دمَقرطة الفسادِ في المغرب : إصلاحات سياسية في ثقافة سلطة ثابتِة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • LAISANI
    Junior Member
    • Jun 2007
    • 20

    دمَقرطة الفسادِ في المغرب : إصلاحات سياسية في ثقافة سلطة ثابتِة

    NAQD n°19-20, automne-hiver 2004, pages 89-121 (arabe).

    عبد السلام المغراوي[*]
    دمَقرطة الفسادِ في المغرب : إصلاحات سياسية في ثقافة سلطة ثابتِة
    ترجمة :لحسن عيساني


    المقدمة:
    قضايا نظرية
    أشار اختصاصيو التغييرِ الديمقراطيِ، خلال العقد الماضي، إلى تعدد الأنظمة "شبه الديمقراطية" أو "شبه نصف الاستبدادية" ومَيّزوا الحدود النّظرية لب النموذج الانتقالي التوضيح طبيعة هذه الأنظمةِ السّياسيةِ الهجينةِ (1). غير أن هذه الأدبيات لا تزال حبيسة البناء النظريِ المطلق الذي تحاول أن تتجاوزه.
    وبينما يشير نقاد النموذج الانتقالي بشكل صحيح إِلى الحقيقةِ التّجريبيةِ للسياسةِ الاستبدادية المستمرة داخل مؤسساتِ ديمقراطيةِ فإنهم يرون الظّاهرةَ على أنها تحول أكثر امتدادا إلى نظام أكثر استقرارا وتعددية و ديمقراطية.ومن هنا، يبدو أن الطّرق المؤدية إِلى الأنظمةِ الهجينةِ تَتبع المنطق نفسه، والديناميكية نفسها، وسلسلة المعاهدات المؤدية إِلى انهيار الأنظمةِ الاستبدادية في النموذج الانتقالي.
    وبالمثل، تَعتمدُ إمكانية التّحولِ الدّيمقراطيِ على قوة الإصلاحيين المؤيدين للديمقراطية على الَفوز بمجموعة من الاستحقاقات في المجال الانتخابي والتّشريعيِ والقضائيِ، والحقوق المدنيةِ.
    وإجمالا ما يزال نقاد النموذج الانتقالي متشبثين بالقضاياِ المفهومية للمعاهدات، والعمليات التدريجية، وبناء مؤسسات ديمقراطية، حتى وإن كانوا أقل تأكدا بشأن النّتيجةِ الدّيمقراطيةِ وأكثرِ اهتماما بالعواملِ التّاريخيةِ والثّقافيةِ في تحولِ النّظامِ.
    وما ينقص كلا التّحليلين هو مفهمة ملائمة لقضايا القوة السّياسية والسلطةِ في سياقاتِ تّاريخيةِ وثّقافيةِ مختلفةِ.وكلا النموذجين أي "الانتقال الدّيمقراطي" و"تحول النظام"ا يَفترضُ تفاهمَا مُشَترَكَا بين المواطنين والفاعلين السّياسيين على طبيعةِ النظام السّياسي وأسسِ السلطةِ الشّرعيةِ.ويعتبر المثالان، في العالمين العربيِ والإسلامي حيث ما تزال هذه القضاياِ لم تسوٌ بعد، غير ملائمين لتوضيح منطق ودينامكية الإصلاحاتِ أو غيابها.
    ومن أجل فهم منطق وديناميكية الانتقال الدّيمقراطيِ أو تحول النّظامِ في سياقِ العالمِ العربيِ، لابد أَنْ نحلّلَ مسار الإصلاحات الإجرائيةِ والمؤسساتيةِ في ضوءِ علاقات السلطة المهيمنةِ.
    في حالةِ المغرب الأقصى، تبين هذه الورقةِ أن مشكلة "هجانة" النّظامِ أو الإصلاحات الديمقراطية بدون دمقرطة مرتبطة بثقافة خاصة للقوةِ والسلطة، ومرتبطة هامشيا فقط بالمسارات العالميةِ والإستراتيجياتِ المحددة في أدبِيات الدّمقرطةِ.
    سأَدرس ميادين متعدّدة للإصلاحاتِ الدّيمقراطيةِ لأبين أن النّظام السّياسي المغربي استندَ لعقودِ على "نظام تعددي لا ديمقراطي" يَسْمح باختيار تدريجي وأوسع للنَخبِ بدون أن يصبِح ديمقراطيا .لكني سأهتم بشكل خاص بالعمليةِ الانتخابية لأنها تعتبر أهم ميدان للسجال الديمقراطيِ في أدبِيات الدّمقرطةِ.
    الانتخابات والدّيمقراطية
    يثير غياب التّقدمِ الدّيمقراطيِ في العالمِ العربيِ، حيث أَصبحت الانتخابات شبه-التعدديةِ في العديد من البلدانِ جزءا لا يتجزأ من عمليةِ الشرعنة، سؤالا ملحا ألا وهو : هل يمكن للانتخابات في الأنظمةِ غيرِ الدّيمقراطيةِ أن تفتحِ بشكل تدريجي فضاء ديمقراطيِا أو أن تساهم في تعزيز الأنظمة الاستبدادية ؟
    والحقيقة أن لعبة الانتخابات في حفنةِ من الدّولِ العربيةِ، حيث الأحزابِ السياسيةِ قانونيةُ، وتشيع اتفاقات النخبِ، و ينمو دور البرلماناتِ، قد أثارت الحماس حول احتمالاتِ الدّمقرطةِ.
    ولا يزال بقاء الحكم الاستبدادي في البلدان نفسها يثير الشكوكِ حول السياسةِ الانتخابية باعتبارها طريقا محتملا إِلى التّغييرِ الدّيمقراطيِ في المنطقة.
    ويُحلّلُ هذا الجزء كيف تُعزّزُ الانتخابات في المغرب علاقات سلطة غير ديمقراطيةَ في نفس الوقت الذي تَفْتح فيه فضاءَ شبه ديمقراطي للتعددية الديمقراطية واتفاقات النُخَبِ، والسياسة التّشريعية.
    ويثير التناقض المغربي أسئلة تتجاوز الانتقادات المكررة المألوفة ضد الانتخابات الإجرائيِة ويَدْعو إلى إعادة التفكير في الإصلاحات الديمقراطيةَ في علاقتها مع الثقافة المهيمنة للقوةِ والسلطةِ.
    وبينما تَختلف أدبيات الانتقال الدّيمقراطيِ على وتيرة ونطاق وتسلسل الإصلاحاتِ السّياسيةِ أو الاقتصادية التي تقودِ إِلى الدّيمقراطيةِ، هنالك تأكيد قوي على الانتخابات باعتبارها عنصرا رئيسيا في عمليةِ الدّمقرطةِ .إن تفضيل الانتخابات بوصفها الطّريقِ المرغوبِ أكثر والأكثر احتمالا إِلى الدّيمقراطيةِ يستند على أربع حججِ أساسيةِ وهي :
    أولا : أن الانتخابات العادلة والحرّة توفر الآلية المؤسساتية الأكثر توقّعا وشفافية للتنافسِ بين الزّعماءِ على الأصواتِ للوصول إلى بعض القراراتِ السّياسيةِ.
    ثانيا:لأبعاد الأخرى للدّيمقراطيةِ على غرار التفويض السياسي والعدالة النزيهة، أو المساواة الاجتماعية وان كانت وثيقة الصلة بالموضوع، فهي تعتمدُ على سياقات أخلاقيةِ أو ثّقافيةِ لا يُمكنُ أَنْ تُقَيّمَ بشكل تجريبي.
    ثانيا : أن التداول على السلطة يحتمل أكثر أن يقَبل من اللاعبين السّياسيين الرّئيسيين ودوائرهم الانتخابية إذا ما تم من خلال انتخابات عادلةِ وشفّافة.
    إن احتمالات الانتقال الدّيمقراطيِ السلمي وتّعزيزه تَعتمد في الحقيقة على ضمان أنه يمكن للفائزين اليوم أن يغادروا الحكم من خلال الآليةِ نفسها التي أتت بهم.
    ثالثا : أن الانتخابات تُعمّقُ وتُمأسس المسؤولية الديمقراطية .وسواء أكانت محلية أو وطنية، فإن الانتخابات تَشجع المسؤوليةَ الديمقراطيةَ بتَوسيعِ المشاركة والتمثيلِ السياسيين ووضعِ السيادةِ الشعبيةِ في صميمِ الشّرعيةِ السّياسيةِ.
    وأخيرا، فإن الانتخابات تستدعي قبول التعددية السياسيِة والتنوع الأيديولوجي باعتبارهما مبدءا سياسيِا أساسيِا.
    إنه لمن الصعب حقاً أَنْ نَتخيّل كيف يمكن للنُخَب أَنْ تُشكّل مواثيق وللأحزاب السياسية أن تَتفاوضَ على ائتلافات حكوميةَ في غيابِ حساباتِ انتخابية.
    وكون أنّه لم تكن هناك دمقرطة ناجحة في القرنِ العشرين الماضي دون انتخابات قَدْ مَنع المحلّلين من إعادة دراسة هذه المجادلاتِ الأساسيةِ بطريِقة معتبرة.
    ومن ناحية ثانية، يَتطلّبُ تصوير أدقّ لمكانة الانتخابات في أدبِيات الدّمقرطةِ تحفظين مهمين .أولهما أنهّ حتى التصورات المعتدلة للدّيمقراطيةِ، ألا وهي تلك التي تكاد تركز بشكل خاص على الإجراءاتِ، لا تَساوي تماماً بين الانتخابات بالدّيمقراطيةِ.
    ويَعترفُ المنظرون المعتدلون مثل روبرت داهل، جوزيف شومبيتر، وآدم برزيورسكي أو يَفترضُون أن مجموعة من الحرياتِ أساسية للانتخابات حتى تَكونَ ذات مغزى سياسيا.
    وعلاوة على ذلك، يؤكّد محلّلو ديمقراطيةِ آخرين مثل فيليبي شميتير، تيري كارل، وماس لاري المدركون لـ "المغالطة الانتخابية" على بعض الشروطَ الواقعيةَ التي سَتَكُونُ الديمقراطيةَ الانتخابية دونها مستحيلة.
    ومع هذا، ففي كل من التعريف المعتدل للدّيمقراطيةِ و"التصور الواقعي" للدّيمقراطيةِ تَبْقى الانتخابات مركزيةَ. ولربما كان صموئيل هانتينغتون مميزا في معسكر المعتدلين، إذ أنه يعتبر غياب المنافسةِ الانتخابية الميزةِ العامةِ الوحيدةِ التي تُمَيِّز الأنظمةِ غيرِ الدّيمقراطيةِ ويُؤكد بأنّ "الانتخابات المَفْتوحة والحرةّ والنزيهة هي جوهر الدّيمقراطيةِ، وشرطها المحتوم".(3)
    وفي المعسكرِ الواقعيِ، غالباً ما يعني التأكيد على "الظروف المُحيطة" للدّيمقراطيةِ ببساطة ضمان البيئةَ الملائمةَ للمنافسة الحرّةِ والمشاركِة الحرةِّ في العمليةِ الانتخابية.
    العملية الانتخابية في المغرب
    تتمثل الميزة الرئيسية للانتخابات المغربية في كونها لم تستهدف قط تغيير الأمور من الأسفل أو تحويل علاقات السلطة والهيمنة فمنذ الستينات أجرى المغرب عشر انتخابات محلية وتشريعية بانتظام يمكن اعتبارها مفتوحة وتنافسية نسبيا.
    غير أن هذه الانتخابات كان ينظر لها على أنها آلية للسيطرة على النخب وتجديدها من خلال عملية إدارية لإعادة الهيكلة والمكافأة والإقصاء واختيار الزميل (4).
    وقد تطلب الأمر عشريتين من الزمن واستراتيجية مزيجا من الفساد والقهر وجميع أنواع الحيل السياسية والقانونية والإدارية لوضع آلية ينتقي من خلالها الحكم الملكي حلفاءه السياسيين وكذا معارضيه الشرعيين .فعلى سبيل المثال، يتيح غياب قانون انتخاب واحد للإدارة إمكانية إدماج مرشحين أو إقصاؤهم والتلاعب بالعملية الانتخابية كما تشاء.
    وتتضمن الوثائق المتعددة التي تراكمت منذ عام 1958 عشرات المراسيم والظهائر والمراسيم القانونية والقوانين الإدارية والمناشير الوزارية التي تعدًل وتستند إلى بعضها بعضا وتجعل من شبه المستحيل تحديد أفعال التزوير أو إصلاح أكثرها وضوحا(5).
    ولم تفلح المحاولات الأخيرة لإعداد قانون انتخابات ووضع التزامات بالسير الحسن وإصلاحات قانونية لقمع الفساد وشراء أصوات الناخبين في تغيير طبيعة العملية الانتخابية في المغرب.
    كما استعملت أدوات أخرى للسيطرة على الانتخابات مع الحفاظ على التعددية الحزبية والمنافسة المفتوحة.
    ثانيا:نتشار أحزاب سياسية صنعتها الإدارة وتكفلت بها، ولأن الأحزاب مسيًرة من رجال مقربين من الملك فقد كانت تميل إلى السيطرة على المنافسات الانتخابية خلال السنوات الخمسة والثلاثين الأخيرة.
    ثانيا : تفكيك القطاعات الانتخابية لتفجير المناطق الحضرية الأكثر استقلالية.
    رابعا: يسمح تنظيم الانتخابات في مجلس الشورى بعد انتخاب مجلس النواب للإدارة بتصحيح الاختلالات السياسية غير المتوقعة بتدارك جزاءات أو عقوبات غير مستحقة في مجلس النواب.
    رابعا : يسمح نظام غير رسمي للحصص بالسيطرة على الأحزاب و بزرع الأمل في الجميع في الوقت نفسه بأنه سيأتي يوم ترتفع فيه حصتهم بما يكفي لتشكيل حكومة .وفي الأخير، هناك المشكلة الممتدة لبيع الأصوات وشرائها.
    ومع أن السيطرة على العملية الانتخابية قد قيدت النخبة السياسية، فإن هذه السيطرة قد أضعفت تسيير التعبئة السياسية من الأسفل.
    ولا يحمل المواطنون هذه الانتخابات على محمل الجد لأنهم يعلمون أن اللعبة الانتخابية مزورة كما يعبر عنه صراحة في المغرب.
    كما تعكس نسب المشاركة المتردية والنسبة المرتفعة للأصوات الملغاة أو غير المقبولة في تشريعيات عام 1993(6) والتشريعيات الجزئية لعام 2000(7) خيبة الجمهور إزاء العملية الانتخابية.
    إن اليأس السياسي للجماهير ليس المظهر السلبي الوحيد للتلاعب الانتخابي، فقد نسفت العملية شرعية المؤسسات السياسية الرسمية للبلاد عموما (لصالح الجماعات الإسلامية التي لا يفتأ تأثيرها السياسي يتزايد).
    وحسب عمليات سبر آراء حديثة، فإن الشباب الحضري نافر تماما من النظام السياسي ويعتبره غير ملائم للتعبير عن مطالبه وتمثيلها(8). ومثل الاستيلاء على الأراضي الكولونيالية بعد الاستقلال الذي جاء ليطارد النظام بعد ثلاثين سنة فقد خلق التلاعب بالعملية الانتخابية فراغا سياسيا قد يفيد الجماعات الإسلامية وهي أكثر المنافسين للملكية فاعلية على الصعيد الإيديولوجي.
    وقد أظهرت أكبر جماعتين إسلاميتين ألا وهما حزب العدالة والتنمية الرسمي وحزب العدل والإحسان غير الرسمي قدرة فائقة على تعبئة الجماهير أكثر من أي حزب أخر في المغرب.(9)
    وربما استطاعت اعتداءات الدار البيضاء التي وقعت في السادس عشر من شهر ماي عام 2003 أن تغير هذه المعادلة إذا ما دخل حزب العدالة والتنمية اللعبة السياسية للقصر.
    لكن لحد الساعة، تظل المشاعر الشعبية موالية للإسلاميين وللقلاع التقليدية لأحزاب اليسار القومي (الثانويات، الجامعات، المراكز الثقافية، جماعات الأحياء وحتى النقابات) وهي في يد الإسلاميين .وقد باءت بالفشل جهود النظام في الثمانينيات وبداية التسعينيات لإنعاش الأحزاب السياسية التي انبثقت عن الحركة القومية.
    ولم يرافق هذه الدعوة أي إصلاح دستوري وسياسي ولم تكن جهود التحرير المحتشمة في جميع الميادين كافية لإصلاح الكوارث التي حدثت في غضون السنوات الخمسة والثلاثين الماضية. إن الأداء المخيب للحكومة الاشتراكية للوزير الأول عبد الرحمن يوسفي التي جاءت إلى السلطة في شهر مارس من عام 1998 ومجرد كون هذه الحكومة البديلة قد عينت بقرار ملكي لهو أمر يذكي الشكوك حول المؤسسات السياسية الرسمية في المغرب.
    وحتى على صعيد الحريات، فإن إجراء انتخابات منتظمة وأكثر انفتاحا لا يبدو أنه يعكس تغيرا ايجابيا بل على العكس، فتقارير فريدوم هاوس تشير إلى تدهور محسوس بين سنوات السبعينيات والثمانينيات والعشريتين الأخيرتين.
    أنظر الجدول (1) :

    كرونولوجيا الانتخاببلدية:ددية في المغرب 1960 - 2003


    * أرقام 1997 مجالس بلدية : 247؛ بلديات ريفية : 1297؛ مقاعد مَجْمُوعة : 24,253.
    ** في عام 1997، كَانَ الـ325 عضوا منِ دارِ الممثلين كلهم منتخبينِ بشكل مباشر .
    ينتخب أعضاء المجلسِ التشريعي ال 275 من خلال سلسلةِ انتخابات موحدة في كافة أنحاء البلاد من بين الغرفِ المهنيةِ المتعدّدةِ، والمنظمات العمالِية، وممثلي المجالسِ المحليةِ.
    *** هذا يحيل فقط إِلى التّعديلاتِ الدّستوريةِ الخاصة بعمل المؤسساتِ الدّيمقراطيةِ.
    **** منذ عام 1972نَشرتْ فريدوم هاوس ت, 1وير سنوية عن وضع الحريةِ في العالمِ بتَقييمِ ظروفِ ''الحقوق السياسية'' و'' الحقوق المدنية'' والبلدان التي يقع مَتوسّطُها بين 0,1 و 5,2 هي بلدان '' حرّة'' والتي متوسطها بين 0,3 و 5,5 بلدان ''حرّة بشكل جزئي'' والتي متوسطها بين 5,5 و 0,7 ''لَيسَت حرّة'' . ''وبالمقارنة مع المغرب، معدلِ فرنسا 2,1و المكسيك 2, 4والجزائر 6, 6و الصين 7,.

    النوع المثالي لديمقراطيةِ الشورى: انتخابات 1993.
    في خطابِ له عام 1995 عن الأزمةِ الاجتماعية الاقتصادية الحادّةِ التي شَلّت البلد، انتقد الملك الحسن الثاني البرلمان بحدة لعدمالتنفيذيةِ.َنْالأمةِ.ِلى مستوى المناسبةِ ويَصُوغ حلولا لمشاكلِ الأمةِ .ووَصفَ مناقشات مساء الأربعاء البرلمانيةَ على أنها "سيرك" لا يُمكنُ أَنْ يستجيب لتوقعات الشعب. إنّ إقالة الملكِ الشفوية للبرلمانِ لأمر مريب، لأن النّوابِ يتمتعون بسلطات تشريعية محدودة جداً ولَيْسَ لهم سيطرةُ على السلطة التنفيذيةِ .واللامبالاة الشّعبية العامّة بنشاطات البرلمانِ أبلغ تععام,ن توزيعِ السلطات في المغرب. والحقيقة أنه، إذا كان الدستور في النظامِ السّياسيِ المغربي يعدِ قبل كل شيء "ميثاقا مقدّسا" أو بيعة، بين الملكِ وشعبه، فإن البرلمان يعمل تقريباً عمل مؤسسة استشاريةِ.
    قالَ الملك الحسن الثاني بمناسبةِ الاستفتاء الدّستوريِ عام ,1972 "إن ممارسة السلطة" تَعُودُ إلى الشعبِ الذي فوضها من خلال البيعة .والبيعة تحت إشرافنا. وهذه المسؤولية لا يُمكنُ أَنْ تقتسم أو تفوض .إنها ثقة مقدّسة، والمؤمن الذي لا يَحترم تلك الثّقة قَدْ فَقد إيمانه".
    وبعد ذلك بست سَنَوات، وصف الملك عملية الدّمقرطة في المغرب بأنها تُوافق روحِ كل من "الشورى والقانون الدستوري الحديث" لكن الشورى وليس نظام الحكم الدستوري الحديث هي التي تَصفُ بصورة أفضل خواص البرلمانِ ووظائفه في النّظامِ السّياسيِ المغربيِ.
    وتؤكد الانتخابات التّشريعية لعام 1993 الطابع الأولوي للشورى الذي يُريدُ الحكم الملكي أَن يعطيه للبرلمانِ .أجري الدّور الأول للاقتراع، الذي انتخب ثلثي أعضاء البرلمان من خلال التّصويتِ المباشرِ، في حزيران /يونيوِ. وتَلى حملةَ انتخابية استطاعت خلالها أحزاب المعارضةِ أَنْ تَعلن عن وجهات نظالحكوميِ.ها البديلة .وبمعايير أكثر ديمقراطية، كان هذا الدور الأول خاليا بشكل ملحوظ من التّدخلِ الحكوميِ.ومع أن حالات التزوير قد أبرزت، فقد وَصفها العديد من المراالأولِ.ها الانتخابات الأنزه في التّاريخِ المغربيِ الحديث. وقد تمخض عنها تقدم كبيرِ لأحزابِ المعارضةِ الأربعة، وخاصة حزب الإتحاد الاشتراكي للقوىِ الشّعبيةِ (USFP)وحزب الاستقلال، الذي حاز العدد الأعظم من المقاعدِ (48 و43 على التوالي).وحازت المعارضة مجتمعة (محددة هنا بالـ USFP، والاستقلال والـ OADP 99مقعدا من أصل الـ222 مقعدا المتنَافس عليها خلال الدور الأول.
    وعلى أساس هذه النَّتائِجِ، كان ينتظر من المعارضة أَنْ تَلْعبَ دورا مهما في حكومةِ تحالفِ مع التجمع الوطني للمستقلين (RNI). ولكن هذا ما لم يكن. وقد وفرت الانتخابات غير المباشرة للممثلين المهنيين في أيلول/سبتمبرِ فرصة إداريةَ لـ "تصحيح" نَتائِج الدّورِ الانتخابي الأول، بين كل من الأغلبيةِ والمعارضةِ، وضمن كل معسكرِ.
    وقد ضاعفت المخالفات والتّدخل الإداري من تأثيرات نظامِ يعطي أحزاب وسط-اليمين أفضلية مبطنة ومكّنت هذه الأحزابِ من أَنْ تحقق أغلبية برلمانية مريحة من 195 مقعدا من أصل 333. و قَدْ تَبخّر موقع القوةِ الذي بلغته المعارضة بعد الدّور الأولِ .وفي حركة مثيرةِ أَكَّدت غضبِ المعارضةِ وكذا عجزها عن تغيير النظام، استقال زعيم الـ USFP عبد الرحمن يوسفي من منصب الأمين العامِ للحزبِ.
    وبينما تستمر قيادة أحزابِ المعارضةِ في لعب لعبة الشورى لأنه، من ناحية، يَبدو وكأنها لا تملك بديلا آخر، يتعاظم السخطُ الشعبي واسع الانتشار على سياسةِ الحزبِ وعدم الاكتراث للبرلمانِ. ويُشيرُ المستوى المتناقصِ للمشاركِة والعددِ المرتفع للأصواتِ الملغاةِ وسط المجموعاتِ الحضريةِ خلال الانتخابات التّشريعيةِ لعام 1993 إِلى اتجاه مقلق في السياسةِ المغربيةِ:ألا وهو الفتور واللامبالاة السياسيان.
    وطبقاً للأرقام الرّسمية، فإن نسبة المشاركِة في الانتخابِات التّشريعيةِ لعام 1993 كَانَت 63،75% بينما كانت نسبةَ الامعينة.ِ الملغاة والفارغةِ 13،02%، لَرُبَما بدت هذه النِّسَب للوهلة الأولى معقولة إذا كانت الأرقام الرسميةَ دقيقة، وهو أمر يُحتملَ أن لا يكون كذلك.
    لكن حتى وإن وثقتا في هذه الأرقامِ، فإن نظرة أقرب تظهر نوعا من خيبة الأمل المتزايدة بين مجموعاتِ اجتماعية واقتصادية معينة .وبالمقارنة مع الانتخابات التشريعية السابقة، فإن نِسَب المشاركة كَانت وما زالت تَنقص بثبات: 93، 16 %عام1970و 82, 36 % عام 1977 و67, 43 عام 1984. والزّيادة بالمقابل في الاقتراعاتِ الملغاةِ والفارغةِ تُؤكّدُ لا اللامبالاة , 8%سياسةِ الانتخابية فحسب بل الخوفَ المستمر أيضا وسط بعض المواطنين الذين يخشون مُقاطعة الانتخابات. ومجددا، وحتى طبقاً للأرقام الرّسمية، فإن نسبة الأصواتِ الملغاةِ زِادتْ من 0,8% عام 1970 إِلى 13% عام 1993.
    وما يبين أكثر، ربما، نَقْصِ نِسَبِ المشاركةِ وزيَاْدَةِ الأصواتِ الملغاةِ هو أنها تَحْدث في الغالب في المناطق الحضريةِ حيث النّاسِ أكثرُ تعلّماً وتسيسا وأكثر شبابا .وفي الانتخابات التّشريعيةِ السّابقةِ، سجلت النِّسَب الأعلى للغياب والأصوات والملغاة في أربع ولاياتِ حضريةِ وهي الرباط و الدار البيضاء وفاس ومكناس .وتُؤكّدُ نَتائِج انتخابات عام 1993 هذا المثال وامتداده إِلى المناطق الحضريةِ الجديدةِ بأصواتِ ملغاةِ تَصلُ نسبها إلى 20% في المحمدية وأغادير، 30 % في مركزِ وجدة، 37% في مراكش -المدينة و50% في مركزِ طنجة. وبعد أربعين سَنة من التَّطَوّرِ الاقتصادي والتّمدنِ السّريعِ، ما يزال الرّيف يُوفر القاعدة الاجتماعية الوحيدة لمساندةِ الحكم الملكيِ.
    هنالك سببُ آخرُ يمكن أن يجعل الحكم الملكي ضعيفا وهو أن نِسَبة التغيب والاقتراعات الملغاة المتزايدةُ بثبات هي أيضا إشارةُ على أن المعارضة التقليدية تُشوه لفائدةِ الإسلاميين الذين لا يُشاركُون في اللّعبةِ الانتخابية.
    ليس مصادفة أن تسجل النّسبة الأعلى للأصواتِ الملغاةِ والتغيب في طنجة والولايات الشّمالية، قلعة الإسلاميين المغربيِين ومسقط رأس أكثر المغاربةِ المتورطين في تفجيرات 11 مارس/آذار 2004 لمحطاتِ القطارِ في مدريد.
    وإذا كانت أحزابَ المعارضةِ حقا تخسر التأييد بعد خمس وثلاثين سنة من المشاركة غير الفعالة، فلرُبَما نظرنا بتشكك كبير إلى عدد المقاعدِ التي حَصلت عليها في تشريعيات.1993 بينما يُريدُ الحكم الملكيَ أَنْ يبقي المعارضة تحت المراقبةِ، فهو لا يُريدُ أَنْ يَرى "وسطاءه الاجتماعيين" فاقدين للمصداقية تماما. لكن هَلْ يُمكنُ للمعارضة التّقليدية أن تَستعيدَ المصداقية سياسيا في حين تخلت عن القضاياِ السّياسيةِ الأساسيةِ للسلطةِ والحكم في النّظامِ السّياسيِ المغربيِ ؟
    ما بعد الانتخابات: نزع الطابع السياسي عن السياسة
    في سنوات الخمسينيات كان المغرب واحدا من الدّول النّادرة المستقلة حديثاً التي تَنخرط في نهج التعددية السياسيِة واقتصاديات السوقِ.وخلال العقودِ التّاليةِ، باشرت حكومات متعاقبة بإصلاحات مؤسسة نظاما سياسيا واقتصاديا مفتوحا نسبيا. و بشكل تناقضي، ما يزال المغرب متسلطا.
    لماذا ؟ مع أنّها مؤيدة للدّيمقراطيةِ ظاهريا، فإن إصلاحات البلدِ الليبراليةِ قد نزعت في الحقيقة الطابع السياسي عن مجاله العام. واَعْني بـ ''نزع الطابع السياسي'' تهميش قضايا الحكم والسلطةِ وفي الحالةِ المغربيةِ بشكل خاصً أعني به الصّدارةِ السّياسيةِ الملازمةِ التي تعطى للقضاياِ الاقتصادية.
    بعد ما اَطّرَ القضايا الاقتصادية بشكل متواصل بمصطلحات تّقنيةِ صرفة، نجح الحكم الملكي في تفادي مناقشة أساسية حول مصادرِ السلطة وتوزيعِها في النّظامِ السّياسيِ المغربيِ. والأحزاب التي كَانَ يمكنُ أَنْ تَتزعّمَ الإصلاح الديمقراطي خَفّفت من مطالبها في غضون ذلك وتبنت ادعاء الحكم الملكي أن البلد لا يحتاج سوى لإدارة اقتصادية أفضل.
    ومسار المغرب على مدار العقودِ الخمسة الماضيةِ يُسلّطُ الضوء على التّقدّمِ البطيء للدّمقرطةِ و العلاقة بين الإصلاحِ السّياسيِ والاقتصادي في العالمِ العربيِ، مشيرا إلى أن الآمال المعلقة على الإصلاحِ اللّيبراليِ التّدريجيِ هناك قد تكون في غير محلها.
    وعبر المنطقة، قد نَجد تأييدا واسعا لترشيدِ العلاقاتِ الاقتصادية (خصوصاً بين مندوبي الأعمال والنخب التكنوقراطية)، والعدالة والإالعربيةِ.صاديين (بين الأحزابِ القوميةِ، ونقابات العمال، والجماعات الإسلامية)، أو التأهيل المدني المستخلصة من فلسفةِ سياسيةِ واضحةِ للحقوقِ (مجموعات حقوقِ إنسان والحقوق الثقافيةِ على سبيل المثال).
    لكن تأييد مساندةَ المبادئِ الدّيمقراطيةِ يبقى ضئيلا ومتناقضا وأرى أنّ هذا الاختلال يَنْتجُ عن نزع الطابع السياسي عن المجتمعاتِ العربيةِ .وفي المغرب خصوصاً، عَرقل توقيف النقاشِ السّياسيِ الأساسيِ التَطَوّر الديمقراطي، حتى وان كان النّظامِ قَدْ باشر بإصلاحات ليبرالية هامّة .
    وفي التسعينات حَدثت إصلاحات تّحريرِ اقتصاديِ هامّة في الجزائر ومصر والأردن والكويت و لبنان وسوريا واليمن (16). لكن الإصلاحات السياسيةَ لم تتَخلّفْ عن التعديل الاقتصادي فحسب (17) إذ استعملت الضرورات الاقتصادية استراتيجيا لتأخير الإصلاح السياسي.
    فعلى سبيل المثال، طلب الملك الحسن الثاني من البنك العالمي أَنْ يُقدم تقريرا عن حالة الاقتصاد في المغرب استعمله في المرافعة في البرلمانِ لصالح أولويةِ الإصلاحاتِ الاقتصادية على التّغييرِ الدّستوريِ. ومؤخراً، قام رؤساء كل من الأردن وسوريا والجزائر بمرافعات مشابهة. وقد كانت إستراتيجية السيطرة على الحقوقِ السّياسية باسمِ الضرورات الاجتماعية والآن الاقتصادية ميزة أكثر الأنظمةِ السّياسيةِ العربيةِ منذ الاستقلال(18).
    أ. التحرير الاقتصادي وتراجع السياسة
    انخرط المغرب، منذ استقلاله عام, 1956 في ثلاثة أطوار من التّحريرِ الاقتصادي: 1) فترة التثبيت النّقديِ (1983-1965)، 2 برنامج تعديلِ هيكليِ (1992-1983)، و 3 برنامج تسوية (أو "إعادة هيكلة داخلية قوية") الغرض منها زِيادَة قدرة وتنافسية الشّركاتِ المغربيةِ استعدادا للتجارة الحرّةِ مع أوروبا (من عام 1995 إِلى الآن).
    1- التثبيت : في عام ,1960 ألغى المغرب فجأة خطته الوطنية الأولى التي تَلت النموذج الممركز في الدّولة الذي كان شائعا آنذاك بين الأممِ المستقلةِ حديثاً. وانخرطت الحكومة فيِ "اقتصاد مختلط" جديد يلعب فيه القطاع العامِ دورَ المحفز للمبادرة الحرّةِ، ووَقّعَت سلسلة من اتفاقيات المساعداتِ و القروضِ مع البنك العالميِ وصندوق النقد الدوليِ لتقوية المقاولات الخاصّة. دامتْ برامج التثبيتِ تقريباً إلى غاية عام 1983 ورَكّزت على مدخراتِ الميزانيةِ من خلال فرض ضرائبِ أعلىِ والتقليص في البرامجِ الاجتماعية والإعانات الماليةِ(19).
    و لكن في النهاية فَشلتْ الإجراءات في حلّ مشاكل المغرب الاقتصادية لأن البناء السّياسيَ ذاته الذي أوجدها في المقام الأول بَقي على حاله.
    خلال إنشاء الشركاتِ الحكوميةِ في أكثر صناعات البلدِ ربحيةً (مثل الزراعة المسقية، الصناعة الغذ(r.، السياحة، الصيرفة، الإنشاء والصِناعة)، استعمل الحكم الملكي القطاع العام ليسيطر على الحلفاء المحليين البارزين ويُكافئهم.
    وعلى نحو نموذجي، اشترت الدّولةُ الشركاتَ المفلسة وأعادت بيعها بأسعارِ اسمية لشركاءِ الملك بعد أن أصبحت مربحةَ بعد أن دَفعت الخزينةِ العموميّةِ ثمن الهيكل الجديدِ واَمّن القطاع العامِ عقودَا مفيدةَ .وبدلاً من خَلْق طبقة أعمالِ دينامكية واستعمال القطاع العامِ لتَغذية المبادرة الخاصة ففد جَعلَ رجال الأعمال المغاربة معتمدين على الدّولةِ في الخدماتِ التّقنيةِ، والمزايا المالية، والقروض المدعومة.
    ولعل الحدث المحوري في هذه الموجةِ الأولىِ من نزع الطابع السياسي كَان قرار الملكِ الحسن الثاني (r . 99- 1962)أَنْ يُطلقَ "المسيرة الخضراء" إلى الصحراء الغربية في تشرين الثاني/نوفمبرِ.1975 بعد انسحاب أسبانيا من المنطقة مبكرا في تلك السّنةِ، إذ أمر الملك 300000 رعيةَ غير مسلّحين أَنْ يَدْخلواَ المنطقة و"يَستعيدُوها" للمغرب.
    وهمشت المناقشات البرلمانية عن عجزِ الميزانيةِ وسوء استعمال الممتلكاتِ العامّة وتَدَهْوُر الظروفِ الاجتماعية عن طريق الخطاباتِ عن السلامة الترابيةِ للمغرب والخلاف مع أسبانيا. ووجدت أحزاب المعارضةِ التي استمدت شرعيتها من اشتراكها مع حركةِ الاستقلال نفسها الآن محصورة في "إجماع وطني مقدّس" على قضيةِ الصحراء الغربية، عاجزة عن أَنْ تَتحدّى السياسات الاقتصادية والاجتماعية على صعد أخرى غير الصعد التّقنيةِ أو الصعد الأخلاقيةِ الضيّقة.
    وما نتج من تحييد للمعارضةِ السّياسيةِ، في وقت كانت تَسُوءِ فيه الظروف الاقتصادية والاجتماعية أدى إِلى التّوتراتِ بين الأحزابِ السّياسيةِ والنقابات المنتسبةِ لها. وانتقل مكان الاحتجاج إِلى الشّوارعِ، حيث بقيت منذ ذاك الحين ( وحيث اندلعتْ في النهايةً في الثمانينات والتسعينات أعمال شغب دامية تستعصي على السيطرة).
    2- التعديل الهيكلي : انتهى طورُ التّثبيتَ حين اتضح أن مشاكلَ المغرب الاقتصادية العميقةِ كانت تتَطلّب إصلاحات تنظيمية وإدارية. تم تحت إشرافِ البنك العالميِ وصندوق النقد الدوليِ، طور ثان أكثر مغامرة من التّحريرِ الاقتصادي بين عامي 1983 و 1992. اتّبعتْ حكومات متعاقبة بجسارة برامج تعديل هيكلي ( SAPs ).وهذه تتَضمّن نموذجي الخوصصة ونهاية الإعانات الماليةِ والتحكم بالأسعارِ، وتَقليص الحواجز التجارية .وعلى الرغم من التكاليف الاجتماعية المعتبرة والأخطار السّياسية التي جَلبتْها هذه الإصلاحاتِ، فقد طَبّقها المغرب بعناية وأصبح مثالا ظاهرا للنجاح في التّعديلِ الهيكليِ.
    بينما نتجت عن التعديل الهيكلي بعض الإنجازاتِ الهامّةِ، ومن ضمنها التقلصات في اختلالات الاقتصاد الكلي و التنافسية الدولية المتزايدة، و بَقي نمو المغرب الاقتصادي شاذا ويعتمد على كميّات التساقط والحوالات الماليةِ التي تأتي في الغالب من المغاربةِ العاملينِ في أوروبا (21).
    ومن جديد، كَانت المشكلة الأساسية سياسيَة، ومرة ثانية تم تجاهلها بشكل كبير .كانت أغلب التدابير التي نادت بها برامج التعديل الهيكلي، سواء تلك الخاصة بالميزانية أو المالية، تفترض وجود مؤسسات دولةِ شفّافة تكنوقراطية مستقلةِ نسبيا وهي أمور لم يكن شيء منها متوفرا في المغرب.
    بينما كَانتْ الأغلبيات البرلمانيةَ مهتمة بالإصلاح في هذه الفترةِ، كان الوزراء مسؤولين أمام الملكِ وحده .وفي حين كان البنك المركزي المغربي دائما مستقلا رسمياً، فالحقيقة أنّ الملك ينتقي بعناية مديره وكبار إطاراته. وعلاوة على ذلك، مع كل وزير الدولةِ مسؤول بشكل فردي بشكل حصري وتقريباً أمام الملكِ، لم تكن هناك إستراتيجيةُ إصلاحِ متماسكةِ أو تنسيقِ بين وزارات الماليةِ والتجارة والاستثمار والسياحة والتجارة والخوصصة.
    وفي الوقت نفسه، كانت المناقشات البرلمانية والعامّة حول سياساتِ التّعديلِ الهيكليِ بالكاد تَذْكرِ الارتباط بين أزمةِ المغرب الاقتصادية والهيكل السّياسي الذي أوجدها.
    3- التسوية: ما تزال اليوم، في منتصف الطور الحالي للإصلاحِ الليبراليِ الذي بَدأَ عام 1995 وترجمت منذ ذلك الحين بـ niveau mise وتبقى الطّبيعة السّياسية لمشاكلِ المغرب الاقتصادية مهملة. ومع ذلك فإن الحكومة، ومندوبي الأعمال، والنقابات العمالية يُؤكّد كل منها على عناصر مختلفة من هذه الإصلاحاتِ، والفكرة الأساسية هي أنّ اتفاقية التجارة الحرّةِ مع أوروبا التي وَقّعتْ عام 1995، وتطبيقها الكاملِ في حدود عام 2010، سَتُجبرُ الشركات المغربية على أنْ تَكُونَ أكثرَ إنتاجاً وشفافية.
    وإعادة الهيكلة ا التّلقائية ا للمبادرة الحرّةِ التي سَيَجْلبُها هذا ظاهريا ينظر إليها على نحو واسع على أنها نموذجِ للاقتصاد وللحكومةِ ككل (22).هنا ثانية، أبعدت من جدول الأعمال أيَ إعادة تفاوض على تقسيمِ السلطات بين الفروعِ المتعدّدةِ للحكومةِ، كما حدث مع أي إعادة تعريف واضحِة للصلاحيات السّياسيةِ للحكم الملكيِ.
    ب . تنامي التحرير السياسي وفتور الديمقراطية 1962-2000
    لا يَعني نزع الطابع السياسي، في السّياقِ المغربيِ، غياب السياسة الحزبِية. وفي الحقيقةِ، فإن دستور البلدِ الأولِ الذي صودق عليه عام 1962، حظر نظامِ الحزبِ الواحد ووفر مجلسا تشريعيا تعدديا منتخبا بالاقتراع العام.
    وبين عامي 1963 و2002 نظمت مجموعة منِ الانتخابات الوطنيةِ والمحليةِ، بينما جعلت لاستفتاءات الشعبيةَ على التّعديلاتِ الدّستوريةِ النظام السّياسي المغربي أكثر انفتاحا و تحرّراً. وخلال العقد الماضي، شَهدَ البلد إصلاحات أخرى في مجال حقوق الإنسان و أتاح حرية أكثر في التّعبيرِ وإنشاء الجمعيات.
    كما أن إصلاح ما بعد الاستقلال لم يمَسّ إلا نادراً الشكل الأساسي للنظام السّياسي فما يزال نظام ملكي غير مسؤول يحكم.
    والحقيقة أنه بما أن أهم التطورات الليبرالية لم تنجز إلا بعد عام ,1975 عندما لم تعد صلاحيات الحكم الملكيِ موضع احتجاج معلن، فمباشر.يل أَنَ منع أي نقاشِ جدّيِ حول صلاحيات الملكِ كَان شرطَا ضروريَا للتّحريرِ السّياسيِ.
    وتجارب المغرب مع الإصلاحِ الدّستوريِ والسياسةِ التّشريعيةِ ترى بصورة أفضل على أنها تمت في ثلاث فتراتِ رئيسية. أولاها، تلك التي دامتِ من عام 1962 إلى عام 1975و كُانت الأكثر "سياسية" وكانت هذه سنَوات الصراع على السلطة الذي ثار بين الحكم الملكي ضد الحزبين الرّئيسين الذين انبثقا عن حركةِ الاستقلال ألا وهما :الاستقلال القومي المحافظ والإتحاد الوطني للقوى الشّعبيةِ ذي الاتجاه اليساري (UNFP).
    وقد شهدت هذه الفترةِ نقاشاَ سياسياَ أساسياَ حول صلاحيات الملكِ ودورِ المجلس التشريعيِ ومجلس الوزراءِ، وحول توزيعِ السلطات بين الفروعِ المتعدّدةِ للحكومة. لكن الملكَ الحسن جند الشبكات التقليديةَ المؤثرة المؤلفة من شيوخ العشائر واعيان الأرياف والجماعات الصوفية والعائلات الحضرية البارزة وما شابه ذلك كي يُوازنَ الأحزابَ القوميةَ المتواجدة في المدينة. وفي النّهايةِ، فازَ الملكُ وأحكم سيطرته. وقد تمخضت دساتير المغرب الأولى والتّجارب المبكّرة مع السياسةِ البرلمانيةِ عن تعزيزِ نظامِ سياسيِ مغلقِ(23).
    وقد خول دستور عام 1962 الـسلطات التنظيميةَ إلى مجلس وطنيِ مؤلف من مجلس نواب منتخبِ بشكل مباشر ومن مجلس تشريعي منتخب بشكل غير مباشر .لكن هذه السلطات فوضت فعلا على هوى الملكِ.
    فقد عين الملكُ رئيس الوزراء ومجلس الوزراء وأقالهما، ويُمكنُه أَنْ يحل البرلمان ويَتولى السلطات المتبقية في ظل قوانينِ الطوارئ.في عام 1970، كرس دستورِ جديدِ ضعف المجلس التشريعيِ والحكومةِ مُؤسّسا بشكل فعلي تشريعَا طارئَا كَانَ الملكَ (بشكل غير دستوري) قد سنه بعد أعمال الشغبِ العنيفةِ التي هَزّتْ الدار البيضاء في عام 1965.
    وبعد انقلابين، صودق على دستور آخر عام 1972. وفي حين عزز هذا السلطات التّنظيميةِ للمجلس التشريعيِ والحكومةِ، فقد كرس أيضا عملية نزع الطابع السياسي. فالمادة 19، على سبيل المثال، اَسّسَت قداوهما:ملكِ باعتباره "الممثل الأعلى للأمة" و"أمير المؤمنين" منيطا بذلك رسمياً السيادةِ الوطنيةِ بنظام ملكيِ يدعي شرعية إلهية.
    كما مَنعتْ سلسلة مواد أخرىِ المناقشات المنتقدة للخطب الملكيةِ الموجهة البرلمانِ أو للشعب عامة، ونزعت الحصانة البرلمانية عن المشرّعين الذين يعتقد أنْهم يشككون في الحكم الملكي أو في الإسلام أو في قوانين الأمةِ.
    نظمت الانتخابات المغربية التّشريعية الأولى في 1963 وَتمخضت عن أزمة في مجلس النواب، بتحالفِ ملكيِ في مواجهة حزبي المعارضة الرّئيسيينِ. وأثار التّوزيع المتساوي تقريبًا للمقاعدِ بين الكتلتين مناقشات نشيطة لا حول السّياساتِ الاجتماعية والاقتصادية فحسب بل على توزيعِ السلطةِ وطبيعةِ النّظامِ أيضا.
    طالب بعض المشرّعين من حزب الاستقلال وال UNFP بأنّ "يملك الملك ولا يحكم" وهو مطلب لم يسْمع ثانية في البرلمانِ حتى أواخر الـسبعينات، بعد ذلك عَلّقَ الملك الهيئة التشريعية مرّتين (أولا من عام 1970 إِلى عام 1965 وبعد ذلك ثانية من عام 1972 إِلى عام 1977 وحَكمِ وحده .أما الفترة من عام 1962 إلى عام 1975 فقد سيطر عليها صراع على السلطةِ بين الحكم الملكيِ وأحزابِ المعارضةِ القوميةِ على طّبيعةِ الحكمِ ومستقبله، و شهدت الفترة الثّانية (1975-1992) صياغة إجماعِ وطنيِ ابعد مثل هذه القضاياِ السّياسيةِ من برنامجِ الإصلاحِ. وقد عجل حدثان رئيسيان بهذا الإجماعِ ألا وهما :حملة الصحراء الغربية عام 1975 وصدور ميثاق عام جديدِ عام 1976.
    وفي تشرين الثاني/نوفمبرِ 1975، أمر الملك الحسن بـ "المسيرة الخضراء" السّلميَة الهائلةَ، التي أراد بها بشكل مثير أَنْ يدعم مطالبة بلده بالولاياتِ المغربيةِ السابقة للصحراء الغربية، التي ضَمّتها إسبانيا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد زادت قضيةَ الصحراء الغربية كثيرا من شرعيةِ الملك باعتباره مدافعا عن السلامة الترابية للبلدِ ورمزِ سيادته الوطنيةِ، وأمال ميزان القوى لصالحه حتى توفي في السبعين من العمرِ عام 1999.
    بمثل هذا الإجماعِ السّياسيِ المضمون حول الحكم الملكي، أرسل الملك إشارات إسترضائيةَ لـ "تطبيع" الحياة السياسية. وخففت السيطرة السياسية والقمع وأصبحت أحزاب المعارضةِ الآن "تُستَشار" وسمح لها أَنْ تَنتقد سياسات الحكومةَ وتقود حملات تعبئة.َ وفي الخطاب الرسمي، سميت هذه الإصلاحاتِ بـ "العملية الدّيمقراطية"، لتوحي بالتزام بإحياءِ المؤسساتِ الدّيمقراطيةِ. وقد حسن الإجماع الجديد البيئة السّياسية ودعم التحرير، لكنه لم يفعل شيئَا للدّمقرطةِ .ومع أن أحزاب المعارضةِ استعملت الآن البرلمانِ للتَنْديد بانعدام الكفاءة الاقتصادية والتكاليف الاجتماعية لبرنامجِ التّعديلِ، ولم تؤَثّر هذه الأحزابِ في أي سياسة ولا أطّرتْ أي قوانين. والأكثر ضررا بعد، أنهم فَشلوا في أن يَصُوغوا سياستهم الأساسيةَ من حيث التّمثيلِ والسّيادةِ، وَتمسّكُوا بشكل متزمت بلغة تَتحدث فقط عن الكفاءةِ والأمانةِ، مَنشغلين بـ "تّرشيد" و"أخلقة" الفضاء العام.
    مع نقادِ محتملين منغلقين على ذواتهم بهذه الطريقة، بدا الحكم الملكي وصلاحياته المزعومة أكثر شرعية. وللسخريةً، فقد زاد الأمورَ سوءاَ قرار أحزابِ المعارضةِ إنهاء 15 سنة من المقاطعة والمشاركة في الانتخابِات المحلية لعام 1976. وكي تَغري أحزاب المعارضةَ بأَنْ تخوض الانتخابات في البلدياتِ الحضالمحليةِ.احي الريفيةِ، أصدرت وزارة الدّاخليةِ المسؤولة مباشرة وحصريا أمام الملكِ ميثاقا عاما جديدا عام 1976.
    وقد وسّعَ الميثاق الجديد الميزانيات، والاستقلال، وسلطات المجالسِ المحليةِ .بالإضافة إلى ذلك، فقَدْ روجعتْ إجراءات التسجيل للانتخابات وجُدّدتْ من أجل المزيد من الشّفافية التي تشيتحقق.ِا قديما للمعارضةِ وأسس مجلسِ وطنيِ للإشرافِ على الانتخابات يضم ممثلين من كل الأحزاب السّياسية.
    لكن حتى الهدفَ المتواضع المتمثل في التسيير الفعال للإداراتِ المحليةِ ووضع أمثلة للحكومةِ الوطنيةِ لم يتحقق .ولافتقادهما للهيكل السياسيِ الضّروري للتَنافس على المستوى الوطني، سَجّلَ الاستقلال والـ USFP المرشحين المحليين ذوي الشّعبية الذين لَيْسَ لْدَيهم التزام تجاه أحزابهم والذين كَانوا لذلك يرغبون في تغيير انتمائهم السياسي تحت الضّغوطِ الإداريةِ أو إذا وافق ذلك اهتماماتهم.
    وفقاً لذلك، بينما فازت أحزاب المعارضةِ بأغلبياتِ مقاعدِ المجلسِ في بِضع بلدياتِ، فقَدْ شُلّت بتَغيير الانتماءات الحزبِية (و علاوة على ذلك، عوّقَتها فضائحِ الفسادِ، لأن المجالسِ كَانت مصادرَ ثّروةِ هائلة).
    خلال طوره الثالث من التّحريرِ السياسيِ، الذي يشمل العقدَ من عام 1992 إلى عام 2000 باشر المغرب سلسلة من الإصلاحاتِ كي يعزز حكم القانونِ، ونظم استفتاءين دستوريين وَسّعا من سلطات البرلمانِ، وانتخبَ مجلسين وطنيين فازت فيهما المعارضةُ بحصص كبيرة من المقاعد.
    وفي سلسلةِ من المراسيمِ، اَسّسَ الملك أيضا مجلسَا استشاريا ووزارة لحقوق الإنسان، ومجموعة محاكمِ إداريةِ أنيط بها التحقيق في استغلال النفوذ، و مجلسا دستوريا ليحلَ النزاعات على دستورية القوانينِ، ومجلسا استشاريا للحوارِ الاجتماعي ليَتوسّطَ في نزاعات العملَ.
    وللمرة الأولى أعطى دستور عام 1992 للبرلمان سلطة أن يقبل أو يَرْفضَ حكومة جديدة عيّنها الملكِ ويحل حكومة من خلال تصويتِ لسحب الثقة.
    كما أن تعديلا في عام 1996، اَسّسَ الانتخاب المباشرَ لكل أعضاء مجلس النواب (مطلب رئيسي لأحزابِ المعارضةِ) وأعاد تأسيس المجلسِ التشريعي (انتخب بشكل غير مباشر من الجمعياتِ المهنيةِ، ونقابات العملِ والمجالس البلدية وجماعات المصالح). وقد توّجَت عملية التّحرير بتداول على السلطة لطالما انتظر طويلاً عندما طلب الملكِ الحسن عام 1998 من الزعيم الاشتراكي عبد الرحمن يوسفي أَنْ يقَودَ الحكومة. وسترمز الانتخابات التّشريعية لأيلول/سبتمبرِ 2002 للمرة الأولى منذ الاستقلال التي تنهي فيها حكومة تحالفِ بقيادة المعارضةِ عهدتها كاملة.
    قد لا يكون المغرب أقربَ اليوم إِلى إنجازِ ديمقراطيِ حاسمِ كما كان الأمر قبل أربعة عقود. فالدّستور ما زالَ يُحدّدُ السيادة صراحة في الملكِ، حاصرا بذلك دور الحكومةِ والبرلمانِ في تسيير الشؤون الاجتماعية والاقتصادية. وقد قبلت الأحزاب الرّئيسية "تقسيم العمل" هذا وتخلت عملياً عن المجالِ السّياسيِ.
    وقد أصبح استقرار هذا التّنظيم ظاهرا مؤخرا عندما تورط إطارات سامون كَان قَدْ عيّنهم الملكِ الحسن في سلسلة من الاختلاسات الماليةِ الفظيعة من القطاعِ العام. (في حالةِ واحدة فقط، كان المبلغ المختلس يساوي 80 بالمائة من مجموعِ الدّينِ المغربي الخارجي). ولتُهدّئَ من الغضب العام، وَضعتْ الحكومة أمام البرلمانِ قانونا لتحسين "تسيير" المؤسسات العمومية.
    ووصف الفساد والأداءِ الضعيف لشركات الدّولة بتعابير أخلاقيةِ و تقنيةِ يهمّشُ قضية المسؤوليةِ السّياسيةِ. إن الملك هو الذي ينتقي الإطارات العليا للقطاع العامِ والكثير من المشاكلِ المزمنةِ تتعلق بنقص المسؤولية .
    في غضون ذلك، باشر الملكِ محمد السادس، منذ اعتلائه العرشِ عام 1999 بتعيينِ نخبة لا سياسية تكنوقراطية في مناصب رئيسية في الإدارةِ والاقتصاد(25).
    وحتى وإن كانت هذه التّعييناتِ في بعض الأوقات فعّالة (فالتكنوقراط أكثرُ كفاءة عموماً في تقديمِ خدمات للمواطنين لأنهم غير منخرطين في السجال السياسيِ الحزبِي)، فإنها تَعادل تأسيسِ حكومةِ ظلِ تعمل بالموازاة معِ مجلس الوزراءِ الرّسميِ، وغالباً في تعِارض معه.
    وهناك إشارة أخرى على نزع الطابع السياسي الجاري وهي حملةُ الانتخابات التشريعية لأيلول/سبتمبرِ 2002. فالأحزاب السّياسية تكاد جميعها تقريباً تقلل من شأن برامجها السّياسية وتَمتدح ضماناتها التكنوقراطية والإدارية بدلاً عنها. وفي الوقت نفسه، يهدد فاعلون اقتصاديون خواص بأَنْ يدخلوا السّجال السّياسي بنيةِ تَطبيق سياساتِهم للتسوية في المجالِ السّياسيِ.
    وقَدْ تَقدّمَ تحرير المغرب الطّويل والتّدريجي بسهولة نسبيا في كلا المجالين الاقتصادي والسّياسي، لكنه لم يؤد إِلى الدّيمقراطيةِ .وما يقلق أكثر بعد، هو أن منطق نزع الطابع السياسي يخدم الجماعاتِ الإسلاميِة التي تَبْقى متشككة حول الدافع السّياسيِ بوصفه مصدرا ملائما للحكمِ السّياسيِ.
    وبتأكيدهم على أن أفضل وقاية من استغلال النفوذ السّياسيِ، والظلم الاجتماعي، والمحاباة الاقتصادية هي التّطبيقُ الصّارمُ لنظام أخلاقيِ دينيِ، يَتحدّى إسلاميو المغرب الحكم الملكي أَنْ يُنفذ ادعاءه الخاص بأن السيادة السياسية تكمن أَساسا في "أمير المؤمنين" لا في هيئة منتخبَة شعبيا. الخاتمة:كه بِتصور غير مسيَس وأخلاقي، للنظام والسلطة يشبه كثيرا تصور الإسلاميين ، فالحكم الملكي، بالمقابل إنما يَحْمي نفسه فقط بشكل مريب ضد تحديهم.
    الخاتمة :
    دمقرطة النّظامِ أو دمقرطة الفساد ؟
    إن الطّريق الطّويل للإصلاحاتِ السّياسيةِ بدون دمقرطة حقيقيِة في المغرب، بعد أكثر من ثلاثة عقودِ من المفاوضاتِ والأحلافِ بين النُّخَبِ السّياسيةِ يتحدّى مجادلة أساسية في الأدبِيات الحاليِة عن الانتقال الدّيمقراطيِ .وقد أكد محلّلو الدمقرطة أن تلك المواثيق بين نُخَبِ بلدِ ما أساسيةُ للانتقال الدّيمقراطيِ وذلك لثلاثة أسباب :
    حل المصالح الاجتماعية والاقتصادية المُتَضاربة بقوة، صوغ اتفاقيات لبناء الثقةَ، ومأسسة سقوط الشكوكِ البطيئة التي ترافق عادة الانتقال الديمقراطي (26).
    في حالة المغرب، حلت ابرز النزاعاتِ أو الخلافات بين الحكم الملكيِ ومؤيديه المخلصين اللامشروطين، من ناحيةِ، والأحزاب السياسية القومية المؤيدة للديمقراطية، من ناحية أخرى، بطريقة بدا أنها تدعم الإصلاحاتِ الدّيمقراطيةِ.
    وقد منح الحكم الملكيُ امتيازات سياسية وقانونية و اجتماعية وإدارية ودستورية، وأيديولوجية متعاقبة للنُّخَبِ السّياسيةِ .فعلى سبيل المثال، وسعت سلطات البرلمانِ؛ وخضع دور الإدارةِ في الانتخاب لرقابة الأحزابِ وإشرافِها؛ وأسست هيئات مستقلة متعدّدة لمُراقبَة الانتخابات؛ و تحسّنتْ كثيرا الصلاحيات الرسمية للحكومةِ .و كانت الأحزاب المناصرة للديمقراطية بالكاد تستطيع أَنْ تَجاري أيديولوجيا دعوة الحكم الملكي إلى ممارسة الديمقراطيةَ في كل مكان، بما في ذلك الأحزاب.
    وعلاوة على ذلك تبدو إصلاحاتِ المغرب التي تقودها النخب أشبه بنظام تعددي لا ديمقراطي منها بدمقرطةِ حقيقيِة .وامتفش:الذي يجعل النُخَبِ السياسيةِ المغربيةِ ترغب في دعم الإصلاحات السياسية التي تَعرف أنها لَن تُحوّلَ طبيعة النظام السّياسيِ وعلاقاتِ السلطةِ هو الفسادُ.
    وحدوث الرشوة التي تعَرّف بأنها استعمال الممتلكاتِ العامة أو الخاصّةِ من أجل تحقيق مصالح خاصة غير مشروعة أمر متفش : وتَتخلّلُ كل جوانب الحياةِ العامّةِ، من الانتخابات إلى تأسيس تجارة، من إنجاز الخدماتِ العامة الروتينِية إلى التهرب من دفع الضرائب الكبيرة .
    والرشوة أيضا شاملة: فهي عنصر أساسي في الأنظمة القضائية والاقتصادية والسّياسيِة والإدارية. فقَدْ "طًبعت" و"تمأَسست" خلال عقود من الحكم الاستبدادي في ظل الحاكم السّابقِ، الملك الالعامِّ.ي.
    كما أصبحت محاربة الفسادِ سياسةَ رسميةَ منذ عامر1999 (1). وَوضعَت حكومة رئيس الوزراءِ الاشتراكي، عبد الرحمن يوسفي، محاربة الفسادِ في صلب الخطاب العامِّ .وبدا القصر متحمسا لموَاجهَة المشكلة.
    وفي خطابِ ملكيِ للبرلمانِ في تشرين الأول/أكتوبرِ 2000، تلته رسالةِ رسميةِ أعلن عنها بشكل جيدِ إِلى رئيس الوزراءِ في عام 2002، حَثَّ الملك الحكومةَ على أَنْ تقضي على الرشوة بتَبْسيطِ الإجراءاتِ الإداريةِ للمواطنين والمستثمرين.
    ولأول مرة، سُمِحَ لمنظمة المغرب للشّفافية المعتمدة حديثاً، وهي فرع محلي لمنظمة الشّفافيةِ الدّوليِة، أَنْ تعلن عن اكتشافاتها عن حادثةِ الرشوة في نيسان/أبريلِ 1999.
    وفي السّنة نفسها، بَدأَ الإتحاد المغربي للأعمالِ المغربيةِ (CGEM) وشبكة من حوالي 40 مجموعة دفاعِ مستقلة الأقوياء.ادون بشكل علني بالإصلاحاتِ ويُنظّمُون حملات ضد الفساد.
    وكان ردّ فعل الحكومةِ الأوليِ ايجابياَ .وبالتّعاونِ مع البنك العالميِ، نَظّمت الحكومة سلسلةَ ورشاتِ أعلن عنها بشكل كبير حول الرشوة لتُبين التزامها بالشّفافية في الشؤون العامة. وموازاة مع ذلك، شَرّعَ مجلس وزراء يوسفي قوانينَ جديدةَ ضدَ الرشوةَ ورَقّى القوانين الموجودة وقاضى وعاقب المئات من القضاةِ وأعوانِ الشرطة المتهمين بالرشوةِ؛ وخَوّلَ الوزارة المُؤَسَّسة حديثاً للخدمة المدنيةِ والإصلاحِ الإداريِ أَنْ ترشّد الإجراءات الإدارية وتراقب سوء تصرف الموظفين.
    ولكي تَجْعلَ العملية الانتخابية أكثر شفّافية، سنّت الحكومة عام 2002 قانونا انتخابيا جديدِا فرض غرامات قاسية وأحكاما بالسجنِ لتزوير الانتخابات.
    لكن هذه التدابير لم تكَن كافيَة واستهدفت الرشوة التافهة بشكل كبير وما تزال الرشوة الكبيرة على حالها لأن لَها جذورا سياسية عميقةُ وتمس مصالح حَصينة وقوية مثل القوّات المسلحة والشركات الكبرى، والحكم الملكي.
    في بدايات السبعينيات استعمل الملك الحسن الثاني الممتلكاتِ العامّةِ كوسيلة لضمان الولاء السّياسي للفاعلين الأقوياء .وهكذا بعد محاولتين انقلابيتين عسكريتين في عامي 1970 و 1971 وَزّع الحسن الثاني مئات من آلافِ أجود الأراضي الفلاحية المغربية على كبار الضباط العسكريين.
    وقد عزز الدور المحوري للقوّات المسلحةِ الملكيةِ بين عامي سَنَوات.1 في حماية الصحراء الغربية، وهي إقليم صحراوي واسع تتنازعه حركة حرب عصاباتِ، قوة الجيشِ وقداسته .وطبقاً للدّستور، تعتبر القوّات المسلحةِ الملكية مؤسسةُ مقدّسة وجزءا من المجال السيد للملك.
    ويصوّت على ميزانية الجيشِ السّنويةِ المقدرة ب 2 مليار دولار - حوالي 12 من أموالِ الدّولةِ الكليّةِ في البرلمانِ بدون مناقشة وتوَافق عليها الحكومةِ دون أي سؤال.
    ويعاقب على انتقاد الجيشِ بالسّجنِ لمدة تصل إلى غاية ثلاث سَنَوات .وعندما ظهرت معلومات في الصّحافةِ خلال الفترة بين عامي 1999 و2001 عن تورط ضباط كبار في مخططاتِ صيد السالمغلقة؛حة واختلاس المواد الغذائية المدعومةِ، والوقود، ومواد البناء، راقبت الحكومة المعلوماتَ وأغلقت المنشورات.
    وعوقب أولئك الذين أثاروا البلبلة في صفوف الجيشِ وحوكموا وتم اعتقالهم .وتعرض نقيب في القوات الجويةِ، يدعى مصطفى أديب، ندد بالاتجار في الوقودِ في الجيشِ عام 1998 إلى التحويل من قاعدةِ إلى أخرى، ونبذ وعوقب ورفض طلبه الاستقالةُ من الجيشِ. وعندما رفع قضيته إِلى الأوساطِ الدّوليةِ عام 1999 اعتقلَ وحُكِمَ عليه في محكمةِ عسكريةِ بالسّجنِ 5 سَنَواتِ.
    وطبقاً لمنظمة الشّفافية الدّولية، التي منحته "جائزة النزاهةِ" عام 2000، فقد جرت المحاكمة خلف الأبواب المغلقة ؛ ولم يستمع إلى الشّهود الذين استدعاهم الدّفاعِ وكان من بين القضاةِ ضابطَ كان النقيبِ أديب قَدْ رفع عليه دعوى سابقاً.
    وخفض الحكم إِلى سنتين ونصف السنةِ في محكمةِ عسكريةِ ثانية، لكن الحكم بـ "عدم البراءة" اُيّد.
    وفي تشرين الأول/أكتوبرِ 2002، نشرت صحيفة التجديد، وهي يومية إسلامية قانونية، خبَر توقيف وسجن الضباط العرفاء، إبراهيم جلطي وجمال الزعيم، لشجبِهم تورط رؤسائهم في تجارةِ الوقودِ.
    نَشرت أسبوعية لوجورنال ولوموند عريضة لمجموعةِ كبيرة على ما يبدو من ضبّاطِ الجيشِ يعملون في الصحراء الغربية شجبت "سلطة الجنرالات والضبّاطِ الكبار الذين يسحبون بطريقة غير شرعية من أموالِ أسلاك الجيشِ المختلفة".
    لكن القوّات المسلحةَ لم تكَن المستفيد الوحيد من سخاء الحكم الملكيِ. فلثلاثة عقودِ، استغلت عائلات حضرية بارزة ذات صلات تاريخية وسياسية قويةِ بالحكم الملكيِ موقعها العاليَ في الحكومة والقطاع العامِ لجمع ثروات ضخمة خاصّة. ومن خلالِ تسهيلات القروض المريبةِ، و الخدماتِ المدعومة من الدولة، والعقود العامة غير التنافسية، والمعاملة المالية التفضيلية، واستغلال أفضل الشّركاتِ المغربية العامّة لتحقيق المكاسبِ الخاصّةِ، أسست هذه العائلاتِ احتكارا على القطاعاتِ الرّئيسيةِ للاقتصاد.
    بَدأ مدى الفسادِ ضمن شركاء الأعمال التّقليديين للحكم الملكيِ يَظْهر منذ عام 1999 عندما كَشفت الصّحافةَ المستقلةَ ولجان التّحقيقِ البرلمانيةِ اختلاسات هائلة في البنوك، والضمان اجتماعي، والقروض الزراعية والإسكانية، والشركات العمومية، ومشاريع المساعدةِ الدوليةِ.
    وفي عام 2002، قدر مجموع الأموالِ المُختَلَسةِ من القطاع العامِ ب 15مليار دولار أي ما يعادل الدّينِ المغرب الأجنبي. وعلى الرغم من المطالبات المتكرّرة بتحقيقات كاملة وشفّافة، لا أحد من المسؤالفسادِ.ار حُوكم بسبب "نقص الأدلة".
    والأحزاب السّياسية، من خلال العملية الانتخابية، متورطة في نوعِ مختلفِ من الفسادِ .حتى منذ الـستينيات نظم المغرب انتخابات محلية وتشريعية منتظمة كَانت مفتوحة وتعددية بشكل نسبي، لكنها لم يكن المراد منها أن تكفل حق إبداء الرأي أو أن تَجْلب تغييرا سياسيا.بل كانت قد قَدْ صُمّمت كي تقدم آلية لسيطرةِ النّخبةِ والتّجديدِ من فوق من خلال عمليةِ إداريةِ لإعادة الهيكلة والمكافأة والإقصاء واختيار الزميل.
    بالإضافة إِلى امتيازات وفوائدِ أخرىِ، يتلقى كل عضو في البرلمانِ 3600 دولار شهرياً في بلدِ حيث متوسط الدّخل السّنوي أقل من 2000 دولار .وهناك إشارة أخرى لاختيار الزميل وهي تضّخمُ المؤسساتِ التّمثيلِية. فبالمقارنة مع أعضاء الكونغرس الأمريكي ال 535 تَتنافسُ النُّخَب السّياسية المغربية على 595 مقعدا برلمانيا (325 مقعدا في الغرفة السفلى، 270 مقعد في مجلس الشيوخ) و23689 نائبا في المجالسِ المحليةِ يمثّلون ال 30 مليون نسمة في ا لمغرب.
    اعتبرت الانتخابات التّشريعية لعام ـ2002 والـ والانتخابات البلدية لعام 2003، الأولى في عهدِ الملكِ محمد السادس الاقتراعات الأكثر شفافية في المغرب منذ عام 1963. لكن ما تزال مشاكل جدّيةَ تُقوّض العملية الانتخابية.
    ومع أن العديد من المواد في القانون الانتخابي الجديدِ تنص على فرض غرامات وأحكام بالَسجن في حق سلوكِ التزوير، النّص غالباً غير منسجم مع إجراءاتِ التصويت.
    وما زال مرشحون وممثلو السلطة عديمي الضمير يجدون المجال للتلاعب بالعملية والنتائج كما شاءوا .وتَتضمّنُ مشاكل أخرى ظهور حوالي 62 حزبِا سياسية دون برامج أو ببرامج يتعذر تمييزهاُ؛ تمزيق المناطقِ الانتخابية لإضعاف الصّوت الحضري المستقل نسبيا؛ تنظيم الانتخابات في مجلس الشيوخ بعد انتخابات الغرفة السفلى، مما يسْمحُ للأحزاب المهيمنة والإدارة بـ "تصحيح" التوازنات السياسية غير المتوقّعة في الغرفة السفلى ؛ ونظام حصصِ شكليِ للإبقاء على الأحزاب، خاصةً الإسلامية تحت السيطرة والظاهرة واسعة الانتشار لشراء وبيع الأصواتِ.
    وأخيراً، فإن الأحزاب السّياسية توفر غطاء مؤسساتيا لأعضاءِ مجلس الوزراءِ الذين ليست لديهم مشكلة انتماء حزبِي والذين يختارهم القصرِ لخدمتهَ .وهكذا بالإضافة إِلى الوزارات الرسميةِ للسّيادةِ (الدفاع، الشؤون الخارجية، الشؤون الدينية، والداخلية)، يستخدم الحكم الملكي غطاءَ الأحزابِ السّياسيةِ ليُعيّنَ وزراءه التكنوقراطيين.



    الهوامش
    ________________________________________
    [*] عبد السلام المغراوي مدير مشارك لبحوثِ ودراسات العالمِ الإسلامي في برنامج البحوثِ والدِّراساتِ بمعهد الولايات المتحدة للسّلامِ



    ________________________________________

    أرسلت بتاريخ: 2008/12/25
    التعديل الأخير تم بواسطة Moderator-1; الساعة 07-19-2009, 02:07 PM.
يعمل...
X