قراءة في المجموعة القصصية " حقيبة متربة وجورب أبيض " للكاتب حسام القاضي بقلم / مجدي جعفر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مجدي جعفر
    عضو منتسب
    • Jun 2021
    • 32

    قراءة في المجموعة القصصية " حقيبة متربة وجورب أبيض " للكاتب حسام القاضي بقلم / مجدي جعفر

    قراءة في المجموعة القصصية " حقيبة متربة وجورب أبيض " للكاتب حسام القاضي
    بقلم / مجدي جعفر
    حسام القاضي في هذه المجموعة ملتزم بهموم وقضايا وطنه وأمته، ولا ينفصل عن واقعه، فيتحاور معه، ويقيم علاقة جدلية مستمرة مع هذا الواقع.
    وسنقارب في هذه القراءة كل قصص المجموعة، وقراءتي ليست قراءة ناقد بقدر ماهي قراءة الممسوس بغواية هذا الفن المخاتل، المراوغ الجميل
    ......
    يستهل الكاتب مجموعته القصصية بقصة " .. ولكنه حي " التي يرصد فيها واقع الأمة الإسلامية المزري، والتي هي في أضعف حالاتها، فالفتاة البوسنية المسلمة التي تم اغتصابها :
    " ذبحوا أباها أمام عينيها بعد أن ماتت أمها وأخوها تحت الأنقاض "
    ويبين بشاعة جرم فعل الصربيين :
    " لم تكن وحدها حين اقتادوها، كن الآف مؤلفة، وضعهن في معسكر لذبحهن .. "
    ولو تم فصل رأسها عن جسدها بسكين لكان أهون عليها، ولكنه ذبح أكثر انتهاكا للجسد وأكثر إيلاما للنفس وأكثر عذابا للروح.
    " أطلقوا عليهن وحوشهم المدربة ليذبحونهن بطريقتهم الخاصة، كل يوم، وأكثر من مرة "
    وتصرخ الفتاة بأعلى صوتها :
    " وامعتصماه .. وامعتصماه "
    ولم يأتي المعتصم ولا جنوده، ويهزأ الكاتب من حكامنا في هذا الزمان.
    " فقد كثر معتصمو هذا الزمان "
    ويعريهم، فهم:
    " معتصمو القصور والأموال والمنتجعات، .. "
    فالفتاة البوسنية التي تم اغتصابها تستنجد بالمعتصم، ولكنها ربما :
    " لم تكن تدري أن لكل زمان معتصموه "
    فمعتصمو زماننا قصارى ما فعلوه :
    " شمروا عن سواعدهم ليسألوا هل الذبح شرعي فيباركونه أم غير شرعي فيشجبونه ويستنكرونه "
    وكأن الكاتب أراد أن يضع قارئه في مقاربة وضع وحال الأمة في زمن الكبرياء والعزة والمجد بحالها اليوم، ومقاربة حكام اليوم ( معتصمو اليوم ) بمعتصمي الأمس، فالقارئ سوف يستدعي زمن أجداده الذين صنعوا الحضارة ويضعه في مواجهة مع زماننا زمن الانكسار والانبطاح والتبعية.
    ولا يكتفي الكاتب بفضح حكام العرب والمسلمين، فيفضح أيضا بعض رجال الدين، وهم كُثر في هذا الزمان :
    " في شهورهن الأولى لم يجدن من يفتينهن في أمرهن .. حلال اجهاضهن أم حرام؟ "
    فهم / أي رجال الدين:
    " كان علماء الدين مشغولين في شيء أهم .. نقاب المرأة فرض أم لا، ولم يفتهن أحدهم في أمرهن هذا "
    فما يشغل بال الفتاة ويؤرقها :
    " ذلك القادم ما كنهه؟ من هو .. ابن من هو في هؤلاء؟ .. ابن لمائة رجل .. مائتين، من فيهن تستطيع إرضاعه .. بل النظر إليه .. هل تنجب المسلمة من الكفرة؟ "
    والفتاة التي استغاثت بالمعتصم، فلا جاء المعتصم ولا جنوده، ابتئست، وراحت تسمع وترى في منامها وفي خيالها أشياء عجيبة :
    وسنكتفي بذكر رؤيتين من رؤى الفتاة :
    الرؤية الأولى :
    " فوارس في مواكب متتالية يرفعون رايات الحق من خلفهن نساء صالحات يلهثن من أجل الجهاد .."
    وكأن الفتاة ترى أن فريضة الجهاد التي تم تغيبها، كانت هي الحل لإنقاذهن، وهي دعوة منها لإحيائها حتى لا يتكرر ذلك في المستقبل.
    الرؤية الثانية :
    " رأت رجالا يقبلون الآيادي وراء نساء كاسيات عاريات .. "
    وهذا هو حالنا الذي وصلنا إليه بعد تغييب تلك الفريضة، والفتاة كانت تقبض على شيء، وهي تعاني من تكور بطنها نتيجة اغتصابها هي والآلاف من البوسنيات، وظل هذا الشيء الذي تقبض عليه غائما وغامضا، ولم يكشف الكاتب لقارئه عنه إلا في الوقت والزمن المناسبين، وكان هذا الشيء هو المصحف الشريف، وهي لحظة اكتشاف مفاجئ ويذكرنا بأننا في الزمن الذي قال عنه الرسول الكريم القابض فيه على دينه كالقابض على جمرة من نار، فالفتاة القابضة على المصحف هي القابضة على الدين.
    ويبرز لنا أهمية أن نتمسك بإسلامنا ونقبض على ديننا، فبسبب بعدنا عنه فقدنا الأرض والعرض، بلاد إسلامية يتم محوها، وشعوبها تُباد وتُهجّر، والكاتب يرصد لنا بأمانة الواقع المؤلم للأمة.
    وبرمزية شفيفة يصف الكائن الذي تلده الفتاه :
    " قبيحا .. كريها بشعا "
    فهو ابن الحرام، وأسماه بالكائن، فلا يمكن أن يكون بشرا سويا، ويستمد قبحه وبشاعته من قبح وبشاعة الفعل.
    ".. ولكنه حي " وسيظل حيا ليذكرنا بضعفنا وهواننا، ويذكرنا ببشاعة الآخر وقسوته وكراهيته غير المبررة لنا، سيظل حيا ليذكر الإنسانية كلها بلحظة من لحظات توحشها وبعدها عن كل ما هو إنساني، وعن كل الشعارات التي يتشدقون بها ليلا ونهارا، مثل العدالة والحرية والمساواة وقبول الآخر و .. و ...
    ....
    وفي قصة " الحطام " وعبر رمز غير مستغلق تماما على القارئ ، يقدم لنا نصا يحاور فيه الواقع أيضا ويثير الأسئلة.
    يناقش واقع الحكام في بلادنا، الذي لا يخضع لدساتير أو لقوانين، وهو لا يلقي باللائمة على الحكام فحسب ولكن انتقاده يمتد إلى الشعب، فالشعب هو من يقوم بتأليه الحكام في بلادنا ورفعهم إلى درجات الأنبياء والقديسين، وكأنه أراد أن يقول بأننا نحن من نصنع جلادينا بأيدينا!!.
    ويتوقف على الكم الهائل من التماثيل التي صنعناها للحكام على مدى تاريخنا الطويل والممتد، حتى من جاء يحكم هذه البلاد من غير أبنائه أقمنا له التمائيل، أقمنا حتى التماثيل لذي القبعة ولصاحب الطربوش، و .. و ..
    وكما نصنع لهم التماثيل نحطمها أيضا!.
    ومن خلال نحات أو مثّال / صانع التماثيل، تدور أحداث هذه القصة البديعة، فالمثّال قد هاله وراعه الكم الهائل من التماثيل التي صنعناها للحكام وتحولت إلى الحطام بعد تحطيمها :
    " كم من حطام صنعه ورفعه بنفسه إلى مصاف الآلهة .. "
    فالمثّال / الشعب هو من يرفع الحكام إلى مصاف الآلهة، وحتى يصل إلى هذه المكانة، فالمثّال / الشعب :
    " يقدره أولا، ثم يحبه .. فيجله، فيرفعه إلى تلك المكانة "
    والحاكم الذي رفعناه إلى تلك المكانة، يبدأ في التغير، والتحول، فينظر إلى الشعب :
    " ينظر إليه من عليائه ببرود واحتقار .. "
    والكاتب على وعي بصير بخصائص شعوبنا في دول العالم الثالث :
    " كان دائما يصبر عليه وعلى غطرسته .. بل ربما توجه إلى السماء بدعاء حار له .. ويصبر ... ويصبر ولكنه أبدا لايستسلم "
    بالفعل هذا هو حال شعوبنا، تصبر على حكامها وتصبر وتصبر ولكنها أبدا لا تستسلم :
    " فاللحظة آتية .. آتية لا ريب فيها .. عندها يهب فجأة قابضا على معوله بادئا في تحطيمه لا يحول بينهما حائل "
    لم تكن معاناة المثّال / الشعب في تحطيم تمائيل الحكام السابقين كبيرة بالقياس إلى محاولة تحطيم تمثال هذا الحاكم والفشل في تحطيمه، فكل الضربات تطيش، لأنه منهم ومن أبناء جلدتهم.
    " لم يكن غريبا عليه، نفس سمرته، وربما نفس ملامحه "
    ويمعن الكاتب في وصف ملامحه وصفاته :
    " مازال يذكر بدايته .. كم كان صادقا .. وكم كان خفيض الصوت .. وكم كان مستمعا جيدا .. "
    ولكنه سرعان ما تحول :
    " لم يعد يسمع صوتا إلا صوته .. بل ويستطربه "
    " عيناه اختفى منهما ذلك البريق المحبب، وصارتا كرتين من حجارة لا إحساس فيهما .. يراهما أحيانا وكأنهما شواظ من نار .. كم كانتا وديعتين عيناه "
    المثّال / الشعب يحاول أن يحطم تمثاله فيفشل:
    " قام ممسكا بمعوله وصوبه إلى وجهه في ضربة قوية، لكنها طاشت .. "
    والمثّال سمع قهقهات تمثال الحاكم عالية، وراح يرمق المثّال بسخرية واستهزاء، والمثّال يكرر المحاولة مرة بعد مرة، وكل الضربات تطيش وتزداد قهقهات التمثال وسخريته من المثّال، والمثّال مازال على حالته في ضرباته الطائشة :
    " يتصبب منه العرق بغزارة .. يتعب فيستريح ليهب واقفا من جديد .. مكررا محاولاته وسط نظرات السخرية والضحكات المدوية .. لا شيء يثنيه عن عزمه. "
    ......
    وفي قصة " بيتزا " يرصد الكاتب التحولات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد من خلال ثلاثة أزمنة :
    1 – زمن ما قبل ثورة يوليو 1952م ويمثله الجد.
    2 – زمن ما بعد ثورة يوليو 1952م ويمثله الأب.
    3 – زمن الانفتاح ويمثله الحفيد أو الابن.
    فالجد استطاع انتزاع المحل من براثن الخواجة ( توني )، وثبت عليه اللافتة الجديدة، ثبتها على المحل قبل أن يغير ما بداخل المحل ..
    " كان المارة يتغامزون ويضحكون .. يافطة فطاطري على خمارة "
    لكن الجد لم يعبأ بهم، كان يعرف ما يفعل.
    " اليافطة " هنا رمزا يحمل في طياته معنى الوطنية، ومن خلالها عكس الكاتب التحولات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع، فالمحل الذي كان يبيع الخمور يتحول إلى محل لصنع الفطير البلدي، وهنا إشارة إلى التحول إلى المنتج الوطني ودعم كل ما هو وطني، و " اليافطة " تأخذ شكل علم مصر، وتفنن الجد ومن بعده الأب في رسمه على اليافطة بألوانه الزاهية والواضحة.
    وأما في زمن ما بعد الانفتاح ( زمن الحفيد أو الابن )، يقول الأب :
    " لعنة الله على شباب اليومين دول، الواحد منهم عاوز يربي سوالفه، ويرطن بالأفرنجي، ويبقى بيه، مش مهم بقى إزاي، ... "
    إذن المجتمع يشهد تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية، تحولات حادة وخطيرة بسبب قرار الإنفتاح الاقتصادي غير المدروس والذي أطلق عليه الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين ( انفتاح السداح مداح )، تحول بالمجتمع وبمنظومة قيمه مائة وثمانون درجة، عادت الرأسمالية المتوحشة لتطل برأسها من جديد وهي أكثر بشاعة مما كانت عليه قبل ثورة يوليو، والتحول من نظام إشتراكي إلى نظام رأسمالي بين عشية وضحاها وبقرار أحادي فوقي، والمجتمع غير مستعد وغير مؤهل لاستقبال هذه القرارات، فكانت الآثار السلبية والسيئة لها، والتي أضرت بالمجتمع وبمنظومة قيمه أيما ضرر، فالجيل الجديد، الجيل الذي تربى في زمن الانفتاح، يقول عنه الأب، والأب هو الابن الشرعي لثورة يوليو، والذي يمثل الوطنية في أسمى صورها، يقول عن الابن الذي يمثل زمن الانفتاح :
    " جيل يتعب ويشقى، وجيل يضيع كل شيء في التراب، ... "
    فالابن الذي تخرج في كلية الهندسة يخبر الأب بأنه يريد تطوير المحل :
    " فالمستقبل للديكور الجديد والشكل الجذاب "
    وعلى مضض وافق الأب واشترط على الابن أن يُبقي على اللافتة المثبتة على المحل كما أرادها جده، بألوانها الثلاث، الأحمر ثم الأبيض فالأسود، وباللون الأخضر على المساحة البيضاء ( فطاطري ابن البلد .. )، والولد لا يفي بوعده لأبيه، بل تمتد يده بالهدم إلى الفرن الكبير في صدر المحل، وعندما يعاتبه والده يخبره بأن هناك فرن أحدث منه في الطريق إلى المحل، ويظل يراوغ والده الذي أدركه الشيب والكبر، ولم يجد بُدا من الإفصاح عن نواياه، فواجه والده قائلا بأن الفطير البلدي أصبح ( موضة قديمة ) وهناك أصناف جديدة ترد من الخارج و .. و ..
    " بيتزا؟! بيتزا في القلعة يا باش مهندس "
    والأب لم يحتمل أفعال الابن، فسقط مريضا، وحذره الأطباء من الانفعال.
    فالبيتزا حلت محل الفطير البلدي، والابن الذي تخرج في كلية الهندسة وهي من الكليات المرموقة يترك العمل بالهندسة ويتجه إلى العمل في ( البيتزا ).
    فالأب المريض انتفض من فراشه بعد أن علم بما يفعله ابنه :
    " على البُعد لاح له المحل .. مجموعة ألوان فاقعة كانت الواجهة، اقترب فشاهد فتاتين شقراوين على جانبي المدخل، اقترب أكثر شاهد ابنه ينحني مفسحا الطريق لشريكه الخبير، خبير البيتزا!! "
    وهنا الاشارة إلى ثقافة جديدة، بدأت تغزونا وتتمكن من ضرب ثقافتنا وإحلال ثقافة أخرى بدلا منها، فالبيتزا تصبح بديلا للفطير البلدي، والمهندس بدلا من العمل في مجال البناء والتعمير أو الصناعة حسب تخصصه لبناء نهضة صناعية يترك العمل بالهندسه ليعمل في البيتزا، وهنا يصبح تقديم الثقافة الاستهلاكية الواردة من الخارج على الثقافة الانتاجية في الداخل، وتبلغ المأساة قمتها باستبدال اللافته التي على المحل والتي تمثل علم البلاد بلافتة أخرى، وكأن هذا الجيل الذي تشرب الثقافة الجديدة الواردة من الغرب الرأسمالي، وتحولت هذه الثقافة إلى سلوك يمارسه، هذا الجيل النفعي قد يفعل أي شيء في سبيل مصلحته، فنفسه مقدمه على الوطن، على العكس تماما من جيل يوليو الذي يقدم الوطن على نفسه ويفديه بكل غال وثمين، ويبذل الروح في سبيل ترابه، فانظر إلى الأب وهو يرى ما فعله ابنه بيافطة المحل :
    " غلى الدم في عروقه، انتفخت أوداجه، ارتعشت يداه، ترقرقت في عينيه دموع لا تنهمر، التفت يمينا ويسارا، وجدها أخيرا مركونة على جدار قريب، ملطخة بالأصباغ مطموسة الملامح، تناولها بيده، احتضنها وقبلها، نظر إليهم بغضب، هز رأسه آسفا، لاح في عينيه إصرار عنيد، حملها تحت إبطه الأيمن، و .. مضى إلى أقرب محل دهانات "
    وهنا التأكيد على الغزو الثقافي من الغرب الرأسمالي والذي نجح بالفعل في ضرب الهوية المصرية في مقتل، والقابض على هذه الهوية هو جيل الأب، الذي تربى في أحضان ثورة يوليو التي رسخت للقيم العربية والقومية والإسلامية، والتي تبنت شعارات كثيرة مصحوبة بأفعال تصب كلها في صالح الوطن في نهضة صناعية كبرى ونهضة زراعية ونهضة ثقافية وتعليمية، ولكن الإصرار العنيد في عين الأب وهو يحمل اللافتة ويقبلها ويمضي إلى محل الدهانات ليعيد لألوان العلم المصري البريق، فالأمل في هذا الجيل حتى لو أدركه الكبر والمرض لكنه لا يزال منحازا ومتشربا للثقافة والهوية الوطنية، وربما يكون الأمل في " ناصر " جديد يبشرون به ويعيد للأمة هويتها ويصلح ما أفسدة هذا الجيل المنبطح.
    الكاتب اعتمد على ثلاتة أزمنة، تتداخل الأزمنة أحيانا، وقد يقفز بزمن دون الزمنين الآخرين، وهذا الزمن الممتد، وعن طريق الوثبات الزمنية قدم لنا الكاتب نصا قصصيا بإمتياز لا روائيا، وهذا ما يحسب له.
    ......
    في قصة " ربطة عنق " يشير الكاتب إلى جيل أكتوبر العظيم، وكيف أهملنا هذا الجيل سواء بقصد أو بدون قصد، فهو الذي حقق لنا أعظم الانتصارات في تاريخنا المعاصر، وأعاد لنا العزة والكبرياء، ولكننا نجد للأسف من يحاول تهميشه وإبعاده عن المشهد.
    القصة تقع في أربعة مشاهد قصيرة، قائمة على الحوار، سواء الحوار مع الآخر أو مع الذات، والكاتب يملك مهارة غير عادية في إدارة الحوار، ويكاد يكون الحوار هو الخصيصة الأبرز في هذه المجموعة، وسنتحدث عنه لاحقا.
    بطل النص هو أحد أبطال أكتوبر، والذي يتم منعه من دخول ( الأوبرا )لأنه لا يرتدي " ربطة عنق " في الوقت الذي يتم فيه السماح بالدخول للأجانب غير الملتزمين بالشروط التي وضعها القائمين على الأمر، وهنا يدور حوار بين بطل أكتوبر وبين القائم على الأمر نستشف منه بأن هناك مفاهيم جديدة بدأت تسود في المجتمع، بل تترسخ، مثل مفهوم الوطن، والوطنية، وكأن بطل أكتوبر جاء من كوكب آخر، فالوطن الجديد لا يحتمله، والأجيال الجديدة لا تتقبله، وهنا البحث عن الوطن البديل، وهي الهجرة، فالوطن الجديد الذي تشكل بعد الإنفتاح يلفظ خيرة أبنائه.
    وبطلنا لا يستطيع أصلا أن يرتدي ربطة العنق لآنه من مصابي الحرب، ويعاني من تضخم في رقبته، ولا يستطيع ارتداء " ربطة العنق ".
    " – حمدا لله على سلامتك يا بطل.
    - أين أنا؟
    - في أمان. لا تحاول تحريك عنقك.
    - أشعر بآلام حادة.
    - سترتاح بعد هذه الحقنة.
    - ماذا حدث؟
    - لقد وجدوك معلقا لماسورة المدفع المنصهرة من شدة الضرب. "
    ويقدم لنا الكاتب مشاهد قصيرة من حرب أكتوبر، مبرزا بطولة هذا الجندي المصري الأصيل، ودوره البطولي.
    وتسليط الضوء على هؤلاء الجنود يحسب للكاتب، فهم الذين خاضوا غمار المعارك، وقدموا أروع الأمثلة في البطولة والفداء :
    " – نمر معكم .. حول ..
    - كم عددكم؟
    - واحد.
    - ماذا؟
    - دُمرت الكتيبة بالكامل.
    - من أنت؟
    - رقيب مجند ( .... )
    - هل يمكنني الاعتماد عليك؟
    - بإذن الله.
    - أريد تعطيل قوات العدو المتجهة للشرق بعض الوقت.
    - عُلم.
    - وفقك الله. "
    " كمارد جريح هب متنقلا من مدفع إلى مدفع متوليا دور الناقل والمعمر والرامي "
    والكاتب هنا لا يلجأ في ظني إلى تقنية التكبير أو التضخيم، ولكن الذين قرأوا وسمعوا من أبطال أكتوبر سيجدون أبطالا كُثر مثل هذا البطل، وهو ليس ببعيد عن عبدالعاطي صائد الدبابات ومحمد المصري وغيرهما مئات الأبطال من الجنود العاديين، وأظهرت حرب أكتوبر معدنهم ألأصيل وأظهرت بطولاتهم، فرأينا من جنودنا البواسل من بسلاحه البسيط ( آر . بي . جي ) يصطاد الدبابات الإسرائيلية كما يصطاد العصافير، فعبدالعاطي وحده وبهذا السلاح البسيط دمر ( 27 ) دبابة، ومحمد المصري دمر هو الآخر بهذا السلاح البسيط ( 29 ) دبابة، وهو من أسر القائد الإسرائيلي ( عساف ياجوري )، هذا الجيل من الشباب الذي خاض الحرب هو من تخشاهم إسرائيل، ومن وراء إسرائيل، فهل لهذا السبب تم اقصاء جيل أكتوبر وتهميشه، إسرائيل في السر وفي العلن تحلم بانتهاء هذا الجيل الذي خاض الحرب وأذاقها ويلات الهزيمة، ودس أنفها في التراب وكسر صلفها وغرورها وكبريائها، جيل عظيم آخذا في التلاشي والانحسار بسبب قراري السلام مع هذا العدو الاستراتيجي وانفتاح ( السداح مداح ).

    .....
    في قصتيّ ( مرايا ) و ( الحصار ) يرصد الكاتب أزمة الإنسان المعاصر، المطارد، والمحاصر.
    في قصة ( مرايا ) يبرز الكاتب إحساس الإنسان في هذا الزمن بالتشظي وبالغربة، الغربة الزمانية والغربة المكانية، الغربة داخل الوطن والغربة خارجه، ويرصد الآثار النفسية المبرحة التي تتركها داخل الإنسان فتفقده لتوازنه، بل يفقد ذاته، ويصل هذا الإحساس مداه بعدم قدرة الإنسان على رؤية نفسه، يرى كل شيء بوضوح إلا نفسه.
    " كل ما يذكره أنه فجأة لم يعد يرى نفسه رغم أن الكل يراه "
    ويظل الإنسان في غفله، حتى يدركه المشيب، فيبدأ في البحث عن ذاته، وبطل نصنا عندما أراد أن يحلق ذقنه، لم ير نفسه، واعتمد على معرفته السابقة لتضاريس وجهه، وأتم الحلاقة بنجاح، وحاول أن يبرر الأمر لنفسه بضبابية المرآة وندى البكور، ولكنه تأكد من ذلك تماما عندما ذهب إلى الحلاق ولم يرى نفسه في المرآة، وهنا بدأت أزمته، أزمة الإنسان المعاصر، ولم يكن وحده، ولكن هناك ناس كُثر مثله كُتب عليهم نفس المصير، وكانت المفاجأة عند طبيب العيون :
    " عند طبيب العيون كانت المفاجأة .. عيناه في خير حال .."
    وسعى بحثا عن حل لأزمته، فطاف المدن الكبرى، والأماكن الفخيمة، والقرى، وحتى الخلاء، فكل أمانيه :
    " أن يرى نفسه .. ولو مرة واحدة "
    والأزمة هنا .. هل هي أزمة بصر أم بصيرة؟
    ....
    وفي قصة ( الحصار ) يوازن الكاتب بين زمنين، الماضي والحاضر، وصراع الإنسان في كل زمن، ورؤيته للحياة والواقع، فإنسان اليوم مأزوم ومحاصر، وفي لهاث دائم ومستمر، فهو يلهث خلف أي شيء .. وكل شيء، حتى صار هذا اللهاث سمة سائدة :
    " كل شيء يلهث ولا وقت لالتقاط الأنفاس "
    وإنسان اليوم محاصر بالغابات الأسمنتية وهنا يشير إلى البيوت وكيف تحولت إلى كتل أسمنتية وتخلو من الجمال، ومحاصر بالضوضاء وبالتلوث، وبوعي يعود بنا الكاتب إلى الزمن الماضي، زمن الجد، ليضعنا في مواجهة مع الزمنين، فعن بيت جده، يذكر :
    " رحابته ونقاء أجوائه .. "
    وعن حركة جده :
    " يذكر حركة جده المتمهلة في كل شيء .. سيره .. جلوسه .. أكله .. كل شيء بهدوء "
    " حتى زوّار جده ما كان بينهم لاهث واحد .. كل شيء بأناة وهدوء .."
    وحالة جده :
    " على وجهه دائما ملامح هادئة مطمئنة وبشاشة .. "
    ويصفه :
    " على مقعد بعينه كان يجلس دائما في استرخاء مغمضا عينيه في استمتاع وتلذذ منصتا للصوت المنبعث من الفونوغراف .. يرشف ببطء محبب من فنجان القهوة التركية. "
    وإنسان اليوم المحاصر :
    " وجد نفسه يدور في حلقة مفرعة، فالحصار مضروب حوله أينما اتجه .. غابات الأسمنت تحيط به من كل جانب .. تحيل الرؤية ضبابا .. الضجيج يهدر في أذنيه .. العدو مازال مستمرا .. حركة الصدر تكاد تصبح زفيرا فقط .. دار في كل الاتجاهات .. لم يجد ثغرة ينفذ منها .. "
    والكاتب يأخذنا إلى زمن الجد وهو الزمن المحبب والمفضل لدي الكاتب :
    " عبر المشربية رأى السكينة تعم المكان، كان صغيرا وقتها لكنه وعى ما رأى .. الصناع الفنانون يعملون بتؤدة .. الدعة والطمأنينة تعلوان الوجوه .. لا أحد يحمل هم اليوم .. ولا الغد .. الحركة دائبة، والإيقاع هادئ .. صوت أحدهم يسري في الأثير منغما شجيا .. عطر فريد يسري معه "
    هل يستطيع إنسان اليوم المحاصر أن يفلت من المدينة أو من هذا الزمن الخانق ويعود إلى الماضي الهادئ الجميل؟
    حاول، ولكنه فشل، فيبدو أنه من الصعب أن يعود الزمن إلى الوراء :
    " لو استطاع إجبار عقربي المنتصف على تغيير الإشارة لأفلت حيث يريد "
    وحاول القتال ليفلت من هذه الدائرة، ويهرب من هذا الزمن :
    " .. لوح بقبضته اليسرى في الهواء، وباليمنى امتشق حسامه .. الخشبي "
    وكأنه ( دون كيشوت " يحارب طواحين الهواء، فماذا سيفعل بحسامه الخشبي؟ ولعل النهاية جاءت حاسمة ولتجيب على كل الأسئلة التي تتبادر على ذهن القارئ.
    ....
    في قصة ( 41 بدون لون ) يعتمد فيها الكاتب على الحوار، وجاءت قصة حوارية بإمتياز، واستخدم تقنية الحوار بإقتدار وأداره ببراعة بين الحذاء وصاحبة.
    وقبل أن نلج إلى عوالم القصة، أذكر القارئ بالكاتب ( هانز كريستيان أندرسن ) أفضل من كتب عن الجماد، وقصصه المعروفة عن أدوات المطبخ، وتصرفاتها، وأحاديثها، ورأي الحلة في المغرفة، ورأي المغرفة في الملعقة، وحديث الموقد، واحتجاج صندوق القمامة على تعريض زملائه به، فالذي يقرأ قصص هذا الكاتب لايمكن أن يدخل مطبخ بيته إلا ويشعر أن كل شيء فيه قد نبض بالحياة أمامه، وهذا ما فعله تماما حسام القاضي مع الحذاء، وكيف ( أنسن ) هذا الحذاء، وأكسبه بعض الصفات الإنسانية، ومبرزا دوره ووظيفته، وكينونته، وحياته الاجتماعية، ولا يمكن لقارئ هذه القصة أن يتغافل عن حذائه، وحتما ستختلف علاقته بحذائه بعد أن يفرغ من قراءتها، وسيظل هذا الحذاء يحاوره في صحوه ومنامه، وأنا لن أتحدث عن رمزية الحذاء هنا، ولكني سأتحدث عن الحذاء وكيف جعل منه شخصية إنسانية، وسأتحدث عن الحوار بصفته التقنية الفنية الأبرز في هذه المجموعة، وهذه القصة خير مثال على مهارة الكاتب في استخدام هذه التقنية.
    استطاع الكاتب أن يُكسب الحذاء أبعادا إنسانية، وجعله شخصية محورية، كتف بكتف مع شخصية صاحبة، فالحذاء يتحدث مع صاحبه، ويعبر عن نفسه، وعن أفكاره، وعما يحس به وعن همومه، وأوجاعه، وعن تطلعاته، الكاتب قدم لنا الحذاء برسمه لشخصيته من الخارج، فهو بال وكالح اللون، ومتشقق الجلد، ومقاسه ( 41 ) وهنا الإشارة إلى عُسر حال صاحبه وفقره، والذي مقاسه ( 43 )، وعبر الكاتب عن إحساسات الحذاء الداخلية، وسلوكه، بل جعل الحذاء يعبر عن رأيه في صاحبه وفي الحياة ذاتها، فهو صاحب رؤية، وصاحب موقف، وهذا الحذاء الذي تضخمت ذاته وعرف دوره الإجتماعي المهم، فتحدث من منطلق القوة لا الضعف.
    يقول صاحبه :
    " وما حاجتي إاليك؟ ألا ترى وجاهتي .. حلة جميلة .. ربطة عنق .. قبعة أفتخر بها بين الناس، ويحترمني من أجلها الجميع."
    فيرد الحذاء :
    " ولو .. بدوني لا احترام على الإطلاق."
    ويباغته الحذاء :
    " لا تغالط نفسك حاول أن تتخيل نفسك سائرا في الطريق مكتمل الأناقة حافي القدمين "
    ويرد أيضا على صاحبه الذي يهدده بأنه كان ينتعل قبله بدائل أخرى كثيرة :
    " أي كثير هذا؟! أتسمي هذه الأشياء الخفيفة المهترأة أحذية .. مرة حذاء كاوتشوك من باتا ومرة أخرى ولا داعي لأن أقول فأنت تعلم جيدا وأخيرا هذا الحذاء الخفيف من تلك الماركة المسماه ( كوتشي ) "
    " لعلهم كانوا يقولون أنني متحرر أو " سبور " أو .. "
    " أو ( صايع ) .. لا تنكر أنني أضفت إليك بُعدا اجتماعيا لحياتك .. "
    ويلفت الحذاء أهميته لصاحبه الذي يصفه بالحقير :
    " مازلت تسميني الحقير .. أليس هذا الحقير هو من أكسبك بعض الاحترام بين الناس .. أليس هذا الحقير هو من وقاك شر المسامير والزلط .. وخلافه .. أليس هو من ... "
    ويعاتبه :
    " مهلك هل كلفت نفسك يوما الاهتمام بي بشيء من الصبغة أو الورنيش .. ألا تخجل؟! .. "
    وتتجلى براعة الكاتب في إدارة الحوار بين الآدمي والحذاء في وعيه بأهمية الحوار، ودوره في تطوير الحدث، ودفعه إلى الأمام دائما بصورة مستمرة، للوصول إلى النهاية التي ينشدها، وعبر من خلاله عن شخصيتي الآدمي والحذاء، والشخصية عموما سواء كانت إنسان أو حيوان أو نبات أو جماد تظل غامضة ومبهمة وهي صامتة، وحين تتكلم، يبدأ القارئ في التعرف عليها وعلى نمط وأسلوب وطريقة تفكيرها، وتتضح له معالمها تماما، وهذا ما فعله كاتبنا من خلال حواره.
    ومأساة الآدمي في مقاس الحذاء الصغير :
    " لماذ؟! أنسيت أنك مقاس 41 بينما مقاسي الفعلي 43 .. ألا تعلم أنك بصغر مقاسك هذا تضطرني للسير في الطريق التي تحددها أنت لا أنا ..
    من في الدنيا يتصور أن يُسير الحذاء مرتديه. "
    والحوار بين الآدمي والحذاء في شد وجذب، ويستدعي الكاتب من التراث الشعبي قصة مركوب أبي القاسم، وهي قصة معروفة وجرت أحداثها في بغداد، وصاحبها من تجار بغداد الأثرياء، وكان يتصف بالبخل الشديد، ودامت علاقته بحذائه سنوات طويلة، وكلما بلى منه جزء رقعه بقطعة جلد أو قماش، حتى سار الحذاء من كثرة الجلد والقماش الذي حاكه فيه ثقيل جدا، وأصبح شكله معروفا للخاصة والعامة، ويتندرون به وبصاحبه الذي لا يريد أن يستبدله وهو التاجر الثري بحذاء آخر، و " مركوب " أبو القاسم جر عليه متاعب كثيرة، وحاول أن يتخلص منه بشتى الطرق ولكنه فشل، وفي كل مرة يتخلص فيها منه يعود إليه ليسبب له كارثة أو مصيبة أخرى، وأصبح لا يستطيع أن يتخل أحدهما عن الآخر، فهل يستطيع الآدمي أن يتخلص من حذائه؟ ..
    فيقول له الحذاء :
    " خيالك هو الذي يجعلك تهرب من واقعك، ولكنني لك بالمرصاد .. سأقولها لك .. بمنتهى البساطة لقد تعودت قدمك علىّ رغم احتقارك لي ولن تستطيع الاستغناء عني .."
    وفي النهاية تصبح الكلمة العليا للحذاء :
    " .. فقط تذكر أنه من الآن فصاعدا فالكلمة أصبحت لي أنا .. والآن إلى أين تذهب؟
    - كنت ذاهبا جهة اليسار لآمر ما.
    - إذن لليمين سر.
    - سمعا وطاعة. "
    ولا بأس أن يتوقف القارئ إذا أراد عند رمزية اليمين واليسار، والحركة من اليسار إلى اليمين، ومن الذي يقود الحركة ويحدد اتجاه البوصلة؟!.
    .....
    اختار الكاتب قصة ( حقيبة متربة وجورب أبيض ) عنوانا لمجموعته، وفيها يبدو غرام الكاتب بالوصف، الوصف الماتع، وانظر إلى البداية القوية، وتبدو القصة وكأنها منزوعة المقدمة، ويقول ( أنطون تيشكوف ) بأن القصة الجيدة هي القصة المنزوعة المقدمة :
    " وضع أذنه على الباب، استرق السمع، ثم وبحذر متناه أمسك بالمقبض وأداره، تحرك الباب تاركا فرجة صغيرة سمحت له بإلقاء بصره إلى الداخل، ظلام دامس، انحنى ليسمح لضوء الردهة خلفه بالسقوط، حدق مليا، كانت هناك في فراشها "
    والحقيقة أن الكاتب يقدم لنا لوحات فنية، صور حركية وبصرية، حتى الضوء والظلال، وانظر إلى رسمه بالكلمات لصورة المرأة في هذه اللوحة البديعة :
    " كانت هناك في فراشها، وقد انحسر الغطاء عن ساقيها اللامعتين، حرك الباب ببطء شديد حرص فيه أن يئد صريره قبل مولده.
    بخطوات حذرة اتجه صوبها، تبدت أمامه كاملة، ثنت ساقها اليمنى فانزاح الغطاء أكثر، أمسك طرف الغطاء وهم ب ... ولكنه خشى أن ... تركه وتراجع، جثا على ركبتيه يتأملها .. "
    وكأن الكاتب أراد من البداية أن ينحت لهذه المرأة تمثالا في عقل وقلب ووجدان المتلقي، لتظل حاضرة معه، ومن الصعب أن تفارقه، والكاتب ترك فضاءات واسعة في هذا النص، وكل قارئ يكمل هذه الفضاءات وفقا لثقافته ولمستوى تعليمه ومدى اتساع نظرته للحياة، فهو هنا حقق ما نادى به " رولان بارت " من ضرورة احترام القارئ واشراكه في انتاج النص، والكاتب يسعى في هذا النص للقارئ الإيجابي لا القارئ السلبي الذي يقدم له الكاتب كل شيء.
    " غاص رأسها في الوسادة، انتشر شعرها عليها محيطا برأسها في فوضى جميلة، قسمات وجهها الناعمة مستكينة .. "
    من ذا الرجل ومن تلك المرأة، ولماذا يأتي إليها متخفيا، ولماذا يخرج منسحبا في هدوء وعيناه تسحان الدمع السخين؟
    من حوار قصير نستشف أنه ربما يكون رأسه الحجري هو ما أطاح به، فهو لايعنيه رئيسه في العمل، ورأسه لا تنحني إلا لله وحده، ..
    وما دلالة الحقيبة وما رمزيتها؟ ..
    " بيديها الصغيرتين كانت تحرص على تنظيفها يوميا، وتلميعها له، ليحملها ويخرج .. "
    " في طريقه كان ينظر إلى النافذة مبتسما، ثلاث كفوف تلوح له، اثنتان صغيرتان بينهما واحدة كبيرة "
    وهما الطفلتين وأمهما.
    والحقيبة التي رآها :
    " ضاعت معالمها تحت أمواج الأتربة المتراكمة عليها، يدها تظهر بالكاد، باقي تفاصيلها انسحبت تحت وطأة هذا الهجوم المتكررالمزمن .. "
    وحول أزمته :
    " كنت أريد لك الأفضل دائما .. لم يكن بيدي .. لم أستطع أن أصبر مثلهم .. ليست بطولة مني، ولكن هكذا خلقني الله، يوما ما ستدركين كم كنت أحبك برغم كل ما جرى "
    وهو لا يحكي ما الذي جرى؟ ويتركه غائما، ولذلك كل قارئ لهذا النص سيخرج بدلالة قد تختلف كثيرا عن الدلالة التي يخرج بها قارئ آخر، لآن مثل هذ النص يُقرأ على أكثر من مستوى، منها : الدلالة المباشرة للألفاظ، وما تبوح به من معنى، والمستوى الأعمق ما يستتر خلف شعرية اللغة، وما يبوح به الرمز من دلالات، والمستوى الأكثر عمقا هو القبض على الأمثولة التي تبوح بها الرسالة أو الخطاب القصصي.
    وهناك إشارة أخرى أنهى بها الكاتب قصته :
    " قفل عائدا للباب بظهره تتبعه قطرات ساخنة منهمرة عندما لمح تحت فراشها حذاء صغيرا ممزقا .. وجوربا أبيض "
    إذن هي نتف من سيرة حياة مبثوثة هنا، ورموز إيحائية بسيطة لبعض الأشياء هناك، ورمز كلي متمردا في ثنايا القصة، وفضاءات واسعة تركها المؤلف ليشعل القارئ خياله ويشحذ قريحته ويحاول ملء هذه الفراغات، وليكتب القارئ قصته الخاصة وقد تتماس مع القصة التي أرادها الكاتب وقد تتقاطع معها وقد تتوازى أيضا.
    ......
    في قصتيّ ( عملية جراحية ) و ( نفس ما أرادوا ) يحاول حسام القاضي أن يكشف لنا عن مجهل من مجاهل النفس البشرية، والكاتب يتميز بالقدرة على التقاط موضوعات فيها الجدة والطرافة، ويحاول أن يطرق دروبا تبدو وعرة وغير ممهدة، ولكنه يسلكها متسلحا بموهبته وبالعلم والمعرفة، وينير الطريق لقارئه ولمن يأتي بعده من الكُتّاب أيضا.
    في قصة ( عملية جراحية ) يعالج أزمة البطل الذي يتعرض للاضطهاد من زملائه ومن رئيسه في العمل، ومن كراهية الجميع له، وأي رئيس لايطيق رؤيته، ويأمر بنقله فورا، ويشعر بأن لا أحد يحبه في هذا الكون، وهذا ما جعله يذهب إلى الطبيب بعد أن تأزم نفسيا بحثا عن حل وطلبا للراحة التي لم يعرفها منذ كان طفلا.
    وأزمة بطل النص أن جلده لا يخفي شيئا تحته، وهذه الحالة ليست وليدة اليوم :
    " عندما كنت طفلا كان البعض يصفني بأني ناصع البياض .. حتى أن عروقي كانت تكاد تظهر من تحت جلدي وكنت أُسر بلا شك لنصاعة بياضي .. ولكن معظم الأطفال كانوا كذلك، لذا لم يكن ذلك يقلقني "
    ولكن الأمور بدأت في التغير كلما كبر :
    " كنت كلما تقدمت بي السن تزداد شفافية جلدي. أقصد جلد وجهي، وتزداد معها مشاكلي وكُره الناس لي .. حتى أنني لم يعد لي أصدقاء "
    " المشكلة أنني أصبحت مهددا في مصدر رزقي .. فما من مكان عملت به إلا وحدثت لي مشاكل مع زملائي ومديري .. وخصوصا المدير .. فهو ما أن ينظر في وجهي مرة وأخرى حتى يصر على نقلي إلى مكان آخر "
    وحالة بطلنا نادرة وغريبة، ويرى الطبيب أن :
    " الإنسان يولد وبجلده خلايا ملونة تستر ما تحته "
    ويخبره :
    " أما أنت فقد ولدت بدون هذه الخلايا "
    والحل في إجراء عملية جراحية :
    " نعم جراحة يُستأصل فيها الجزء الشفاف من الجلد فتبقى تحته طبقة قابلة لأن تكون معتمة تستر ما تحتها بمجرد تعرضها للهواء "
    وهذه العملية نسبة نجاحها ضئيلة جدا، وبطلنا يلح على الدكتور في إجراء العملية، فالموت يستوي عنده بالحياة، بل الموت في حالته أرحم، والطبيب لجأ إلى وسائل عديدة في علاجة، فاستخدم أدوات الجراحة، واستعان بكتب الفلاسفة وبفلاسفة مثل : سقراط وأفلاطون وأرسطو وديكارت وسارتر، وغيرهم، والطبيب استخدم أيضا المشرط والمبضع وكل أدوات الجراحة، ولكنه تحول إلى كتب علم النفس يلتمس فيها شيئا من العلاج :
    " جراحة لا يجريها إلا خبير بالنفس .. قاتل الله الفلسفة "
    " ليست فلسفة .. هذه الجراحة مختلفة بالفعل عن أي جراحة "
    وهنا تداخل يبن الطب والفلسفة وعلم النفس، والطبيب الماهر هو من يفيد من كل عطاءات وثمرات العلوم المختلفة.
    فهل العلة بدنية أم نفسية، أعتقد أنها الاثنين معا، دون أن نغفل حركته في محيطه الاجتماعي، فالمجتمع لا يقبل البريء والطاهر والشفاف، لا يقبل الصادق صاحب الفطرة السوية النقية التي فطره الله عليها، فالفطرة الإنسانية انحرفت انحرافا حادا وخطيرا، وحتى يستطيع بطلنا أن يتكيف مع مجتمعه، كان لا بد من إجراء هذه العملية.
    ...
    ويبدو أن كاتبنا خبيرا بالنفس الإنسانية، ففي قصة ( نفس ما أرادوا ) يوقفنا على أحوال فتاة مأزومة، وتعالج عند أحد الأطباء، وهذه الفتاة تعرضت لواقعة اغتصاب بشعة من مجموعة من الأشقياء، انتهكوا جسدها بقسوة مفرطة، فأحست بكسور في النفس وبشروخ في الروح، فقدت توازنها، وحاول الطبيب أن يعيدها إلى سيرتها الأولى، ولكن هيهيات أن تعود إلى ما كانت عليه قبل الحادث، ونصح الطبيب الأم بألا تتزوج حتى تبرأ وتشفى تماما، فهي تحسنت قليلا، ولكن لا أحد يضمن ردود أفعالها بعد الزواج، ولكن الأم تضرب بنصيحة الطبيب عرض الحائط، فهي أدرى بمصلحتها منه، فخطيبها يلح في ضرورة الزواج، ويبدأ الكاتب قصته بليلة زواجهما، ويمعن في وصف الليلة بعد انصراف الأهل والخلان، ويصف لنا شراهته في الأكل وتعجله في التهامها، كما يلتهم الدجاجة .
    " .. بحركة مباغتة أمسك بالدجاجة من فخذيها بكلتي يديه وجذبهما للخارج فانفصلا، وبدأ في التهامهما "
    " نظرت إليه مذعورة .. وضعت يدها على فمها .. وأسرعت إلى الحمام لتفرغ ما في جوفها .. "
    وهو يطلبها للفرش وهي مذعورة خائفة وتراوغ، والكاتب يعتمد في قصته على تقنية ( الفلاش باك ) وهي تقنية سينمائية بالأساس :
    " سألته ذات يوم ماذا أكون بالنسبة لك؟ أجابها شيء شهي .. دجاجة مشوية .. سمكة مقلية .."
    وبعد أن نفد صبره، حاول أن يأخذها عنوة وهي بالمطبخ، اصطدمت يدها بسكين، وتعود بذاكرتها إلى المشهد البشع :
    " وضعوها على رقبتها .. كانت حادة لامعة .. شل لسانها .. بعد جهد يسير اقتادوها "
    كان زوجها يحملها عنوة إلى غرفة النوم والسكينة خلف ظهرها، وتستعيد مشهد الاغتصاب :
    " لم تعرف عددهم على وجه التحديد حينما تكالبوا عليها وكبلوها .. كان في نظراتهم بريق غريب مخيف .. انقسموا إلى فريقين .. واحد للنصف الأيمن والآخر للأيسر .. " ..
    " تأوهت وصرخت .. تبادلوا أماكنهم واحدا بعد الآخر .. تعالى صراخهم وسط ضحكاتهم الماجنة .. تركوها ممزقة الثوب والنفس والجسد "
    وترى الزوج الذي يريدها عنوة مثلهم، وتراهم فيه، هو هم، وهم هو.
    " نظرت في عينيه .. صرخت .. في عينيه نفس النظرة .. إنه يريد نفس ما أرادوا .."
    تصرخ :
    " بتعدوا عني."
    " قلت ابتعدوا لن تفعلوها مرتين يا أوغاد."
    هم الزوج باحتضانها عنوة .. دفعته بيسراها بينما ظهرت يمناها من وراء ظهرها ممسكة بسكين ..
    " هاجمها .. طعنته .. صرخ فضحكت .. رأت أحدهم يسقط .. طعنته مرة أخرى .. صرخ فضحكت وسقط آخر .. طعنته مرة ثالثة .. سقط ثالث .. استمرت في طعنه مرات ومرات .. حنى سقطوا جميعا وسط ضحكاتها المجنونة "
    ويشير الكاتب إلى خطأ الأم التي رمت بنصائح الطبيب عرض الحائط، وخطأ الزوج في نظرته إلى المرأة باعتبارها وعاء لصرف الشهوة وكأنها خُلقت للمتعة، وهي دعوة لتصحيح المفاهيم الخاطئة في مجتمع ذكوري، ويكشف خطورة ما فعله الأوغاد من الذئاب البشرية وأثر فعلهم البشع والمشين على جسدها ونفسها وروحها.
    .....
    وبعد :
    هذه قراءة أولى في هذه المجموعة البديعة والماتعة لحسام القاضي، وحتى أعود إليها في قراءة أخرى أكثر عمقا، أرجو أن أكون قد نثرت عليها بعض قطرات الضوء، وكشفت عن بعض جماليات القص عندالكاتب، كما أرجو أن أكون عند حُسن الظن وعلى مستوى الثقة، ومن الله التوفيق

    مجدي جعفر
    العاشر من رمضان في 5 / 7 / 2021م
يعمل...
X