك اليوم آلاف المؤلفات عن مكتشفات رأس الشمرة فمن المرغوب فيه القيام بعمل دؤوب يساعد بين أكداس الرقم المنبوشة حتى الآن، على اكتشاف كل ما يمكن أن يجلو لنا هذا الموضوع، وسنقدم هنا لمحة مختصرة عن أهم النواحي التي تبرزها الرُّقم المكتشفة.‏

    سنتكلم أولاً عن القوائم وقد عثر منها في رأس الشمرة على عدد لا يحصى. يتعلق معظمها بالتنظيم الإداري والحياة الاقتصادية. ولكن هناك قوائم لها أهمية كبرى في موضوعنا هذا فهي تبدو لنا كمفكرات وفيش FICHES شبيهة بالتي يستخدمها اليوم علماؤنا لتؤمن لهم بسرعة المعلومات التي يحتاجونها أثناء دراساتهم. نذكر منها رقمياً يتضمن خمسمئة سطر على غاية من الأهمية لأنه نوع من موسوعة فنجد فيه تعداد الأسماك والطيور والنباتات والمنسوجات والأقمشة والأحجار وما شابه ذلك. هناك أيضاً قوائم تعدد آلهة أوغاريت وقائمة تعداد الآلهة الحورية. ونذكر بنوع خاص رقيماً يتضمن جدولاً بالآلهة السومرية وتجاه كل إله نرى ما يقابله من آلهة عند الأوغاريتيين والحوريين فتلك لعمري وثيقة عن الديانة المقارنة تعود في القدم إلى ما ينوف على ثلاثة آلاف سنة. ومن القوائم التي كانت تستعمل كمفكرة نذكر عدة رقم سمحت بوضع جدول بمقاييس الأوزان والاستطاعة والمساحة.‏

    عثر أيضاً بين الأطلال على بعض النصوص الطبية، علماً أن الطب في ذلك الوقت كان على ارتباط وثيق وتداخل كامل مع السحر، إنما نستطيع أن نتعرف بواسطتها على عدد من الوصفات الطبية وبواسطة نصوص الابتهالات والأدعية السحرية نتعرف أحياناً على بعض الأمراض والأدوية. من بين الأمراض يرد ذكر الصداع والأنفلونزا والصرع والزكام والدوار ومرض الأسنان والرئة والبطن والعيون وكذلك اعتلال العضلات والجلد. أما العلاجات فأكثرها نباتية ويمكن أن نطلع من أحد الرقم على المعالجة بواسطة حمام بخار. وهناك نص يذكر بوضوح وجود أطباء في أوغاريت كما نذكر نصاً وجد بأربع نسخ نقشت عليها تعليمات العناية الواجب اتباعها تجاه الخيول المريضة.‏

    النصوص السحرية المتعلقة بعلم الفلك لا تبين لنا بدقة معلومات الأوغاريتيين الفلكية إنما يوجد نص فسّر كأنه تلميح لكسوف الشمس. أما الموسيقى فلدينا عدة رقم مكتوبة باللغة الحورية تتضمن التنويط (أو التدوين) الموسيقي لبعض التراتيل والأناشيد الدينية(17). أما علم الحقوق في أوغاريت فيمكن التعرف عليه عن طريق عدد كبير من النصوص القانونية ثمَّ اكتشافها في جناح من القصر الملكي (18).‏

    المعروف أنه تم اكتشاف عدد من الأساطير والملاحم(19) في بناية الكاهن الأكبر، قرب معبد الإله بعل وكانت كما ذكرنا متوارثة شفوياً من جيل إلى جيل فتم تدوينها في مطلع القرن الرابع عشر قبل الميلاد من قبل كاتب يرد اسمه في بعض الرقم ولا نستطيع بما لدينا من معلومات أن نعرف إذا كان مجرد ناسخ وضع تلك القصائد حرفياً كما تلقاها أو أنه كان ينظم تلك الملاحم والأساطير بأسلوب أدبي، وهي بالفعل قصائد ذات قيمة أدبية أكيدة.‏

    وأخيراً نذكر الإنتاج الأدبي. لقد عثر في رأس الشمرة على عدد لا بأس به من النصوص الأدبية من قصائد وأدعية ومجموعات حكم ونصائح. إلا أن معظم هذه النصوص يعود إلى الأدب البابلي أو أنها، على أقل تقدير، تستمد إيحاءاتها من بلاد الرافدين، وقد ذكرنا أنها كانت تستخدم في أعمال الترجمة. إنما يوجد نص واحد يمكن حتى إشعار آخر أن نعتبر أنه أوغاريتي إذ لم يكتشف ما يقابله في الأدب البابلي. إنه مجموعة من الحكم والأقوال وجدت مكتوبة بثلاث نسخ ويبدو أن هذه النسخ تعود لثلاثة طلاب في صف الإنشاء الأدبي طلب إليهم مناقشة الوجود الإنساني بالاستناد إلى أقوال وأمثال دارجة وهذا مقطع من النص المذكور:‏

    لا تدرك اليد ما بعد السماء.‏

    لا يدرك أحدٌ عمق غور الأرض.‏

    حياة بلا نور، فماذا تزيد على الموت؟..‏

    مقابل سعادة يوم، أيام من الدموع.‏

    وها هي السنة تجري وفيها ألف علة.‏

    الناس لا يعلمون بأنفسهم ما يفعلون.‏

    معنى أيامهم ولياليهم كامن عند الآلهة.‏

    وفي الختام نذكر نصاً تم اكتشافه في رأس الشمرة يبين تماماً أهمية الكتابة والمعرفة في المجتمع الأوغاريتي. إنه عبارة عن دعاء كتب بصيغة رسالة موجهة من كاهن إلى أحد الآلهة يطلب فيه مساعدة تلميذه ومما جاء في النص المذكور:‏

    لا تظهر في عظمتك عدم الاهتمام بالقضية التي أستعطفك من أجلها. بهذا التلميذ الفتي الجالس أمامك لا تظهر عدم الاهتمام.. اكشف له أي سر في فن الكتابة، العد، المحاسبة، أي حل، اكشف له.. اكشف له إذن الكتابة السرية.. أعط لهذا التلميذ الفتي، القصب المبرى والجلد والفخار.. إذن لا تهمل شيئاً من كل ما يتصل بفن الكتابة".‏

    ***‏

    الحواشي:‏

    (1)-حسب آخر جرد تم لرقم إيبلا، قبل أن توضع في متحف إدلب، أنها موزعة على الشكل التالي: 2000 رقيم كامل 6000 رقيم ناقص، 70000 كسر رقيم.‏

    (2)-كان يستنتج من المراجع السابقة أن أعمال التنقيب في ماري قد أسفرت على 25000 وثيقة مكتوبة بينما نلاحظ أن مدير الحفريات الجديد يذكر 15000 رقيم (راجع جان مارغرون: "ماري"، الحوليات الأثرية العربية السورية، المجلد 33آ، 1983: ص 340. إن رقم ماري الموجودة حالياً في المتحب الوطني بحلب ستنقل قريباً إلى متحف دير الزور الجديد.‏

    (3)-إن المصادر كانت، حتى الآن، تذكر أن هذا الموقع يقع على بعد حوالي عشرة كيلو مترات شمالي اللاذقية. إن هذا الرقم أصبح غير صحيح بعد التعديلات التي طرأت مؤخراً على الحدود الإدارية للمدينة. فقد أدت هذه التعديلات إلى امتداد اللاذقية شمالاً على طول الساحل حتى رأس ابن هاني (راجع كتابنا: "المختصر في تاريخ اللاذقية"، اللاذقية 1984: ص 58-60) وهكذا صارت أوغاريت تقوم على مسافة ثلاثة كيلو مترات فقط من الطرف الشمالي الشرقي من المدينة، وبالتالي نستطيع أن نقول من الآن وصاعداً أن رأس الشمرة تقع على بعد ثلاثة كيلو مترات شرقي اللاذقية.‏

    (4)-إذا أردنا معرفة مدى الأهمية التي توليها الأوساط العلمية في العالم لاكتشافات رأس الشمرة، فيجب أن نعلم:‏

    -إن المؤلفات والدراسات حولها تعد بالآلاف، انظر:‏

    M. DIETRICH, O. LORETZ, P. R. BERGER, J. SANMAPTIN: Ugarit-Bibliographie 1928-1966, 4 vol. Kevelaer 1973.‏

    -إن مجلة علنية تصدر في مدينة مونستر بألمانيا منذ عام 1969 اسمها Ugarit-Forschungen وهي مخصصة بأكملها للبحوث الأوغاريتية، وإن نشرة عنوانها Ugaritc Studies تصدر عن جامعة كالغاري في كندا منذ سنة 1973 وتقدم لقرائها بانتظام لمحة موجزة عن آخر المطبوعات الصادرة حول رأس الشمرة.‏

    -إن اللغة الأوغاريتية تدرس حالياً في عدد كبير من جامعات العالم، انظر النشرة السابق ذكرها، العدد 11، تشرين الأول 1976.‏

    (5)-حسب آخر جرد للوثائق المكتوبة المكتشفة في رأس الشمرة يبلغ عددها 2024 وثيقة منها ما هو محفوظ كاملاً ومنها ما هو ناقص ومنها ما هو عبارة عن كسر صغيرة. خلافاً لنصوص إيبلا وماري المنشورة كل منها في مجموعات متسلسلة منظمة، إن نصوص رأس الشمرة قد نشرت مع الأسف بشكل عشوائي في مؤلفات ومجلات مختلفة، إنما نذكر أن قسماً كبيراً منها قد نشر في كتاب:‏

    A. HERDNER: Corpus des textes en cunéiformes alphabétiques de Ras Shamra, (1929-1939), Paris 1963.‏

    وفي سلسلة Palais Royal d’Ugarit وفي مجموعة Ugeritica (المجلد الخامس والمجلد السابع).‏

    (6)-راجع مقالنا: "الحياة الثقافية والتعليم في أوغاريت" ضمن كتابنا: أبحاث تاريخية وأثرية، دمشق 1987 ص 83-116.‏

    (7)-بالنسبة لكتبة أوغاريت راجع:‏

    Jeen NOUGAYROL: Palais Royal d’Ugarit III, Paris 1955: p. XXXIV-XXXIX, W. J.‏

    HORWiTZ: The Ugaritic Scribe, Ugarit-Forschungen 11, 1979: 389-394.‏

    (8)-نفضل استعمال هذه التسمية التي تشير إلى أهم مميزات هذه اللغات عوضاً عن التسمية الرائجة منذ سنة 1781، أي "اللغات السامية"، والتي سببت ولا تزال تسبب بعض الالتباسات. راجع:‏

    H.FLEISCH: Introduction à I’étude des Iangues sémitiques. Paris 1947: 20-22‏

    (9)-راجع:‏

    F> RENGROE: Methological considerations regarding the use of Arabic in Ugaritic Philologv. Ugarit-Forschungen 18, 1986: 33-74.‏

    (10)-توصلنا إلى هذا الرقم استناداً إلى الفهارس المختلفة الموجودة في:‏

    C. H, GORDON: Ugarit Textboox, Rome 1965: 347-522.‏

    (11)-Elias G. BITTAR: A Comparative Semitic Study (with special reference to Arabic, Hebrew and Syriac) of the Linguistic Features of the Ugaritic Texts. University of Wales 1982: 124-130, 140-153, 193-200.‏

    انظر أيضاً جون هيلي: "الأوغاريتية ودراسات اللغات السامية"، مجلة المعرفة العدد 213، تشرين الثاني ص 120.‏

    (12)-إن رقم الألفباء تحمل، حسب الترقيم المتبع في نصوص رأس الشمرة، الأرقام التالية:‏

    RS 10.081, 12.63, 23.492, 24.288, 19.31, 15.71, 19.40, 24.281, 16.265, 20.148+21.69 20.164, 19.159.‏

    أن الرقيم الأول معروض في متحف اللوفر في باريس، أما الأحد عشر الباقين فهي موجودة في المتحف الوطني بدمشق وفي المتحف الوطني بحلب.‏

    (13)-النصوص الحورية منشورة في:‏

    E. LAROCHE: “Les textes hourrites”, Palais Royal d’Ugarit III, Paris 1955. 325-385; “Documents en langue hourrite provenant de Ras Shamra” Ugaritica V, Paris 1968: 447-644.‏

    (14)-النصوص المكتوبة باللغة القبرصية المكتشفة في رأس الشمرة منشورة في:‏

    E.MASSON: Cyprominoica G?teborg 1974: 34 et 38.‏

    (15)-بالنسبة إلى علاقة أوغاريت بمصر:‏

    J. et E. LAGARCE: “Le chantier de la maison aux albàtres” Syria 51, 1974: 5-24; voir également C. SCHAEFFER: Ugaritica 3, Paris 1956: 164-178.‏

    (16)-بالنسبة للوثائق الحيثة، راجع:‏

    (16)- E-LAROCHE: “Textes de Ras Shamra en langue hittite”, Ugarititca V, Paris 1968: 769-784; C, SCHAEFFER, Ugaritica III. Paris 1956: 1-96.‏

    (17)-راجع راوول فيتالي: "اللوحة الأوغاريتية ح/6. تفسير تنويطها الموسيقي"، الحوليات الأثرية العربية السورية، العدد 29-30، 1979-1980، ص73-77.‏

    (18)-راجع:‏

    G. BOYER: La place d’Ugarit dans I’histoire de I’ancien Droit oriendans Palais Royal d’Ugarit III, Paris 1955: 283-306.‏

    (19)-لقد صدر حتى الآن عدد كبير من ترجمات لملاحم وأساطير رأس الشمرة إلى لغات أجنبية مختلفة، نكتفي هنا بذكر الترجمتين إلى اللغة العربية:-نسيب وهيبة الخازن: "أوغاريت، أجيال، أديان، ملاحم، بيروت 1961. -أنيس فريحة: "ملاحم وأساطير من أوغاريت (رأس الشمرة)" بيروت 1980


    مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 34 - السنة التاسعة - كانون الثاني "يناير" 1989 - جمادى الأولى

    المصدر: http://www.dahsha.com/viewarticle.php?id=26765 [/align]
يعمل...
X